فن الرواية من منظور باختين
د. الطيب بوعزة
من الدراسات المبكرة التي ثارت على النظرية الهيغيلية في تعليل نشأة الرواية، ونقدت من خلالها التأويل الماركسي الذي يفسر ظهورها تفسيرا طبقيا (أي بوصفها من إنتاج الطبقة البورجوازية) دراسات الناقد الروسي ميخائيل باختين.
ويتأسس نقده على فكرة محورية وهي رفض ربط الرواية بالملحمة، أي رفض النظر إلى الثانية كتطور للأولى.
حيث يعتقد باختين أن جوهر الخطأ الذي وقع فيه هيغل وكذلك النظريات الماركسية التي تأثرت به، هو عدم إبصار استقلالية الرواية كفن عن الأشكال التعبيرية الفنية الأخرى.
ولذا، وضدا على التعليل الماركسي والهييغلي، انتهى باختين إلى أنه «لا وجود لأي علاقة -يقول الأديب حنا عبود- يعتمد عليها الباحث كركيزة أساسية بين الملحمة والرواية من جهة، ولا بين البرجوازية والرواية من جهة ثانية».(من تاريخ الرواية، ص12)
فما دليله على نفي العلاقة بين الملحمة والرواية؟ وما دليله على نفي التعالق الطبقي الذي يربط بين نشأة الرواية ونشأة الطبقة البورجوازية؟
للاستدلال على نفي الارتباط بين الرواية والملحمة يضعهما باختين في سياق مقارن بقصد نقض هذه العلاقة المفترضة، فينتهي إلى الملاحظات التالية:
إن القراءة الهيغيلية لم تنتبه إلى أن الملحمة والرواية نوعان أدبيان متباينان ومستقلان عن بعضهما البعض؛ ولذا أخطأ هيغل عندما نظر إلى أحدهما (الملحمة) كنوع أصلي، والثاني (الرواية) كفرع ناتج عن الأول بفعل تطور الوعي. وإذا كنا في ذات النوع الفني لا نستطيع القول إن الكوميديا تطورت عن التراجيديا، فبالأحرى لا يجب القول عن نوعين فنيين متمايزين إن أحدهما نتج عن الآخر.
نلاحظ هنا أن منطلق باختين هو الفصل بين الرواية والملحمة، بزعم كونهما نوعين فنيين مستقلين, لكن لتوكيد هذا الزعم يحتاج إلى الاستدلال على هذا التمايز. فما أدلته على استقلالية الرواية عن الملحمة؟
يرى باختين أن الرواية مختلفة عن الملحمة بمجموعة من السمات الجوهرية التي تدفع إلى القول بتمايزهما واستقلالهما كنوعين أدبيين، وآية ذلك:
أن الملحمة نظام تعبيري وفني ثابت لا يتطور، بينما الرواية متطورة ومفتوحة على التغير في نظامها وأشكالها التعبيرية. بمعنى أن الفن الملحمي نوع متميز بسمات قارة ثابتة، بينما الرواية نوع فني جديد، من سماته الجوهرية أنه يتغير ويتشكل باستمرار.
ثانيا: تتميز الملحمة بأحادية صورة العالم داخلها، بينما الرواية تستبطن تعددا في صور العالم.
ولإيضاح هذه الفكرة نحتاج إلى بيان المسلك الذي انتهجه باختين للاستدلال على ثبات الصورة في المتن الملحمي وتغايرها وكثرتها في المتن الروائي:
لقد كان مسلكه إلى بيان ذلك هو النظر إلى وجهات نظر شخصيات كل من المحلمة والرواية، حيث لاحظ أن صورة العالم عند كل شخصية من شخصيات الملحمة هي صورة واحدة. فنظرة: «أندروماك صورة عن العالم لا تختلف عن صورة زوجها هكتور عن العالم ولا عن صورة غريمه أخيل عن العالم، ولا عن صورة باريس، سبب كل الحرب، عن العالم». (المرجع السابق)
بينما الرواية تختلف فيها صورة العالم باختلافات جوهرية تبعا لوجهة نظر شخصياتها.
وثالثا: إذا ذكرنا الشخصية وقلنا إن الرواية تستبطن صورا متعددة عن العالم، تبعا لتعدد واختلاف شخوصها، فإنه لا بد من ملاحظة فارق آخر يتمثل في اختلاف نظام الشخصية ذاته. فالمتن الروائي يتميز بحراك وتغير في شخوصه، بينما يُلحظ في الملحمة أنها تبدأ وتنتهي من دون أي تحول أو تغير في شخصياتها.
هذا على مستوى نقد التعالق الأول, أي ربط الرواية بالملحمة. أما عن نقده للتعالق الثاني أي ربط نشأتها بنشأة الطبقة البورجوازية فاستدلاله عليه قائم على ملاحظة نوع اللغة والقيم المحايثة للمتن الروائي. فمن حيث البدايات الأولى للرواية يرى باختين أنها ترجع إلى تبدل لغة الخطاب. حيث بدأت إرهاصاتها عندما «أخذت اللغات المحكية المحلية والإقليمية تستقل عن اللغة اليونانية الكلاسيكية».
وبناء على السلم الطبقي للمجتمع يستنزل باختين الرواية إلى ما هو أسفل من الطبقة البورجوازية؛ حيث يرى أن الرواية «ظهرت... بظهور الشخصيات الناشئة في قاع المجتمع، أو على الأقل إنها شخصيات دون الوسط وليس فوقه. وهذه شخصيات غير برجوازية عموما، وإن كان فيها بعض الشخصيات البرجوازية التي نشأت في القاع». (المرجع السابق، ص13)
وبذلك ينزع عن البورجوازية الفضل في إنتاج هذا النوع الفني. ومما يزيد في توكيد ذلك حسب باختين النظر في نوعية الشخصيات المتداولة في المتن الروائي الحديث. حيث يلاحظ أنها تنتمي إلى الفئات الشعبية وليس إلى البورجوازية.
كما يلاحظ باختين أن شخصية البورجوازي ليست محورية ولا حاضرة أكثر من غيرها، بل حضورها في أكثر الأحيان ضامر. بينما حضور شخصيات ما يسميه بـ -القاع الاجتماعي- هو الأكثر ظهورا وبروزا. وحتى على مستوى البدايات الإرهاصية الأولى يلاحظ باختين تعدد الأصوات داخل المتن الروائي: ففي «الرواية الإغريقية وهي التي سادت في المرحلة الرومانية (مثل رواية لوسيبا وكليتوفنت) اعتماد كبير على فولكلور ما قبل الطبقات، أي فولكلور عام مشترك بين كل الطبقات. وهي النواة الأولى لتطور الرواية». (المرجع السابق، ص13)
إن مفهوم الفولكلور مفهوم محوري في نظرة باخيتن إلى فن الرواية. إنه الشكل التعبيري الذي يتبين فيه بوضوح تعدد الأصوات الاجتماعية، خاصة الصوت الشعبي المعبر عن قاع المجتمع. لذا لا غرابة أن يحضر هذا المفهوم في نقد باختين للربط بين الرواية والطبقة البورجوازية. وهذا ما يؤكد خطأ ربط الرواية بالطبقة البورجوازية، لأن لغة هذه الطبقة مغايرة للغة الشعبية، فلغتها متحفظة، ولا تستحمل هذه اللغة الشعبية العفوية.فن الرواية من منظور باختين
د. الطيب بوعزة
من الدراسات المبكرة التي ثارت على النظرية الهيغيلية في تعليل نشأة الرواية، ونقدت من خلالها التأويل الماركسي الذي يفسر ظهورها تفسيرا طبقيا (أي بوصفها من إنتاج الطبقة البورجوازية) دراسات الناقد الروسي ميخائيل باختين.
ويتأسس نقده على فكرة محورية وهي رفض ربط الرواية بالملحمة، أي رفض النظر إلى الثانية كتطور للأولى.
حيث يعتقد باختين أن جوهر الخطأ الذي وقع فيه هيغل وكذلك النظريات الماركسية التي تأثرت به، هو عدم إبصار استقلالية الرواية كفن عن الأشكال التعبيرية الفنية الأخرى.
ولذا، وضدا على التعليل الماركسي والهييغلي، انتهى باختين إلى أنه «لا وجود لأي علاقة -يقول الأديب حنا عبود- يعتمد عليها الباحث كركيزة أساسية بين الملحمة والرواية من جهة، ولا بين البرجوازية والرواية من جهة ثانية».(من تاريخ الرواية، ص12)
فما دليله على نفي العلاقة بين الملحمة والرواية؟ وما دليله على نفي التعالق الطبقي الذي يربط بين نشأة الرواية ونشأة الطبقة البورجوازية؟
للاستدلال على نفي الارتباط بين الرواية والملحمة يضعهما باختين في سياق مقارن بقصد نقض هذه العلاقة المفترضة، فينتهي إلى الملاحظات التالية:
إن القراءة الهيغيلية لم تنتبه إلى أن الملحمة والرواية نوعان أدبيان متباينان ومستقلان عن بعضهما البعض؛ ولذا أخطأ هيغل عندما نظر إلى أحدهما (الملحمة) كنوع أصلي، والثاني (الرواية) كفرع ناتج عن الأول بفعل تطور الوعي. وإذا كنا في ذات النوع الفني لا نستطيع القول إن الكوميديا تطورت عن التراجيديا، فبالأحرى لا يجب القول عن نوعين فنيين متمايزين إن أحدهما نتج عن الآخر.
نلاحظ هنا أن منطلق باختين هو الفصل بين الرواية والملحمة، بزعم كونهما نوعين فنيين مستقلين, لكن لتوكيد هذا الزعم يحتاج إلى الاستدلال على هذا التمايز. فما أدلته على استقلالية الرواية عن الملحمة؟
يرى باختين أن الرواية مختلفة عن الملحمة بمجموعة من السمات الجوهرية التي تدفع إلى القول بتمايزهما واستقلالهما كنوعين أدبيين، وآية ذلك:
أن الملحمة نظام تعبيري وفني ثابت لا يتطور، بينما الرواية متطورة ومفتوحة على التغير في نظامها وأشكالها التعبيرية. بمعنى أن الفن الملحمي نوع متميز بسمات قارة ثابتة، بينما الرواية نوع فني جديد، من سماته الجوهرية أنه يتغير ويتشكل باستمرار.
ثانيا: تتميز الملحمة بأحادية صورة العالم داخلها، بينما الرواية تستبطن تعددا في صور العالم.
ولإيضاح هذه الفكرة نحتاج إلى بيان المسلك الذي انتهجه باختين للاستدلال على ثبات الصورة في المتن الملحمي وتغايرها وكثرتها في المتن الروائي:
لقد كان مسلكه إلى بيان ذلك هو النظر إلى وجهات نظر شخصيات كل من المحلمة والرواية، حيث لاحظ أن صورة العالم عند كل شخصية من شخصيات الملحمة هي صورة واحدة. فنظرة: «أندروماك صورة عن العالم لا تختلف عن صورة زوجها هكتور عن العالم ولا عن صورة غريمه أخيل عن العالم، ولا عن صورة باريس، سبب كل الحرب، عن العالم». (المرجع السابق)
بينما الرواية تختلف فيها صورة العالم باختلافات جوهرية تبعا لوجهة نظر شخصياتها.
وثالثا: إذا ذكرنا الشخصية وقلنا إن الرواية تستبطن صورا متعددة عن العالم، تبعا لتعدد واختلاف شخوصها، فإنه لا بد من ملاحظة فارق آخر يتمثل في اختلاف نظام الشخصية ذاته. فالمتن الروائي يتميز بحراك وتغير في شخوصه، بينما يُلحظ في الملحمة أنها تبدأ وتنتهي من دون أي تحول أو تغير في شخصياتها.
هذا على مستوى نقد التعالق الأول, أي ربط الرواية بالملحمة. أما عن نقده للتعالق الثاني أي ربط نشأتها بنشأة الطبقة البورجوازية فاستدلاله عليه قائم على ملاحظة نوع اللغة والقيم المحايثة للمتن الروائي. فمن حيث البدايات الأولى للرواية يرى باختين أنها ترجع إلى تبدل لغة الخطاب. حيث بدأت إرهاصاتها عندما «أخذت اللغات المحكية المحلية والإقليمية تستقل عن اللغة اليونانية الكلاسيكية».
وبناء على السلم الطبقي للمجتمع يستنزل باختين الرواية إلى ما هو أسفل من الطبقة البورجوازية؛ حيث يرى أن الرواية «ظهرت... بظهور الشخصيات الناشئة في قاع المجتمع، أو على الأقل إنها شخصيات دون الوسط وليس فوقه. وهذه شخصيات غير برجوازية عموما، وإن كان فيها بعض الشخصيات البرجوازية التي نشأت في القاع». (المرجع السابق، ص13)
وبذلك ينزع عن البورجوازية الفضل في إنتاج هذا النوع الفني. ومما يزيد في توكيد ذلك حسب باختين النظر في نوعية الشخصيات المتداولة في المتن الروائي الحديث. حيث يلاحظ أنها تنتمي إلى الفئات الشعبية وليس إلى البورجوازية.
كما يلاحظ باختين أن شخصية البورجوازي ليست محورية ولا حاضرة أكثر من غيرها، بل حضورها في أكثر الأحيان ضامر. بينما حضور شخصيات ما يسميه بـ -القاع الاجتماعي- هو الأكثر ظهورا وبروزا. وحتى على مستوى البدايات الإرهاصية الأولى يلاحظ باختين تعدد الأصوات داخل المتن الروائي: ففي «الرواية الإغريقية وهي التي سادت في المرحلة الرومانية (مثل رواية لوسيبا وكليتوفنت) اعتماد كبير على فولكلور ما قبل الطبقات، أي فولكلور عام مشترك بين كل الطبقات. وهي النواة الأولى لتطور الرواية». (المرجع السابق، ص13)
إن مفهوم الفولكلور مفهوم محوري في نظرة باخيتن إلى فن الرواية. إنه الشكل التعبيري الذي يتبين فيه بوضوح تعدد الأصوات الاجتماعية، خاصة الصوت الشعبي المعبر عن قاع المجتمع. لذا لا غرابة أن يحضر هذا المفهوم في نقد باختين للربط بين الرواية والطبقة البورجوازية. وهذا ما يؤكد خطأ ربط الرواية بالطبقة البورجوازية، لأن لغة هذه الطبقة مغايرة للغة الشعبية، فلغتها متحفظة، ولا تستحمل هذه اللغة الشعبية العفوية.فن الرواية من منظور باختين
الجمعة أبريل 18, 2014 6:49 am من طرف viva star
» مناهج النقد الأدبي . مترجم.rar
الخميس أبريل 17, 2014 5:01 pm من طرف viva star
» مصطلحات توليدية
السبت فبراير 08, 2014 2:55 pm من طرف رعاش وليد
» ارجو المساعدة
الجمعة يناير 10, 2014 2:10 am من طرف مريم عبد الرحمان
» مساعدة عاجلة جداااااااااا
الثلاثاء يناير 07, 2014 6:53 am من طرف مريم عبد الرحمان
» كتب في علم الدلالة
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:35 pm من طرف safih
» عرض حول معجم المقاييس لابن فارس
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:15 pm من طرف safih
» المعجم الالكتروني
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:06 pm من طرف safih
» تشغيل الجزيرة الرياضية بالشرينغ
الثلاثاء نوفمبر 12, 2013 11:29 am من طرف safih