رب السيف والقلم ، ورائد مدرسة الإحياء والبعث ، وباعث النهضة الأدبية في العصر الحديث . ولد سنة 1838 بالقاهرة من أسرة جركسية الأصل ، وتخرج في الكلية الحربية سنة 1854 ، وتم تعيينه ضابطا في الجيش ، وارتقي العديد من المناصب حتي صار وزيرا للحربية ، وحين قامت الثورة العرابية تم نفيه مع زعمائها ، بعد فشلهم إلي جزيرة سرنديب ، وظل في المنفي حتي سنة 1900 حيث أفرج عنه وعاد إلي مصر وظل بها حتي 1904 ، حتي توفي وقد واجه العديد من المصائب خلال منفاه ، ومن أبرز آثاره الأدبية ديوان البارودي ومختارات البارودي .
مدرسة الإحياء والبعث
المقصود بهذا الاسم أنه كما تعود الروح لجسد هامد ، أو ترد له الحياة بعد أن فارقته أو كادت ، فيبعث إلي الدنيا من جديد ، بقلب نابض وحس واع كان الحال بالنسبة للشعر العربي ، فقد استسلم إلي حالة من الجمود ، أخذ علي إثرها ينزل في مدارج الضعف والانحلال ، وذلك منذ وقوع بغداد سنة 1258 م ودمشق سنة 1260 م في أيدي الغزاة من التتر علي يد (( هولاكو )) الذي قضي علي الخلافة العباسية وخرب بغداد ، وحرق المكتبات ، وهدم دور العلم ، وألقي بألوف المخطوطات التي تضم عيون الثقافة العربية وتحوي تراثها في النهر ليعبره بجيوشه .
ومع أن مصر قد أوقفت هذا الغزو ، وحمت بقية البلاد العربية من ذلك الإعصار المهلك فهزمت
(( هولاكو )) في موقعة (( عين جالوت )) عام ( 1260 ) إلا أن تيمور لنك جاء بعد قرن ونصف لينتقم بغزو دمشق وبغداد الحاضرتين الثقافيتين العربيتين ( 1386 – 1400 م ) .
وطبيعي بعد بعد هذه الأحداث أن تضعف الحياة الثقافية والأدبية ، وبخاصة الشعر ، في البلاد العربية . وزاد الضعف الثقافي والأدبي بتولي المماليك مقاليد الحكم في مصر والشام ، ثم وصل إلي منتهاه إبان حكم الأتراك العثمانيين ( 1516 – 1798 ) .
بلغ الشعر غاية الضعف حتي فقد الحياة ، وانتهي إلي سكرات الموت خلال القرون الثلاثة المتعاقبة من حكمهم ، ولم يعد هناك من يتذوقه لسطحية موضوعاته وتفاهتها ، وضعف أسلوبه وركاكته ، وجهل القارئين له ، ولم يبق للغة العربية جلالها وبهاؤها علي ألسنة الناس وفي مسامعهم . وقد عم الجهل وشاع الفقر ، والاستبداد ، وظهر الخوف والظلم ، وحرمت مصر والبلاد العربية من مصادر ثقافتها وتعليمها ، بغلق المدارس ونقل الكتب ، وترحيل الخبرات من العلماء والمهندسين ، ورجال الفنون ، وأصحاب الحرف إلي تركيا , ليقيموا للأتراك حضارة كانوا يفتقدونها في دولتهم الناشئة .
وفوق ذلك ألغي ديوان الإنشاء ، وفرضت اللغة التركية لغة رسمية بغية تتريك العالم العربي ، حينئذ لم يجد الشعراء من يتذوق شعرهم أو يشجعهم علي الإجادة فيه ، فانصرفوا عن التجديد والابتكار ، واتجهوا إلي التقليد والتكرار ، ونزلوا بالشعر إلي الحضيض لجهلهم من ناحية ، وفقدان القدرة والمثل والمعلم من ناحية أخري . ومن ثم صار الشعر – كما سبق – كالجسم الهامد أو الجسد المحتضر في حاجة إلي من يمنحه القدرة علي الحس والنبض وينقله من حالة الانهيار والجمود والاحتضار ، إلي البعث والإحياء .
وفي عام 1798 م كسر سور العزلة عن مصر بقدوم الحملة الفرنسية فتنبهت الأذهان إلي عالم جديد ، واتجه محمد علي والي مصر إلي أوربا يرسل إليها البعثات ، ويستقدم المعلمين ، ويفتح المدارس وينشئ المصانع ، ويعد الجيوش ، ليتوسع في سلطانه ، فأخذت رياح التغيير تهب علي مصر مع أبنائها العائدين من البعثات ،ومع تلاميذ المدارس التي أنشئت ، ومن خلال العلوم والمعارف التي استوردها الوالي الطموح ، وبدأ الاهتمام بالتراث العربي ، وأخذت المطابع في نشره ، فبعث بعد غيبة طويلة . وظهر أثر ذلك كله علي بعض الشعراء التقليديين ، من أمثال : الشيخ علي أبو النصر ، ومحمود صفوت الساعاتي ، وإسماعيل الخشاب .
محمود سامي البارودي :-
ظل جيل الشعراء الذين مستهم رياح التغيير الحضاري مسا خفيفا ، يميلون في مجمل شعرهم إلي الصنعة والتقليد ، بينما تظهر فيه ذبالة خافتة من التجديد ، حتي جاء الفارس الشاعر الذي قاد مدرسة الإحياء والبعث ، محمود سامي البارودي ( 1838 – 1904 ) الذي أحس – كغيره من معاصريه – بالوعي بعظمة مصر والتراث العربي ، في مواجهة العناصر الوافدة الدخيلة . ورأي الشعر الجيد يكمن فيما قبل عصور التخلف والجمود تحت وطأة المماليك والعثمانيين فاتجه – مع غيره – إلي ذلك التراث العربي .
وارتفع صوت البارودي ، وحده بين الشعراء ، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، رصينا قويا في عباراته وألفاظه ، متينا في أساليبه ، صافيا في أخيلته ، شريفا في معانيه ، مشرقا في ديباجته ، جزلا في تراكيبه .
واستمع معاصروه إليه ، فرأوه يصوغ شعرا غير ما ألفوه من نظم علي مدي ما يزيد عن أكثر من ثلاثة قرون مضت .
لقد كان صنيع البارودي مع الشعر صنيع من أعاد الحياة لمن سلبها ، ورد النبض لمن فقده ، ذلك أنه ارتقي بالشعر وصعد به من قاع منحدر إلي أعلاه .
[ ملامح شعر البارودي ] :-
ارتقي بالكلمة والعبارة من الضعف والابتذال إلي صحة التركيب وقوته ، وصفاء السليقة ونقائها ، والعناية بالأسلوب وجماله .
وارتفع بهما من تكلف البديع وأثقاله إلي الرصانة والتحرر ، ومن التعقيد والغموض إلي الوضوح والإفصاح .
يقول البارودي إحساسا منه بالدور الذي قام به في إحياء الشعر :
أحييت أنفاس القريض بمنطقي وصرعت فرسان العجاج بلهذمي
ونأي البارودي بموضوعاته عن التكرار والجدب والسطحية ، إلي التجدد والتنوع ، والتعبير عن الأحاسيس الذاتية ، والحياة المعاصرة ، والقضايا القومية ، وأحداث العصر ، منتقلا بالموضوع الشعري من الأمور الشخصية التافهة الضئيلة إلي الأمور العامة التي تقدم زادا للإنسان من خلال خبرة الإنسانية وتجربتها مع لاحياة ممتزجة بالعاطفة .
فهو يشكو من زمنه ومن حوله من المنافقين فيقول :
أنا في زمان غادر ومعاشر يتلونون تلون الحرباء
ويصف الطبيعة ، والحروب والمعارك وأهوالها ، ويتشوق لمصر في منفاه غريبا عنها ، ويحض علي البطولة والإقدام . ويصف الليل والنيل ، ويكتب في حب مصر . ويرثي والده وزوجته وابنه . ويتغزل ، ويكتب في السياسة والوطنيات إلي آخر ما هنالك من موضوعات غير تقليدية تنطلق من تفاعله مع أحداث عصره وزمانه
وإلي جانب ارتفاعه بالكلمة والعبارة ، وارتقائه بالموضوع . نجده –ثالثا- ينتقل بالخيال من الضيق والسطحية إلي التحليق في سماوات الشعر ، وأجنحة التصوير ، ويدير عدسته الشعرية في الآفاق ، ويعتمد علي حواسه ، فيجعل من التشبيهات والاستعارات والكنايات لوحات متحركة مرئية مسموعة وملموسة ، يقول عن تجربته مع الخيال الشعري :
تعرض لي يوما فصورت حسنه ببلورتي عيني في صفحة القلب
وتتجلي قدرته علي التصوير في مواطن عديدة . من ذلك وصف شعر المرأة في قوله :
تهتز من فرعها الفينان في سرق كسمهري له من سوسن عذب
كأن غرتها من تحت طرتها فجر بجانحة الظلماء منتقب
ومن خلال كل ذلك نلتقي لديه –رابعا- بانتقال العاطفة من البرود والجفاف ، إلي الحيوية والحركة والذاتية .
ونجد موسيقاه –خامسا- محافظة علي وحدة الوزن والقافية ، ذات رنين قوي أخاذ .
اتجه البارودي – في ذلك كله – إلي مجاراة فحول الشعراء في العصور العربية الزاهية ، منذ العصر الجاهلي ، فالإسلامي ، فالأموي ، فالعباسي . منصرفا عن محاكاة ضعاف الشعراء في العصرين : المملوكي والعثماني ، وهو يجاري القدماء لكنه لا يقلدهم ، كأنه يتنافس معهم حول المعاني والأخيلة ، ومن هنا جاري وحاكي وعارض شعر القدامي من الشعراء : امرؤ القيس ، والنابغة ، وعنترة ، وأبي تمام ، والمنتبي ، والبحتري ، والشريف الرضا ، وابن زيدون ، وابن خفاجة – وهما أندلسيان – معتمدا علي نقاء ذهنه ، وفطرته السليمة ، وقراءته وحفظه جيد الأشعار ، وتتلمذه علي يد أستاذه الشيخ حسين المرصفي . مثبتا أن الضعف الذي طرأ علي شعرنا العربي عبر القرون السابقة له ، كان راجعا لضحالة اللغة عند الشعراء أنفسهم ، ولأسباب طارئة غريبة علي لغتنا ، وليس راجعا لضعف فيها ، فهو يلتقي مع أبي نواس ، إذ يقول البارودي :
وكم ليلة أفنيت عمر ظلامها إلي أن بدا للصبح فيه قتير
ويقول أبو نواس :
وما زلت توليه النصيحة يافعا إلي أن بدا في العارضين قتير
ويقول البارودي :
فلا تثق بوداد قبل معرفة فالكحل أشبه في العينين بالكحل
محاكيا قول المتنبي :
لأن حلمك حلم لا تكلفه ليس التكحل في العينين كالكحل
الرائد وتلاميذه :-
هكذا كان البارودي رائد هذه المدرسة التي سيطرت علي الذوق العربي قرابة قرن من الزمان ، وما يزال لها أنصارها منذ سار علي درب البارودي كل من : إسماعيل صبري ، وعائشة التيمورية ، وأحمد شوقي ، وحافظ إبراهيم ، وولي الدين يكن ، ومحمد عبدالمطلب ، وأحمد محرم ، وعلي الغاياني من مصر ، ومحمد رضا الشبيبي ، وعبدالمحسن الكاظمي ، وجميل صدقي الزهاوي ، ومعروف الرصافي من العراق ، وشكيب أرسلان من سوريا ، وغيرهم من جيلهم بالبلاد العربية المختلفة .
وأعقبهم من الأجيال التالية : علي الجارم ، ومحمد الأسمر ، وعزيز أباظة ، ومحمود غنيم ، وأمثالهم بمصر ، وصقر الشبيب بالكويت ، وابن عثيمين الأب والابن بالسعودية ، وكثيرون من شعراء العربية المحدثين .
خصائص مدرسة الإحياء والبعث :-
تحددت خصائص هذه المدرسة :
1- مجاراة القدماء في تقاليد القصيدة ، بانتقالها من غرض إلي آخر ، والافتتاح بالنسيب وما يمر به الشاعر ، مما يجعل القصيدة متنوعة الأغراض .
2- قيام القصيدة علي وحدة البيت ، بحيث يكون البيت وحده أو مع بضعة أبيات مستقلا عن سائر أبيات القصيدة .
3- العناية بالأسلوب وبلاغته ، وروعة التركيب ، وجلال الصياغة الشعرية وبهائها ، وانتقاء اللفظ واختياره ، مما جعل الجانب البياني يتغلب أحيانا علي المضمون الفكري والمعني الشعري .
4- متابعة القدماء في موضوعاتهم : من مدح ورثاء ، وغزل ، وفخر .
5- اقتباس المعاني ، والأخيلة ، والصور ، والموسيقا ، من فحول الشعراء القدامي ، من ذكر الرسوم والأطلال والخيام ، والكثبان ، والرعيان ، والقبائل ، واستعارة ألفاظ من الشعر القديم : كعيون المها ، وملاعب الآرام ، وغيرها .
ومن ذلك : مناجاة الصاحب ، كما قال البارودي محاكيا القدماء :
خليلي هل طال الدجي ؟ أم تقيدت كواكبه ، أم ضل عن نهجه الغد ؟
والحديث عن الظبا في قول شوقي :
روعوه فتولي مغضبا أعلمتم كيف ترتاع الظبا ؟
ومخاطبة شخص آخر في مفتتح القصائد كما يري عند شوقي في افتتاحياته :
قم ناج جلق – قم حي هذي النيرات – قم في فم الدنيا – قم ناد أنقرة – قف ناد أهرام الجلال – قف بالممالك وانظر دولة المال – آذار أقبل قم بنا يا صا محمود سامي البارودي - مدرسة الإحياء والبعث
مدرسة الإحياء والبعث
المقصود بهذا الاسم أنه كما تعود الروح لجسد هامد ، أو ترد له الحياة بعد أن فارقته أو كادت ، فيبعث إلي الدنيا من جديد ، بقلب نابض وحس واع كان الحال بالنسبة للشعر العربي ، فقد استسلم إلي حالة من الجمود ، أخذ علي إثرها ينزل في مدارج الضعف والانحلال ، وذلك منذ وقوع بغداد سنة 1258 م ودمشق سنة 1260 م في أيدي الغزاة من التتر علي يد (( هولاكو )) الذي قضي علي الخلافة العباسية وخرب بغداد ، وحرق المكتبات ، وهدم دور العلم ، وألقي بألوف المخطوطات التي تضم عيون الثقافة العربية وتحوي تراثها في النهر ليعبره بجيوشه .
ومع أن مصر قد أوقفت هذا الغزو ، وحمت بقية البلاد العربية من ذلك الإعصار المهلك فهزمت
(( هولاكو )) في موقعة (( عين جالوت )) عام ( 1260 ) إلا أن تيمور لنك جاء بعد قرن ونصف لينتقم بغزو دمشق وبغداد الحاضرتين الثقافيتين العربيتين ( 1386 – 1400 م ) .
وطبيعي بعد بعد هذه الأحداث أن تضعف الحياة الثقافية والأدبية ، وبخاصة الشعر ، في البلاد العربية . وزاد الضعف الثقافي والأدبي بتولي المماليك مقاليد الحكم في مصر والشام ، ثم وصل إلي منتهاه إبان حكم الأتراك العثمانيين ( 1516 – 1798 ) .
بلغ الشعر غاية الضعف حتي فقد الحياة ، وانتهي إلي سكرات الموت خلال القرون الثلاثة المتعاقبة من حكمهم ، ولم يعد هناك من يتذوقه لسطحية موضوعاته وتفاهتها ، وضعف أسلوبه وركاكته ، وجهل القارئين له ، ولم يبق للغة العربية جلالها وبهاؤها علي ألسنة الناس وفي مسامعهم . وقد عم الجهل وشاع الفقر ، والاستبداد ، وظهر الخوف والظلم ، وحرمت مصر والبلاد العربية من مصادر ثقافتها وتعليمها ، بغلق المدارس ونقل الكتب ، وترحيل الخبرات من العلماء والمهندسين ، ورجال الفنون ، وأصحاب الحرف إلي تركيا , ليقيموا للأتراك حضارة كانوا يفتقدونها في دولتهم الناشئة .
وفوق ذلك ألغي ديوان الإنشاء ، وفرضت اللغة التركية لغة رسمية بغية تتريك العالم العربي ، حينئذ لم يجد الشعراء من يتذوق شعرهم أو يشجعهم علي الإجادة فيه ، فانصرفوا عن التجديد والابتكار ، واتجهوا إلي التقليد والتكرار ، ونزلوا بالشعر إلي الحضيض لجهلهم من ناحية ، وفقدان القدرة والمثل والمعلم من ناحية أخري . ومن ثم صار الشعر – كما سبق – كالجسم الهامد أو الجسد المحتضر في حاجة إلي من يمنحه القدرة علي الحس والنبض وينقله من حالة الانهيار والجمود والاحتضار ، إلي البعث والإحياء .
وفي عام 1798 م كسر سور العزلة عن مصر بقدوم الحملة الفرنسية فتنبهت الأذهان إلي عالم جديد ، واتجه محمد علي والي مصر إلي أوربا يرسل إليها البعثات ، ويستقدم المعلمين ، ويفتح المدارس وينشئ المصانع ، ويعد الجيوش ، ليتوسع في سلطانه ، فأخذت رياح التغيير تهب علي مصر مع أبنائها العائدين من البعثات ،ومع تلاميذ المدارس التي أنشئت ، ومن خلال العلوم والمعارف التي استوردها الوالي الطموح ، وبدأ الاهتمام بالتراث العربي ، وأخذت المطابع في نشره ، فبعث بعد غيبة طويلة . وظهر أثر ذلك كله علي بعض الشعراء التقليديين ، من أمثال : الشيخ علي أبو النصر ، ومحمود صفوت الساعاتي ، وإسماعيل الخشاب .
محمود سامي البارودي :-
ظل جيل الشعراء الذين مستهم رياح التغيير الحضاري مسا خفيفا ، يميلون في مجمل شعرهم إلي الصنعة والتقليد ، بينما تظهر فيه ذبالة خافتة من التجديد ، حتي جاء الفارس الشاعر الذي قاد مدرسة الإحياء والبعث ، محمود سامي البارودي ( 1838 – 1904 ) الذي أحس – كغيره من معاصريه – بالوعي بعظمة مصر والتراث العربي ، في مواجهة العناصر الوافدة الدخيلة . ورأي الشعر الجيد يكمن فيما قبل عصور التخلف والجمود تحت وطأة المماليك والعثمانيين فاتجه – مع غيره – إلي ذلك التراث العربي .
وارتفع صوت البارودي ، وحده بين الشعراء ، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، رصينا قويا في عباراته وألفاظه ، متينا في أساليبه ، صافيا في أخيلته ، شريفا في معانيه ، مشرقا في ديباجته ، جزلا في تراكيبه .
واستمع معاصروه إليه ، فرأوه يصوغ شعرا غير ما ألفوه من نظم علي مدي ما يزيد عن أكثر من ثلاثة قرون مضت .
لقد كان صنيع البارودي مع الشعر صنيع من أعاد الحياة لمن سلبها ، ورد النبض لمن فقده ، ذلك أنه ارتقي بالشعر وصعد به من قاع منحدر إلي أعلاه .
[ ملامح شعر البارودي ] :-
ارتقي بالكلمة والعبارة من الضعف والابتذال إلي صحة التركيب وقوته ، وصفاء السليقة ونقائها ، والعناية بالأسلوب وجماله .
وارتفع بهما من تكلف البديع وأثقاله إلي الرصانة والتحرر ، ومن التعقيد والغموض إلي الوضوح والإفصاح .
يقول البارودي إحساسا منه بالدور الذي قام به في إحياء الشعر :
أحييت أنفاس القريض بمنطقي وصرعت فرسان العجاج بلهذمي
ونأي البارودي بموضوعاته عن التكرار والجدب والسطحية ، إلي التجدد والتنوع ، والتعبير عن الأحاسيس الذاتية ، والحياة المعاصرة ، والقضايا القومية ، وأحداث العصر ، منتقلا بالموضوع الشعري من الأمور الشخصية التافهة الضئيلة إلي الأمور العامة التي تقدم زادا للإنسان من خلال خبرة الإنسانية وتجربتها مع لاحياة ممتزجة بالعاطفة .
فهو يشكو من زمنه ومن حوله من المنافقين فيقول :
أنا في زمان غادر ومعاشر يتلونون تلون الحرباء
ويصف الطبيعة ، والحروب والمعارك وأهوالها ، ويتشوق لمصر في منفاه غريبا عنها ، ويحض علي البطولة والإقدام . ويصف الليل والنيل ، ويكتب في حب مصر . ويرثي والده وزوجته وابنه . ويتغزل ، ويكتب في السياسة والوطنيات إلي آخر ما هنالك من موضوعات غير تقليدية تنطلق من تفاعله مع أحداث عصره وزمانه
وإلي جانب ارتفاعه بالكلمة والعبارة ، وارتقائه بالموضوع . نجده –ثالثا- ينتقل بالخيال من الضيق والسطحية إلي التحليق في سماوات الشعر ، وأجنحة التصوير ، ويدير عدسته الشعرية في الآفاق ، ويعتمد علي حواسه ، فيجعل من التشبيهات والاستعارات والكنايات لوحات متحركة مرئية مسموعة وملموسة ، يقول عن تجربته مع الخيال الشعري :
تعرض لي يوما فصورت حسنه ببلورتي عيني في صفحة القلب
وتتجلي قدرته علي التصوير في مواطن عديدة . من ذلك وصف شعر المرأة في قوله :
تهتز من فرعها الفينان في سرق كسمهري له من سوسن عذب
كأن غرتها من تحت طرتها فجر بجانحة الظلماء منتقب
ومن خلال كل ذلك نلتقي لديه –رابعا- بانتقال العاطفة من البرود والجفاف ، إلي الحيوية والحركة والذاتية .
ونجد موسيقاه –خامسا- محافظة علي وحدة الوزن والقافية ، ذات رنين قوي أخاذ .
اتجه البارودي – في ذلك كله – إلي مجاراة فحول الشعراء في العصور العربية الزاهية ، منذ العصر الجاهلي ، فالإسلامي ، فالأموي ، فالعباسي . منصرفا عن محاكاة ضعاف الشعراء في العصرين : المملوكي والعثماني ، وهو يجاري القدماء لكنه لا يقلدهم ، كأنه يتنافس معهم حول المعاني والأخيلة ، ومن هنا جاري وحاكي وعارض شعر القدامي من الشعراء : امرؤ القيس ، والنابغة ، وعنترة ، وأبي تمام ، والمنتبي ، والبحتري ، والشريف الرضا ، وابن زيدون ، وابن خفاجة – وهما أندلسيان – معتمدا علي نقاء ذهنه ، وفطرته السليمة ، وقراءته وحفظه جيد الأشعار ، وتتلمذه علي يد أستاذه الشيخ حسين المرصفي . مثبتا أن الضعف الذي طرأ علي شعرنا العربي عبر القرون السابقة له ، كان راجعا لضحالة اللغة عند الشعراء أنفسهم ، ولأسباب طارئة غريبة علي لغتنا ، وليس راجعا لضعف فيها ، فهو يلتقي مع أبي نواس ، إذ يقول البارودي :
وكم ليلة أفنيت عمر ظلامها إلي أن بدا للصبح فيه قتير
ويقول أبو نواس :
وما زلت توليه النصيحة يافعا إلي أن بدا في العارضين قتير
ويقول البارودي :
فلا تثق بوداد قبل معرفة فالكحل أشبه في العينين بالكحل
محاكيا قول المتنبي :
لأن حلمك حلم لا تكلفه ليس التكحل في العينين كالكحل
الرائد وتلاميذه :-
هكذا كان البارودي رائد هذه المدرسة التي سيطرت علي الذوق العربي قرابة قرن من الزمان ، وما يزال لها أنصارها منذ سار علي درب البارودي كل من : إسماعيل صبري ، وعائشة التيمورية ، وأحمد شوقي ، وحافظ إبراهيم ، وولي الدين يكن ، ومحمد عبدالمطلب ، وأحمد محرم ، وعلي الغاياني من مصر ، ومحمد رضا الشبيبي ، وعبدالمحسن الكاظمي ، وجميل صدقي الزهاوي ، ومعروف الرصافي من العراق ، وشكيب أرسلان من سوريا ، وغيرهم من جيلهم بالبلاد العربية المختلفة .
وأعقبهم من الأجيال التالية : علي الجارم ، ومحمد الأسمر ، وعزيز أباظة ، ومحمود غنيم ، وأمثالهم بمصر ، وصقر الشبيب بالكويت ، وابن عثيمين الأب والابن بالسعودية ، وكثيرون من شعراء العربية المحدثين .
خصائص مدرسة الإحياء والبعث :-
تحددت خصائص هذه المدرسة :
1- مجاراة القدماء في تقاليد القصيدة ، بانتقالها من غرض إلي آخر ، والافتتاح بالنسيب وما يمر به الشاعر ، مما يجعل القصيدة متنوعة الأغراض .
2- قيام القصيدة علي وحدة البيت ، بحيث يكون البيت وحده أو مع بضعة أبيات مستقلا عن سائر أبيات القصيدة .
3- العناية بالأسلوب وبلاغته ، وروعة التركيب ، وجلال الصياغة الشعرية وبهائها ، وانتقاء اللفظ واختياره ، مما جعل الجانب البياني يتغلب أحيانا علي المضمون الفكري والمعني الشعري .
4- متابعة القدماء في موضوعاتهم : من مدح ورثاء ، وغزل ، وفخر .
5- اقتباس المعاني ، والأخيلة ، والصور ، والموسيقا ، من فحول الشعراء القدامي ، من ذكر الرسوم والأطلال والخيام ، والكثبان ، والرعيان ، والقبائل ، واستعارة ألفاظ من الشعر القديم : كعيون المها ، وملاعب الآرام ، وغيرها .
ومن ذلك : مناجاة الصاحب ، كما قال البارودي محاكيا القدماء :
خليلي هل طال الدجي ؟ أم تقيدت كواكبه ، أم ضل عن نهجه الغد ؟
والحديث عن الظبا في قول شوقي :
روعوه فتولي مغضبا أعلمتم كيف ترتاع الظبا ؟
ومخاطبة شخص آخر في مفتتح القصائد كما يري عند شوقي في افتتاحياته :
قم ناج جلق – قم حي هذي النيرات – قم في فم الدنيا – قم ناد أنقرة – قف ناد أهرام الجلال – قف بالممالك وانظر دولة المال – آذار أقبل قم بنا يا صا محمود سامي البارودي - مدرسة الإحياء والبعث
الجمعة أبريل 18, 2014 6:49 am من طرف viva star
» مناهج النقد الأدبي . مترجم.rar
الخميس أبريل 17, 2014 5:01 pm من طرف viva star
» مصطلحات توليدية
السبت فبراير 08, 2014 2:55 pm من طرف رعاش وليد
» ارجو المساعدة
الجمعة يناير 10, 2014 2:10 am من طرف مريم عبد الرحمان
» مساعدة عاجلة جداااااااااا
الثلاثاء يناير 07, 2014 6:53 am من طرف مريم عبد الرحمان
» كتب في علم الدلالة
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:35 pm من طرف safih
» عرض حول معجم المقاييس لابن فارس
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:15 pm من طرف safih
» المعجم الالكتروني
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:06 pm من طرف safih
» تشغيل الجزيرة الرياضية بالشرينغ
الثلاثاء نوفمبر 12, 2013 11:29 am من طرف safih