التركيب الفني للمعرفة في عالم محفوظ الروائي
عبد السلام أقلمون
1-مقدمة:
لم يتفق أن كاتبا صار علامة على جنس أدبي بكامله كالذي اتفق لنجيب محفوظ، فلا تذكر الرواية في حقل الإنتاج العربي إلا تداعى ذكر هذا العلم البارز.ولعل السبب في ذلك أن محفوظ واكب مسيرة الإنتاج الروائي عبر أطوارها الكبرى الأساسية، تكوينا وتطورا وتجددا.ولقد صادف محفوظ في نفسه موهبة فذة اكتشف مداها واقتنع بعمقها وقوتها، ثم صادف لدى الجمهور استحسانا كبيرا وإقبالا بالغا، ثم وجدت فيه المرحلة لسانا يعبر عن حالها وعينا تكشف أسرارها وأعماقها.
فسارت وتيرة الإبداع منتظمة باجتهاد الكاتب وحسن أدائه، وإقبال المرحلة وحسن تقديرها.فكان تكامل الحد بين إرسال كاتب مبدع وتلقي مرحلة متعطشة، سمة غالبة على سيرورة النماء الأدبي الجديد، وانطلاقة واعدة لضرب من الكتابة رعته قلوب مرهفة تعشق الكلمة المرسلة، ونفوس مرهقة بهواجس قهر فادح كانت دائمة التطلع إلى من يرسم لها ملامح ذاتها الجريحة على لوح إبداع مؤثر.
فانتصبت مرآة الأدب صقيلة في أعمال محفوظ، وإذا بأحداث وشخوص وأزمنة وفضاءات...تمر كلها من تلك المرآة، وإذا هي أمكنة الناس وأحداثهم...فأقبلوا في نهم والتذاذ يكتشفون دواخلهم في انعكاساتها السحرية[1]، ويتعرفون على تفاصيل حياتهم وأشيائهم...وإذا هم كائن جرد من ذاته الأولى، وألبسه فن الأديب ذاتا أخرى يعيش بها ليمثل نفسه، ويمثل هواجس كل إنسان سواه.فسقطت أعراض الشخوص وبقيت جواهرها ألبست أغراضا للفن يقصد بها أن يكون الإنسان أفضل مما هو، أو على الأقل أن يتعرف هذا الإنسان اللغز على نفسه من هو؟
2- المسار الروائي:
يمثل نجيب محفوظ ظاهرة أدبية متميزة تسمح بمناقشة إشكالات كثيرة، يمثل كل واحد منها مدخلا أساسيا لفهم بنية العقل العربي وتطور أدائه في مجال الإبداع الأدبي.كما يمكن توسيع النتائج وقياس درجة الجهوزية في هذا العقل في مجالات معرفية مجاورة للأدب، أو حتى تلك التي تشمل المعرفة بكل جوانبها.
لنتأمل إذن، هذا المسار الاستثنائي لكاتب استثنائي.
وفدت الرواية إلى ساحة الإبداع العربي بشكلها الحالي الذي صار محفوظ علامة عليه، في بداية القرن الماضي.بما يعني أن سبق الشعر عليها لا يتطرق إليه شك.وبما يعني أيضا أن الشعر يحضر بإزائها ومعه رصيد من تجارب الإبداع تمتد قرونا مديدة.وفوق هذا معه شهادة تاريخية أنه علم القوم الذي لم يكن لهم علم مثله[2].والرواية بإزائه وليد يتدحرج ويحاول أن يجد له موطنا معترفا به في خانة الأجناس العريقة.
لكن المفارقة الأخرى أن نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كانت في التاريخ العربي زمنا يتمخض على حدة.وكان في تكونه عبارة ارتجاجا يشق انعطافات في الزمن العربي خارج السيرورة الداخلية لزمن بدا ثقيلا ومستثقلا.
لقد كان التاريخ العربي الحديث متعرضا لمؤثرات خارجية قوية جعلت كل أنويته الداخلية هدفا للتهجين والتغيير والتأثير.ولم تعد الذات العربية في محل يسمح لها أن تفرض أشياءها على العالم، بل كانت أشياء العالم المتخلقة في مجال الحيوية، هناك خارج الأرض العربية هي التي تفرض أشياءها على العالم العربي.
فكان الشعر من أشياء الذات؛
وكانت الرواية من أشياء الآخر؛
وكان نجيب محفوظ محلا تعتمل فيه مؤثرات الجهتين جميعا؛ بصفته كاتبا عربيا شابا في ذلك الوقت، نهل كغيره من معين التراث وتأثر بكتبه وشيوخه وريحه العامة السارية في دنيا المشرق العربي.
ثم كان أيضا ذاتا تستقبل رياح الغرب وهي تعصف عبر المحيطات جميعها حاملة آثارها إلى أركان الدنيا، وربما كان أولها مصر حين وفدت عليها من غير استئذان جحافل نابليون.
اهتز العالم العربي على وقع الحراك التاريخي العام، وانتضى المبدعون أقلامهم ليصوروا ويسجلوا ويفلسفوا ويتأملوا ويشاركوا...فكان بعضهم ما زال يسير على حرفية النسق التعبيري الكلاسيكي الذي إن لم يكن شعرا أو مقامات كان شيئا قريبا منهما.وكان بعضهم الآخر ينسج على منوال ما تذوقه من أنساق جديدة في الكتابة والتي إن لم تكن ترجمة أو اقتباسا كانت شيئا بإزائهما.
وكان حكم المرحلة هو:
- الجمهور؛
- وحركة التاريخ؛
لكن التاريخ كان متحركا بفعل القوة الدافعة، ولم تكن في ذلك الوقت غير القوة الغربية.أما الجمهور وإن كان ذوقه العام مازال به حنين إلى المسكوك من تعابير التراث وإنشائه، رغم أنهما يستندان إلى أرض من الضعف العربي العام والخمول الذي لا يستطيع أن يحرك للتاريخ ريشة فضلا عن أن ينهض له جناحا؛ إلا أنه صار مدفوعا بقوة التاريخ ووجهته.
هذه هي الأرض التي مهد التاريخ بها لمنعطفه الجديد والتي دعا محفوظ لينطلق في دربها.كان الشعر رغم الذي تراكم منه بين يدي قرون من الإنتاج علما يترنح، ثم صارت الرواية أدبا يخرج من زوبعة اللحظة، وكل شيء يدفع بها إلى أن تتصدر لتكون لسان حال المرحلة[3]:
- تشكل المدينة الحديثة بمتطلباتها الاجتماعية الجديدة وانعكاساتها النفسية على السكان
- التشكيل العمراني الجديد وما ينتج عنه من محددات جوارية ونشوء علاقات جديدة
- المطبعة كوسيلة تقنية
- الجرائد مساحات جديدة للإبداع
- جماهير المتعلمين بثقافتهم المحدودة التي لم تعد تستوعب عمق التراث ورصانة الشعر
-...
كل هذه المظاهر خلقت على عجل وضعا جديدا، لا بد أن يتصدى له النثر.بل إن طبيعة المجتمع الحديث وقضاياه، وتركيب علاقاته تجعل منه موضوعا لفن جديد، وهدفا لأنساق كتابية لم يعد يمثل الشعر سوى جزء بسيط منها، فصارت طبيعة الاجتماع الجديد الذي بدت عليه المدينة العربية تعكس روح النظرية الروائية التي حدد معالمها جورج لوكاش:"فالأزمنة التي فقدت موهبة العفوية هذه، إما أن يقصى فيها الشعر من الأدب الملحمي العظيم، وإما أن يتحول الشعر بغتة وعن غير قصد إلى شعر غنائي.وحينئذ يكون النثر هو وحده القادر على أن يدرك ويمسك بقوة كبيرة بالألم والانعتاق، بالمعركة والتتويج بالتقدم والتكريس؛فقابليته للتمدد وصرامته المحررة من الإيقاع هما وحدهما القادران على التعبير عما في عالم يشع بمعناه المحايث له،والذي صار من الآن فصاعدا معنى منكشفا"[4]
3- النثر الجديد لعالم جديد:
كان النثر يتنزل من سماوات الصنعة،ويصبح شيئا فشيئا أليفا إلى الحياة العامة، قادرا على التلبس بمقتضياتها النوعية، لقد صار المعجم يتشكل بألفاظ الحياة الواقعية الملموسة، وبدأ السجل اللغوي يصبح في كثير من جوانبه هو حياة الناس المنفعلة باهنزازات اللحظة.تراجعت السجلات الذهنية الموروثة المفارقة لطبيعة الحياة.والتي كان جزء من تماسكها رهينا بحذلقة المثقفين واستعراضهم لمدونات التراث، دون مجهود كبير للإحساس بحاجة الواقع إلى لغة جديدة، بل إلى منهج جديد في الحياة.
بدأ نجيب محفوظ يكتسب الوعي الكافي بضرورات الحياة الجديدة، وبدأ يحس بمسؤوليته تجاه اللحظة التي يعيشها، وصار في قناعاته العامة معنيا بصياغة الشكل المناسب للتعبير عن حياة المدينة الخارجة من رحم الانحطاط، رغم أنه يعترف بكونه لم يبلغ ذلك المدى من الوعي إلا بعد مروره من مرحلة وسيطة، كان فيها كغيره من الكتاب أداة لاستظهار التراكيب المتفاصحة والمستنسخات البيانية التي كانت أمل كثير من الكتاب، وهو أمر يجد تبريره في البداية ولكل بداية ارتهاناتها ورهاناتها:"لكنني الآن أضحك على نفسي من أسلوب هذه الرواية، إذ إنني كنت متشبعا وقتها بأنماط من التعبيرات اللفظية الفخمة التي كنا نحفظها عن ظهر قلب، ولم أدرك وقتها ضرورة خضوع وسيلة التعبير لطبيعة موضوع الرواية الذي أتناوله، فكان الموضوع فرعونيا فيه نوع من الخيال التاريخي، ولكنه يستخدم الألفاظ العربية الجزلة الفصيحة من أول الرواية إلى آخرها، ومن ثم لازمها التنافر على طول الرواية"[5].
إن الانتقال البنائي للنص الروائي العربي،كان في حاجة إلى أن يصطنع وضعه الاعتباري الخاص.كان في حاجة إلى الصوغ الحكائي لعالم الواقع عبر الوسائط الفنية التي تستلزمها حاجات التعبير وضرورات الإنتاج، وليس مستنسخات التراث ومسكوك الجمل.لقد كان على النثر أن ينتقل من نحو الجملة إلى نحو الخطاب.أي إلى الجملة الكبيرة التي هي"النص"وهذه كلماتها من السرد والشخوص والفضاء والزمان...وحاجاتها إلى تدبير محكم لروائي يستبطن الفلسفة والإحساس العميق بنداء الحياة.فيجعل من محتمل الوقوع صفحة يستعرض فيها الواقع وجهه الملغز.
وهذا لم يعد ممكنا إلا بثلاثة أشياء:
أولا:الحاجة إلى ممارسة كتابية تنقل النثر من تعابيره السميكة إلى مستويات جديدة من اللين وقابلية حمل المعاني الحديثة والتلاؤم مع الحكي المسترسل.
ثانيا:الحاجة إلى بنيات حكائية وسيطة، تحتضن الجهود الناشئة، فتكسبها خبرة البنيات الجاهزة قبل أن يستقل الإبداع ببنياته الروائية.كان التاريخ يوفر هذه البنيات الوسيطة.فما كتبه الطبري والمسعودي وابن إياس والدينوري الجبرتي...لها حكايات متعددة المشارب والمصادر صاغتها خبرة المؤرخ في نمط حكائي كلاسيكي، أصبح له قانون مسنون من الحبك والتركيب والتتابع والترابط بين أجزاء الحكاية الواحدة، وكذا طريقة في نسج تعاقب المراحل التاريخية ونشوء الدول.ووفرت الصراعات والدسائس والحروب والتحالفات...مواد لحبكة شبه مكتملة.يعالجها المؤرخ بعفوية ويسر فينشأ له منها حكاية كاملة.
استفاد جرجي زيدان-وربما بدافع أيضا من روايات والتر سكوت التاريخية-من التاريخ وحكاياته، فتفرغ للكتابة الروائية التاريخية، فخرج على الناس بموسوعته التاريخ-روائية والتي كان صداها يتردد في أركان العالم العربي.وكان زيدان لأجل ذلك هو المؤسس الفعلي لتقاليد الكتابة الروائية العربية.[6]
فلو رجعنا إلى محاولات أولية تجرب كتابة نص روائي عربي، سنكتشف أنها فعلت ذلك بين يدي التاريخ.فمنه أخذت موضوعها وفي مضماره ترعرعت قبل أن تشق منوالها الخاص، لتقدم نصوصا روائية تستطيع استيعاب التاريخ بندية فائقة، وهو أمر صار بإمكان الرواية تحقيقه بعد سنوات من مزاولة الكتابة الروائية والتمرس بتقنياتها.
ثالثا:أديب متنسك يفرّغ نفسه لهذا النوع من الإنتاج الأدبي النثري.يكون له ملكة متينة وإحساس هائل بالحياة، واتصال مباشر بمفرداتها، وتلبس بتفاصيلها.ثم يكون أديبا متفلسفا قادرا على استبطان كثير من أنواع المعارف، فيقترب من دواخل الشخوص بخبرة عالم النفس، ويحلل قضايا المجتمع بأدوات عالم الاجتماع، ويغوص في تضاعيف الزمان بحساسية المؤرخ، ويستلهم الرموز والمعاني بروح الشاعر.وهذا هو نجيب محفوظ في كلمة واحدة.تأثر نجيب محفوظ بدوره بإنجازات زيدان وحاول تقليده وقرر تخصيص عشر روايات للتاريخ الفرعوني.[7]
وإذا كان محفوظ لم يكمل مشروعه الروائي التاريخي، إلا أن الأثر الباقي بعد ثلاثة نصوص سمحت للكاتب بإنجاز تمرين شخصي وتجريب ذاتي يجعلانه مؤهلا لاحقا أن يستقي من خياله، ويستلهم من تمثلاته الخاصة أنين العالم وحنينه.
لقد كانت المرحلة مندفعة في اتجاه اجتراح أدب وليد يستطيع أن يكون لسان حال المدنية الحديثة، وأن يبلغ بالتعابير نقطة أخرى في ضفافه الرحيبة لم يبلغها الشعر ولا الأجناس العتيدة التي قامت بإزائه طويلا:الرسالة والمقامة والمقالة.ولو لم يكن نجيب محفوظ هو الذي انتدبته ظروف المرحلة لإنجاز ذلك الدور وبلوغ تلك الغاية، لكان محفوظ آخر ونجيب آخر هو الذي يقوم بذلك.
4- محفوظ من التأسيس إلى التجديد:
4-1 محفوظ مؤسسا:من الكتابة الأدبية إلى الكتابة الروائية.
كان على هذا الروائي أن يسهم في بناء قواعد الكتابة الروائية وهي تتخلق بين يدي هذه المرحلة الجديدة.استفاد من جهود المؤسسين الآخرين:المويلحي وحافظ إبراهيم وسليم البستاني وعيسى عبيد وفرح أنطون وخصوصا جرجي زيدان.واستفاد من سجالات المرحلة التي نشبت بين أفذاذ الأدباء وكبار المفكرين.وكان السؤال الكبير الذي لم يخطئه أحد منهم:كيف يمكن بناء نهضة عربية تؤمّن للإنسان العربي فرص الإبداع والإنتاج، وتعيد للعقل العربي حيوية باتت ترزح تحت أنقاض قرون طويلة من الانحطاط؟
لا تهمنا الإجابات المتباينة ولكن يهمنا موقع نجيب محفوظ ضمن هذا المناخ العام.لقد كان الرجل يتشكل بروح هذه الأسئلة، ويخزن إرهاصاتها الكثيرة.بل كان يبحث لها عن إطار فني قادر على استيعاب تنوعها.
كان الجدل حيا على أعمدة الجرائد وفي المجلات السيارة كالرسالة والمقتطف والهلال...وكان النشاط الثقافي على أشده.فكان من النتائج غير المباشرة على نجيب محفوظ، ظهور أساليب عربية نقلت الإنشاء والبيان إلى مستوى جديد من الإنجاز.لقد لان النثر العربي وصار أكثر مرونة، وتأثر مفهوم البيان بمنظور جديد خارج تعريفات الكتب البلاغية.واستقر النهج العام على أسلوب الكتابة المتخففة من السجع، وقيود البديع.وأصبح للفكرة والمعنى موقعا خاصا، وصارت إحدى وظائف الكتابة هي الإبانة والوصف والتشخيص.ولم يكن كاتب في مثل موهبة محفوظ بحاجة إلى مواد أساسية أكثر من تلك، لينطلق بها إلى أكثر آمادها الإبداعية اتساعا، ويشيد بها معمارا جديدا، وينسج بها معاني الحياة المتحركة أمام ناظريه، وقد صارت الأساليب مسعفة والمعاني مفتقة.
4-2 محفوظ مؤصلا:الرواية كجنس أدبي مركزي.
تلمست الرواية طريقها الأول تحتدي بالتاريخ وقد وجدت في حلقاته السردية شبه المكتملة ما يغنيها عن النهوض بالجهد من أوله.فلم تكن للمبدعين قدرة على تدبير الشأن السردي بكل مكوناته.فانتهت حصيلة التجارب الروائية بين يدي نجيب محفوظ.فتصدى هو لذلك الدور الإبداعي وأنجز شيئا كانت إرهاصاته عند غيره فاكتمل بين يديه.وصار الأدب العربي قادرا على أن يزعم أنه استحدث فنا جديدا في تعابير الأدب هو الرواية.
بات نجيب محفوظ قادرا على الخلق الروائي، وإبداع شخوص الرواية من صميم ملاحظاته الاجتماعية، أو من تمثلاته الفكرية، أو من طموحاته المثالية.فصارت الرواية بين يديه.صورة للمجتمع المصري وحركته الدائبة.فزودته الحياة الاجتماعية والطبيعية والفكرية...كما زودت قبله كلا من بلزاك وزولا وفلوبير...وصار بإمكان الرواية أن ترصد دبدبات الحياة الاجتماعية وتصاحب التاريخ الطبيعي كما ألفه الناس في حياتهم العامة؛ بنوع من التاريخ الصناعي كما ألفه محفوظ في متوالياته السردية.
كانت الروايات الاجتماعية نسيجا من التأمل والملاحظة والنقد والتحليل...لمسار اجتماعي تلتقطه الأجناس الأدبية إما رمزيا وشذريا كما الشعر، أو تمر بجانبه كما المقالات المتنوعة...لكن الحاجة ماسة إلى من يغوص في تلك الأعماق ويسبر تلك الدواخل..ليعرض أمام الإنسان العربي صورة نفسه محمولة على الحكي، فكانت الرواية وكان نجيب محفوظ.
استقبل المجتمع روايات محفوظ استقبالا جيدا، وهو مدفوع إلى تلقي الرواية بنفس الطاقة من حركة التاريخ التي كانت تدفع محفوظ إلى الإبداع.فتوالت النصوص الروائية-زقاق المدق بداية ونهاية، القاهرة الجديدة، الثلاثية...-تتجاوب مع هذا المجتمع حتى صار عندنا في ظرف وجيز الرواية الكلاسيكية، معلنة تجاوز مرحلة التأسيس والبحث عن الذات، إلى مرحلة التأصيل وتوطين الذات.لقد تمكن نجيب محفوظ بمثابرته المشهودة أن ينجز معلمته الثلاثية، معلنا قدرة الرواية على بناء ملحمة التفاصيل، واستغراق أبعاد الحكاية في تضعيف ثلاثي يواكب أجيالا من الناس صنعتهم ظروف القهر الاستعماري، واستفحال الذكورة المحلية، وألوان الشرق العجيب...فكانت بقامتها الكاليكرافية، منارة تعلن أن الأدب العربي فيه أيضا جنس من الأدب اسمه :رواية.
4-3 محفوظ مجددا:التجريب والتطوير.
بعد اكتمال الصرح دخلت الرواية في طورها الجديد مرغمة بحركة التطور التي تحكم الأشياء والأحياء.فبدأ الشكل الروائي في ظرف وجيز بسبب مثابرة محفوظ وإصراره..وبسبب محاكاة فوج جديد من الروائيين لنسق محفوظ في الكتابة.يصاب بالتشبع الشكلي والموضوعي.وبدا أن الموضوعات مهما تغيرت فهي تلوينات لتيمة واحدة، والأشكال مهما تكاثرت عبارة عن نسق واحد لتشييد معمار الرواية.فصارت الحاجة ماسة إلى التجديد.إذ لم يعد انتظام حركة السرد، وبناء التناسل الحكائي على سببية قارة، ترسم طريق الشخوص في الرواية وهم أصوات تابعة لسارد خارجي مهيمن على الحكاية والحكي...شيئا يثير القارئين والمبدعين.
فبدأ النسق يتحرك في"اللص والكلاب"والشخوص تتحرر في"ميرامار"والبناء يتمسرح في"حول العرش"ومعمارية النص تتحول في"رحلة ابن فطومة"...كان كل ذلك تجريبا جديدا لأشكال تسعف في تناول أفكار مستجدة أو ربما إشباع الأفكار نفسها لما كان الواقع في ثباته الفادح يستدعي مزيدا من النقد والتحليل.
غير أن التراث السردي العربي سيكون ملهما جديدا إلى أشكال فنية تغني الرصيد البنائي الروائي بتنويعات من التجنس الروائي، تستفيد من تنوع الأشكال السردية التراثية.وسيقوم محفوظ في هذا الطور من التجديد الواعي بقدرات النص الروائي الانفتاحية على استيعاب مختلف الأجناس التعبيرية.سوف يتم احتواء هذه البنيات التراثية كما في"ليالي ألف ليلة"، و"رحلة ابن فطومة"...وسيتم تجاوزها، بسياق التوظيف الروائي لتسهم البنيات الجديدة في تجاوز روتين الكتابة الكلاسيكية النمطية وكذا تعتيق الشكل وتزيين المعمار الروائي المتجدد بفسيفساء التراث.[8]
وكانت الرواية بسبب إبداع محفوظ وغيره نبهت إلى طريقة مثلى لحسم الجدل بين المستلبين للتراث والمستلبين للغرب.أولئك الذين راهنوا على إلغاء ذواتهم لصالح الماضي، وأولئك الذين خرجوا عن ذواتهم لصالح الغرب.وهي أن نكون نحن أولا وأن نستوعب التراث بلا خنوع ونستوعب الغرب بلا خضوع؛ وننشئ إبداعا من اجتهادنا نحتوي فيه التراث والغرب ونتجاوزهما معا.وقد تجلى ذلك فعليا في نصوص روائية كانت تتغذى بعناصر التراث تارة وبعناصر الغرب أخرى، دون أي يسلبها ذاك جوهرها الحاضر ووجودها الفاعل.وما أحوج الفلسفة العربية الغارقة في الثنائية العجيبة والعصية، أن تسلك هذا السبيل لتفهم أن الاستفادة من الجهتين معا ليست بديلا عن حيوية الذات واجتهادها.
5- التمثل المعرفي والتمثيل الروائي:
5-1 التنشيط الثقافي عبر الرواية:
تحولت الرواية بين يدي التجربة الإبداعية لنجيب محفوظ إلى مدرسة متكاملة.صنعتها الممارسة والخبرة والاحتراف.فكانت لأجل ذلك أعمال محفوظ استثنائية بكافة المقاييس.
أولا:ساهم في تأسيس الصرح الروائي وترسيخيه وتطويره.وهذا عمل ينجزه في العادة أجيال من الكتاب، حسب سنن التطور النصي التي كشف جانبا منها كريزنسكي في نظريته السيميائية التعاقبية.
ثانيا:تتلمذ عليه أجيال من القراء وجدوا في إنشائه غاية لتهذيب الذوق وتمرين الملكة على تجريب الكتابة.
ثالثا:نبغ معه أجيال من النقاد حولتهم أعماله إلى دارسين محترفين، اقتنعوا جميعا بأن الأعمال الروائية تستحق أن يفرغ فيها الجهد النقدي طاقاته الجديدة، والتي حصلها من تطور الجهود النقدية بعامة في هذه المرحلة من التاريخ العربي.ثم الاستعانة بنتائج البحث الغربي في النص الروائي.فكانت نتيجة ذلك مكتبة كاملة من الأعمال النقدية والدراسات الجديدة اكتسبت مهارات معرفية هامة، اختص بعضها في أعمال محفوظ واهتدى بعضها الآخر إلى قضايا النص والسرد والروائية بعامة، ولكن بسبب الرونق الإبداعي لأعمال محفوظ وتأثيره البالغ على الساحة الإبداعية.[9]
رابعا:نشوء جيل كامل من الروائين بإزاء محفوظ يحاولون أن يكون لهم في الفن الروائي مذهب آخر يكملون به ما بدأه محفوظ، أو يراوغون به الشموخ المعماري لرواياته التي عدت كلاسيكية بسبب أصالتها واكتمالها الفني.
إنها إذن، حركة ثقافية كاملة قامت بتحريض من هذا المبدع.وهذا الذي ينبغي أن ينتبه له لنتمكن من فهم التأثير الواسع الذي كان للصناعة الروائية كما ألهم إليها.وسواء كانت فاعلية بالإيجاب كما عند الذين تغنوا بمحفوظ وانبهروا به، أو فاعلية بالسلب كما عند الذين حاولوا التصدي له والنيل من صرحه الفني.المهم أنه كان هناك مع هؤلاء ومع أولئك محرضا على التفكير والتأمل والنقد والإبداع في مرحلة دقيقة:كان الوعي العربي أشد ما يكون حاجة إلى الاجتهاد والتململ من الاسترجاع الجامد للمعرفة.
وأما الإنجاز المباشر لمحفوظ في مجال المعرفة العربية فإنه شيء بالغ الدقة والأهمية.لقد جعل الرواية العربية في ظرف وجيز تختزل مسارا إبداعيا لا يتخلف كثيرا عن النقطة التي بلغها إنجاز الروائيين الغربيين ومعهم على الأقل قرنين من الخبرة يتقدمون بهما على الرواية العربية.فلم يعد الأدب العربي يفتقد ستاندال وبلزاك وجول رومان وتولستوي وزولا وفلوبير...وصار شيء من هؤلاء جميعا في نجيب محفوظ، ثم فيه شيء ليس في واحد منهم كونه ابن هذه البيئة العربية الصميم، تغذى من هواجسها وأحلامها، وتراحبت في أعماقه أصداء آفاقها، وتردد رجع ذلك في نصوصه الروائية...فإذا بالعالم العربي في نموذجه القاهري ينبعث أدبيا، في لوحات من السرد والحكي بشكل غير معهود في تاريخ الكتابة العربية، قبل أن ينجزه هذا الأديب.
5-2 نشوء المعرفة الروائية:
لعل حقيقة لا يستطيع باحث راصد لتطور الفكر والثقافة العربيين أن ينكرها، وهي أن الرواية كانت في التصور المعرفي العام عبارة عن امتداد لما يعتقد أنه أدب من الدرجة الثانية.وكانت الثقافة العالمة تستنكف عن مصاحبة الحكي والسرد والتخييل...اللهم ما كان تاريخا أو خبرا أو أياما أو سيرا...أي كل ما يمت إلى الواقع والحقيقة بصلة، أي كل الأجناس التعبيرية التي تمثل الجاد وتمثل الحقيقة أيضا.أما الرواية والقصة والسير الشعبية والحكايات...فكلها تخاريف إن لم تكن كذبا وانتحالا فهي أقرب إلى الكذب والانتحال.
لكن إصرار الروائيين وعلى رأسهم محفوظ، واجتهاد النقاد بدأ يخلق فهما جديدا يكن الكثير من الاحترام لأدب هو ليس واقعا بحذافيره، ولكنه محتمل الوقوع.وإذا كانت أعراض النصوص أنسجة مستمدة من خيال المبدع ووجدانه، فإن جوهرها مستمد من واقع الناس ووجدانهم.
وكان نحيب محفوظ واحدا من أبرز الروائيين الذين جعلوا النصوص الروائية خزانا للفكر والمعرفة، ومختبرا لتشريح المجتمع واستكناه العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وانعكاساتها في نفوس الناس ونشوء مؤهلاتهم وخمود طموحهم، وأسباب إقبالهم على الحياة بهمة وعزم، وأسباب إدبارهم عنها في نكوص وجزع.
صار المجتمع والفرد وحركة التاريخ المعاصر..أبطالا تنكشف قدراتها وتكونها وعافيتها وبلاؤها.وكان محفوظ وراء الستار يدير الأقدار النصية بخبرة المبدع وإلهام الفنان وحس المتأمل وعقلية الفيلسوف.
إن الرواية في صناعة محفوظ قد تنجز نفس الدور الموكول إلى علم الاجتماع وعلم النفس، لكنها تزيد عليهما بالتخلص من البراميترات والسيكوميترات الهندسية الجافة.فلعلها تلغي الأعداد والنسب محافظة على جواهرها لتبعث لضمير البشري ولتقوم بإيقاظه وتحسيسه بعمق المأساة.
فرواية مثل"بداية ونهاية"تعد اختزالا فنيا دقيقا لمأساة تعجز الدراسات الاجتماعية عن ملامستها بنفس القدر من التوفيق والتأثير.فمشكلة السكن غير اللائق بالنسبة لأسرة الهالك نجمت عن اختلال نظام صرف المعاشات، أي عن عسر إداري يتنكر لحاجات المواطنين.والمدة التي تطلبها صرف المعاش هي نفسها مدة الاختبار على مستوى الرواية لظاهرة سوسيولوجية حصرت في لأسرة نموذج، وتم الدفع بالاختبار على مستويات متقدمة من التحليل الاجتماعي مسقطا على نماذج إنسانية متناغمة في أسرة واحدة-أنموذج.بطالة "حسن"ومؤثرات الشارع ورحى الفقر تطحن الأسرة وتصنع بطلا بلطجيا منقطع النظير،فالجريمة من منظور روائي صناعة اجتماعية وإدارية.
والشيء نفسه يقال عن الموظف البسيط"حسين"وهو عرضة للانهيار بين حاجات أسرية غاية في الإلحاح وحاجات ذاتية غاية في الإلحاح.وهذه الفاقة المزدوجة يصعب أن تلتقطها قصاصات السوسيولوجيين بنفس التشخيص والحيوية،وأما"حسنين"و"نفيسة"فقد وفر بهما النص الروائي فرصة تمديد الخيوط الاجتماعية على تخوم البحث السيكولوجي حيث تكشف الاستعدادات النفسية والميول الشخصية على نتائج تجعل المؤثرات الاجتماعية غير متكافئة في مختلف الشخوص.فإذا كان الاستعداد لتقبل المؤثرات الاجتماعية السلبية فعلا عند شخصية"حسنين"تسنده عجرفة وكبرياء يدلان على اختلال السواء النفسي.فإن هذا الاستعداد ضعيف أصلا عند نفيسة لولا أنه مسنود بضغوط بيولوجية جعلت القصور الخلقي دافعا داخليا يبحث باستمرار عن حل لمعضلتين:معضلة فتاة دميمة، ومعضلة أسرة معدمة.فكان السقوط لأجل ذلك حلا جبريا حاول النص إقناعنا بحتميته الاجتماعية وبضرورة مقاومة ظروفه قبل مقاومة ضحاياه.
تعرض الرواية قضايا:الفساد الإداري والتردي في السكن غير اللائق وظروف الفقر والعوز والانحراف الفردي والاجتماعي والجريمة والمخدرات وعمل المرأة وضعف الأجور...لكنها عرضت ذلك في شبكة تذكر بشبكة الحياة نفسها،وهو الأمر الذي تعجز عنه السوسيولوجيا لأن تناولها لا يكون إلا جزئيا ورقميا.
وينفس القدرة والكفاءة كان التحليل السياسي للمجتمع ولمظاهر التسلط والاستبداد وغياب الممارسة الديموقراطية، من خلال"رحلة ابن فطومة"و"حول العرش".وكذلك كل القضايا المركزية في الثقافة العربية...التي انتدب محفوظ ثلة من شخوصه لتمثيلها، وبقيت راسخة في ذاكرة قرائه، وفي ذاكرة التاريخ الجديد الذي كان أحد صناعه بتواضع جم وإصرار عظيم.
الهوامش
[1] -لا نقصد أن الأدب انعكاس مرآوي للحياة على النحو الذي رعته الواقعية الساذجة، بل استعرنا مفهوم المرآة دون إغفال لكون الأدب صياغة مثلى تعيد إنتاج الحياة بواسطة اللغة.وتوسط اللغة يدمج كل المجهود الذهني لفهم الحياة عبر علاقات خوارزمية مادتها من الحياة وجوهرها من الإبداع.
[2] - يذكر نقاد الشعر وعلماؤه كلمة اختلف في نسبتها، مع ترجيح كونها للصحابي عمر بن الخطاب، وهي تثبت ما كان للشعر من مكانة في نفوس العرب وفي حياتهم العامة ومؤداها:"كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه"أنظر ابن سلام الجمحي طبقات فحول الشعراء.
[3] -كان ابن خلدون يقول:"الشعر ديوان العرب"وهو يقصد أن التجربة العامة ومردود الحياة النفسية والعقلية والاجتماعية والفنية...كلها مخزنة في الشعر لأنه لسان القوم وفنهم الأكبر؛ غير أن حنا مينه لاحظ تراجع الشعر لفائدة الرواية وبدا له أن الشعر يتخلى عن موقعه ذاك للرواية فاستعار قولة ابن خلدون ونحلها الرواية فقال:"الرواية ديوان العرب في القرن الواحد والعشرين".
[4] -نظرية الرواية. جورج لوكاش .ترجمة الحسين سحبان.منشورات التل1988.
[5] - مجلة الكاتب العربي، نجيب محفوظ يقدم الرواية في مائة عام يوليو سنة 1970، ص36. عن نجيب محفوظ الرؤية والأداة تأليف عبد المحسن طه بدر دار الثقافة القاهرة 1978.
[6] - أنظر بحثنا:الرواية والتاريخ بحث لنيل دكتوراه الدولة خزانة كلية الآداب جامعة محمد الخامس الرباط.وفيه حديث مفصل عن الرواية التاريخية ودورها في تثبيت تقاليد الإبداع الروائي، ودور جرجي زيدان في ذلك.
[7] - كان محفوظ واقعا تحت تأثير زيدان، وقرر حسب ما صرح به، إنجاز موسوعة روائية في عشرة أجزاء تغطي التاريخ الفرعوني على نحو ما حققه محفوظ مع التاريخ الإسلامي.فكتب:رادوبيس وكفاح طيبة وعبث الأقدار...لكنه انصرف عن عزمه ذاك، إلى ما صار يعرف لاحقا بالرواية الواقعية.
[8] -لقد تحدثنا في كتابنا عن حلقات تطور الرواية العربية عبر أشواطها الكبرى:المرحلة التأسيسية والتأصيلية والتجديدية.أنظر:"القص الروائي والتراث السردي" دار الأحمدية 2000.
ولفهم حلقات التطور الروائي بشكل عام وفق منظور السيميائيات التعاقبية الذي بلوره كريزنسكي:يرجع إلى:
Carrefours des singes..V.Krysinski.ed mouton 1981.
وأما بخصوص التجنسات الأدبية، وتطور الأجناس الفرعية في حقل الرواية، أنظر:
Qu’est ce qu’un genre littéraire.G.M.Sceffer.ed seuil 1989.
[9] -هناك من النقاد من خصص عملا كاملا لدراسة نجيب محفوظ.كما هو شأن الباحث الذي كان من طلائع نقاد الرواية وهو عبد المحسن طه بدر في كتابه :"نجيب محفوظ الرؤية والأداة ".وبعضهم خصص عملا كاملا لرواية واحدة في دراسة عمودية تدرس العناصر والبنيات،كما فعلت سيزا قاسم في كتابها:"بناء الرواية دراسة في الثلاثية":
ونذكر أيضا أن عددا كبيرا من البحوث والأطاريح الجامعية اختصت بتعقب العوالم الروائية عند محفوظ نذكر في المغرب على سبيل المثال:
- محمد محفوظ:آليات إنتاج المعنى نجيب محفوظ نموذجا كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة محمد الخامس الرباط.
- محمد أمنصور أطروحة نوقشت بكلية الآداب بفاس.
المصدر
عبد السلام أقلمون
1-مقدمة:
لم يتفق أن كاتبا صار علامة على جنس أدبي بكامله كالذي اتفق لنجيب محفوظ، فلا تذكر الرواية في حقل الإنتاج العربي إلا تداعى ذكر هذا العلم البارز.ولعل السبب في ذلك أن محفوظ واكب مسيرة الإنتاج الروائي عبر أطوارها الكبرى الأساسية، تكوينا وتطورا وتجددا.ولقد صادف محفوظ في نفسه موهبة فذة اكتشف مداها واقتنع بعمقها وقوتها، ثم صادف لدى الجمهور استحسانا كبيرا وإقبالا بالغا، ثم وجدت فيه المرحلة لسانا يعبر عن حالها وعينا تكشف أسرارها وأعماقها.
فسارت وتيرة الإبداع منتظمة باجتهاد الكاتب وحسن أدائه، وإقبال المرحلة وحسن تقديرها.فكان تكامل الحد بين إرسال كاتب مبدع وتلقي مرحلة متعطشة، سمة غالبة على سيرورة النماء الأدبي الجديد، وانطلاقة واعدة لضرب من الكتابة رعته قلوب مرهفة تعشق الكلمة المرسلة، ونفوس مرهقة بهواجس قهر فادح كانت دائمة التطلع إلى من يرسم لها ملامح ذاتها الجريحة على لوح إبداع مؤثر.
فانتصبت مرآة الأدب صقيلة في أعمال محفوظ، وإذا بأحداث وشخوص وأزمنة وفضاءات...تمر كلها من تلك المرآة، وإذا هي أمكنة الناس وأحداثهم...فأقبلوا في نهم والتذاذ يكتشفون دواخلهم في انعكاساتها السحرية[1]، ويتعرفون على تفاصيل حياتهم وأشيائهم...وإذا هم كائن جرد من ذاته الأولى، وألبسه فن الأديب ذاتا أخرى يعيش بها ليمثل نفسه، ويمثل هواجس كل إنسان سواه.فسقطت أعراض الشخوص وبقيت جواهرها ألبست أغراضا للفن يقصد بها أن يكون الإنسان أفضل مما هو، أو على الأقل أن يتعرف هذا الإنسان اللغز على نفسه من هو؟
2- المسار الروائي:
يمثل نجيب محفوظ ظاهرة أدبية متميزة تسمح بمناقشة إشكالات كثيرة، يمثل كل واحد منها مدخلا أساسيا لفهم بنية العقل العربي وتطور أدائه في مجال الإبداع الأدبي.كما يمكن توسيع النتائج وقياس درجة الجهوزية في هذا العقل في مجالات معرفية مجاورة للأدب، أو حتى تلك التي تشمل المعرفة بكل جوانبها.
لنتأمل إذن، هذا المسار الاستثنائي لكاتب استثنائي.
وفدت الرواية إلى ساحة الإبداع العربي بشكلها الحالي الذي صار محفوظ علامة عليه، في بداية القرن الماضي.بما يعني أن سبق الشعر عليها لا يتطرق إليه شك.وبما يعني أيضا أن الشعر يحضر بإزائها ومعه رصيد من تجارب الإبداع تمتد قرونا مديدة.وفوق هذا معه شهادة تاريخية أنه علم القوم الذي لم يكن لهم علم مثله[2].والرواية بإزائه وليد يتدحرج ويحاول أن يجد له موطنا معترفا به في خانة الأجناس العريقة.
لكن المفارقة الأخرى أن نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كانت في التاريخ العربي زمنا يتمخض على حدة.وكان في تكونه عبارة ارتجاجا يشق انعطافات في الزمن العربي خارج السيرورة الداخلية لزمن بدا ثقيلا ومستثقلا.
لقد كان التاريخ العربي الحديث متعرضا لمؤثرات خارجية قوية جعلت كل أنويته الداخلية هدفا للتهجين والتغيير والتأثير.ولم تعد الذات العربية في محل يسمح لها أن تفرض أشياءها على العالم، بل كانت أشياء العالم المتخلقة في مجال الحيوية، هناك خارج الأرض العربية هي التي تفرض أشياءها على العالم العربي.
فكان الشعر من أشياء الذات؛
وكانت الرواية من أشياء الآخر؛
وكان نجيب محفوظ محلا تعتمل فيه مؤثرات الجهتين جميعا؛ بصفته كاتبا عربيا شابا في ذلك الوقت، نهل كغيره من معين التراث وتأثر بكتبه وشيوخه وريحه العامة السارية في دنيا المشرق العربي.
ثم كان أيضا ذاتا تستقبل رياح الغرب وهي تعصف عبر المحيطات جميعها حاملة آثارها إلى أركان الدنيا، وربما كان أولها مصر حين وفدت عليها من غير استئذان جحافل نابليون.
اهتز العالم العربي على وقع الحراك التاريخي العام، وانتضى المبدعون أقلامهم ليصوروا ويسجلوا ويفلسفوا ويتأملوا ويشاركوا...فكان بعضهم ما زال يسير على حرفية النسق التعبيري الكلاسيكي الذي إن لم يكن شعرا أو مقامات كان شيئا قريبا منهما.وكان بعضهم الآخر ينسج على منوال ما تذوقه من أنساق جديدة في الكتابة والتي إن لم تكن ترجمة أو اقتباسا كانت شيئا بإزائهما.
وكان حكم المرحلة هو:
- الجمهور؛
- وحركة التاريخ؛
لكن التاريخ كان متحركا بفعل القوة الدافعة، ولم تكن في ذلك الوقت غير القوة الغربية.أما الجمهور وإن كان ذوقه العام مازال به حنين إلى المسكوك من تعابير التراث وإنشائه، رغم أنهما يستندان إلى أرض من الضعف العربي العام والخمول الذي لا يستطيع أن يحرك للتاريخ ريشة فضلا عن أن ينهض له جناحا؛ إلا أنه صار مدفوعا بقوة التاريخ ووجهته.
هذه هي الأرض التي مهد التاريخ بها لمنعطفه الجديد والتي دعا محفوظ لينطلق في دربها.كان الشعر رغم الذي تراكم منه بين يدي قرون من الإنتاج علما يترنح، ثم صارت الرواية أدبا يخرج من زوبعة اللحظة، وكل شيء يدفع بها إلى أن تتصدر لتكون لسان حال المرحلة[3]:
- تشكل المدينة الحديثة بمتطلباتها الاجتماعية الجديدة وانعكاساتها النفسية على السكان
- التشكيل العمراني الجديد وما ينتج عنه من محددات جوارية ونشوء علاقات جديدة
- المطبعة كوسيلة تقنية
- الجرائد مساحات جديدة للإبداع
- جماهير المتعلمين بثقافتهم المحدودة التي لم تعد تستوعب عمق التراث ورصانة الشعر
-...
كل هذه المظاهر خلقت على عجل وضعا جديدا، لا بد أن يتصدى له النثر.بل إن طبيعة المجتمع الحديث وقضاياه، وتركيب علاقاته تجعل منه موضوعا لفن جديد، وهدفا لأنساق كتابية لم يعد يمثل الشعر سوى جزء بسيط منها، فصارت طبيعة الاجتماع الجديد الذي بدت عليه المدينة العربية تعكس روح النظرية الروائية التي حدد معالمها جورج لوكاش:"فالأزمنة التي فقدت موهبة العفوية هذه، إما أن يقصى فيها الشعر من الأدب الملحمي العظيم، وإما أن يتحول الشعر بغتة وعن غير قصد إلى شعر غنائي.وحينئذ يكون النثر هو وحده القادر على أن يدرك ويمسك بقوة كبيرة بالألم والانعتاق، بالمعركة والتتويج بالتقدم والتكريس؛فقابليته للتمدد وصرامته المحررة من الإيقاع هما وحدهما القادران على التعبير عما في عالم يشع بمعناه المحايث له،والذي صار من الآن فصاعدا معنى منكشفا"[4]
3- النثر الجديد لعالم جديد:
كان النثر يتنزل من سماوات الصنعة،ويصبح شيئا فشيئا أليفا إلى الحياة العامة، قادرا على التلبس بمقتضياتها النوعية، لقد صار المعجم يتشكل بألفاظ الحياة الواقعية الملموسة، وبدأ السجل اللغوي يصبح في كثير من جوانبه هو حياة الناس المنفعلة باهنزازات اللحظة.تراجعت السجلات الذهنية الموروثة المفارقة لطبيعة الحياة.والتي كان جزء من تماسكها رهينا بحذلقة المثقفين واستعراضهم لمدونات التراث، دون مجهود كبير للإحساس بحاجة الواقع إلى لغة جديدة، بل إلى منهج جديد في الحياة.
بدأ نجيب محفوظ يكتسب الوعي الكافي بضرورات الحياة الجديدة، وبدأ يحس بمسؤوليته تجاه اللحظة التي يعيشها، وصار في قناعاته العامة معنيا بصياغة الشكل المناسب للتعبير عن حياة المدينة الخارجة من رحم الانحطاط، رغم أنه يعترف بكونه لم يبلغ ذلك المدى من الوعي إلا بعد مروره من مرحلة وسيطة، كان فيها كغيره من الكتاب أداة لاستظهار التراكيب المتفاصحة والمستنسخات البيانية التي كانت أمل كثير من الكتاب، وهو أمر يجد تبريره في البداية ولكل بداية ارتهاناتها ورهاناتها:"لكنني الآن أضحك على نفسي من أسلوب هذه الرواية، إذ إنني كنت متشبعا وقتها بأنماط من التعبيرات اللفظية الفخمة التي كنا نحفظها عن ظهر قلب، ولم أدرك وقتها ضرورة خضوع وسيلة التعبير لطبيعة موضوع الرواية الذي أتناوله، فكان الموضوع فرعونيا فيه نوع من الخيال التاريخي، ولكنه يستخدم الألفاظ العربية الجزلة الفصيحة من أول الرواية إلى آخرها، ومن ثم لازمها التنافر على طول الرواية"[5].
إن الانتقال البنائي للنص الروائي العربي،كان في حاجة إلى أن يصطنع وضعه الاعتباري الخاص.كان في حاجة إلى الصوغ الحكائي لعالم الواقع عبر الوسائط الفنية التي تستلزمها حاجات التعبير وضرورات الإنتاج، وليس مستنسخات التراث ومسكوك الجمل.لقد كان على النثر أن ينتقل من نحو الجملة إلى نحو الخطاب.أي إلى الجملة الكبيرة التي هي"النص"وهذه كلماتها من السرد والشخوص والفضاء والزمان...وحاجاتها إلى تدبير محكم لروائي يستبطن الفلسفة والإحساس العميق بنداء الحياة.فيجعل من محتمل الوقوع صفحة يستعرض فيها الواقع وجهه الملغز.
وهذا لم يعد ممكنا إلا بثلاثة أشياء:
أولا:الحاجة إلى ممارسة كتابية تنقل النثر من تعابيره السميكة إلى مستويات جديدة من اللين وقابلية حمل المعاني الحديثة والتلاؤم مع الحكي المسترسل.
ثانيا:الحاجة إلى بنيات حكائية وسيطة، تحتضن الجهود الناشئة، فتكسبها خبرة البنيات الجاهزة قبل أن يستقل الإبداع ببنياته الروائية.كان التاريخ يوفر هذه البنيات الوسيطة.فما كتبه الطبري والمسعودي وابن إياس والدينوري الجبرتي...لها حكايات متعددة المشارب والمصادر صاغتها خبرة المؤرخ في نمط حكائي كلاسيكي، أصبح له قانون مسنون من الحبك والتركيب والتتابع والترابط بين أجزاء الحكاية الواحدة، وكذا طريقة في نسج تعاقب المراحل التاريخية ونشوء الدول.ووفرت الصراعات والدسائس والحروب والتحالفات...مواد لحبكة شبه مكتملة.يعالجها المؤرخ بعفوية ويسر فينشأ له منها حكاية كاملة.
استفاد جرجي زيدان-وربما بدافع أيضا من روايات والتر سكوت التاريخية-من التاريخ وحكاياته، فتفرغ للكتابة الروائية التاريخية، فخرج على الناس بموسوعته التاريخ-روائية والتي كان صداها يتردد في أركان العالم العربي.وكان زيدان لأجل ذلك هو المؤسس الفعلي لتقاليد الكتابة الروائية العربية.[6]
فلو رجعنا إلى محاولات أولية تجرب كتابة نص روائي عربي، سنكتشف أنها فعلت ذلك بين يدي التاريخ.فمنه أخذت موضوعها وفي مضماره ترعرعت قبل أن تشق منوالها الخاص، لتقدم نصوصا روائية تستطيع استيعاب التاريخ بندية فائقة، وهو أمر صار بإمكان الرواية تحقيقه بعد سنوات من مزاولة الكتابة الروائية والتمرس بتقنياتها.
ثالثا:أديب متنسك يفرّغ نفسه لهذا النوع من الإنتاج الأدبي النثري.يكون له ملكة متينة وإحساس هائل بالحياة، واتصال مباشر بمفرداتها، وتلبس بتفاصيلها.ثم يكون أديبا متفلسفا قادرا على استبطان كثير من أنواع المعارف، فيقترب من دواخل الشخوص بخبرة عالم النفس، ويحلل قضايا المجتمع بأدوات عالم الاجتماع، ويغوص في تضاعيف الزمان بحساسية المؤرخ، ويستلهم الرموز والمعاني بروح الشاعر.وهذا هو نجيب محفوظ في كلمة واحدة.تأثر نجيب محفوظ بدوره بإنجازات زيدان وحاول تقليده وقرر تخصيص عشر روايات للتاريخ الفرعوني.[7]
وإذا كان محفوظ لم يكمل مشروعه الروائي التاريخي، إلا أن الأثر الباقي بعد ثلاثة نصوص سمحت للكاتب بإنجاز تمرين شخصي وتجريب ذاتي يجعلانه مؤهلا لاحقا أن يستقي من خياله، ويستلهم من تمثلاته الخاصة أنين العالم وحنينه.
لقد كانت المرحلة مندفعة في اتجاه اجتراح أدب وليد يستطيع أن يكون لسان حال المدنية الحديثة، وأن يبلغ بالتعابير نقطة أخرى في ضفافه الرحيبة لم يبلغها الشعر ولا الأجناس العتيدة التي قامت بإزائه طويلا:الرسالة والمقامة والمقالة.ولو لم يكن نجيب محفوظ هو الذي انتدبته ظروف المرحلة لإنجاز ذلك الدور وبلوغ تلك الغاية، لكان محفوظ آخر ونجيب آخر هو الذي يقوم بذلك.
4- محفوظ من التأسيس إلى التجديد:
4-1 محفوظ مؤسسا:من الكتابة الأدبية إلى الكتابة الروائية.
كان على هذا الروائي أن يسهم في بناء قواعد الكتابة الروائية وهي تتخلق بين يدي هذه المرحلة الجديدة.استفاد من جهود المؤسسين الآخرين:المويلحي وحافظ إبراهيم وسليم البستاني وعيسى عبيد وفرح أنطون وخصوصا جرجي زيدان.واستفاد من سجالات المرحلة التي نشبت بين أفذاذ الأدباء وكبار المفكرين.وكان السؤال الكبير الذي لم يخطئه أحد منهم:كيف يمكن بناء نهضة عربية تؤمّن للإنسان العربي فرص الإبداع والإنتاج، وتعيد للعقل العربي حيوية باتت ترزح تحت أنقاض قرون طويلة من الانحطاط؟
لا تهمنا الإجابات المتباينة ولكن يهمنا موقع نجيب محفوظ ضمن هذا المناخ العام.لقد كان الرجل يتشكل بروح هذه الأسئلة، ويخزن إرهاصاتها الكثيرة.بل كان يبحث لها عن إطار فني قادر على استيعاب تنوعها.
كان الجدل حيا على أعمدة الجرائد وفي المجلات السيارة كالرسالة والمقتطف والهلال...وكان النشاط الثقافي على أشده.فكان من النتائج غير المباشرة على نجيب محفوظ، ظهور أساليب عربية نقلت الإنشاء والبيان إلى مستوى جديد من الإنجاز.لقد لان النثر العربي وصار أكثر مرونة، وتأثر مفهوم البيان بمنظور جديد خارج تعريفات الكتب البلاغية.واستقر النهج العام على أسلوب الكتابة المتخففة من السجع، وقيود البديع.وأصبح للفكرة والمعنى موقعا خاصا، وصارت إحدى وظائف الكتابة هي الإبانة والوصف والتشخيص.ولم يكن كاتب في مثل موهبة محفوظ بحاجة إلى مواد أساسية أكثر من تلك، لينطلق بها إلى أكثر آمادها الإبداعية اتساعا، ويشيد بها معمارا جديدا، وينسج بها معاني الحياة المتحركة أمام ناظريه، وقد صارت الأساليب مسعفة والمعاني مفتقة.
4-2 محفوظ مؤصلا:الرواية كجنس أدبي مركزي.
تلمست الرواية طريقها الأول تحتدي بالتاريخ وقد وجدت في حلقاته السردية شبه المكتملة ما يغنيها عن النهوض بالجهد من أوله.فلم تكن للمبدعين قدرة على تدبير الشأن السردي بكل مكوناته.فانتهت حصيلة التجارب الروائية بين يدي نجيب محفوظ.فتصدى هو لذلك الدور الإبداعي وأنجز شيئا كانت إرهاصاته عند غيره فاكتمل بين يديه.وصار الأدب العربي قادرا على أن يزعم أنه استحدث فنا جديدا في تعابير الأدب هو الرواية.
بات نجيب محفوظ قادرا على الخلق الروائي، وإبداع شخوص الرواية من صميم ملاحظاته الاجتماعية، أو من تمثلاته الفكرية، أو من طموحاته المثالية.فصارت الرواية بين يديه.صورة للمجتمع المصري وحركته الدائبة.فزودته الحياة الاجتماعية والطبيعية والفكرية...كما زودت قبله كلا من بلزاك وزولا وفلوبير...وصار بإمكان الرواية أن ترصد دبدبات الحياة الاجتماعية وتصاحب التاريخ الطبيعي كما ألفه الناس في حياتهم العامة؛ بنوع من التاريخ الصناعي كما ألفه محفوظ في متوالياته السردية.
كانت الروايات الاجتماعية نسيجا من التأمل والملاحظة والنقد والتحليل...لمسار اجتماعي تلتقطه الأجناس الأدبية إما رمزيا وشذريا كما الشعر، أو تمر بجانبه كما المقالات المتنوعة...لكن الحاجة ماسة إلى من يغوص في تلك الأعماق ويسبر تلك الدواخل..ليعرض أمام الإنسان العربي صورة نفسه محمولة على الحكي، فكانت الرواية وكان نجيب محفوظ.
استقبل المجتمع روايات محفوظ استقبالا جيدا، وهو مدفوع إلى تلقي الرواية بنفس الطاقة من حركة التاريخ التي كانت تدفع محفوظ إلى الإبداع.فتوالت النصوص الروائية-زقاق المدق بداية ونهاية، القاهرة الجديدة، الثلاثية...-تتجاوب مع هذا المجتمع حتى صار عندنا في ظرف وجيز الرواية الكلاسيكية، معلنة تجاوز مرحلة التأسيس والبحث عن الذات، إلى مرحلة التأصيل وتوطين الذات.لقد تمكن نجيب محفوظ بمثابرته المشهودة أن ينجز معلمته الثلاثية، معلنا قدرة الرواية على بناء ملحمة التفاصيل، واستغراق أبعاد الحكاية في تضعيف ثلاثي يواكب أجيالا من الناس صنعتهم ظروف القهر الاستعماري، واستفحال الذكورة المحلية، وألوان الشرق العجيب...فكانت بقامتها الكاليكرافية، منارة تعلن أن الأدب العربي فيه أيضا جنس من الأدب اسمه :رواية.
4-3 محفوظ مجددا:التجريب والتطوير.
بعد اكتمال الصرح دخلت الرواية في طورها الجديد مرغمة بحركة التطور التي تحكم الأشياء والأحياء.فبدأ الشكل الروائي في ظرف وجيز بسبب مثابرة محفوظ وإصراره..وبسبب محاكاة فوج جديد من الروائيين لنسق محفوظ في الكتابة.يصاب بالتشبع الشكلي والموضوعي.وبدا أن الموضوعات مهما تغيرت فهي تلوينات لتيمة واحدة، والأشكال مهما تكاثرت عبارة عن نسق واحد لتشييد معمار الرواية.فصارت الحاجة ماسة إلى التجديد.إذ لم يعد انتظام حركة السرد، وبناء التناسل الحكائي على سببية قارة، ترسم طريق الشخوص في الرواية وهم أصوات تابعة لسارد خارجي مهيمن على الحكاية والحكي...شيئا يثير القارئين والمبدعين.
فبدأ النسق يتحرك في"اللص والكلاب"والشخوص تتحرر في"ميرامار"والبناء يتمسرح في"حول العرش"ومعمارية النص تتحول في"رحلة ابن فطومة"...كان كل ذلك تجريبا جديدا لأشكال تسعف في تناول أفكار مستجدة أو ربما إشباع الأفكار نفسها لما كان الواقع في ثباته الفادح يستدعي مزيدا من النقد والتحليل.
غير أن التراث السردي العربي سيكون ملهما جديدا إلى أشكال فنية تغني الرصيد البنائي الروائي بتنويعات من التجنس الروائي، تستفيد من تنوع الأشكال السردية التراثية.وسيقوم محفوظ في هذا الطور من التجديد الواعي بقدرات النص الروائي الانفتاحية على استيعاب مختلف الأجناس التعبيرية.سوف يتم احتواء هذه البنيات التراثية كما في"ليالي ألف ليلة"، و"رحلة ابن فطومة"...وسيتم تجاوزها، بسياق التوظيف الروائي لتسهم البنيات الجديدة في تجاوز روتين الكتابة الكلاسيكية النمطية وكذا تعتيق الشكل وتزيين المعمار الروائي المتجدد بفسيفساء التراث.[8]
وكانت الرواية بسبب إبداع محفوظ وغيره نبهت إلى طريقة مثلى لحسم الجدل بين المستلبين للتراث والمستلبين للغرب.أولئك الذين راهنوا على إلغاء ذواتهم لصالح الماضي، وأولئك الذين خرجوا عن ذواتهم لصالح الغرب.وهي أن نكون نحن أولا وأن نستوعب التراث بلا خنوع ونستوعب الغرب بلا خضوع؛ وننشئ إبداعا من اجتهادنا نحتوي فيه التراث والغرب ونتجاوزهما معا.وقد تجلى ذلك فعليا في نصوص روائية كانت تتغذى بعناصر التراث تارة وبعناصر الغرب أخرى، دون أي يسلبها ذاك جوهرها الحاضر ووجودها الفاعل.وما أحوج الفلسفة العربية الغارقة في الثنائية العجيبة والعصية، أن تسلك هذا السبيل لتفهم أن الاستفادة من الجهتين معا ليست بديلا عن حيوية الذات واجتهادها.
5- التمثل المعرفي والتمثيل الروائي:
5-1 التنشيط الثقافي عبر الرواية:
تحولت الرواية بين يدي التجربة الإبداعية لنجيب محفوظ إلى مدرسة متكاملة.صنعتها الممارسة والخبرة والاحتراف.فكانت لأجل ذلك أعمال محفوظ استثنائية بكافة المقاييس.
أولا:ساهم في تأسيس الصرح الروائي وترسيخيه وتطويره.وهذا عمل ينجزه في العادة أجيال من الكتاب، حسب سنن التطور النصي التي كشف جانبا منها كريزنسكي في نظريته السيميائية التعاقبية.
ثانيا:تتلمذ عليه أجيال من القراء وجدوا في إنشائه غاية لتهذيب الذوق وتمرين الملكة على تجريب الكتابة.
ثالثا:نبغ معه أجيال من النقاد حولتهم أعماله إلى دارسين محترفين، اقتنعوا جميعا بأن الأعمال الروائية تستحق أن يفرغ فيها الجهد النقدي طاقاته الجديدة، والتي حصلها من تطور الجهود النقدية بعامة في هذه المرحلة من التاريخ العربي.ثم الاستعانة بنتائج البحث الغربي في النص الروائي.فكانت نتيجة ذلك مكتبة كاملة من الأعمال النقدية والدراسات الجديدة اكتسبت مهارات معرفية هامة، اختص بعضها في أعمال محفوظ واهتدى بعضها الآخر إلى قضايا النص والسرد والروائية بعامة، ولكن بسبب الرونق الإبداعي لأعمال محفوظ وتأثيره البالغ على الساحة الإبداعية.[9]
رابعا:نشوء جيل كامل من الروائين بإزاء محفوظ يحاولون أن يكون لهم في الفن الروائي مذهب آخر يكملون به ما بدأه محفوظ، أو يراوغون به الشموخ المعماري لرواياته التي عدت كلاسيكية بسبب أصالتها واكتمالها الفني.
إنها إذن، حركة ثقافية كاملة قامت بتحريض من هذا المبدع.وهذا الذي ينبغي أن ينتبه له لنتمكن من فهم التأثير الواسع الذي كان للصناعة الروائية كما ألهم إليها.وسواء كانت فاعلية بالإيجاب كما عند الذين تغنوا بمحفوظ وانبهروا به، أو فاعلية بالسلب كما عند الذين حاولوا التصدي له والنيل من صرحه الفني.المهم أنه كان هناك مع هؤلاء ومع أولئك محرضا على التفكير والتأمل والنقد والإبداع في مرحلة دقيقة:كان الوعي العربي أشد ما يكون حاجة إلى الاجتهاد والتململ من الاسترجاع الجامد للمعرفة.
وأما الإنجاز المباشر لمحفوظ في مجال المعرفة العربية فإنه شيء بالغ الدقة والأهمية.لقد جعل الرواية العربية في ظرف وجيز تختزل مسارا إبداعيا لا يتخلف كثيرا عن النقطة التي بلغها إنجاز الروائيين الغربيين ومعهم على الأقل قرنين من الخبرة يتقدمون بهما على الرواية العربية.فلم يعد الأدب العربي يفتقد ستاندال وبلزاك وجول رومان وتولستوي وزولا وفلوبير...وصار شيء من هؤلاء جميعا في نجيب محفوظ، ثم فيه شيء ليس في واحد منهم كونه ابن هذه البيئة العربية الصميم، تغذى من هواجسها وأحلامها، وتراحبت في أعماقه أصداء آفاقها، وتردد رجع ذلك في نصوصه الروائية...فإذا بالعالم العربي في نموذجه القاهري ينبعث أدبيا، في لوحات من السرد والحكي بشكل غير معهود في تاريخ الكتابة العربية، قبل أن ينجزه هذا الأديب.
5-2 نشوء المعرفة الروائية:
لعل حقيقة لا يستطيع باحث راصد لتطور الفكر والثقافة العربيين أن ينكرها، وهي أن الرواية كانت في التصور المعرفي العام عبارة عن امتداد لما يعتقد أنه أدب من الدرجة الثانية.وكانت الثقافة العالمة تستنكف عن مصاحبة الحكي والسرد والتخييل...اللهم ما كان تاريخا أو خبرا أو أياما أو سيرا...أي كل ما يمت إلى الواقع والحقيقة بصلة، أي كل الأجناس التعبيرية التي تمثل الجاد وتمثل الحقيقة أيضا.أما الرواية والقصة والسير الشعبية والحكايات...فكلها تخاريف إن لم تكن كذبا وانتحالا فهي أقرب إلى الكذب والانتحال.
لكن إصرار الروائيين وعلى رأسهم محفوظ، واجتهاد النقاد بدأ يخلق فهما جديدا يكن الكثير من الاحترام لأدب هو ليس واقعا بحذافيره، ولكنه محتمل الوقوع.وإذا كانت أعراض النصوص أنسجة مستمدة من خيال المبدع ووجدانه، فإن جوهرها مستمد من واقع الناس ووجدانهم.
وكان نحيب محفوظ واحدا من أبرز الروائيين الذين جعلوا النصوص الروائية خزانا للفكر والمعرفة، ومختبرا لتشريح المجتمع واستكناه العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وانعكاساتها في نفوس الناس ونشوء مؤهلاتهم وخمود طموحهم، وأسباب إقبالهم على الحياة بهمة وعزم، وأسباب إدبارهم عنها في نكوص وجزع.
صار المجتمع والفرد وحركة التاريخ المعاصر..أبطالا تنكشف قدراتها وتكونها وعافيتها وبلاؤها.وكان محفوظ وراء الستار يدير الأقدار النصية بخبرة المبدع وإلهام الفنان وحس المتأمل وعقلية الفيلسوف.
إن الرواية في صناعة محفوظ قد تنجز نفس الدور الموكول إلى علم الاجتماع وعلم النفس، لكنها تزيد عليهما بالتخلص من البراميترات والسيكوميترات الهندسية الجافة.فلعلها تلغي الأعداد والنسب محافظة على جواهرها لتبعث لضمير البشري ولتقوم بإيقاظه وتحسيسه بعمق المأساة.
فرواية مثل"بداية ونهاية"تعد اختزالا فنيا دقيقا لمأساة تعجز الدراسات الاجتماعية عن ملامستها بنفس القدر من التوفيق والتأثير.فمشكلة السكن غير اللائق بالنسبة لأسرة الهالك نجمت عن اختلال نظام صرف المعاشات، أي عن عسر إداري يتنكر لحاجات المواطنين.والمدة التي تطلبها صرف المعاش هي نفسها مدة الاختبار على مستوى الرواية لظاهرة سوسيولوجية حصرت في لأسرة نموذج، وتم الدفع بالاختبار على مستويات متقدمة من التحليل الاجتماعي مسقطا على نماذج إنسانية متناغمة في أسرة واحدة-أنموذج.بطالة "حسن"ومؤثرات الشارع ورحى الفقر تطحن الأسرة وتصنع بطلا بلطجيا منقطع النظير،فالجريمة من منظور روائي صناعة اجتماعية وإدارية.
والشيء نفسه يقال عن الموظف البسيط"حسين"وهو عرضة للانهيار بين حاجات أسرية غاية في الإلحاح وحاجات ذاتية غاية في الإلحاح.وهذه الفاقة المزدوجة يصعب أن تلتقطها قصاصات السوسيولوجيين بنفس التشخيص والحيوية،وأما"حسنين"و"نفيسة"فقد وفر بهما النص الروائي فرصة تمديد الخيوط الاجتماعية على تخوم البحث السيكولوجي حيث تكشف الاستعدادات النفسية والميول الشخصية على نتائج تجعل المؤثرات الاجتماعية غير متكافئة في مختلف الشخوص.فإذا كان الاستعداد لتقبل المؤثرات الاجتماعية السلبية فعلا عند شخصية"حسنين"تسنده عجرفة وكبرياء يدلان على اختلال السواء النفسي.فإن هذا الاستعداد ضعيف أصلا عند نفيسة لولا أنه مسنود بضغوط بيولوجية جعلت القصور الخلقي دافعا داخليا يبحث باستمرار عن حل لمعضلتين:معضلة فتاة دميمة، ومعضلة أسرة معدمة.فكان السقوط لأجل ذلك حلا جبريا حاول النص إقناعنا بحتميته الاجتماعية وبضرورة مقاومة ظروفه قبل مقاومة ضحاياه.
تعرض الرواية قضايا:الفساد الإداري والتردي في السكن غير اللائق وظروف الفقر والعوز والانحراف الفردي والاجتماعي والجريمة والمخدرات وعمل المرأة وضعف الأجور...لكنها عرضت ذلك في شبكة تذكر بشبكة الحياة نفسها،وهو الأمر الذي تعجز عنه السوسيولوجيا لأن تناولها لا يكون إلا جزئيا ورقميا.
وينفس القدرة والكفاءة كان التحليل السياسي للمجتمع ولمظاهر التسلط والاستبداد وغياب الممارسة الديموقراطية، من خلال"رحلة ابن فطومة"و"حول العرش".وكذلك كل القضايا المركزية في الثقافة العربية...التي انتدب محفوظ ثلة من شخوصه لتمثيلها، وبقيت راسخة في ذاكرة قرائه، وفي ذاكرة التاريخ الجديد الذي كان أحد صناعه بتواضع جم وإصرار عظيم.
الهوامش
[1] -لا نقصد أن الأدب انعكاس مرآوي للحياة على النحو الذي رعته الواقعية الساذجة، بل استعرنا مفهوم المرآة دون إغفال لكون الأدب صياغة مثلى تعيد إنتاج الحياة بواسطة اللغة.وتوسط اللغة يدمج كل المجهود الذهني لفهم الحياة عبر علاقات خوارزمية مادتها من الحياة وجوهرها من الإبداع.
[2] - يذكر نقاد الشعر وعلماؤه كلمة اختلف في نسبتها، مع ترجيح كونها للصحابي عمر بن الخطاب، وهي تثبت ما كان للشعر من مكانة في نفوس العرب وفي حياتهم العامة ومؤداها:"كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه"أنظر ابن سلام الجمحي طبقات فحول الشعراء.
[3] -كان ابن خلدون يقول:"الشعر ديوان العرب"وهو يقصد أن التجربة العامة ومردود الحياة النفسية والعقلية والاجتماعية والفنية...كلها مخزنة في الشعر لأنه لسان القوم وفنهم الأكبر؛ غير أن حنا مينه لاحظ تراجع الشعر لفائدة الرواية وبدا له أن الشعر يتخلى عن موقعه ذاك للرواية فاستعار قولة ابن خلدون ونحلها الرواية فقال:"الرواية ديوان العرب في القرن الواحد والعشرين".
[4] -نظرية الرواية. جورج لوكاش .ترجمة الحسين سحبان.منشورات التل1988.
[5] - مجلة الكاتب العربي، نجيب محفوظ يقدم الرواية في مائة عام يوليو سنة 1970، ص36. عن نجيب محفوظ الرؤية والأداة تأليف عبد المحسن طه بدر دار الثقافة القاهرة 1978.
[6] - أنظر بحثنا:الرواية والتاريخ بحث لنيل دكتوراه الدولة خزانة كلية الآداب جامعة محمد الخامس الرباط.وفيه حديث مفصل عن الرواية التاريخية ودورها في تثبيت تقاليد الإبداع الروائي، ودور جرجي زيدان في ذلك.
[7] - كان محفوظ واقعا تحت تأثير زيدان، وقرر حسب ما صرح به، إنجاز موسوعة روائية في عشرة أجزاء تغطي التاريخ الفرعوني على نحو ما حققه محفوظ مع التاريخ الإسلامي.فكتب:رادوبيس وكفاح طيبة وعبث الأقدار...لكنه انصرف عن عزمه ذاك، إلى ما صار يعرف لاحقا بالرواية الواقعية.
[8] -لقد تحدثنا في كتابنا عن حلقات تطور الرواية العربية عبر أشواطها الكبرى:المرحلة التأسيسية والتأصيلية والتجديدية.أنظر:"القص الروائي والتراث السردي" دار الأحمدية 2000.
ولفهم حلقات التطور الروائي بشكل عام وفق منظور السيميائيات التعاقبية الذي بلوره كريزنسكي:يرجع إلى:
Carrefours des singes..V.Krysinski.ed mouton 1981.
وأما بخصوص التجنسات الأدبية، وتطور الأجناس الفرعية في حقل الرواية، أنظر:
Qu’est ce qu’un genre littéraire.G.M.Sceffer.ed seuil 1989.
[9] -هناك من النقاد من خصص عملا كاملا لدراسة نجيب محفوظ.كما هو شأن الباحث الذي كان من طلائع نقاد الرواية وهو عبد المحسن طه بدر في كتابه :"نجيب محفوظ الرؤية والأداة ".وبعضهم خصص عملا كاملا لرواية واحدة في دراسة عمودية تدرس العناصر والبنيات،كما فعلت سيزا قاسم في كتابها:"بناء الرواية دراسة في الثلاثية":
ونذكر أيضا أن عددا كبيرا من البحوث والأطاريح الجامعية اختصت بتعقب العوالم الروائية عند محفوظ نذكر في المغرب على سبيل المثال:
- محمد محفوظ:آليات إنتاج المعنى نجيب محفوظ نموذجا كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة محمد الخامس الرباط.
- محمد أمنصور أطروحة نوقشت بكلية الآداب بفاس.
المصدر
الجمعة أبريل 18, 2014 6:49 am من طرف viva star
» مناهج النقد الأدبي . مترجم.rar
الخميس أبريل 17, 2014 5:01 pm من طرف viva star
» مصطلحات توليدية
السبت فبراير 08, 2014 2:55 pm من طرف رعاش وليد
» ارجو المساعدة
الجمعة يناير 10, 2014 2:10 am من طرف مريم عبد الرحمان
» مساعدة عاجلة جداااااااااا
الثلاثاء يناير 07, 2014 6:53 am من طرف مريم عبد الرحمان
» كتب في علم الدلالة
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:35 pm من طرف safih
» عرض حول معجم المقاييس لابن فارس
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:15 pm من طرف safih
» المعجم الالكتروني
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:06 pm من طرف safih
» تشغيل الجزيرة الرياضية بالشرينغ
الثلاثاء نوفمبر 12, 2013 11:29 am من طرف safih