الكاذب والصادق من الشعراء
نايف الرشدان
يجد استخدام الكذب واستعماله عند بشر بن المعتمر ما يسوغه (بالقياس إلى ماكان معروفاً لدى الجاهليين، وبالقياس إلى بعد الخطابة والرسائل عن الكذب، فما كان خارجاً عن عرف المجتمع فهوكاذب)، وهذا يعني أنه يفرق بين دلالات الكتابة من حيث هي نثرية أو شعرية.
وقصر ابن سلام قضية الصدق على الشاعر الذي خاض التجربة الشعرية، وجعل الإحساس مقياساً على الصدق. وعلى ذلك فإن التجربة الشعرية اختلفت في صدقها وواقعيتها، ولربما ابتعد بهذا المقياس عن الصدق الواقعي، بينما نجده يفضل جميل بثينة على كثّير، وذلك لأن الأول صادق الصبابة والثاني كان متقولاً، فالمعاناة التي يعبر عنها الشاعر بصدق تمثل قمة الصدق.
ومال الجاحظ إلى الواقعية الأدبية، داعياً إلى عدم المبالغة في الصورة الشعرية، ومن ذلك أنه كان يكره إفراط المولدين في وصف السرعة وأورد قول الشاعر يصف كلبه بسرعة العدو.
كأنما يرفع ما لايضع، ونراه يتهم أبا البلاء الطهوي بالكذب لأنه كان يصف مغامراته مع الجن والعفاريت، يقول الجاحظ: "وأبو البلاء الطهوي كان من شياطين الأعراب، وهو... يكذب، وهو يعلم، ويطيل الكذب، ويحبذه، ومن ذلك قوله:
فقالت زد فقلت رويد إني
على أمثالها ثبت الجنان
ورد في الأساطير: أن الغول تموت بضربة واحدة وتعيش بألف ضربة، ومن المبالغة في البيت أنه يصف كيف تغلب على الغول وقضى عليه بعدة ضربات.
ويطالب الجاحظ الشاعر أن يخاطب الممدوح بما يقتضيه المقام وهو في هذا القول يدعو إلى الصدق الفني، كما إنه يُذكّرنا بالحكم الذي أصدره عمر بن الخطاب، عندما أعجب بزهير لأنه مدح هرم بن سنان بصفات يجب أن تكون في الرجال.
إذن فالجاحظ يدعو إلى صياغة الصفات العامة لا الصفات الذاتية دون مراعاة لما يتطلب الصدق الواقعي.
ولمح ثعلب إلى قضية الصدق والكذب تلميحاً عند ما تحدث عن الإفراط والإغراق، فقد نوه إلى إفراد بعض الشعراء وتأثير ذلك على الصورة الشعرية عندما أورد قول امرئ القيس:
وقد أغتدي والطير في وكناتها
بمنجرد قيد الأوبد هيكل
ويرى أن الشاعر أفرط في وصف سرعة الموصوف (فرسه).
وردد ابن المعتز أشعار أبي نواس في المجون، ولما اعترض عليه ابن الأنباري، رد ابن المعتز عليه فقال: "لم يؤسس الشعر بانيه" على أن يكون المبرز في ميدانه من اقتصر على الصدق" فهو يرى أن الصياغة الفنية مقياس الشعر، وليس من اقتصر على الصدق فحسب، حيث يعزل الدين والأخلاق عن الشعر.
وأبرز ابن طباطبا المُثُل الأخلاقية عند العرب فقال: "إن العرب استعملت الخلال وأضدادها، ووصفت بها في حالتي والهجاء، وأن العرب شعت منها فنون من القول".
ويتحدث ابن طباطبا عن صدق العبارة، فيرى أن للصياغة أثراً في قبول المعنى لاسيما إذا أيدت بما يجذب القلوب من الصدق عند ذات النفس بكشف المعاني المختلفة فيها، ويرى: "أن الشعر ما إن عري من معني بديع، لم يعر من حسن الديباجة، وماخالف ذلك ليس بشعر".
وتتطابق رؤية قدامة مع رؤية الجاحظ حين نفى عن الشاعر الصدق الواقعي، وذكر أن مما يجب تقديمه: "مناقضة الشاعر نفسه في قصيدتين أو كلمتين؛ بأن يصف شيئاً وصفاً حسناً، ثم يذمه بعد ذلك ذماً حسناً بيناً غير منكر عليه، ولامعيب من فعله إذا أحسن المدح والذم بل ذلك عندي يدل على قوة الشاعر في صناعته، واقتداره عليها".
ولذا فإن قدامة يعد فحش المعنى لايكمن في ذاته، بل في طريقة تناوله، وهو بهذا قد نفى الصدق والكذب الواقعيين، وأقر الصدق الفني.
ولايبتعد أبو بكر الصولي عن ابن المعتز في عزله الدين والأخلاق عن الشعر، حيث دافع الصولي عن أبي تمام عندما اتهم بالكفر، وقال الصولي حينها: "وما ظننت أن كفراً ينقص من شعر، ولا أن إيماناً يزيد فيه، وما ضر الأربعة الذين أجمع العلماء على أنهم أشعر الناس: "امرؤ القيس والذبياني وزهير والأعشى" كفرهم في شعرهم وإنما ضرهم في أنفسهم، ولا رأينا جريراً والفرزدق يتقدمان الأخطل عند من يقدمهما عليه، بإيمانهما وإنما تقدمهما بالشعر".
ويوافق الآمدى قدامة بن جعفر حين قرر أن الأخلاق لاتحد من حرية الشاعر في التعبير عن المعاني، وهو لايطلب من الشاعر أن يكون قوله كله صدقاً، ولايطالبه أن يوقعه موقع الانتفاع به، إنما قد يقصد إلى أن يوقعه موقع الضرر".
النقاد منهم من لم يقصد الصدق بذاته بيد أنهم دعوا إلى الإبداع في التعبير، كما دعوا إلى صياغة الصفات العامة، التي يجب أن تكون، لا الصفات الذاتية الخاصة، دون مراعاة إلى مايتطلبه صدق الموقف. بل وكان كثير منهم يتعامل مع القضية بطريقة حضارية فلم يطالب هؤلاء النقاد أن يتقيد الشاعر بما يفرضه الدين، ورأوا أنه لو كان الدين، وسوء اعتقاد الشاعر سبباً في تأخره لوجب أن يحذف من شعر العرب أشعار كثيرة، وهم في نظرتهم هذه، رفعوا القيد عن حرية الشاعر، وأقروا الفنية الأدبية، وجعلوا صدق الأديب يتجلى في صدق فنيته ومثاليته وتصويره لما حوله تصويراً إنسانياً، وأن تجربته الذاتية تكون صورة لفكره وذاتيته لا لواقعه الذي يحيط به.
جريدة الرياض
نايف الرشدان
يجد استخدام الكذب واستعماله عند بشر بن المعتمر ما يسوغه (بالقياس إلى ماكان معروفاً لدى الجاهليين، وبالقياس إلى بعد الخطابة والرسائل عن الكذب، فما كان خارجاً عن عرف المجتمع فهوكاذب)، وهذا يعني أنه يفرق بين دلالات الكتابة من حيث هي نثرية أو شعرية.
وقصر ابن سلام قضية الصدق على الشاعر الذي خاض التجربة الشعرية، وجعل الإحساس مقياساً على الصدق. وعلى ذلك فإن التجربة الشعرية اختلفت في صدقها وواقعيتها، ولربما ابتعد بهذا المقياس عن الصدق الواقعي، بينما نجده يفضل جميل بثينة على كثّير، وذلك لأن الأول صادق الصبابة والثاني كان متقولاً، فالمعاناة التي يعبر عنها الشاعر بصدق تمثل قمة الصدق.
ومال الجاحظ إلى الواقعية الأدبية، داعياً إلى عدم المبالغة في الصورة الشعرية، ومن ذلك أنه كان يكره إفراط المولدين في وصف السرعة وأورد قول الشاعر يصف كلبه بسرعة العدو.
كأنما يرفع ما لايضع، ونراه يتهم أبا البلاء الطهوي بالكذب لأنه كان يصف مغامراته مع الجن والعفاريت، يقول الجاحظ: "وأبو البلاء الطهوي كان من شياطين الأعراب، وهو... يكذب، وهو يعلم، ويطيل الكذب، ويحبذه، ومن ذلك قوله:
فقالت زد فقلت رويد إني
على أمثالها ثبت الجنان
ورد في الأساطير: أن الغول تموت بضربة واحدة وتعيش بألف ضربة، ومن المبالغة في البيت أنه يصف كيف تغلب على الغول وقضى عليه بعدة ضربات.
ويطالب الجاحظ الشاعر أن يخاطب الممدوح بما يقتضيه المقام وهو في هذا القول يدعو إلى الصدق الفني، كما إنه يُذكّرنا بالحكم الذي أصدره عمر بن الخطاب، عندما أعجب بزهير لأنه مدح هرم بن سنان بصفات يجب أن تكون في الرجال.
إذن فالجاحظ يدعو إلى صياغة الصفات العامة لا الصفات الذاتية دون مراعاة لما يتطلب الصدق الواقعي.
ولمح ثعلب إلى قضية الصدق والكذب تلميحاً عند ما تحدث عن الإفراط والإغراق، فقد نوه إلى إفراد بعض الشعراء وتأثير ذلك على الصورة الشعرية عندما أورد قول امرئ القيس:
وقد أغتدي والطير في وكناتها
بمنجرد قيد الأوبد هيكل
ويرى أن الشاعر أفرط في وصف سرعة الموصوف (فرسه).
وردد ابن المعتز أشعار أبي نواس في المجون، ولما اعترض عليه ابن الأنباري، رد ابن المعتز عليه فقال: "لم يؤسس الشعر بانيه" على أن يكون المبرز في ميدانه من اقتصر على الصدق" فهو يرى أن الصياغة الفنية مقياس الشعر، وليس من اقتصر على الصدق فحسب، حيث يعزل الدين والأخلاق عن الشعر.
وأبرز ابن طباطبا المُثُل الأخلاقية عند العرب فقال: "إن العرب استعملت الخلال وأضدادها، ووصفت بها في حالتي والهجاء، وأن العرب شعت منها فنون من القول".
ويتحدث ابن طباطبا عن صدق العبارة، فيرى أن للصياغة أثراً في قبول المعنى لاسيما إذا أيدت بما يجذب القلوب من الصدق عند ذات النفس بكشف المعاني المختلفة فيها، ويرى: "أن الشعر ما إن عري من معني بديع، لم يعر من حسن الديباجة، وماخالف ذلك ليس بشعر".
وتتطابق رؤية قدامة مع رؤية الجاحظ حين نفى عن الشاعر الصدق الواقعي، وذكر أن مما يجب تقديمه: "مناقضة الشاعر نفسه في قصيدتين أو كلمتين؛ بأن يصف شيئاً وصفاً حسناً، ثم يذمه بعد ذلك ذماً حسناً بيناً غير منكر عليه، ولامعيب من فعله إذا أحسن المدح والذم بل ذلك عندي يدل على قوة الشاعر في صناعته، واقتداره عليها".
ولذا فإن قدامة يعد فحش المعنى لايكمن في ذاته، بل في طريقة تناوله، وهو بهذا قد نفى الصدق والكذب الواقعيين، وأقر الصدق الفني.
ولايبتعد أبو بكر الصولي عن ابن المعتز في عزله الدين والأخلاق عن الشعر، حيث دافع الصولي عن أبي تمام عندما اتهم بالكفر، وقال الصولي حينها: "وما ظننت أن كفراً ينقص من شعر، ولا أن إيماناً يزيد فيه، وما ضر الأربعة الذين أجمع العلماء على أنهم أشعر الناس: "امرؤ القيس والذبياني وزهير والأعشى" كفرهم في شعرهم وإنما ضرهم في أنفسهم، ولا رأينا جريراً والفرزدق يتقدمان الأخطل عند من يقدمهما عليه، بإيمانهما وإنما تقدمهما بالشعر".
ويوافق الآمدى قدامة بن جعفر حين قرر أن الأخلاق لاتحد من حرية الشاعر في التعبير عن المعاني، وهو لايطلب من الشاعر أن يكون قوله كله صدقاً، ولايطالبه أن يوقعه موقع الانتفاع به، إنما قد يقصد إلى أن يوقعه موقع الضرر".
النقاد منهم من لم يقصد الصدق بذاته بيد أنهم دعوا إلى الإبداع في التعبير، كما دعوا إلى صياغة الصفات العامة، التي يجب أن تكون، لا الصفات الذاتية الخاصة، دون مراعاة إلى مايتطلبه صدق الموقف. بل وكان كثير منهم يتعامل مع القضية بطريقة حضارية فلم يطالب هؤلاء النقاد أن يتقيد الشاعر بما يفرضه الدين، ورأوا أنه لو كان الدين، وسوء اعتقاد الشاعر سبباً في تأخره لوجب أن يحذف من شعر العرب أشعار كثيرة، وهم في نظرتهم هذه، رفعوا القيد عن حرية الشاعر، وأقروا الفنية الأدبية، وجعلوا صدق الأديب يتجلى في صدق فنيته ومثاليته وتصويره لما حوله تصويراً إنسانياً، وأن تجربته الذاتية تكون صورة لفكره وذاتيته لا لواقعه الذي يحيط به.
جريدة الرياض
الجمعة أبريل 18, 2014 6:49 am من طرف viva star
» مناهج النقد الأدبي . مترجم.rar
الخميس أبريل 17, 2014 5:01 pm من طرف viva star
» مصطلحات توليدية
السبت فبراير 08, 2014 2:55 pm من طرف رعاش وليد
» ارجو المساعدة
الجمعة يناير 10, 2014 2:10 am من طرف مريم عبد الرحمان
» مساعدة عاجلة جداااااااااا
الثلاثاء يناير 07, 2014 6:53 am من طرف مريم عبد الرحمان
» كتب في علم الدلالة
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:35 pm من طرف safih
» عرض حول معجم المقاييس لابن فارس
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:15 pm من طرف safih
» المعجم الالكتروني
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:06 pm من طرف safih
» تشغيل الجزيرة الرياضية بالشرينغ
الثلاثاء نوفمبر 12, 2013 11:29 am من طرف safih