ميخائيل باختين: وظائف المحتال والمهرج والبهلول في الرواية
ميخائيل باختين
وظائف المحتال والمهرج والبهلول في الرواية
ترجمة:عدنان المبارك
هذه ترجمة لفصل من كتاب ( قضايا الأدب والأستيتيكا ) الذي يتألف من ست دراسات كتبها باختين في الأعوام ما بين 1924 و1970. ومعلوم أن ما كان يهتم باختين به في الأدب صلاته بالحياة كميدان معان وقيم خلقت بصورة واعية مما يقود بالتالي الى طرح شتى الأسئلة حول أسلوب توظيف الكلمة في الرواية، وبنى الزمكان أو أصول هذا الصنف الأدبي. و يقدّم باختين أجوبته الأصيلة والشاملة التي تعتبر محاولة بارزة في مجال التحليل المنهجي للمفاهيم والإشكاليات الرئيسية لقضية الشعرية بشكل خاص .
سوية مع تطور أشكال الأدب الكبير في العصر الوسيط ترعرعت ، عند حدود الأدب والفولكلور ، أشكال صغيرة ذات طابع ساخر. كذلك ظهر الميل الى ربطها في دورات، وبذلك نشأت الملاحم الساخرة ذات طابع المحاكاة الهازئة. وفي هذا الأدب المنحدر من القيعان الإجتماعية للعصر الوسيط لعبت دورا مهما ثلاثة شخوص إمتلكت وزنا كبيرا بالنسبة للمصائر التالية للرواية الاوربية ، وهذه الشخوص هي المحتال والمهرج و البهلول. وهي لم تكن من إكتشافات العصر الوسيط . فقبلها عرفتها اليونان وروما القديمتان وكذلك الشرق القديم. والمسبار التأريخي لن يصل الى أيّ قعر في هذه الصور، فهي موجودة منذ القدم. إن الأهمية العبادتية لأقنعة أنتيكية مناسبة ليست بالغة البعد ، فضوء التاريخ يسقط عليها. ولكن ينبغي الوصول الى أعماق الفولكلور السحيق في القدم والذي سبق نشوء الطبقات. وقضية الأصل سوف لن نتفرغ لها ، وكما هو الحال في هذه الدراسة كلها ، فغرضنا هوتناول الوظائف الخاصة التي قامت بها تلك الشخوص في أدب الفترة المتأخرة من العصر الوسيط . وهذه الوظائف أثرّت بصورة جوهرية على تطور الرواية الأوربية . يخلق المحتال والمهرج والبهلول حولهم عوالما منفصلة. وهذه الشخوص لم تعثر على مكان لها في ايّ زمكان كان موضع البحث ولا في أي أوقات (الإستثناء الجزئي هنا هو زمكان رواية المغامرات ذات البعد الأخلاقي ). لقد جاءت للأدب : أولا بعلاقة جوهرية للغاية مع مشاهد السوق وأقنعتها المسرحية ، إضافة الى شريحة خاصة بالغة الأهمية من الساحة الشعبية ، ثانيا ( وهو مرتبط بالطبع مع الأول ) : لا يملك أسلوب كينونة هذه الشخوص معنى إعتياديا بل آخر مجازي، وهذا الأسلوب يعني في معظم الأحيان العكس تماما، فهذه الشخوص لايمكن فهمها حرفيا ، كما ينبغي على المرء أن يعرف بأنها ليست بتلك الشخوص التي تعلن عن نفسها ، ثالثا( وينبع السبب هنا من سابقه أيضا ) إن أسلوب كينونتها هو إنعكاس لأسلوب آخر للكينونة وهو ليس بالبسيط. إنها ممثلون في الحياة ، ووجودها يطفح من الدور الذي تؤديه، وعامة تكف هي عن الوجود خارج هذا الدور.
تمارس هذه الشخصيات حقا خاصا في الوجود وهو أن تكون ( غريبة ) في هذا العالم. إنها لاتعترف بأي وضع حياتي قائم ، ولا تقنع بأي مكان في العالم، إنها ترى ( الوجه الآخر للعملة ) وزيف كل مكانة حياتية. كذلك هي قادرة على أن تستغل كل وضع ومكان ومكانة كأقنعة. المحتال لاتزال تربطه بالواقع خيوط ما ، أما المهرج والبهلول فهما ( ليسا من هذا العالم ) الأمر الذي يمنحهما حقوقا وإمتيازات خاصة. وهذه الشخصيات تضحك وتكون أضحوكة أيضا. و لضحكها طبيعة عامة، إنه ضحك في الساحة حيث يجتمع الشعب. وتنبعث فيها الطبيعة العامة لصورة الإنسان ، فكامل وجود هذه الشخصيات هو شيء مطروح الى الخارج منذ البداية الى النهاية : إنها تظهر كل شيء أمام الأعين , وكامل وظيفتها تعتمد على هذا الشيء : أن تطرح ( وفي الحقيقة ليس وجودها المنعكس بل الآخر، وهي لاتملك غيره ). وينشأ هنا نوع منفصل من طرح خارجي للإنسان عبر الباروديا المضحكة.
وعندما تمارس هذه الشخصيات وظيفتها على مسارح الأسواق تكون مفهومة تماما وفعلية الى درجة لاتثير فيها الشكوك. الا أنها تركت خشبة المسرح ووجدت نفسها في الأدب حاملة خصائصها التي ها أننا قد قمنا بتسجيلها. وفي الأدب الروائي جرت تحولات عديدة لهذه الشخصيات كما أنها هي بنفسها حوّلت عناصرا معينة وجوهرية للرواية.
أمتلك التأثير التحويلي للصور موضع التحليل إتجاهين . قبل كل شيء كان ذلك تأثيرا على موقع المؤلف في الرواية ( وصورته إذا كانت قد رسمت بأسلوب ما في النص) ، وعلى مركز رؤية المؤلف.
وهكذا فإن موقع مؤلف الرواية بالعلاقة مع الحياة المقدّمة هو ، عموما ، أمر بالغ التعقيد وفيه القليل من الفعلية ، إذا تمت مقارنة الرواية بالملحمة والدراما أو الشعر. إن المشكلة العامة للتأليف الفردي( وهي مشكلة حديثة العهد إذا اخذنا بعين الإعتبار أن الأدب الذي له مؤلفه الشخصي هو مجرد قطرة في بحر الأدب الشعبي الذي لاتعرف هوّية مؤلفيه) تعقد هنا بصورة اضافية ، ضرورة إمتلاك قناع جوهري لاتتحكم به المصادفة وبمكنته أن يحدد أمرين على السواء : مكان المؤلف في السرد المتعلق بالحياة المقدمّة ( وكذلك كيف ومن أين يرى المؤلف ، وهو إنسان خصوصي، ويظهر كامل حياة الآخرين الشخصية ) ووضعه أزاء القراء، والجمهور ( بصفته من " يزيل القناع" عن الحياة كقاض ومفتش ومسجّل محاضر وسياسي وخطيب ومهرج وما شاكل ذلك). وكل مؤلف فردي يواجه ، بالطبع ، مثل هذه الأسئلة ، ولن يكون الجواب عليها أبدا: إنه ( أديب محترف)، الا أنه في الأصناف الأدبية الأخرى ( الملحمة ، الشعر ، الدراما ) تكون هذه القضايا على المستوى الفلسفي والثقافي والسياسي - الإجتماعي ، بينما ينبع موقع المؤلف ووجهة نظره الضرورية لصوغ المادة ، مباشرة ، من مباديء الصنف الادبي ، الدراما والشعر وأنواعهما. وهذه خاصية ثابتة للصنف. أما في الصنف الروائي فليس هناك البتة من موقع للمؤلف مرسوم بصورة ثابتة. فمن الممكن أن يعلن المرء عن يومياته وأن يسميّها رواية ، كما من الممكن أن تنشر مجموعة وثائق ما كرواية ، أو نشر رسائل شخصية ( رواية في رسائل )، أو مخطوطة ( غير معلوم من كتبها ولماذا كتبها ومن عثرعليها وأين). ولذلك توجد أيضا في الرواية قضية المؤلف وليس على الصعيد العام فقط كما في بقية الأصناف بل كذلك على الصعيد الشكلي- الصنفي . ونحن أشرنا الى هذه القضية وأن هناك أشكالا للمراقبة و التلصص على الحياة الشخصية. يحتاج كاتب الرواية الى قناع ما شكلي - صنفي يحدد ، على السواء ، المكان الذي يراقب منه الحياة ، والموقع الذي يخوله لأن يعرض علنا تلك الحياة.
وهنا تساعد المؤلف أقنعة المهرج و البهلول المصاغة بأساليب متنوعة بالطبع. إنها اقنعة حقيقية متجذرة في المخيلة الشعبية و تتمتع لدى العامة بإمتيازات مقدسة : ( عدم الإسهام في الحياة ) و( عدم محاسبة ) المهرج على كلمته ، وكل هذا مرتبط بزمكان الساحة الشعبية ومسرح السوق وهو في غاية الأهمية للصنف الروائي. فهو يعثر على شكل الوجود البشري - هيئة مساهم لامبال في حياة الآخرين، جاسوسا أبديا ومقلدا هازئا، كما أنه يعثر على أشكال للتقديم متميزة ألا وهي النشر الطباعي .( ولننتبه الى أن أقدم وظيفة للمهرج كانت عرض مناطق غير عمومية من الحياة - منطقة الجنس مثلا . أنظروا وصف الكرنفال عند غيته ).
إن اللحظة البالغة الأهمية هنا هي اللاحرفية ومجازية صورة الإنسان ، والطبيعة الشخوصية التامة. وهذه اللحظة ترتبط ، وهو أمر واضح ، بعملية التحول. فالمهرج والبهلول هما نتيجة تحوّل الملك والإله النازلين الى عالم ما تحت الأرض ، في بلاد الموت ( أنظروا لحظات مشابهة لتحوّل الملك والإله الى عبد ولص ومهرج في أعياد زحل الرومانية وفي القصة المسيحية لعذاب المسيح). ويصبح الإنسان ، هنا ، شيئا شخوصيا. وهذه ( الحالة الشخوصية ) تملك أهمية كبرى عند خلق الشكل.
ويكتسب كل شيء وزنا أزاء حقيقة أن إحدى المهام الأساسية للرواية تصبح مهمة تعرية كل تقليدية وكل حالة إتفاق سيء وخادع في العلاقات بين الناس. و حالة الإتفاق ( المبطن ) التي سممت حياة الناس هي قبل كل شيء النظام الإقطاعي والأيدولوجية الإقطاعية التي تحط من شأن كل ما لاعلاقة بالمكان والزمان. وكان على وظائف الطبيعة البشرية ( الفطرية ) أن تهرّب الى الأدب، فالأيدولوجيا أبقتها في حالة (الوحشية ). لقد أقحم الزيف والنفاق على الحياة البشرية. وأصبحت الأشكال والمؤسسات الأيدلوجية أكثر نفاقا وكذبا أكثر فأكثر، أما الحياة الفعلية المحرومة من المعنى الأيدولوجي فصارت حيوانية وسوقية. إن الحكايات والإضطرابات و المهازل ودروات السخرية وأحوال الجد في الهزل كانت كلها سلاحا في الصراع مع المحيط الإقطاعي و حالة الإتفاق ( المبطن) السيئة و الزيف الذي هيمن على العلاقات بين الناس . وتقف ضد الشر قوة الفضح في العقل اليقظ والمرح والماكر، عقل المحتال ( المتقمص شخصية القروي وتلميذ أحد الصنّاع في المدينة وكليروس متجول أو عموما متشرد بدون إنتماء طبقي )، وحالات الهزء المقلد لدى المهرج والإنعدام الساذج لفهم البهلول. ونلقى مجابهة الإحتيال من الصنف الثقيل والمكدّر بآخر مرح يقوم به وغد صغير ، والكذب الذي وراءه منفعة ، والنفاق يجابهان ببساطة روح البهلول وإستغرابه البريء عندما لايفهم كل ذلك. وهذا الشكل من حالة الإتفاق ( المبطن) والزيف هو من ذلك الشكل المركب للتعرية التهريجية( اللاجئة الى الباروديا ). يستمرالصراع مع التقليدية بصورة أعمق وأكثر جوهرية في الرواية. أزاء ذلك يستفيد المؤلفعند قيامه بالتحويل، من صور المهرج والبهلول( السذلجة لاتفقه التقاليد الزائفة ). وتكتسب الأقنعة هنا أهمية فائقة في الصراع مع ما متفق عليه ( باطنيا ) وماهو غير مناسب لأشكال الحياة ، القائمة وبالعلاقة مع مسألة كيف هو الإنسان في الحقيقة. بفضل هذه الأقنعة يتم الحصول على الحق في عدم الفهم وإرتكاب الخطأ والمبالغة في الكلام عن الحياة ، والحق في الباروديا وعدم التقيد بالحرفية والتظاهر بأن هذا هو شخص آخر، والحق في نزع أقنعة الآخرين ، وفي الأخير الحق في أن يكشف للجمهور أسرار الحياة الشخصية الأكثر خفاء.
والإتجاه الثاني لتحويل صور المحتال والمهرج والبهلول هو إلحاقهم بمضمون الرواية كأبطال يحسب لهم حساب ( سواء بالهيئة الأولية أو بأخرى معاد تشكيلها). وغالبما تربط الرواية كلا إتجاهي إستغلال هذه الصور مما يكون أمرا مفهوما. فالبطل الجوهري يقدّم على الدوام تقريبا ، آراء المؤلف.
إن العناصر التي قمنا بفحصها بهذا الشكل أو غيره أو بقوة أكبر أو أصغر، تظهر في رواية الصعاليك ، في ( دون كيخوته )، وعند كوبيدو ، وفي مؤلف رابلييه، وفي سخرية الإنسيين الألمان ( أيرازم الروتردامي ، مورنر ، برانت ، فيكرام ) وعند غريميلزهاوزن ، وعند سوريل ( في " ليبيرجيه إكسترافان" وجزئيا في "فرانسيون ") ، وعند سكارون و ليساج و ماريفو ، وبعدها في عصر التنوير لدى فولتير ( بصورة خاصة وبارزة في "كانديد")، وعند فيلدنغ ( "جوزيف أندريوز" ، "جوناثان وايلد" ، وجزئيا في" توم جونز") وجزئيا عند سموليت ، ولدى سويفت بأسلوب أصيل. وهو أمر مميز أن ( الإنسان الداخلي )، أي تلك الذاتوية " الطبيعية " الصرف ، لايقدر هو على الظهور الا بمساعدة صور المهرج والبهلول ، إذ يصعب عليه العثور على شكل حياتي مباشر ومناسب ( غير تشخصي من ناحية الحياة العملية ). وتظهر صورة غريب الأطوار الذي كان عليه أن يلعب دورا بالغ الأهمية في أحداث الرواية: لدى ستيرن وغولدسمث وهيبل وجان بول وديكنز وغيرهم . وغرابة الأطوار ذات الطابع الشخصي وال(شانديزم) وفق مصطلح ستيرن نفسه، تصبح شكلا مهما لإظهار ( الإنسان الداخلي ) و(الذاتوية الحرّة المكتفية ذاتيا ) وشكلا مماثلا ل((البانتغيرلية) التي أظهرت في عصر النهضة الإنسان الخارجي كاملا.
عندما يكون الغرض كشف حالة الإتفاق ( المبطن ) السيئة تصبح دائما اللحظة القائمة بالتنظيم هي شكل ( عدم الفهم) ، وهو شكل مقصود في حالة المؤلف ، وفي حالة الأبطال هو ساذج ومستقيم. ومثل حالة الإتفاق الكاشفة هذه ، في الحياة اليومية والأخلاق والسياسة والفن إلخ ، تقدّم ، عادة ، من وجهة نظر الإنسان الذي لايقبلها ولا يفهمها. وأشكال ( عدم الفهم ) إستخدمت في القرن الثامن عشر لفضح لامعقولية الإقطاع ( معروف عامة اللجوء إليها في أعمال فولتير ، ولنضف هنا ا" رسائل فارسية " لمونتسكيو والتي أولدت صنفا كاملا من الرسائل الغريبة على الفرد الأوربي والتي تقدّم النظام الفرنسي من وجهة نظر إنسان أجنبي لايفهمه، وبأساليب متنوعة للغاية يستخدم سويفت هذا الشكل في "غوليفر") . وعلى نطاق واسع إستفاد تولستوي من هذا الشكل، مثلا : وصف المعركة قرب بورودينو من موقع رؤية بيير الذي لايفهمها ( حصل هذا تحت تأثير ستندال ) ، وهناك أيضا صورة إنتخاب النبلاء أو جلسات مجلس موسكو كما يراها ليفين الذي لايفهمها ، وصورة العرض المسرحي، والقداس الكنائسي في (البعث).
وعلى الغالب تستخدم رواية الصعاليك زمكان رواية المغامرات ذات الطابع الإجتماعي في نطاق عالم البلاد. . كذلك فموقع الصعلوك - المحتال هو ، كما قلنا، مماثل موقع لوتسيوس - الحمار في عالم رواية أبوليوس ( من الواضح أنه يوجد أيضا الكثير من العناصر المشتركة). والجدة تعتمد على التقوية الحازمة للميل الى الكشف والذي تكون مادته ما هو متفق عليه ( باطنيا ) وكامل النظام عامة ( خاصة في "غوزمان من أيفاراش " وقصة " جل بلاس").
في ( دون كيخوته) نرى قطعا متميزا للزمكان يعود الى الباروديا ، إنه زمكان ( عالم غريب وعجيب ) لروايات الفروسية عبر ( طريق كبير يخترق عالم الوطن) لرواية الصعاليك.
وفي تأريخ التحكم بالزمن التأريخي لعبت رواية سربانتث دورا بالغ الكبر ينتج، وهو أمر واضح ، من شيء هو أكبر من التصادم ذاته للزمكانين ، والأكثر من ذلك فهما يغيّران ، جوهريا ، طابعهما حين يتقاطعان: إنهما يكتسبان أهمية مجازية ويتعاملان بطريقة جديدة مع العالم الفعلي. الا أنه لايمكننا هنا أن نقف عند تحليل رواية سربانتث.
إن جميع الأشكال الروائية المرتبطة بتحويل صور المحتال والمهرج والبهلول تملك بالغ الأهمية في تأريخ الواقعية.وهذه الأهمية غير مدركة لغاية الآن. ولكي يكون ممكنا فحص هذه الأشكال بصورة معمّقة ينبغي القيام أولا بتحليل صنفي لمعنى ووظيفة الصور العامة للمحتال والمهرج والبهلول بدءا بتحليل الأشكال الأكثر أوليّة للفولكلور ماقبل الطبقي الى غاية عصر النهضة. كما ينبغي مراعاة دور الثلاثة الكبير للغاية ( وهو دور لايمكن مقارنته بأي شيء ) في الوعي الشعبي ، وفحص أحوال التمايز القومي والمحلي ( المهرّجون المحليون لم يكونوا أقل عددا من القديسين المحليين ) ودروهم الخاص في الوعي الذاتي المحلي والقومي للشعب. والإشكالية الصعبة والمستقلة هي إشكالية تحويل هذه الصور المرتبط المرتبط بإدخالها الى الأدب ( غير الدرامي ) وخاصة الى الرواية.. وعادة لاتقدّر مسألة أنه بهذه الصورة المتميزة والأصيلة أعيد خلق الصلة الضائعة للأدب بالساحة الشعبية. والأكثر من ذلك تم العثورعلى أشكال الإظهار العلني لجميع المناطق الرسمية الكائنة تحت سطوة الرقابة ، مناطق حياة الإنسان وخاصة المنطقة الجنسية وغيرها من المناطق الحيوية ( العلاقة الجنسية ، الطعام ، النبيذ ) وكذلك فك الرموزالتي تسترها ( العادية والطقوسية والأخرى المرتبطة بالديانة الرسمية ). والإشكالية الصعبة الأخرى هي التشخصية( أي تلبس هيئة معيّنة) العادية أو المجاز العادي ( وهو لايشبه الشعري تماما ) الذي أنتجته الصور التي جرى تحليلها في الأدب. ونحن لانملك المصطلح المناسب الذي قد يسمح بتحديد ذلك المجاز ( أهو " باروديا " أم " مزحة " أم " نكتة " أم " سخرية " أم " غروتيسك " أم " كاريكاتور " أم ما شابه ذلك. فهذه كلها مجرد أصناف وتلاوين له ). المقصود هنا هو الكينونة التشخصية للإنسان بكامله ومعه آراؤه ، الكينونة التي هي شيء آخر غير أداء الممثل لدور ما ( ومهما كانت نقاط التماس بين كلتى المرتبتين ). وكلمات مثل ( التهريج ) و(التقليد الهازيء ) و( غرابة الأطوار ) قد إكتسبت معنى خاصا وضيقا على صعيد العادات الإجتماعية. هكذا نعت الممثلون الكبار لمثل هذه التشخصية العادية ، وبمساعدة مصطلحاتهم الخاصة ( إبتكرت المصطلحات من أسماء أبطالهم الروائيين): "بانتاغريلزم" ، "شانديزم ". وسوية مع التشخصية ظهر في الرواية تعقيد معيّن وتعدد المستويات في الأهمية ، كما ظهرت زمكانات إنتقالية مثل الزمكان المسرحي. والمثال الأكثر وضوحا تقدّمه ( سوق الغرور ) لثاكيري. ويكون الزمكان الإنتقالي لمسرح الدمى الأساس المخفي ل( تريستام شاندي ). والستيرنية ( ستيرنزم) هو أسلوب الدمى الخشبية التي تتحرك وتعلق بالكلام من خلال المؤلف.( هكذا الحال أيضا مع الزمكان المخفي في ( الأنف ) لغوغول : العرض الشعبي ل" بييتروشكا ").
وفي عصر النهضة قامت أشكال الرواية والتي تعيننا في تدمير ذلك البيدق خارج الأرضي الذي حط من شأن أشكال العالم الزمكاني و مضمونها النوعي الحيّ ، فالأشكال الروائية من ذلك العصر قد أعدّت عملية إعادة الكلية الزمكانية والمادية للعالم في مرحلة من التطور جديدة ومعمقة ومعقدة. لقد هيأت الرواية للسيطرة على العالم التي حصل فيه إكتشاف أمريكا والطريق البحري الى الهند حيث صار هذا العالم مادة لعلوم جديدة خاصة بالطبيعة والرياضيات. ولقد خلقت أسس جديدة تماما للتحسس بالزمن و تقديمه في الرواية . منقزل
ميخائيل باختين
وظائف المحتال والمهرج والبهلول في الرواية
ترجمة:عدنان المبارك
هذه ترجمة لفصل من كتاب ( قضايا الأدب والأستيتيكا ) الذي يتألف من ست دراسات كتبها باختين في الأعوام ما بين 1924 و1970. ومعلوم أن ما كان يهتم باختين به في الأدب صلاته بالحياة كميدان معان وقيم خلقت بصورة واعية مما يقود بالتالي الى طرح شتى الأسئلة حول أسلوب توظيف الكلمة في الرواية، وبنى الزمكان أو أصول هذا الصنف الأدبي. و يقدّم باختين أجوبته الأصيلة والشاملة التي تعتبر محاولة بارزة في مجال التحليل المنهجي للمفاهيم والإشكاليات الرئيسية لقضية الشعرية بشكل خاص .
سوية مع تطور أشكال الأدب الكبير في العصر الوسيط ترعرعت ، عند حدود الأدب والفولكلور ، أشكال صغيرة ذات طابع ساخر. كذلك ظهر الميل الى ربطها في دورات، وبذلك نشأت الملاحم الساخرة ذات طابع المحاكاة الهازئة. وفي هذا الأدب المنحدر من القيعان الإجتماعية للعصر الوسيط لعبت دورا مهما ثلاثة شخوص إمتلكت وزنا كبيرا بالنسبة للمصائر التالية للرواية الاوربية ، وهذه الشخوص هي المحتال والمهرج و البهلول. وهي لم تكن من إكتشافات العصر الوسيط . فقبلها عرفتها اليونان وروما القديمتان وكذلك الشرق القديم. والمسبار التأريخي لن يصل الى أيّ قعر في هذه الصور، فهي موجودة منذ القدم. إن الأهمية العبادتية لأقنعة أنتيكية مناسبة ليست بالغة البعد ، فضوء التاريخ يسقط عليها. ولكن ينبغي الوصول الى أعماق الفولكلور السحيق في القدم والذي سبق نشوء الطبقات. وقضية الأصل سوف لن نتفرغ لها ، وكما هو الحال في هذه الدراسة كلها ، فغرضنا هوتناول الوظائف الخاصة التي قامت بها تلك الشخوص في أدب الفترة المتأخرة من العصر الوسيط . وهذه الوظائف أثرّت بصورة جوهرية على تطور الرواية الأوربية . يخلق المحتال والمهرج والبهلول حولهم عوالما منفصلة. وهذه الشخوص لم تعثر على مكان لها في ايّ زمكان كان موضع البحث ولا في أي أوقات (الإستثناء الجزئي هنا هو زمكان رواية المغامرات ذات البعد الأخلاقي ). لقد جاءت للأدب : أولا بعلاقة جوهرية للغاية مع مشاهد السوق وأقنعتها المسرحية ، إضافة الى شريحة خاصة بالغة الأهمية من الساحة الشعبية ، ثانيا ( وهو مرتبط بالطبع مع الأول ) : لا يملك أسلوب كينونة هذه الشخوص معنى إعتياديا بل آخر مجازي، وهذا الأسلوب يعني في معظم الأحيان العكس تماما، فهذه الشخوص لايمكن فهمها حرفيا ، كما ينبغي على المرء أن يعرف بأنها ليست بتلك الشخوص التي تعلن عن نفسها ، ثالثا( وينبع السبب هنا من سابقه أيضا ) إن أسلوب كينونتها هو إنعكاس لأسلوب آخر للكينونة وهو ليس بالبسيط. إنها ممثلون في الحياة ، ووجودها يطفح من الدور الذي تؤديه، وعامة تكف هي عن الوجود خارج هذا الدور.
تمارس هذه الشخصيات حقا خاصا في الوجود وهو أن تكون ( غريبة ) في هذا العالم. إنها لاتعترف بأي وضع حياتي قائم ، ولا تقنع بأي مكان في العالم، إنها ترى ( الوجه الآخر للعملة ) وزيف كل مكانة حياتية. كذلك هي قادرة على أن تستغل كل وضع ومكان ومكانة كأقنعة. المحتال لاتزال تربطه بالواقع خيوط ما ، أما المهرج والبهلول فهما ( ليسا من هذا العالم ) الأمر الذي يمنحهما حقوقا وإمتيازات خاصة. وهذه الشخصيات تضحك وتكون أضحوكة أيضا. و لضحكها طبيعة عامة، إنه ضحك في الساحة حيث يجتمع الشعب. وتنبعث فيها الطبيعة العامة لصورة الإنسان ، فكامل وجود هذه الشخصيات هو شيء مطروح الى الخارج منذ البداية الى النهاية : إنها تظهر كل شيء أمام الأعين , وكامل وظيفتها تعتمد على هذا الشيء : أن تطرح ( وفي الحقيقة ليس وجودها المنعكس بل الآخر، وهي لاتملك غيره ). وينشأ هنا نوع منفصل من طرح خارجي للإنسان عبر الباروديا المضحكة.
وعندما تمارس هذه الشخصيات وظيفتها على مسارح الأسواق تكون مفهومة تماما وفعلية الى درجة لاتثير فيها الشكوك. الا أنها تركت خشبة المسرح ووجدت نفسها في الأدب حاملة خصائصها التي ها أننا قد قمنا بتسجيلها. وفي الأدب الروائي جرت تحولات عديدة لهذه الشخصيات كما أنها هي بنفسها حوّلت عناصرا معينة وجوهرية للرواية.
أمتلك التأثير التحويلي للصور موضع التحليل إتجاهين . قبل كل شيء كان ذلك تأثيرا على موقع المؤلف في الرواية ( وصورته إذا كانت قد رسمت بأسلوب ما في النص) ، وعلى مركز رؤية المؤلف.
وهكذا فإن موقع مؤلف الرواية بالعلاقة مع الحياة المقدّمة هو ، عموما ، أمر بالغ التعقيد وفيه القليل من الفعلية ، إذا تمت مقارنة الرواية بالملحمة والدراما أو الشعر. إن المشكلة العامة للتأليف الفردي( وهي مشكلة حديثة العهد إذا اخذنا بعين الإعتبار أن الأدب الذي له مؤلفه الشخصي هو مجرد قطرة في بحر الأدب الشعبي الذي لاتعرف هوّية مؤلفيه) تعقد هنا بصورة اضافية ، ضرورة إمتلاك قناع جوهري لاتتحكم به المصادفة وبمكنته أن يحدد أمرين على السواء : مكان المؤلف في السرد المتعلق بالحياة المقدمّة ( وكذلك كيف ومن أين يرى المؤلف ، وهو إنسان خصوصي، ويظهر كامل حياة الآخرين الشخصية ) ووضعه أزاء القراء، والجمهور ( بصفته من " يزيل القناع" عن الحياة كقاض ومفتش ومسجّل محاضر وسياسي وخطيب ومهرج وما شاكل ذلك). وكل مؤلف فردي يواجه ، بالطبع ، مثل هذه الأسئلة ، ولن يكون الجواب عليها أبدا: إنه ( أديب محترف)، الا أنه في الأصناف الأدبية الأخرى ( الملحمة ، الشعر ، الدراما ) تكون هذه القضايا على المستوى الفلسفي والثقافي والسياسي - الإجتماعي ، بينما ينبع موقع المؤلف ووجهة نظره الضرورية لصوغ المادة ، مباشرة ، من مباديء الصنف الادبي ، الدراما والشعر وأنواعهما. وهذه خاصية ثابتة للصنف. أما في الصنف الروائي فليس هناك البتة من موقع للمؤلف مرسوم بصورة ثابتة. فمن الممكن أن يعلن المرء عن يومياته وأن يسميّها رواية ، كما من الممكن أن تنشر مجموعة وثائق ما كرواية ، أو نشر رسائل شخصية ( رواية في رسائل )، أو مخطوطة ( غير معلوم من كتبها ولماذا كتبها ومن عثرعليها وأين). ولذلك توجد أيضا في الرواية قضية المؤلف وليس على الصعيد العام فقط كما في بقية الأصناف بل كذلك على الصعيد الشكلي- الصنفي . ونحن أشرنا الى هذه القضية وأن هناك أشكالا للمراقبة و التلصص على الحياة الشخصية. يحتاج كاتب الرواية الى قناع ما شكلي - صنفي يحدد ، على السواء ، المكان الذي يراقب منه الحياة ، والموقع الذي يخوله لأن يعرض علنا تلك الحياة.
وهنا تساعد المؤلف أقنعة المهرج و البهلول المصاغة بأساليب متنوعة بالطبع. إنها اقنعة حقيقية متجذرة في المخيلة الشعبية و تتمتع لدى العامة بإمتيازات مقدسة : ( عدم الإسهام في الحياة ) و( عدم محاسبة ) المهرج على كلمته ، وكل هذا مرتبط بزمكان الساحة الشعبية ومسرح السوق وهو في غاية الأهمية للصنف الروائي. فهو يعثر على شكل الوجود البشري - هيئة مساهم لامبال في حياة الآخرين، جاسوسا أبديا ومقلدا هازئا، كما أنه يعثر على أشكال للتقديم متميزة ألا وهي النشر الطباعي .( ولننتبه الى أن أقدم وظيفة للمهرج كانت عرض مناطق غير عمومية من الحياة - منطقة الجنس مثلا . أنظروا وصف الكرنفال عند غيته ).
إن اللحظة البالغة الأهمية هنا هي اللاحرفية ومجازية صورة الإنسان ، والطبيعة الشخوصية التامة. وهذه اللحظة ترتبط ، وهو أمر واضح ، بعملية التحول. فالمهرج والبهلول هما نتيجة تحوّل الملك والإله النازلين الى عالم ما تحت الأرض ، في بلاد الموت ( أنظروا لحظات مشابهة لتحوّل الملك والإله الى عبد ولص ومهرج في أعياد زحل الرومانية وفي القصة المسيحية لعذاب المسيح). ويصبح الإنسان ، هنا ، شيئا شخوصيا. وهذه ( الحالة الشخوصية ) تملك أهمية كبرى عند خلق الشكل.
ويكتسب كل شيء وزنا أزاء حقيقة أن إحدى المهام الأساسية للرواية تصبح مهمة تعرية كل تقليدية وكل حالة إتفاق سيء وخادع في العلاقات بين الناس. و حالة الإتفاق ( المبطن ) التي سممت حياة الناس هي قبل كل شيء النظام الإقطاعي والأيدولوجية الإقطاعية التي تحط من شأن كل ما لاعلاقة بالمكان والزمان. وكان على وظائف الطبيعة البشرية ( الفطرية ) أن تهرّب الى الأدب، فالأيدولوجيا أبقتها في حالة (الوحشية ). لقد أقحم الزيف والنفاق على الحياة البشرية. وأصبحت الأشكال والمؤسسات الأيدلوجية أكثر نفاقا وكذبا أكثر فأكثر، أما الحياة الفعلية المحرومة من المعنى الأيدولوجي فصارت حيوانية وسوقية. إن الحكايات والإضطرابات و المهازل ودروات السخرية وأحوال الجد في الهزل كانت كلها سلاحا في الصراع مع المحيط الإقطاعي و حالة الإتفاق ( المبطن) السيئة و الزيف الذي هيمن على العلاقات بين الناس . وتقف ضد الشر قوة الفضح في العقل اليقظ والمرح والماكر، عقل المحتال ( المتقمص شخصية القروي وتلميذ أحد الصنّاع في المدينة وكليروس متجول أو عموما متشرد بدون إنتماء طبقي )، وحالات الهزء المقلد لدى المهرج والإنعدام الساذج لفهم البهلول. ونلقى مجابهة الإحتيال من الصنف الثقيل والمكدّر بآخر مرح يقوم به وغد صغير ، والكذب الذي وراءه منفعة ، والنفاق يجابهان ببساطة روح البهلول وإستغرابه البريء عندما لايفهم كل ذلك. وهذا الشكل من حالة الإتفاق ( المبطن) والزيف هو من ذلك الشكل المركب للتعرية التهريجية( اللاجئة الى الباروديا ). يستمرالصراع مع التقليدية بصورة أعمق وأكثر جوهرية في الرواية. أزاء ذلك يستفيد المؤلفعند قيامه بالتحويل، من صور المهرج والبهلول( السذلجة لاتفقه التقاليد الزائفة ). وتكتسب الأقنعة هنا أهمية فائقة في الصراع مع ما متفق عليه ( باطنيا ) وماهو غير مناسب لأشكال الحياة ، القائمة وبالعلاقة مع مسألة كيف هو الإنسان في الحقيقة. بفضل هذه الأقنعة يتم الحصول على الحق في عدم الفهم وإرتكاب الخطأ والمبالغة في الكلام عن الحياة ، والحق في الباروديا وعدم التقيد بالحرفية والتظاهر بأن هذا هو شخص آخر، والحق في نزع أقنعة الآخرين ، وفي الأخير الحق في أن يكشف للجمهور أسرار الحياة الشخصية الأكثر خفاء.
والإتجاه الثاني لتحويل صور المحتال والمهرج والبهلول هو إلحاقهم بمضمون الرواية كأبطال يحسب لهم حساب ( سواء بالهيئة الأولية أو بأخرى معاد تشكيلها). وغالبما تربط الرواية كلا إتجاهي إستغلال هذه الصور مما يكون أمرا مفهوما. فالبطل الجوهري يقدّم على الدوام تقريبا ، آراء المؤلف.
إن العناصر التي قمنا بفحصها بهذا الشكل أو غيره أو بقوة أكبر أو أصغر، تظهر في رواية الصعاليك ، في ( دون كيخوته )، وعند كوبيدو ، وفي مؤلف رابلييه، وفي سخرية الإنسيين الألمان ( أيرازم الروتردامي ، مورنر ، برانت ، فيكرام ) وعند غريميلزهاوزن ، وعند سوريل ( في " ليبيرجيه إكسترافان" وجزئيا في "فرانسيون ") ، وعند سكارون و ليساج و ماريفو ، وبعدها في عصر التنوير لدى فولتير ( بصورة خاصة وبارزة في "كانديد")، وعند فيلدنغ ( "جوزيف أندريوز" ، "جوناثان وايلد" ، وجزئيا في" توم جونز") وجزئيا عند سموليت ، ولدى سويفت بأسلوب أصيل. وهو أمر مميز أن ( الإنسان الداخلي )، أي تلك الذاتوية " الطبيعية " الصرف ، لايقدر هو على الظهور الا بمساعدة صور المهرج والبهلول ، إذ يصعب عليه العثور على شكل حياتي مباشر ومناسب ( غير تشخصي من ناحية الحياة العملية ). وتظهر صورة غريب الأطوار الذي كان عليه أن يلعب دورا بالغ الأهمية في أحداث الرواية: لدى ستيرن وغولدسمث وهيبل وجان بول وديكنز وغيرهم . وغرابة الأطوار ذات الطابع الشخصي وال(شانديزم) وفق مصطلح ستيرن نفسه، تصبح شكلا مهما لإظهار ( الإنسان الداخلي ) و(الذاتوية الحرّة المكتفية ذاتيا ) وشكلا مماثلا ل((البانتغيرلية) التي أظهرت في عصر النهضة الإنسان الخارجي كاملا.
عندما يكون الغرض كشف حالة الإتفاق ( المبطن ) السيئة تصبح دائما اللحظة القائمة بالتنظيم هي شكل ( عدم الفهم) ، وهو شكل مقصود في حالة المؤلف ، وفي حالة الأبطال هو ساذج ومستقيم. ومثل حالة الإتفاق الكاشفة هذه ، في الحياة اليومية والأخلاق والسياسة والفن إلخ ، تقدّم ، عادة ، من وجهة نظر الإنسان الذي لايقبلها ولا يفهمها. وأشكال ( عدم الفهم ) إستخدمت في القرن الثامن عشر لفضح لامعقولية الإقطاع ( معروف عامة اللجوء إليها في أعمال فولتير ، ولنضف هنا ا" رسائل فارسية " لمونتسكيو والتي أولدت صنفا كاملا من الرسائل الغريبة على الفرد الأوربي والتي تقدّم النظام الفرنسي من وجهة نظر إنسان أجنبي لايفهمه، وبأساليب متنوعة للغاية يستخدم سويفت هذا الشكل في "غوليفر") . وعلى نطاق واسع إستفاد تولستوي من هذا الشكل، مثلا : وصف المعركة قرب بورودينو من موقع رؤية بيير الذي لايفهمها ( حصل هذا تحت تأثير ستندال ) ، وهناك أيضا صورة إنتخاب النبلاء أو جلسات مجلس موسكو كما يراها ليفين الذي لايفهمها ، وصورة العرض المسرحي، والقداس الكنائسي في (البعث).
وعلى الغالب تستخدم رواية الصعاليك زمكان رواية المغامرات ذات الطابع الإجتماعي في نطاق عالم البلاد. . كذلك فموقع الصعلوك - المحتال هو ، كما قلنا، مماثل موقع لوتسيوس - الحمار في عالم رواية أبوليوس ( من الواضح أنه يوجد أيضا الكثير من العناصر المشتركة). والجدة تعتمد على التقوية الحازمة للميل الى الكشف والذي تكون مادته ما هو متفق عليه ( باطنيا ) وكامل النظام عامة ( خاصة في "غوزمان من أيفاراش " وقصة " جل بلاس").
في ( دون كيخوته) نرى قطعا متميزا للزمكان يعود الى الباروديا ، إنه زمكان ( عالم غريب وعجيب ) لروايات الفروسية عبر ( طريق كبير يخترق عالم الوطن) لرواية الصعاليك.
وفي تأريخ التحكم بالزمن التأريخي لعبت رواية سربانتث دورا بالغ الكبر ينتج، وهو أمر واضح ، من شيء هو أكبر من التصادم ذاته للزمكانين ، والأكثر من ذلك فهما يغيّران ، جوهريا ، طابعهما حين يتقاطعان: إنهما يكتسبان أهمية مجازية ويتعاملان بطريقة جديدة مع العالم الفعلي. الا أنه لايمكننا هنا أن نقف عند تحليل رواية سربانتث.
إن جميع الأشكال الروائية المرتبطة بتحويل صور المحتال والمهرج والبهلول تملك بالغ الأهمية في تأريخ الواقعية.وهذه الأهمية غير مدركة لغاية الآن. ولكي يكون ممكنا فحص هذه الأشكال بصورة معمّقة ينبغي القيام أولا بتحليل صنفي لمعنى ووظيفة الصور العامة للمحتال والمهرج والبهلول بدءا بتحليل الأشكال الأكثر أوليّة للفولكلور ماقبل الطبقي الى غاية عصر النهضة. كما ينبغي مراعاة دور الثلاثة الكبير للغاية ( وهو دور لايمكن مقارنته بأي شيء ) في الوعي الشعبي ، وفحص أحوال التمايز القومي والمحلي ( المهرّجون المحليون لم يكونوا أقل عددا من القديسين المحليين ) ودروهم الخاص في الوعي الذاتي المحلي والقومي للشعب. والإشكالية الصعبة والمستقلة هي إشكالية تحويل هذه الصور المرتبط المرتبط بإدخالها الى الأدب ( غير الدرامي ) وخاصة الى الرواية.. وعادة لاتقدّر مسألة أنه بهذه الصورة المتميزة والأصيلة أعيد خلق الصلة الضائعة للأدب بالساحة الشعبية. والأكثر من ذلك تم العثورعلى أشكال الإظهار العلني لجميع المناطق الرسمية الكائنة تحت سطوة الرقابة ، مناطق حياة الإنسان وخاصة المنطقة الجنسية وغيرها من المناطق الحيوية ( العلاقة الجنسية ، الطعام ، النبيذ ) وكذلك فك الرموزالتي تسترها ( العادية والطقوسية والأخرى المرتبطة بالديانة الرسمية ). والإشكالية الصعبة الأخرى هي التشخصية( أي تلبس هيئة معيّنة) العادية أو المجاز العادي ( وهو لايشبه الشعري تماما ) الذي أنتجته الصور التي جرى تحليلها في الأدب. ونحن لانملك المصطلح المناسب الذي قد يسمح بتحديد ذلك المجاز ( أهو " باروديا " أم " مزحة " أم " نكتة " أم " سخرية " أم " غروتيسك " أم " كاريكاتور " أم ما شابه ذلك. فهذه كلها مجرد أصناف وتلاوين له ). المقصود هنا هو الكينونة التشخصية للإنسان بكامله ومعه آراؤه ، الكينونة التي هي شيء آخر غير أداء الممثل لدور ما ( ومهما كانت نقاط التماس بين كلتى المرتبتين ). وكلمات مثل ( التهريج ) و(التقليد الهازيء ) و( غرابة الأطوار ) قد إكتسبت معنى خاصا وضيقا على صعيد العادات الإجتماعية. هكذا نعت الممثلون الكبار لمثل هذه التشخصية العادية ، وبمساعدة مصطلحاتهم الخاصة ( إبتكرت المصطلحات من أسماء أبطالهم الروائيين): "بانتاغريلزم" ، "شانديزم ". وسوية مع التشخصية ظهر في الرواية تعقيد معيّن وتعدد المستويات في الأهمية ، كما ظهرت زمكانات إنتقالية مثل الزمكان المسرحي. والمثال الأكثر وضوحا تقدّمه ( سوق الغرور ) لثاكيري. ويكون الزمكان الإنتقالي لمسرح الدمى الأساس المخفي ل( تريستام شاندي ). والستيرنية ( ستيرنزم) هو أسلوب الدمى الخشبية التي تتحرك وتعلق بالكلام من خلال المؤلف.( هكذا الحال أيضا مع الزمكان المخفي في ( الأنف ) لغوغول : العرض الشعبي ل" بييتروشكا ").
وفي عصر النهضة قامت أشكال الرواية والتي تعيننا في تدمير ذلك البيدق خارج الأرضي الذي حط من شأن أشكال العالم الزمكاني و مضمونها النوعي الحيّ ، فالأشكال الروائية من ذلك العصر قد أعدّت عملية إعادة الكلية الزمكانية والمادية للعالم في مرحلة من التطور جديدة ومعمقة ومعقدة. لقد هيأت الرواية للسيطرة على العالم التي حصل فيه إكتشاف أمريكا والطريق البحري الى الهند حيث صار هذا العالم مادة لعلوم جديدة خاصة بالطبيعة والرياضيات. ولقد خلقت أسس جديدة تماما للتحسس بالزمن و تقديمه في الرواية . منقزل
الجمعة أبريل 18, 2014 6:49 am من طرف viva star
» مناهج النقد الأدبي . مترجم.rar
الخميس أبريل 17, 2014 5:01 pm من طرف viva star
» مصطلحات توليدية
السبت فبراير 08, 2014 2:55 pm من طرف رعاش وليد
» ارجو المساعدة
الجمعة يناير 10, 2014 2:10 am من طرف مريم عبد الرحمان
» مساعدة عاجلة جداااااااااا
الثلاثاء يناير 07, 2014 6:53 am من طرف مريم عبد الرحمان
» كتب في علم الدلالة
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:35 pm من طرف safih
» عرض حول معجم المقاييس لابن فارس
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:15 pm من طرف safih
» المعجم الالكتروني
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:06 pm من طرف safih
» تشغيل الجزيرة الرياضية بالشرينغ
الثلاثاء نوفمبر 12, 2013 11:29 am من طرف safih