مناهج النقد الأدبي: غايتها وأهم أنواعها
كتبهاهشام منوّر
يعدّ «العمل الأدبي» بمفهومه الدقيق، المجال الحيوي والحيز المعرفي الإدراكي الذي تدور في فلكه وتتمحور حوله «مناهج النقد الأدبي». «فالعمل الأدبي» هو موضوع النقد ومحوره. ولعل تعريف «العمل الأدبي» يضعنا في صورة هذا المجال، ويوجد القواسم المشتركة على الصعيد الإدراكي لاكتناه هذا المفهوم المفتاحي في مناهج النقد الأدبي برمتها.
فالعمل الأدبي هو «التعبير اللفظي عن تجربة شعورية عايشها الكاتب أو المؤلف في صورة موحية». فكلمة "تعبير" تصور لنا بحق طبيعة المادة المدروسة وماهيتها. و"تجربة شعورية" تبين لنا مادته وموضوعه. أما "مادة موحية" فهي تحدد لنا شرطه وغايته. فالتجربة الشعورية هي العنصر الذي يدفع صاحب العمل الأدبي إلى إنشائه، ولكنها بذاتها ليست هي العمل الأدبي، لأنها مادامت مضمرة في النفس لم تظهر في صورة لفظية معينة، فهي إحساس أو مجرد انفعال ذاتي لا يتحقق به وجود العمل الأدبي.
ويشمل التعبير في اللغة كل صورة لفظية ذات دلالة موحية، بيد أنه لا يصبح عملاً أدبياً إلا حينما يتناول «تجربة شعورية» معينة، على أن ماهية الموضوع لا يحدد طبيعة العمل وحده، بل يجب أن ينضاف إليها طريقة الانفعال به. فمجرد وصف حقيقة طبيعية، على سبيل المثال، وصفاً علمياً أكاديمياً بحتاً لا يمكن عدّه عملاً أدبياً، مهما كانت صيغة التعبير فصيحة أو بليغة أو مستجمعة لشرائط التعبير المنهجية. أما التعبير عن الانفعال الوجداني بهذه الحقيقة، فهو الذي يمكن اعتباره عملاً أدبياً؛ لأنه تصوير لتجربة شعورية غنية عايشها مؤلفها بطريقة ما.
ولعل معرفتنا بالغاية التي يؤديها «العمل الأدبي» أو التي يقصد منه أداؤها، تضعنا مباشرة مع الغاية التي تضطلع بها مناهج النقد الأدبي. فالعمل الأدبي لا يقصد به مجرد التعبير عن «التجربة الشعورية» لصاحبها، بل رسم صورة لفظية غنية وموحية ومثيرة للانفعال، في الوقت ذاته، في نفوس الآخرين. وهو ما يمثل شرط العمل الأدبي وغايته المأمولة. وليست غاية «العمل الأدبي» بالتوازي مع ما سبق إعطاء حقائق عقلية مجردة، ولا تزويدنا بقضايا فلسفية أو منطقية، ولا شيئاً من هذا القبيل. كما أنه ليس من غايته أن يحقق لنا أغراضاً أخرى تجعله أسير نطاق محدد وقوالب جاهزة. ولا أن يستحيل إلى خطب وعظية في الفضيلة والرذيلة، ولا عن الكفاح السياسي أو الاجتماعي أو الطبقي، إلا أن يصبح أحد هذه الموضوعات «تجربة شعورية» خاصة للأديب، تنفعل بها نفسه من داخلها، فيعبر عنها تعبيراً موحياً مؤثراً.
وليس معنى هذا بالضرورة أن العمل الأدبي لا غاية له. فالحقيقة تكشف لنا عن كونه غاية في ذاته. لأن مجرد وجوده يحقق لوناً من ألوان الحركة الشعورية، وهذه في ذاتها غاية إنسانية وحيوية.
غاية مناهج النقد الأدبي ووظيفتها:
للنقد الأدبي غايات متعددة تتلخص في تقويم العمل الأدبي من الناحية الفنية، وبيان قيمته الموضوعية، وقيمه الشعورية والتعبيرية، وتعيين مكانه ورتبته وحجم الإضافة التي أضافها إلى التراث الأدبي في لغته بوجه خاص، وفي العالم الأدبي برمته بوجه عام.
ويمكننا إيجاز هذه الغايات أو الوظائف فيما يلي:
أولاً: تقييم «العمل الأدبي» وتقويمه، في الوقت ذاته، من الناحية الفنية، وبيان قيمته الموضوعية على قدر الإمكان، لأن الذاتية في تقدير العمل الأدبي هي أساس الموضوعية فيه. ولعل من العبث بمكان محاولة تجريد الناقد وهو ينظر إلى العمل الأدبي فيقومه من ذوقه الخاص وميوله النفسية، واستجاباته الذاتية لهذا العمل.
ثانياً: تعيين مكان العمل الأدبي في خط سير الأدب، فمن كمال تقويم العمل الأدبي من الناحية الفنية التعرف إلى مكانه ورتبته في خط سير الأدب الطويل، وتحديد مدى إضافته النوعية إلى التراث اللغوي والأدبي في لغته الأم، والتراث الإنساني الأدبي بوجه عام، واعتبار مدى التجدد أو التجديد والإبداع الحاصل فيه.
ثالثاً: تحديد مدى تأثر العمل الأدبي المدروس بمحيطه الأدبي والبيئي على حد سواء، ومدى تأثيره فيه بالمقابل.
رابعاً: محاولة تصوير سمات صاحب العمل الأدبي من خلال ما يظهر من كتاباته وأعماله الأدبية، وبيان خصائصه الشعورية والتعبيرية، والكشف عن العوامل النفسية التي تشاركت في بلورة هذه الأعمال والخصائص ووجهتها هذه الوجهة المعينة، دون تمحل ولا تكلف ولا جزم حاسم.
وعلى الرغم من التعدد الكبير الذي تعرفه مناهج النقد الأدبي، وفي ضوء تزايد أعدادها وتنوع الجوانب التي تخصها بالدراسة في العمل الأدبي، وفي ظل تنوع المناهج العلمية والوضعية التي تستند إليها في دراسة العمل الأدبي وسبر أغواره وبيان خصائصه، إلا أننا في هذه الوريقات سوف نركز على بيان ثلاثة من أهم المناهج التي تشكل عماد ما يعرف بمناهج النقد الأدبي، إيماناً منا، بعد استقراء معمق، بإمكانية رد ذلك التنوع الكبير في سرد هذه المناهج إلى تلك المناهج الثلاثة، وانضوائها تحت لوائها.
المنهج الفني:
يقوم هذا المنهج على مواجهة الأثر الأدبي المدروس بالقواعد والأصول الفنية المباشرة، بحيث يتم النظر في نوع هذا الأثر: قصيدة هو أم أقصوصة أم رواية أم ترجمة حياة أم خاطرة أم مقالة أم بحث؟ ثم يتم التطرق إلى النظر في قيمته الشعورية التي يؤديها، وقيمه التعبيرية ومدى ما تنطبق على الأصول الفنية لهذا الفن من الأدب. وقد يتم تلخيص خصائص الأديب الفنية ـ التعبيرية والشعورية ـ من خلال أعماله.
وحتى يكون التأثر الذاتي للناقد مأمون العاقبة في الحكم الأدبي، فإنه لابد أن يسبقه ذوق فني رفيع، يستند إلى الهبة الفنية اللدنية، والتجارب الشعورية الذاتية، وإلى الاطلاع الواسع على مأثور الأدب البحت والنقد الأدبي. كما يقوم المنهج الفني تالياً على القواعد الفنية الموضوعية، إذ تتناول القيم الشعورية والتعبيرية للعمل الفني. ولابد في هذا السياق من ألوان وأنماط من التجارب الشعورية تسمح للناقد بالمقايسة عليها. يضاف إليها خبرة لغوية فنية، وموهبة خاصة في التطبيق، مع مرونة فائقة تسمح بتقبل الأنماط الجديدة التي قد لا يكون لها نظائر يقاس عليها.
المنهج التاريخي:
يحاول المنهج التاريخي مقاربة عدد من القضايا والموضوعات التي تتعلقن على سبيل المثال، بمدى تأثر العمل الأدبي أو كاتبه بالوسط المعيشي والتاريخي لحقبة زمنية ما، ومدى تأثيره بالمقابل فيه. كما يدرس الأطوار التي مرّ بها فن من فنون الأدب أو لون من ألونه، أو معرفة مجموعة من الآراء التي أبديت في دراسة عمل أدبي أو في صاحبه، بغية موازنة هذه الآراء أو الاستدلال بها على لون أو نمط التفكير السائد في عصر من العصور. كما يهتم المنهج التاريخي بجمع خصائص جيل أو أمة في آدابها، ومقاربة إيجاد صلة بين هذه الخصائص وجملة الظروف والمعطيات التي اكتنفتها.
فضلاً عن دراسة تحرير نص ما أو عدد من النصوص من أجل التأكد من صحتها وصحة نسبتها إلى قائلها. لأجل ذلك، فإن المنهج الفني وحده لا ينهض بشيء من هذا، ولابد ساعتئذ من اللجوء إلى المنهج التاريخي والاعتماد عليه.
وكما يسجل في التعاطي مع المنهج الفني عدد من المخاطر والمحاذير إبان استعماله، فإن للمنهج التاريخي عدد من المحاذير والمخاطر التي يجب أن يتجنبها الناقد إبان استعماله، ولعل من أهمها: الاستقراء الناقص، والأحكام الجازمة، والتعميم العلمي. بيد أننا نرى أن هذه المحاذير لا تكاد تكون مقتصرة على المنهج التاريخي وحده، وإنما يشمل خطرها بقية مناهج النقد الأدبي، والمناهج العلمية بوجه عام.
ويمكن اعتبار دراسة الدكتور طه حسين لشعر المجون في العصر العباسي في كتابه (حديث الأربعاء) مثالاً نموذجياً لذلك، إذ أنه سرعان ما اتخذ ذلك دليلاً على اتشاح العصر العباسي بالمجون، معتبراً "المجون" روح ذاك العصر. وكما في كتب الأستاذ العقاد (العبقريات) حيث استند إلى بضع حوادث بارزة في تاريخ بعض الشخصيات، بعضها غير مقطوع بصحته، لتصوير شخصية أسطورية بطلة.
المنهج النفسي:
يعدّ العنصر النفسي عنصراً أصيلاً وبارزاً في العمل الأدبي، وإذا كان المنهج النفسي قد استطاع أن يفسر لنا "القيم الفنية" الكامنة في العمل الأدبي، بحيث يمكننا أن نحكم عليه (العمل الأدبي) وأن نتصور الخصائص الشعورية والتعبيرية لصاحبه، فإن قسطاً من هذا التصوير والتفسير تتدخل فيه "الملاحظة النفسية"، وهي أشمل من علم النفس. فالخصائص الشعورية مسألة نفسية بالمعنى الشامل، وملاحظتها وتصورها مسألة نفسية كذلك.
والمنهج النفسي هو الذي يتكفل بالإجابة عن عدد من الأسئلة:
1- كيف تتم عملية الخلق الأدبي؟. ما هي طبيعة هذه العملية من الوجهة النفسية؟. ما العناصر الشعورية وغير الشعورية الداخلة فيها وكيف تتركب وتتناسق؟. كم من هذه العناصر ذاتي كامن وكم منها طارئ من الخارج؟. ما العلاقة النفسية بين التجربة الشعورية والصورة اللفظية؟ كيف تستنفد الطاقة الشعورية في التعبير عنها؟ ما الحوافز الداخلية والخارجية لعملية الخلق الأدبي؟.
2- ما دلالة العمل الأدبي على نفسية صاحبه؟. كيف نلاحظ هذه الدلالة ونستنطقها؟. وهل نستطيع من خلال الدراسة النفسية للعمل الأدبي أن نستقرئ التطورات النفسية لصاحبه؟.
3- كيف يتأثر الآخرون بالعمل الأدبي عند مطالعته؟. وما العلاقة بين الصورة اللفظية التي يبدو فيها وتجارب الآخرين الشعورية ورواسبهم غير الشعورية؟. وكم من هذا التأثير منشؤه العمل الأدبي ذاته وكم منه منشؤه من ذوات الآخرين واستعدادهم؟.
تصلح المناهج بصفة عامة في النقد وتفيد حين تتخذ منارات ومعالم يستهدى بها، ولكنها تفسد وتضر إذا جعلت قيوداً وحدوداً، شأنها في ذلك شأن (المدارس) في الأدب ذاته. فكل قالب محدود هو قيد على الإبداع، والقالب الفني إنما يصنع لضبط النماذج الأدبية والفنية، لا لتصب فيه النماذج وتصاغ. والأدب العربي الحديث سلك في أحيان كثيرة طريق (المنهج المتكامل) الذي يجمع بين هذه المناهج جميعاً. ومن أهم أمثلتها كتاب الدكتور طه حسين عن (المعري) و(المتنبي). وكتب الأستاذ العقاد عن (ابن الرومي) و(شاعر الغزل) و(جميل بثينة).
فالمنهج المتكامل لا يعدّ النتاج الفني إفرازاً كالبيئة العامة، ولا يحتم عليه أن يحصر نفسه في مطالب جيل محدود من الناس. إن القيمة الأساسية لهذا المنهج في النقد تنبع من تناوله العمل الأدبي من جميع زواياه، وكذلك الأمر بالنسبة لكاتبه، إلى جانب تناوله للبيئة والتاريخ، وأنه لا يغفل القيم الفنية الخالصة، ولا يغرقها في الوقت ذاته في غمار البحوث التاريخية أو الدراسات النفسية التخصصية.
منقول
كتبهاهشام منوّر
يعدّ «العمل الأدبي» بمفهومه الدقيق، المجال الحيوي والحيز المعرفي الإدراكي الذي تدور في فلكه وتتمحور حوله «مناهج النقد الأدبي». «فالعمل الأدبي» هو موضوع النقد ومحوره. ولعل تعريف «العمل الأدبي» يضعنا في صورة هذا المجال، ويوجد القواسم المشتركة على الصعيد الإدراكي لاكتناه هذا المفهوم المفتاحي في مناهج النقد الأدبي برمتها.
فالعمل الأدبي هو «التعبير اللفظي عن تجربة شعورية عايشها الكاتب أو المؤلف في صورة موحية». فكلمة "تعبير" تصور لنا بحق طبيعة المادة المدروسة وماهيتها. و"تجربة شعورية" تبين لنا مادته وموضوعه. أما "مادة موحية" فهي تحدد لنا شرطه وغايته. فالتجربة الشعورية هي العنصر الذي يدفع صاحب العمل الأدبي إلى إنشائه، ولكنها بذاتها ليست هي العمل الأدبي، لأنها مادامت مضمرة في النفس لم تظهر في صورة لفظية معينة، فهي إحساس أو مجرد انفعال ذاتي لا يتحقق به وجود العمل الأدبي.
ويشمل التعبير في اللغة كل صورة لفظية ذات دلالة موحية، بيد أنه لا يصبح عملاً أدبياً إلا حينما يتناول «تجربة شعورية» معينة، على أن ماهية الموضوع لا يحدد طبيعة العمل وحده، بل يجب أن ينضاف إليها طريقة الانفعال به. فمجرد وصف حقيقة طبيعية، على سبيل المثال، وصفاً علمياً أكاديمياً بحتاً لا يمكن عدّه عملاً أدبياً، مهما كانت صيغة التعبير فصيحة أو بليغة أو مستجمعة لشرائط التعبير المنهجية. أما التعبير عن الانفعال الوجداني بهذه الحقيقة، فهو الذي يمكن اعتباره عملاً أدبياً؛ لأنه تصوير لتجربة شعورية غنية عايشها مؤلفها بطريقة ما.
ولعل معرفتنا بالغاية التي يؤديها «العمل الأدبي» أو التي يقصد منه أداؤها، تضعنا مباشرة مع الغاية التي تضطلع بها مناهج النقد الأدبي. فالعمل الأدبي لا يقصد به مجرد التعبير عن «التجربة الشعورية» لصاحبها، بل رسم صورة لفظية غنية وموحية ومثيرة للانفعال، في الوقت ذاته، في نفوس الآخرين. وهو ما يمثل شرط العمل الأدبي وغايته المأمولة. وليست غاية «العمل الأدبي» بالتوازي مع ما سبق إعطاء حقائق عقلية مجردة، ولا تزويدنا بقضايا فلسفية أو منطقية، ولا شيئاً من هذا القبيل. كما أنه ليس من غايته أن يحقق لنا أغراضاً أخرى تجعله أسير نطاق محدد وقوالب جاهزة. ولا أن يستحيل إلى خطب وعظية في الفضيلة والرذيلة، ولا عن الكفاح السياسي أو الاجتماعي أو الطبقي، إلا أن يصبح أحد هذه الموضوعات «تجربة شعورية» خاصة للأديب، تنفعل بها نفسه من داخلها، فيعبر عنها تعبيراً موحياً مؤثراً.
وليس معنى هذا بالضرورة أن العمل الأدبي لا غاية له. فالحقيقة تكشف لنا عن كونه غاية في ذاته. لأن مجرد وجوده يحقق لوناً من ألوان الحركة الشعورية، وهذه في ذاتها غاية إنسانية وحيوية.
غاية مناهج النقد الأدبي ووظيفتها:
للنقد الأدبي غايات متعددة تتلخص في تقويم العمل الأدبي من الناحية الفنية، وبيان قيمته الموضوعية، وقيمه الشعورية والتعبيرية، وتعيين مكانه ورتبته وحجم الإضافة التي أضافها إلى التراث الأدبي في لغته بوجه خاص، وفي العالم الأدبي برمته بوجه عام.
ويمكننا إيجاز هذه الغايات أو الوظائف فيما يلي:
أولاً: تقييم «العمل الأدبي» وتقويمه، في الوقت ذاته، من الناحية الفنية، وبيان قيمته الموضوعية على قدر الإمكان، لأن الذاتية في تقدير العمل الأدبي هي أساس الموضوعية فيه. ولعل من العبث بمكان محاولة تجريد الناقد وهو ينظر إلى العمل الأدبي فيقومه من ذوقه الخاص وميوله النفسية، واستجاباته الذاتية لهذا العمل.
ثانياً: تعيين مكان العمل الأدبي في خط سير الأدب، فمن كمال تقويم العمل الأدبي من الناحية الفنية التعرف إلى مكانه ورتبته في خط سير الأدب الطويل، وتحديد مدى إضافته النوعية إلى التراث اللغوي والأدبي في لغته الأم، والتراث الإنساني الأدبي بوجه عام، واعتبار مدى التجدد أو التجديد والإبداع الحاصل فيه.
ثالثاً: تحديد مدى تأثر العمل الأدبي المدروس بمحيطه الأدبي والبيئي على حد سواء، ومدى تأثيره فيه بالمقابل.
رابعاً: محاولة تصوير سمات صاحب العمل الأدبي من خلال ما يظهر من كتاباته وأعماله الأدبية، وبيان خصائصه الشعورية والتعبيرية، والكشف عن العوامل النفسية التي تشاركت في بلورة هذه الأعمال والخصائص ووجهتها هذه الوجهة المعينة، دون تمحل ولا تكلف ولا جزم حاسم.
وعلى الرغم من التعدد الكبير الذي تعرفه مناهج النقد الأدبي، وفي ضوء تزايد أعدادها وتنوع الجوانب التي تخصها بالدراسة في العمل الأدبي، وفي ظل تنوع المناهج العلمية والوضعية التي تستند إليها في دراسة العمل الأدبي وسبر أغواره وبيان خصائصه، إلا أننا في هذه الوريقات سوف نركز على بيان ثلاثة من أهم المناهج التي تشكل عماد ما يعرف بمناهج النقد الأدبي، إيماناً منا، بعد استقراء معمق، بإمكانية رد ذلك التنوع الكبير في سرد هذه المناهج إلى تلك المناهج الثلاثة، وانضوائها تحت لوائها.
المنهج الفني:
يقوم هذا المنهج على مواجهة الأثر الأدبي المدروس بالقواعد والأصول الفنية المباشرة، بحيث يتم النظر في نوع هذا الأثر: قصيدة هو أم أقصوصة أم رواية أم ترجمة حياة أم خاطرة أم مقالة أم بحث؟ ثم يتم التطرق إلى النظر في قيمته الشعورية التي يؤديها، وقيمه التعبيرية ومدى ما تنطبق على الأصول الفنية لهذا الفن من الأدب. وقد يتم تلخيص خصائص الأديب الفنية ـ التعبيرية والشعورية ـ من خلال أعماله.
وحتى يكون التأثر الذاتي للناقد مأمون العاقبة في الحكم الأدبي، فإنه لابد أن يسبقه ذوق فني رفيع، يستند إلى الهبة الفنية اللدنية، والتجارب الشعورية الذاتية، وإلى الاطلاع الواسع على مأثور الأدب البحت والنقد الأدبي. كما يقوم المنهج الفني تالياً على القواعد الفنية الموضوعية، إذ تتناول القيم الشعورية والتعبيرية للعمل الفني. ولابد في هذا السياق من ألوان وأنماط من التجارب الشعورية تسمح للناقد بالمقايسة عليها. يضاف إليها خبرة لغوية فنية، وموهبة خاصة في التطبيق، مع مرونة فائقة تسمح بتقبل الأنماط الجديدة التي قد لا يكون لها نظائر يقاس عليها.
المنهج التاريخي:
يحاول المنهج التاريخي مقاربة عدد من القضايا والموضوعات التي تتعلقن على سبيل المثال، بمدى تأثر العمل الأدبي أو كاتبه بالوسط المعيشي والتاريخي لحقبة زمنية ما، ومدى تأثيره بالمقابل فيه. كما يدرس الأطوار التي مرّ بها فن من فنون الأدب أو لون من ألونه، أو معرفة مجموعة من الآراء التي أبديت في دراسة عمل أدبي أو في صاحبه، بغية موازنة هذه الآراء أو الاستدلال بها على لون أو نمط التفكير السائد في عصر من العصور. كما يهتم المنهج التاريخي بجمع خصائص جيل أو أمة في آدابها، ومقاربة إيجاد صلة بين هذه الخصائص وجملة الظروف والمعطيات التي اكتنفتها.
فضلاً عن دراسة تحرير نص ما أو عدد من النصوص من أجل التأكد من صحتها وصحة نسبتها إلى قائلها. لأجل ذلك، فإن المنهج الفني وحده لا ينهض بشيء من هذا، ولابد ساعتئذ من اللجوء إلى المنهج التاريخي والاعتماد عليه.
وكما يسجل في التعاطي مع المنهج الفني عدد من المخاطر والمحاذير إبان استعماله، فإن للمنهج التاريخي عدد من المحاذير والمخاطر التي يجب أن يتجنبها الناقد إبان استعماله، ولعل من أهمها: الاستقراء الناقص، والأحكام الجازمة، والتعميم العلمي. بيد أننا نرى أن هذه المحاذير لا تكاد تكون مقتصرة على المنهج التاريخي وحده، وإنما يشمل خطرها بقية مناهج النقد الأدبي، والمناهج العلمية بوجه عام.
ويمكن اعتبار دراسة الدكتور طه حسين لشعر المجون في العصر العباسي في كتابه (حديث الأربعاء) مثالاً نموذجياً لذلك، إذ أنه سرعان ما اتخذ ذلك دليلاً على اتشاح العصر العباسي بالمجون، معتبراً "المجون" روح ذاك العصر. وكما في كتب الأستاذ العقاد (العبقريات) حيث استند إلى بضع حوادث بارزة في تاريخ بعض الشخصيات، بعضها غير مقطوع بصحته، لتصوير شخصية أسطورية بطلة.
المنهج النفسي:
يعدّ العنصر النفسي عنصراً أصيلاً وبارزاً في العمل الأدبي، وإذا كان المنهج النفسي قد استطاع أن يفسر لنا "القيم الفنية" الكامنة في العمل الأدبي، بحيث يمكننا أن نحكم عليه (العمل الأدبي) وأن نتصور الخصائص الشعورية والتعبيرية لصاحبه، فإن قسطاً من هذا التصوير والتفسير تتدخل فيه "الملاحظة النفسية"، وهي أشمل من علم النفس. فالخصائص الشعورية مسألة نفسية بالمعنى الشامل، وملاحظتها وتصورها مسألة نفسية كذلك.
والمنهج النفسي هو الذي يتكفل بالإجابة عن عدد من الأسئلة:
1- كيف تتم عملية الخلق الأدبي؟. ما هي طبيعة هذه العملية من الوجهة النفسية؟. ما العناصر الشعورية وغير الشعورية الداخلة فيها وكيف تتركب وتتناسق؟. كم من هذه العناصر ذاتي كامن وكم منها طارئ من الخارج؟. ما العلاقة النفسية بين التجربة الشعورية والصورة اللفظية؟ كيف تستنفد الطاقة الشعورية في التعبير عنها؟ ما الحوافز الداخلية والخارجية لعملية الخلق الأدبي؟.
2- ما دلالة العمل الأدبي على نفسية صاحبه؟. كيف نلاحظ هذه الدلالة ونستنطقها؟. وهل نستطيع من خلال الدراسة النفسية للعمل الأدبي أن نستقرئ التطورات النفسية لصاحبه؟.
3- كيف يتأثر الآخرون بالعمل الأدبي عند مطالعته؟. وما العلاقة بين الصورة اللفظية التي يبدو فيها وتجارب الآخرين الشعورية ورواسبهم غير الشعورية؟. وكم من هذا التأثير منشؤه العمل الأدبي ذاته وكم منه منشؤه من ذوات الآخرين واستعدادهم؟.
تصلح المناهج بصفة عامة في النقد وتفيد حين تتخذ منارات ومعالم يستهدى بها، ولكنها تفسد وتضر إذا جعلت قيوداً وحدوداً، شأنها في ذلك شأن (المدارس) في الأدب ذاته. فكل قالب محدود هو قيد على الإبداع، والقالب الفني إنما يصنع لضبط النماذج الأدبية والفنية، لا لتصب فيه النماذج وتصاغ. والأدب العربي الحديث سلك في أحيان كثيرة طريق (المنهج المتكامل) الذي يجمع بين هذه المناهج جميعاً. ومن أهم أمثلتها كتاب الدكتور طه حسين عن (المعري) و(المتنبي). وكتب الأستاذ العقاد عن (ابن الرومي) و(شاعر الغزل) و(جميل بثينة).
فالمنهج المتكامل لا يعدّ النتاج الفني إفرازاً كالبيئة العامة، ولا يحتم عليه أن يحصر نفسه في مطالب جيل محدود من الناس. إن القيمة الأساسية لهذا المنهج في النقد تنبع من تناوله العمل الأدبي من جميع زواياه، وكذلك الأمر بالنسبة لكاتبه، إلى جانب تناوله للبيئة والتاريخ، وأنه لا يغفل القيم الفنية الخالصة، ولا يغرقها في الوقت ذاته في غمار البحوث التاريخية أو الدراسات النفسية التخصصية.
منقول
الجمعة أبريل 18, 2014 6:49 am من طرف viva star
» مناهج النقد الأدبي . مترجم.rar
الخميس أبريل 17, 2014 5:01 pm من طرف viva star
» مصطلحات توليدية
السبت فبراير 08, 2014 2:55 pm من طرف رعاش وليد
» ارجو المساعدة
الجمعة يناير 10, 2014 2:10 am من طرف مريم عبد الرحمان
» مساعدة عاجلة جداااااااااا
الثلاثاء يناير 07, 2014 6:53 am من طرف مريم عبد الرحمان
» كتب في علم الدلالة
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:35 pm من طرف safih
» عرض حول معجم المقاييس لابن فارس
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:15 pm من طرف safih
» المعجم الالكتروني
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:06 pm من طرف safih
» تشغيل الجزيرة الرياضية بالشرينغ
الثلاثاء نوفمبر 12, 2013 11:29 am من طرف safih