مدخل إلى النقد الأدبي الإسلامي وأهم قضاياه
النقد الأدبي الإسلامي هو النقد الذي يتناول العمل الأدبي ويقومه، ويحكم له أو عليه من المنظور الإسلامي، وقد حدد النقد الأدبي الإسلامي موقفه بوضوح تجاه العديد من القضايا النقدية في الأدب ومن أهم هذه القضايا:
- غايات الأدب الإسلامي.
- قضية ثقافة الأديب.
- قضية الصدق والكذب.
وسأعرض الحديث في هذه القضايا بالشكل الذي يحدد وجهة النظر الإسلامية فيها ويكشف عن موقفه تجاهها وذلك فيما يلي:
أولاً: غاية الأدب التي حددها النقد الإسلامي:
تتمثل غايات الأدب في نظر النقد الأدبي الإسلامي في ترسيخ كل ما يتعلق بالدين في الأذهان، وفي التنديد بكل ما لا يتفق مع القيم الإسلامية في الأفهام، فإذا اتخذ الخطيب من فَصاحته وبيانه وسيلة للتذكير، أو سبيلاً لغرس القيم والفضائل والتنديد بالرذائل أثنى عليه النقد الإسلامي وأطراه، ورفع من شأنه وأثنى عليه.
وإذا اتخذ الخطيب من فن الخطابة طريقاً لغرس الأفكار المدمرة للقيم، أو المناقضة لمبادئ العقيدة، أو اتخذ منه وسيلة لنقل أفكار الملل والنحل المخالفة لتعاليم الدين ندد به النقد الإسلامي وحذر منه، وكشف عن هدفه، وبين للمتلقي غايته لينفر منه ولا يتأثر به، وإذا احتوت الرسائل الأدبية على ما يخالف العقيدة الإسلامية، وكتبت بالألفاظ العذبة، والعبارات الخلابة، والأساليب السامِقة أبعدها الناقد الإسلامي عن دائرة الأدب المفيد النافع ونفر منها وندد بها. وإذا خالف الموصي في وصاياه شرع الله، وقف إليه النقد الإسلامي بالمرصاد ليندد به، وينفر من سلوكه " إذ لا ينبغي لجاد أو مازح أن يلفظ بلسانه ولا يعتقد بقلبه ما يخالف ما شرع الله ".
ومن الوصايا التي تكشف عن الاستخفاف بالدين وتخالف ما شرع للمسلمين وصية الحطيئة التي أوصى فيها بأكل أموال اليتامى وبارتكاب الفاحشة.(1)
وبوجه عام يحدد النقد الأدبي الإسلامي غاية النثر في الإطار الذي لا يخرج عن القيم الإسلامية.
وقد ورد عن العرب العديد من الآراء النقدية التي تدعم ما ذهبنا إليه. يقول الصولي عقب حديثه عن نص أدبي: "لا ينبغي لجاد أو مازح أن يلفظ بلسانه ولا يعتقد بقلبه ما يخالف ما شرع الله".
ويقول عبد الحميد الكاتب(2): "يا معشر الكتاب في صنوف الآداب، تفقهوا في الدين والتزموا بما تتحقق به الموعظة للمؤمنين، وتجنبوا فاحش القول، واحذروا حبائل الشيطان، واسلكوا في الكتابة أوضح المسالك وأظهرها في المحاجة، وأصدقها في الحجة، وأحمدها في العاقبة." وتذكر أيها الخطيب قول الحق "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد".
ويقول الجاحظ(3): "اعلموا أن العمل الذي يحتوي المعنى الحقير الفاسد والدنيء الساقط يعشعش في القلب ثم يفرخ فإذا مكن لعروقه استفحل الفساد وتمكن الإفساد وقرح، وعند ذلك يقوى الداء ويمتنع الدواء، ويندد الجاحظ بالنتاج الأدبي الذي يحمل المعاني الفاسدة ويحقق الغايات المفسدة ويرفع من شأن العمل الأدبي الذي يحمل المعاني الرفيعة ويحقق الغايات السامية وفى مجال الحديث عن النتاج الذي يجب أن يكتب يقول الشاعر(4):
فلا تكتب بكفك غير شيء *** يسرك في القيامة أن تراه
هذه بعض الآراء النقدية التي تكشف عن غاية النثر الأدبي من المنظور الإسلامي. وسنعرض فيما يلي وجهة النظر الإسلامية في غايات الشعر من خلال ما ورد عن الشعر في القران الكريم والحديث النبوي الشريف وما ورد عن الخلفاء رضوان الله عليهم وما ورد عن بعض النقاد العرب وذلك فيما يلي:
أ - غايات الشعر كما يحددها القران الكريم.
يقول تعالى في كتابه العزيز:
"والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون".(5)
من خلال تأمل الآيات القرآنية الكريمة نلحظ أن هناك فريقان من الشعراء فريق غايته إضلال العباد والتحليق بشعره في كل واد ليضل به ويُضِل الآخرين ويُفسْدهم بنظمه، ويفتنهم بنتاجه وهذا الشعر هو المذموم والمنهي عنه. وفريق غايته الدفاع عن نفسه بعد إيمانه بالله، والتزامه بالعمل الصالح وهذا الشعر هو المرضي عنه.
ومن خلال تأمل قوله تعالى: "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون".(5)
يتجلى بوضوح ما يجب أن يتحلى به الشاعر المسلم الذي يتمثل في:
1. الإيمان بالله تعالى.
2. ذكر الله والتعلق به دائما.
3. الانتصار من بعد الظلم.
وفى اعتقادي أن من يتحلى بهذه السِّمات، ويلتزم بهذه الصفات يَتَخَلَّى عن الرذائل ويبتعد عن الشعر الذي يدفع إليها، ويتحلى بالفضائل، وينطلق بشعره في رحابها، ويكشف للمتلقي عن وجود الخير ليرغبه فيه ويحذره من الشر لينفره منه، وبذلك تتحقق الغايات السامية للشعر الذي ينظمه الشاعر المؤمن الملتزم بالقيم الإسلامية التي حددها الدين من خلال ما ورد في كتاب الله العزيز.
ب ـ غاية الشعر من خلال أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم:
وجه الرسول صلى الله عليه وسلم الشعراء إلى الغاية السامية، ولفت نظرهم إلى الشعر النافع، ويشهد بذلك ما أُثِرَ عنه عندما أنشده النابغة الجعدي قوله:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له *** بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له *** حليمُ إذا ما أورد الأمر أصدرا
حيث أعجب الرسول صلى الله عليه وسلم بغاية الشاعر وجودة شعره وقال له "أجدت لا يفضض الله فاك."(6) وقد أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم العديد من الأحاديث النبوية الشريفة التي يفهم منها الغايات المحددة للشعراء ومن ذلك قوله "إنما الشعر كلام مؤلف فما وافق الحق منه فهو حسن، وما لم يوافق الحق منه فلا خير فيه."(7) وقوله صلى الله عليه وسلم "إنما الشعر كلام فمن الكلام خبيث وطيب."( ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمه."(9)
ويقول: "الشعر كلام من كلام العرب جزل تتكلم به في بواديها وتسلُّ الضغائن(10) من بينها." ومن خلال قول الرسول السابق تظهر بجلاء غاية الشعر الإسلامي المتمثلة في سَل الضغائن من النفوس، أم الشعر الذي يثير الفتن، ويغرس الأحقاد في النفوس، ويشتت جماعة المسلمين فهو مذموم فالشعر الحق هو الذي يستهدف خير النفوس وصلاحها.
ويقول صلى الله عليه وسلم لحسان رضى الله عنه: "اهج المشركين فإن جبريل عليه السلام معك "وقال صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم."(11)
ويظهر من خلال الحديث السابق أن من غاية الشعر هجاء الكفار والدفاع عن الدين.
ومن عرض الأحاديث السابقة تتجلى بوضوح الغاية من الشعر الإسلامي وتتمثل هذه الغاية في كل ما يوافق القيم الإسلامية ويتمشى مع المبادئ السامية التي أقرها الدين وأن من غاية الشعر هجاء الكفار والدفاع عن الدين.
ج- غاية الشعر من خلال مواقف الخلفاء الراشدين وبعض النقاد:
سلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من أهل الورع والتقوى من النقاد السبيل التي سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم، فرضوا عن كل شعر أشاد بالأخلاق والمثل العليا التي جاء بها الإسلام، وسخطوا على كل شعر يناهض تلك المثل ويشجع على الإفساد والفساد وإشاعة الفاحشة، ويبدو هذا المنهج واضحا عند عمر بن الخطاب رضى الله عنه الذي عاقب الحطيئة على الشعر القائم على الهجاء والذي يتناول الأعراض، وعاقب أيضا على شعر المجون واللهو، ومن خلال هذه المواقف يمكن القول بأن منهج عمر بن الخطاب رضى الله عنه يكشف أمام المتلقي غاية الشعر بوضوح، ويُظهِر له كنه هذه الغاية، ويبين له الغاية الشعرية التي لا يقرها خليفة رسول الله الذي قال عنه: "ابن رشيق" الناقد الأدبي الحصيف: "كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه من أنقد أهل زمانه للشعر وأنفذهم فيه معرفة."(12)
وقد عاقب عثمان بن عفان رضي الله عنه على شعر الهجاء ويظهر ذلك من خلال حبسه لعتابي بن الحارث الرجحي لأنه هجى نهشل هجاء فاحشا ويظهر هذا الهجاء من قوله التالي:
تجشم دوني وفد قرحان شقه *** تظل بها الوجناء وهى تسير
فأردفتهم كلبا فراحوا كأنما *** حباهم بتاج الهرمزان أمير
فيا ركبا إما عرضت فبلغن *** تمامة عنى والأمور تدور
فأمكم لا تتركوها وكليكم *** فإن عقوق الوالدين كبير
فإنك كلب قد ضربت بما ترى *** سميع بما فوق الفراش صبور
وقد قال عثمان رضى الله عنه عندما سمع هذه الأبيات: "ما رأيت أحدا رمى قوما بكلبٍ مثلك وحبسه حتى مات في حبسه."(13) كذلك هدد عثمان رضى الله عنه الشماخ بن ضرار وحذره بسوء العاقبة عندما تناول أعراض الناس وقدح فيها.(14)
وفى هذا الميدان يقول معاوية لعبد الرحمن بن الحكم:
"يا ابن أخي إنك إن شُهِرت بالشعر فإياك والتشبيب بالنساء فإنك تُعِرُّ المرأة في قومها والعفيفة في نفسها، وإياك والهجاء فإنك لا تعدو أن تعادي كريما أو تستثير لئيماً والمؤمن ليس بسباب ولا لعان ولا بذئ. وقل من الحكم والأمثال ما تؤدب به غيرك."
ومن خلال النص السابق تظهر لنا غاية الشعر عند معاوية، ويتجلى لنا تنفيره من الشعر الهابط وتحذيره من الخوض في الأعراض. هذا الشعر المفسد الذي تكون الغاية منه التشبيب بالنساء، أو تناول الأعراض بالهجاء، وتظهر لنا أيضاً الدعوة إلى الشعر الذي يهدف إلى الغاية السامية واعتقد أن ذلك التوجيه إسلامي لأن عواقب ما نهاه عنه وخيمة ولا سيما على الشباب، وأثر ما دعاه إليه جليل فالْحِكَمُ ترسي القيم، وتغرس الأخلاق الكريمة في المجتمع.
"وابن بسام" يجعل من الغاية الأخلاقية أساسا في الشعر ولا يقبل في دائرة الأدب إنتاجاً لم يتحقق فيه عنصر السمو حتى لو اشتمل على اللفظ الرشيق، والأسلوب الرقيق، وكشف عن مهارة في تطويع اللغة والأوزان، وضرب باعا طويلا في علم البيان، وعلى هذا الأساس رفض ابن بسام الشعر الذي يتخذ من السب واللعن غاية له ويظهر ذلك بجلاء من خلال قوله: "إني نزهت كتابي عن الهجاء، ولم أجعله ميداناً للسفهاء."(15)
ولاشك أن هذا الموقف يدل على تطبيق الناقد لمبادئ الدين الإسلامي و قيمه. يقول تعالى في كتابه العزيز "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن، و لا تلمزوا أنفسكم …الآية."(16)
وقال صلى الله عليه و سلم "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء."(17) ويقول ابن بسام في موضع آخر من كتابه "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة" معلقا على نتاج شعري "وقد قرأت شعراً، وأضربت عن ذكره وطويته بأسره لأنه هجاء وليس له عندي إعادة ولا إبداء ولا من كتابي أرض ولا سماء."(18)
ويتأكد من كل ذلك التزام الناقد بالحض على الغاية السامية، والتنفير من غيرها ويستهجن ابن بسام نتاج الشاعر الذي يتخذ من المجون غاية لشعره، ويبدو ذلك من خلال تعليقه على قصيدة شعرية لعبد الجليل بن وهبون والتي تتضمن غزلاً بالغلمان وقد جاء في هذا التعليق ما يلي: "هذا شعرٌ ماجن، وكلام فج ثقيل، وغايته مرذولة."
وينفر الناقد الإسلامي من الشاعر الذي يأخذ من الشعر غاية للتكسب ويندد بصنيعه ويرى في هذا اللون من الشعر طريقاً للنفاق، والتزلف، والرياء، والكذب، ويبرأ الناقد من مثل هذا الشعر.
ومن الآبيات الشعرية التي اتخذ منها الشاعر وسيلة للتكسب وغاية للتزلف والمغالاة والتي خرج فيها من الملة وندد بها الناقد الإسلامي هذه الأبيات التي يقول فيها(19):
ومن يك موسى منهم ثم صنوه*** فقل فيهم ما شئت لن تبلغ العشرا
ولو فرقوا بين الضلالة والهدى *** لما قَبلَّوا إلا أَنَامِلَك العشرا
ولا استلموا كفيك كالركن زلفة *** فيمناك لليمنى ويسراك لليسرى
وقد فزت بالدنيا ونلت بك المنى *** واطمع أن ألقي بك الفوز في الأخرى
أدين بدين السبت جهراً لديكم *** وإن كنت في قومي أدين به سراً
وقد علق عليها الناقد الإسلامي بقوله "قبح الله هذا مكسباً، وأبعد من مذهبه مذهباً." إنَّ تهالك الشاعر مع الممدوح واضح وقد أداه ذلك إلى صورة من صور الارتداد عن الدين والكفر به، وتقديس الممدوح إلى حد العبادة فهو يرى تقبيل يد اليهودي، واستلام يده كما يستلم الحجاج ركن البيت الحرام، وهو يرجو أن يفوز به في الآخرة كما فاز في الدنيا، ولا يلبث أن يعلن تَهَودُهَ، ومُجَاهرته بإتباعِ دينه والعياذ بالله.
ومن خلال ما تم عرضه من الآراء النقدية المستمدة من القيم الإسلامية يمكن القول بأن الأساس الأول الذي يدفع بالأدب إلي دائرة الدراسة والتقويم يتمثل في غايته فالغاية هي الركيزة الأولى التي يرتكز عليها الأدب، فإذا صلحت هذه الركيزة دخل النتاج في مرحلة الدراسة، و إذا فسدت هذه الغاية فلا داعي لبيان مواطن الجمال في النتاج الأدبي الذي يفسد العقيدة و يضيع قيم الأمة، و يثبط الهمة، وليكتفِ الناقد بقوله هذا الشعر ماجن، أو خارج عن العقيدة. و لنطرح هذا السؤال ماذا يعود على المجتمع الإسلامي من بيان مواطن الجمال في الوصية الرقيعة أو الخطبة الوضيعة، أو القصة الخليعة أو الرسالة الأدبية الهادمة، أو القصيدة الخمرية الماجنة التي تتحدث عن الخمر ونشوتها وسَمْتِها وساقيها وشاربها ونديمها؟ ماذا يعود علينا من مثل هذا النتاج الأدبي، ومن جماله البنائي، وصياغته الفنية الخلابة؟ لا يعود علينا سوى انتشار المزيد من الفسق والفجور، والهدم المدمر لكيان الأمة. وما هي الثمرة المرجوة من النتاج الأدبي المناهض للعقيدة والساخر من القيم الإسلامية؟ إنها الثمرة السَّامة المبيدة التي يجب التحذير منها، والتنبيه على خطرها حتى ولو كانت طيبة الرائحة أو حلوة ا لمذاق.
وفي نهاية الحديث عن هذه القضية يمكن القول بأن النقد الأدبي الإسلامي، قد حدد الغاية من الأدب ووضع له الضوابط المعتمدة على القيم الإسلامية(20).
ب - ثقافة الأديب في نظر النقد الإسلامي:
يحتاج الأديب إلى جانب الطبع المفطور على الإنتاج الأدبي إلى أن يأخذ نفسه بنصيب موفور من الثقافة التي ينمي بها فكره، ويذكي بها عقله وتتوسع بها مداركه ولا مريه في أن الثقافة الجادة تلون المرئيات وتعمق المشاهدات، وتساعد على كشف العديد من أمور الحياة ولكن ما كنه هذه الثقافة عند النقد الأدبي الإسلامي. وقبل الإجابة على ذلك سأعرض عليكم مقتطفات من بعض الآراء النقدية للعديد من النقاد في هذا الشأن يقول عبد الحميد الكاتب "على الكاتب أن ينظر في فنون العلم ويحكم النظر، ويأخذ منه بمقدار ما يكتفي به… يا معشر الكتاب تنافسوا في صنوف الآداب، وتفقهوا في الدين، وابدءوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض، والعربية فإنها ثقاف ألسنتكم وارووا الأَشْعَار، واعرفوا الفاسد منها وتجنبوه وخذوا من الشعر ما تسمو به النفوس، ولا تضيعوا النظر في العلوم التي لا تفيد…" (21)
ويقول بن الأثير: "على الكاتب أن يصرف همه إلى حفظ القران الكريم والتفقه في الدين حتى لا تزل القدم وينحرف عن الطريق القويم" ويقول: "وعلى الكاتب أن يتصفح كتابة الأقدمين ويطلع على أوضاعهم في استعمال الألفاظ، وتراكيب الجمل، وإبراز المعاني وعليه بالإطلاع على دواوين فحول الشعراء لأخذ ما يراه صالحاً وطرح ما سواه…"
ويتحدث بن قتيبه عن الكتاب(22) ويتخذ من كتاب زمانه موقف المهاجم لهم، الناعي على صنيعهم الشائن الذي يتمثل في التوجه إلى الثقافة الأجنبية المضللة الداعية إلى الانحراف والبعيدة عن الصواب والذي يتمثل في الفروق عن كتاب الله، وسائر العلوم العربية ويظهر ذلك بجلاء من خلال قوله عن بعض الكتاب "ولو أن هذا المعجب بنفسه الزاري على الإسلام برأيه، نظر من جهة النظر لأحياء الله بنور الهدى وثلج اليقين لكنه طال عليه أن ينظر في علم الكتاب وفي أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته. وفي علوم العرب ولغتهم وناصب لكل ذلك العداء، وانصرف عنه وانحرف إلى طريق الضلال، واعتمد على علم له ترجمه تروق بلا معنى، اسم يهول بلا جسم، وفحش يهدم ولا يبني.
ويهاجم "ابن قتيبة" محمد بن الجهم البرمكي الذي انصرف عن كتاب الله وانصرف عن المعارف الإسلامية، واتخذ من كتاب "أرسطاليس" منهجاً له وطريقاً لفكره فَضَلَّ وأَضَلَّ.
ويلفت "بن طباطبا" العلوي نظر الشاعر إلى ضرورة التوسع في الإطلاع على علوم اللغة والبراعة في فهم الإعراب، والرواية في فنون الآداب والمعرفة بالأحساب والأنساب، والمناقب والمثالب والوقوف على مذاهب العرب في تأسيس الشعر والتصرف في معانيه.(23)
ومن خلال عرض ما سبق من الآراء النقدية يمكن القول ما يلي:
- يطالب النقد الأدبي الإسلامي الأديب المسلم بتدبر كتاب الله وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ودراسة السيرة النبوية، وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم، ليتأثر بمنهجهم في الحياة، ويتعلم التعاليم الإسلامية الصحيحة.
- ينصح النقد الإسلامي الأديب المسلم بالتفقه في الدين حتى يصون نفسه من الزلل، ويبتعد عن مواطن الضلال والفتن.
- يُلْزِم النقد الأدبي الإسلامي الأديب بمعرفة القواعد اللغوية ليحفظ بها اللسان من الخطأ، ويبتعد في نتاجه عن اللحن الذي يفسد المعنى ويضيع رونق البناء.
- ينبه النقد الإسلامي الأديب إلى الإطلاع على العديد من النماذج الشعرية والنثرية ليُكَوِّنَ لنفسه منهجاً سوياً في الإنتاج الذي يصدره، ويلفت نظره إلى الإطلاع على الأحساب والأنساب، والعديد من الدراسات التي تكون له عوناً في تكوين نتاجه.
- ويحذر النقد الإسلامي الأديب من التأثر بالثقافات الأجنبية التي تناهض العقيدة الإسلامية وتسخر من القيم، وتعمل على زعزعة الإيمان وتساعد على غرس الفتن، وتدفع للضلال والإضلال، ولا يمنع النقد الإسلامي الأديب المسلم المتفقه في الدين من الاستفادة من الثقافة العصرية الأجنبية الجادة التي تتلاءم مع القيم الإسلامية، وتتناسب مع المبادئ السامية.
وفي اعتقادي أن ما أبرزته الآراء النقدية الإسلامية السابقة تجاه ثقافة الأديب يُمكن أن تكون الأساس المتين بل البنيان الشامخ لما يمكن أن يطالب به الأديب المسلم تجاه الثقافة وتكوين المعرفة.
وقد أثبتت التجارب في القديم والحديث فساد العديد من الأدباء لتوغلهم في الدراسات الأجنبية الفاسدة وتأثرهم بها، وانصرافهم عن العربية وآدابها، والعزوف عنها، والبعد عن تعاليم الدين والقرآن الكريم.
فهذا هو بن الجهم البرمكي الكاتب يبتعد عن كتاب الله، وعلوم العربية والتفقه في الدين، ويزدري علماء الإسلام ويسخر من المسلمين، ويتوغل في آراء أرسطاليس وغيره من الفلاسفة وينقل عنهم، ويرفع من شأن فكرهم الذي يتعارض مع القيم الإسلامية فيضل الطريق، وينعكس ذلك على نتاجه وسلوكه. وهذا هو أبو نواس وبشار ومسلم وبن عربي وبن وهبون وغيرهم من شعراء الفسق والزندقة والإلحاد والمجون، الذين شهد لهم العديد من المعاصرين بطول الباع في الثقافة الأجنبية الفاسدة السائدة في عصرهم وشهد عليهم النقد الأدبي الإسلامي بالزندقة، وحكم عليهم بالمجون والعربدة والفساد والإفساد. وفي العصر الحديث تعلق العديد من الأدباء المسلمين بثقافة الغربي الكافر الموغلة في الانحراف، والداعية إلى الفسق، أو الشيوعي الملحد، وانبهر بها، ونهل من معينها، وعزف عن دينه وثقافته العربية بوجه عام.
بل ورماها بالتحجر والجمود ووصفها بكل وصف يدفع للتنفير منها وفي نهاية المطاف وقف في صفوف الأعداء أعداء الإسلام. وردد أقوالهم، ورفع عقيرته بوجهات نظرهم، وتجرأ على الدين، وتطاول على الرسول الكريم، بل وكتاب الله الحكيم 0 فبئس ما ثَقَّفَ به نفسه، وبئس ما وصل إليه.
وفي العصر الذي نعيش فيه انبهر العديد من الأدباء بالثقافة الغربية المدمرة لكيان الأمة، وبالثقافة الماركسية المعادية للعقيدة الإسلامية، و شغف بها حباً، وتعلق بها فؤاده تعلقاً، وذاب فيها وجدانه، وانصهر فكره في بوتقة فكر أدباء الكفر وأعداء الدين وتشكل بشكلهم، وأخذ ينعق فينا بآرائه التي هي من جنس آرائهم، ويرفع من شأن الرذيلة، ويندد بالفضيلة، ويقدح فيها تارة وينادي بالتخلي عنها ويندد بالقيم الإسلامية، ويرميها بالتخلف والجمود إلى غير ذلك من الآراء التي ينعق بها ويرفع بها عقيرته.
وفي نهاية الحديث عن هذه القضية لا أملك إلا التذكير برأي ابن قتيبة الذي يقول فيه "ولو أن هذا المعجب بنفسه، الزاري على الإسلام برأيه، التزم بكتاب الله، وأطال النظر فيه وفي أخبار الرسول [صلى الله عليه وسلم] وصحابته، وعلوم العرب ولغتهم ما أصيب بداء الانحراف، وما خرج عن الطريق السوي، لكنه اتخذ من كتاب أرسطاليس منهجه فضل وأَضَلَّ".
وأدعوا الأديب المسلم إلى النهل من الثقافة العربية السامية التي تعتمد على القيم الإسلامية، وألفت نظره إلى ضرورة الإلمام بالمعارف اللغوية التي تقوم لسانه وتبعده عن الخطأ وركاكة الأسلوب وضعف التأليف وأدعوه أيضاً إلى تجنب الكتب المشبوهة، والأفكار المشككة، والآراء المغرضة المعادية للدين الإسلامي وتعاليمه السامية، ولا مانع بعد تفقهه في الدين من الإطلاع على ثقافة الآخرين إذا وَجد في هذه الثقافة فائدة تعينه على الفكر السامِي وتدفع به إلى الرقي الإنساني، وأعتقد أن التفقه في الدين سيصونه من الانحراف ويبعده عن الذلل، ويقيه من شر الفتن، ويحفظه من الانحراف خلف الآراء الهدامة والمذاهب الباطلة الموجهة ضد الدين الإسلامي وأدبه السامي.(24)
ج- قضية الصدق و الكذب في النص الأدبي:
ترى المعاجم اللغوية أن الصدق ضد الكذب، و تفسر بعض كتب البلاغة العربية الصدق بأنة مطابقة الخير للواقع، والكذب بعدم مطابقته للواقع، وإذا نظرنا إلى موقف النقد الأدبي الإسلامي تجاه قضية الصدق والكذب في النتاج الأدبي لتبين لنا ما يلي:
نظر النقد الإسلامي إلى هذه القضية وتناولها وأظهر موقفه منها فمدح الشعراء وقدر شعرهم على ضوء ما فيه من الصدق فعمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قدم زهير عن غيره من شعراء الجاهلية جعل الصدق من أسباب هذا التقديم. حيث يقول رضي الله عنه أنه كان لا يمدح الرجل إلا بما فيه. ويقول عثمان بن عفان رضي الله عنه معلقاً على بيت من شعر زهير "أحسن زهير وصدق."(25)
يقول الشاعر:(26)
وإن أحسن بيتٍ أنت قائله *** بيت يقال إذا أنشدته صدقاً
فحسان بن ثابت رضي الله عنه يجعل الصدق أساساً من أسس المفاضلة في الشعر، حيث يرى أن أحسن بيت في الشعر هو البيت الصادق.
ويقول الجاحظ: "وأنفع المدائح للمادح وأجداها على الممدوح وأبقاها أثراً وأحسنها ذكراً أن يكون المديح صدقاً ولحال الممدوح موافقاً وبه لائقاً."(27) ومن خلال قول الجاحظ تتجلى لنا بوضوح الدعوة إلى الإلتزام بالصدق في الشعر.
"وابن طباطبا" يذكر علل حسن الشعر فيما يرى و يعقب عليها بقوله "الصدق يجلب القلوب ويضاعف حسن موقع المعاني في النفوس، والصدق في التعبير عما في ذات النفس عاملاً معيناً على حسن الشعر."(28)
ويرى أبو حيان التوحيدى أن البلاغة(29) لا تتحقق في النص إلا مع الصدق في المعاني وائتلاف الأسماء، والأفعال و الحروف وإصابة اللغة.
ويتجلى من رأى أبى حيان التوحيدى موقفه من قضية الصدق في النتاج.
ويستحسن الآمدي في كتابه الموازنة أبياتاً للبحتري و يعلق عليها بقوله "وقد كان قوم من الرواة يقولون أجود الشعر أكذبه لا و الله ما أجود الشعر إلا أصدقه."(30)
ويقول الأصمعي أجود الشعر ما صدق فيه وانتظم المعنى. وفي هذه المقولة يجعل الأصمعي لصدق الشعر وانتظام معانيه بالغ الأثر في استحسانه.
ويقول عبد القاهر الجرجاني "يراد بخير الشعر اصدقه الشعر الذي يدل على المعنى الذي يقبله العقل، والأدب الذي يجب به الفضل، والموعظة التي تروض جماح الهوى، وتبعث على التقوى، وتبين موضع الحسن، والقبح في الأفعال، وتفصل بين المحمود و المذموم من الخصال، وعلى الشاعر أن ينحى منحى الصدق في مدح الرجال كما قيل كان زهير لا يمدح الرجل إلا بما فيه ويقول: ونحن نميل إلى نصرة الصدق و تقديمه و تفخيم أمره و تعظيمه فالصدق للعمل انفع و لصاحبه أشفع."
هذه هي وجهة نظر النقد الإسلامي من قضية الصدق و الكذب في النص الأدبي و مما يجب الانتباه إليه أن عبارة الصدق الشعوري لا تكفى في التعبير عن الصدق، وإنما يجب أن تصوب العبارة إلى الصدق الشعوري المنبعث من الإيمان، والناتج عن الالتزام بقيم الإسلام والصدق في العمل الأدبي لا يتناقض مع التعبير الفني ووسائله المختلفة طالما أن هذه الوسائل توضح الحقيقة، وتكشف عن كنهها، وتؤكدها في ذهن المتلقي.
هذه هي قضية الصدق و ذلك هو موقف النقد الإسلامي منها وبها ننهي الحديث عن هذا الموضوع و آمل أن يتحقق به الهدف المنشود.
الهوامش
(1) ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ج1، ص202.
(2) الهاشمي، جواهر الأدب، ص3.
(3) الجاحظ، البيان والتبيين، مج1، ص62.
(4) ابن بسام، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ج1، ص414.
(5) سورة الشعراء، الآية 224- 227.
(6) أبي الفرج الأصفهاني، الأغاني، ج4، ص271.
(7) ابن رشيق، العمدة، ج1، ص15.
( المرجع السابق، ج1، ص5.
(9) ابن رشيق، العمدة، 1/17، أبي زيد القرشي، جمهرة أشعار العرب، ص18.
(10) الحافظ عبد الغني المقدسي، أحاديث الشعر، ص40.
(11) نفس المرجع، ص44.
(12) ابن رشيق، العمدة، ط1، ص20.
(13) صلاح الدين الهادي، الأدب في عصر النبوة والخلفاء الراشدين، ص339. ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ص204.
(14) صلاح الدين الهادي، الأدب في عصر النبوة، ص340.
(15) ابن بسام، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ط1، مج1، ق2، ص ص544، 548، 586.
(16) سورة الحجرات، الآية 11.
(17) سنن الترمذي، 4/350، باب 48.
(18) ابن بسام، ص ص544- 548.
(19) نفس المرجع، ص249.
(20) عبد الله محمد مهران، غايات الشعر الإسلامي في العصر العباسي وخصائصه، ص5.
(21) الهاشمي، جواهر الأدب، ط29، ص3.
(22) ابن قتيبة، أدب الكاتب، 4/5، تأويل مختلف الحديث، ص ص60- 61.
(23) ابن طباطبا العلوي، عيار الشعر، تحقيق الحاجري، ص ص3-4.
(24) عبد الله مهران، الشعر الإسلامي في صدر الإسلام، ص25.
(25) المطلحات الأدبية واللغوية، ص157.
(26) البيت منسوب لحسان بن ثابت، رضي الله عنه. عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ص235.
(27) عبد السلام هارون، رسائل الجاحظ، ص22.
(28) ابن طباطبا العلوي، ص16.
(29) أبو حيان التوحيدي، ص278.
(30) الموازنة، ج2، ص58.
د. عبد الله محمد مهران
النقد الأدبي الإسلامي هو النقد الذي يتناول العمل الأدبي ويقومه، ويحكم له أو عليه من المنظور الإسلامي، وقد حدد النقد الأدبي الإسلامي موقفه بوضوح تجاه العديد من القضايا النقدية في الأدب ومن أهم هذه القضايا:
- غايات الأدب الإسلامي.
- قضية ثقافة الأديب.
- قضية الصدق والكذب.
وسأعرض الحديث في هذه القضايا بالشكل الذي يحدد وجهة النظر الإسلامية فيها ويكشف عن موقفه تجاهها وذلك فيما يلي:
أولاً: غاية الأدب التي حددها النقد الإسلامي:
تتمثل غايات الأدب في نظر النقد الأدبي الإسلامي في ترسيخ كل ما يتعلق بالدين في الأذهان، وفي التنديد بكل ما لا يتفق مع القيم الإسلامية في الأفهام، فإذا اتخذ الخطيب من فَصاحته وبيانه وسيلة للتذكير، أو سبيلاً لغرس القيم والفضائل والتنديد بالرذائل أثنى عليه النقد الإسلامي وأطراه، ورفع من شأنه وأثنى عليه.
وإذا اتخذ الخطيب من فن الخطابة طريقاً لغرس الأفكار المدمرة للقيم، أو المناقضة لمبادئ العقيدة، أو اتخذ منه وسيلة لنقل أفكار الملل والنحل المخالفة لتعاليم الدين ندد به النقد الإسلامي وحذر منه، وكشف عن هدفه، وبين للمتلقي غايته لينفر منه ولا يتأثر به، وإذا احتوت الرسائل الأدبية على ما يخالف العقيدة الإسلامية، وكتبت بالألفاظ العذبة، والعبارات الخلابة، والأساليب السامِقة أبعدها الناقد الإسلامي عن دائرة الأدب المفيد النافع ونفر منها وندد بها. وإذا خالف الموصي في وصاياه شرع الله، وقف إليه النقد الإسلامي بالمرصاد ليندد به، وينفر من سلوكه " إذ لا ينبغي لجاد أو مازح أن يلفظ بلسانه ولا يعتقد بقلبه ما يخالف ما شرع الله ".
ومن الوصايا التي تكشف عن الاستخفاف بالدين وتخالف ما شرع للمسلمين وصية الحطيئة التي أوصى فيها بأكل أموال اليتامى وبارتكاب الفاحشة.(1)
وبوجه عام يحدد النقد الأدبي الإسلامي غاية النثر في الإطار الذي لا يخرج عن القيم الإسلامية.
وقد ورد عن العرب العديد من الآراء النقدية التي تدعم ما ذهبنا إليه. يقول الصولي عقب حديثه عن نص أدبي: "لا ينبغي لجاد أو مازح أن يلفظ بلسانه ولا يعتقد بقلبه ما يخالف ما شرع الله".
ويقول عبد الحميد الكاتب(2): "يا معشر الكتاب في صنوف الآداب، تفقهوا في الدين والتزموا بما تتحقق به الموعظة للمؤمنين، وتجنبوا فاحش القول، واحذروا حبائل الشيطان، واسلكوا في الكتابة أوضح المسالك وأظهرها في المحاجة، وأصدقها في الحجة، وأحمدها في العاقبة." وتذكر أيها الخطيب قول الحق "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد".
ويقول الجاحظ(3): "اعلموا أن العمل الذي يحتوي المعنى الحقير الفاسد والدنيء الساقط يعشعش في القلب ثم يفرخ فإذا مكن لعروقه استفحل الفساد وتمكن الإفساد وقرح، وعند ذلك يقوى الداء ويمتنع الدواء، ويندد الجاحظ بالنتاج الأدبي الذي يحمل المعاني الفاسدة ويحقق الغايات المفسدة ويرفع من شأن العمل الأدبي الذي يحمل المعاني الرفيعة ويحقق الغايات السامية وفى مجال الحديث عن النتاج الذي يجب أن يكتب يقول الشاعر(4):
فلا تكتب بكفك غير شيء *** يسرك في القيامة أن تراه
هذه بعض الآراء النقدية التي تكشف عن غاية النثر الأدبي من المنظور الإسلامي. وسنعرض فيما يلي وجهة النظر الإسلامية في غايات الشعر من خلال ما ورد عن الشعر في القران الكريم والحديث النبوي الشريف وما ورد عن الخلفاء رضوان الله عليهم وما ورد عن بعض النقاد العرب وذلك فيما يلي:
أ - غايات الشعر كما يحددها القران الكريم.
يقول تعالى في كتابه العزيز:
"والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون".(5)
من خلال تأمل الآيات القرآنية الكريمة نلحظ أن هناك فريقان من الشعراء فريق غايته إضلال العباد والتحليق بشعره في كل واد ليضل به ويُضِل الآخرين ويُفسْدهم بنظمه، ويفتنهم بنتاجه وهذا الشعر هو المذموم والمنهي عنه. وفريق غايته الدفاع عن نفسه بعد إيمانه بالله، والتزامه بالعمل الصالح وهذا الشعر هو المرضي عنه.
ومن خلال تأمل قوله تعالى: "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون".(5)
يتجلى بوضوح ما يجب أن يتحلى به الشاعر المسلم الذي يتمثل في:
1. الإيمان بالله تعالى.
2. ذكر الله والتعلق به دائما.
3. الانتصار من بعد الظلم.
وفى اعتقادي أن من يتحلى بهذه السِّمات، ويلتزم بهذه الصفات يَتَخَلَّى عن الرذائل ويبتعد عن الشعر الذي يدفع إليها، ويتحلى بالفضائل، وينطلق بشعره في رحابها، ويكشف للمتلقي عن وجود الخير ليرغبه فيه ويحذره من الشر لينفره منه، وبذلك تتحقق الغايات السامية للشعر الذي ينظمه الشاعر المؤمن الملتزم بالقيم الإسلامية التي حددها الدين من خلال ما ورد في كتاب الله العزيز.
ب ـ غاية الشعر من خلال أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم:
وجه الرسول صلى الله عليه وسلم الشعراء إلى الغاية السامية، ولفت نظرهم إلى الشعر النافع، ويشهد بذلك ما أُثِرَ عنه عندما أنشده النابغة الجعدي قوله:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له *** بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له *** حليمُ إذا ما أورد الأمر أصدرا
حيث أعجب الرسول صلى الله عليه وسلم بغاية الشاعر وجودة شعره وقال له "أجدت لا يفضض الله فاك."(6) وقد أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم العديد من الأحاديث النبوية الشريفة التي يفهم منها الغايات المحددة للشعراء ومن ذلك قوله "إنما الشعر كلام مؤلف فما وافق الحق منه فهو حسن، وما لم يوافق الحق منه فلا خير فيه."(7) وقوله صلى الله عليه وسلم "إنما الشعر كلام فمن الكلام خبيث وطيب."( ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمه."(9)
ويقول: "الشعر كلام من كلام العرب جزل تتكلم به في بواديها وتسلُّ الضغائن(10) من بينها." ومن خلال قول الرسول السابق تظهر بجلاء غاية الشعر الإسلامي المتمثلة في سَل الضغائن من النفوس، أم الشعر الذي يثير الفتن، ويغرس الأحقاد في النفوس، ويشتت جماعة المسلمين فهو مذموم فالشعر الحق هو الذي يستهدف خير النفوس وصلاحها.
ويقول صلى الله عليه وسلم لحسان رضى الله عنه: "اهج المشركين فإن جبريل عليه السلام معك "وقال صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم."(11)
ويظهر من خلال الحديث السابق أن من غاية الشعر هجاء الكفار والدفاع عن الدين.
ومن عرض الأحاديث السابقة تتجلى بوضوح الغاية من الشعر الإسلامي وتتمثل هذه الغاية في كل ما يوافق القيم الإسلامية ويتمشى مع المبادئ السامية التي أقرها الدين وأن من غاية الشعر هجاء الكفار والدفاع عن الدين.
ج- غاية الشعر من خلال مواقف الخلفاء الراشدين وبعض النقاد:
سلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من أهل الورع والتقوى من النقاد السبيل التي سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم، فرضوا عن كل شعر أشاد بالأخلاق والمثل العليا التي جاء بها الإسلام، وسخطوا على كل شعر يناهض تلك المثل ويشجع على الإفساد والفساد وإشاعة الفاحشة، ويبدو هذا المنهج واضحا عند عمر بن الخطاب رضى الله عنه الذي عاقب الحطيئة على الشعر القائم على الهجاء والذي يتناول الأعراض، وعاقب أيضا على شعر المجون واللهو، ومن خلال هذه المواقف يمكن القول بأن منهج عمر بن الخطاب رضى الله عنه يكشف أمام المتلقي غاية الشعر بوضوح، ويُظهِر له كنه هذه الغاية، ويبين له الغاية الشعرية التي لا يقرها خليفة رسول الله الذي قال عنه: "ابن رشيق" الناقد الأدبي الحصيف: "كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه من أنقد أهل زمانه للشعر وأنفذهم فيه معرفة."(12)
وقد عاقب عثمان بن عفان رضي الله عنه على شعر الهجاء ويظهر ذلك من خلال حبسه لعتابي بن الحارث الرجحي لأنه هجى نهشل هجاء فاحشا ويظهر هذا الهجاء من قوله التالي:
تجشم دوني وفد قرحان شقه *** تظل بها الوجناء وهى تسير
فأردفتهم كلبا فراحوا كأنما *** حباهم بتاج الهرمزان أمير
فيا ركبا إما عرضت فبلغن *** تمامة عنى والأمور تدور
فأمكم لا تتركوها وكليكم *** فإن عقوق الوالدين كبير
فإنك كلب قد ضربت بما ترى *** سميع بما فوق الفراش صبور
وقد قال عثمان رضى الله عنه عندما سمع هذه الأبيات: "ما رأيت أحدا رمى قوما بكلبٍ مثلك وحبسه حتى مات في حبسه."(13) كذلك هدد عثمان رضى الله عنه الشماخ بن ضرار وحذره بسوء العاقبة عندما تناول أعراض الناس وقدح فيها.(14)
وفى هذا الميدان يقول معاوية لعبد الرحمن بن الحكم:
"يا ابن أخي إنك إن شُهِرت بالشعر فإياك والتشبيب بالنساء فإنك تُعِرُّ المرأة في قومها والعفيفة في نفسها، وإياك والهجاء فإنك لا تعدو أن تعادي كريما أو تستثير لئيماً والمؤمن ليس بسباب ولا لعان ولا بذئ. وقل من الحكم والأمثال ما تؤدب به غيرك."
ومن خلال النص السابق تظهر لنا غاية الشعر عند معاوية، ويتجلى لنا تنفيره من الشعر الهابط وتحذيره من الخوض في الأعراض. هذا الشعر المفسد الذي تكون الغاية منه التشبيب بالنساء، أو تناول الأعراض بالهجاء، وتظهر لنا أيضاً الدعوة إلى الشعر الذي يهدف إلى الغاية السامية واعتقد أن ذلك التوجيه إسلامي لأن عواقب ما نهاه عنه وخيمة ولا سيما على الشباب، وأثر ما دعاه إليه جليل فالْحِكَمُ ترسي القيم، وتغرس الأخلاق الكريمة في المجتمع.
"وابن بسام" يجعل من الغاية الأخلاقية أساسا في الشعر ولا يقبل في دائرة الأدب إنتاجاً لم يتحقق فيه عنصر السمو حتى لو اشتمل على اللفظ الرشيق، والأسلوب الرقيق، وكشف عن مهارة في تطويع اللغة والأوزان، وضرب باعا طويلا في علم البيان، وعلى هذا الأساس رفض ابن بسام الشعر الذي يتخذ من السب واللعن غاية له ويظهر ذلك بجلاء من خلال قوله: "إني نزهت كتابي عن الهجاء، ولم أجعله ميداناً للسفهاء."(15)
ولاشك أن هذا الموقف يدل على تطبيق الناقد لمبادئ الدين الإسلامي و قيمه. يقول تعالى في كتابه العزيز "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن، و لا تلمزوا أنفسكم …الآية."(16)
وقال صلى الله عليه و سلم "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء."(17) ويقول ابن بسام في موضع آخر من كتابه "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة" معلقا على نتاج شعري "وقد قرأت شعراً، وأضربت عن ذكره وطويته بأسره لأنه هجاء وليس له عندي إعادة ولا إبداء ولا من كتابي أرض ولا سماء."(18)
ويتأكد من كل ذلك التزام الناقد بالحض على الغاية السامية، والتنفير من غيرها ويستهجن ابن بسام نتاج الشاعر الذي يتخذ من المجون غاية لشعره، ويبدو ذلك من خلال تعليقه على قصيدة شعرية لعبد الجليل بن وهبون والتي تتضمن غزلاً بالغلمان وقد جاء في هذا التعليق ما يلي: "هذا شعرٌ ماجن، وكلام فج ثقيل، وغايته مرذولة."
وينفر الناقد الإسلامي من الشاعر الذي يأخذ من الشعر غاية للتكسب ويندد بصنيعه ويرى في هذا اللون من الشعر طريقاً للنفاق، والتزلف، والرياء، والكذب، ويبرأ الناقد من مثل هذا الشعر.
ومن الآبيات الشعرية التي اتخذ منها الشاعر وسيلة للتكسب وغاية للتزلف والمغالاة والتي خرج فيها من الملة وندد بها الناقد الإسلامي هذه الأبيات التي يقول فيها(19):
ومن يك موسى منهم ثم صنوه*** فقل فيهم ما شئت لن تبلغ العشرا
ولو فرقوا بين الضلالة والهدى *** لما قَبلَّوا إلا أَنَامِلَك العشرا
ولا استلموا كفيك كالركن زلفة *** فيمناك لليمنى ويسراك لليسرى
وقد فزت بالدنيا ونلت بك المنى *** واطمع أن ألقي بك الفوز في الأخرى
أدين بدين السبت جهراً لديكم *** وإن كنت في قومي أدين به سراً
وقد علق عليها الناقد الإسلامي بقوله "قبح الله هذا مكسباً، وأبعد من مذهبه مذهباً." إنَّ تهالك الشاعر مع الممدوح واضح وقد أداه ذلك إلى صورة من صور الارتداد عن الدين والكفر به، وتقديس الممدوح إلى حد العبادة فهو يرى تقبيل يد اليهودي، واستلام يده كما يستلم الحجاج ركن البيت الحرام، وهو يرجو أن يفوز به في الآخرة كما فاز في الدنيا، ولا يلبث أن يعلن تَهَودُهَ، ومُجَاهرته بإتباعِ دينه والعياذ بالله.
ومن خلال ما تم عرضه من الآراء النقدية المستمدة من القيم الإسلامية يمكن القول بأن الأساس الأول الذي يدفع بالأدب إلي دائرة الدراسة والتقويم يتمثل في غايته فالغاية هي الركيزة الأولى التي يرتكز عليها الأدب، فإذا صلحت هذه الركيزة دخل النتاج في مرحلة الدراسة، و إذا فسدت هذه الغاية فلا داعي لبيان مواطن الجمال في النتاج الأدبي الذي يفسد العقيدة و يضيع قيم الأمة، و يثبط الهمة، وليكتفِ الناقد بقوله هذا الشعر ماجن، أو خارج عن العقيدة. و لنطرح هذا السؤال ماذا يعود على المجتمع الإسلامي من بيان مواطن الجمال في الوصية الرقيعة أو الخطبة الوضيعة، أو القصة الخليعة أو الرسالة الأدبية الهادمة، أو القصيدة الخمرية الماجنة التي تتحدث عن الخمر ونشوتها وسَمْتِها وساقيها وشاربها ونديمها؟ ماذا يعود علينا من مثل هذا النتاج الأدبي، ومن جماله البنائي، وصياغته الفنية الخلابة؟ لا يعود علينا سوى انتشار المزيد من الفسق والفجور، والهدم المدمر لكيان الأمة. وما هي الثمرة المرجوة من النتاج الأدبي المناهض للعقيدة والساخر من القيم الإسلامية؟ إنها الثمرة السَّامة المبيدة التي يجب التحذير منها، والتنبيه على خطرها حتى ولو كانت طيبة الرائحة أو حلوة ا لمذاق.
وفي نهاية الحديث عن هذه القضية يمكن القول بأن النقد الأدبي الإسلامي، قد حدد الغاية من الأدب ووضع له الضوابط المعتمدة على القيم الإسلامية(20).
ب - ثقافة الأديب في نظر النقد الإسلامي:
يحتاج الأديب إلى جانب الطبع المفطور على الإنتاج الأدبي إلى أن يأخذ نفسه بنصيب موفور من الثقافة التي ينمي بها فكره، ويذكي بها عقله وتتوسع بها مداركه ولا مريه في أن الثقافة الجادة تلون المرئيات وتعمق المشاهدات، وتساعد على كشف العديد من أمور الحياة ولكن ما كنه هذه الثقافة عند النقد الأدبي الإسلامي. وقبل الإجابة على ذلك سأعرض عليكم مقتطفات من بعض الآراء النقدية للعديد من النقاد في هذا الشأن يقول عبد الحميد الكاتب "على الكاتب أن ينظر في فنون العلم ويحكم النظر، ويأخذ منه بمقدار ما يكتفي به… يا معشر الكتاب تنافسوا في صنوف الآداب، وتفقهوا في الدين، وابدءوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض، والعربية فإنها ثقاف ألسنتكم وارووا الأَشْعَار، واعرفوا الفاسد منها وتجنبوه وخذوا من الشعر ما تسمو به النفوس، ولا تضيعوا النظر في العلوم التي لا تفيد…" (21)
ويقول بن الأثير: "على الكاتب أن يصرف همه إلى حفظ القران الكريم والتفقه في الدين حتى لا تزل القدم وينحرف عن الطريق القويم" ويقول: "وعلى الكاتب أن يتصفح كتابة الأقدمين ويطلع على أوضاعهم في استعمال الألفاظ، وتراكيب الجمل، وإبراز المعاني وعليه بالإطلاع على دواوين فحول الشعراء لأخذ ما يراه صالحاً وطرح ما سواه…"
ويتحدث بن قتيبه عن الكتاب(22) ويتخذ من كتاب زمانه موقف المهاجم لهم، الناعي على صنيعهم الشائن الذي يتمثل في التوجه إلى الثقافة الأجنبية المضللة الداعية إلى الانحراف والبعيدة عن الصواب والذي يتمثل في الفروق عن كتاب الله، وسائر العلوم العربية ويظهر ذلك بجلاء من خلال قوله عن بعض الكتاب "ولو أن هذا المعجب بنفسه الزاري على الإسلام برأيه، نظر من جهة النظر لأحياء الله بنور الهدى وثلج اليقين لكنه طال عليه أن ينظر في علم الكتاب وفي أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته. وفي علوم العرب ولغتهم وناصب لكل ذلك العداء، وانصرف عنه وانحرف إلى طريق الضلال، واعتمد على علم له ترجمه تروق بلا معنى، اسم يهول بلا جسم، وفحش يهدم ولا يبني.
ويهاجم "ابن قتيبة" محمد بن الجهم البرمكي الذي انصرف عن كتاب الله وانصرف عن المعارف الإسلامية، واتخذ من كتاب "أرسطاليس" منهجاً له وطريقاً لفكره فَضَلَّ وأَضَلَّ.
ويلفت "بن طباطبا" العلوي نظر الشاعر إلى ضرورة التوسع في الإطلاع على علوم اللغة والبراعة في فهم الإعراب، والرواية في فنون الآداب والمعرفة بالأحساب والأنساب، والمناقب والمثالب والوقوف على مذاهب العرب في تأسيس الشعر والتصرف في معانيه.(23)
ومن خلال عرض ما سبق من الآراء النقدية يمكن القول ما يلي:
- يطالب النقد الأدبي الإسلامي الأديب المسلم بتدبر كتاب الله وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ودراسة السيرة النبوية، وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم، ليتأثر بمنهجهم في الحياة، ويتعلم التعاليم الإسلامية الصحيحة.
- ينصح النقد الإسلامي الأديب المسلم بالتفقه في الدين حتى يصون نفسه من الزلل، ويبتعد عن مواطن الضلال والفتن.
- يُلْزِم النقد الأدبي الإسلامي الأديب بمعرفة القواعد اللغوية ليحفظ بها اللسان من الخطأ، ويبتعد في نتاجه عن اللحن الذي يفسد المعنى ويضيع رونق البناء.
- ينبه النقد الإسلامي الأديب إلى الإطلاع على العديد من النماذج الشعرية والنثرية ليُكَوِّنَ لنفسه منهجاً سوياً في الإنتاج الذي يصدره، ويلفت نظره إلى الإطلاع على الأحساب والأنساب، والعديد من الدراسات التي تكون له عوناً في تكوين نتاجه.
- ويحذر النقد الإسلامي الأديب من التأثر بالثقافات الأجنبية التي تناهض العقيدة الإسلامية وتسخر من القيم، وتعمل على زعزعة الإيمان وتساعد على غرس الفتن، وتدفع للضلال والإضلال، ولا يمنع النقد الإسلامي الأديب المسلم المتفقه في الدين من الاستفادة من الثقافة العصرية الأجنبية الجادة التي تتلاءم مع القيم الإسلامية، وتتناسب مع المبادئ السامية.
وفي اعتقادي أن ما أبرزته الآراء النقدية الإسلامية السابقة تجاه ثقافة الأديب يُمكن أن تكون الأساس المتين بل البنيان الشامخ لما يمكن أن يطالب به الأديب المسلم تجاه الثقافة وتكوين المعرفة.
وقد أثبتت التجارب في القديم والحديث فساد العديد من الأدباء لتوغلهم في الدراسات الأجنبية الفاسدة وتأثرهم بها، وانصرافهم عن العربية وآدابها، والعزوف عنها، والبعد عن تعاليم الدين والقرآن الكريم.
فهذا هو بن الجهم البرمكي الكاتب يبتعد عن كتاب الله، وعلوم العربية والتفقه في الدين، ويزدري علماء الإسلام ويسخر من المسلمين، ويتوغل في آراء أرسطاليس وغيره من الفلاسفة وينقل عنهم، ويرفع من شأن فكرهم الذي يتعارض مع القيم الإسلامية فيضل الطريق، وينعكس ذلك على نتاجه وسلوكه. وهذا هو أبو نواس وبشار ومسلم وبن عربي وبن وهبون وغيرهم من شعراء الفسق والزندقة والإلحاد والمجون، الذين شهد لهم العديد من المعاصرين بطول الباع في الثقافة الأجنبية الفاسدة السائدة في عصرهم وشهد عليهم النقد الأدبي الإسلامي بالزندقة، وحكم عليهم بالمجون والعربدة والفساد والإفساد. وفي العصر الحديث تعلق العديد من الأدباء المسلمين بثقافة الغربي الكافر الموغلة في الانحراف، والداعية إلى الفسق، أو الشيوعي الملحد، وانبهر بها، ونهل من معينها، وعزف عن دينه وثقافته العربية بوجه عام.
بل ورماها بالتحجر والجمود ووصفها بكل وصف يدفع للتنفير منها وفي نهاية المطاف وقف في صفوف الأعداء أعداء الإسلام. وردد أقوالهم، ورفع عقيرته بوجهات نظرهم، وتجرأ على الدين، وتطاول على الرسول الكريم، بل وكتاب الله الحكيم 0 فبئس ما ثَقَّفَ به نفسه، وبئس ما وصل إليه.
وفي العصر الذي نعيش فيه انبهر العديد من الأدباء بالثقافة الغربية المدمرة لكيان الأمة، وبالثقافة الماركسية المعادية للعقيدة الإسلامية، و شغف بها حباً، وتعلق بها فؤاده تعلقاً، وذاب فيها وجدانه، وانصهر فكره في بوتقة فكر أدباء الكفر وأعداء الدين وتشكل بشكلهم، وأخذ ينعق فينا بآرائه التي هي من جنس آرائهم، ويرفع من شأن الرذيلة، ويندد بالفضيلة، ويقدح فيها تارة وينادي بالتخلي عنها ويندد بالقيم الإسلامية، ويرميها بالتخلف والجمود إلى غير ذلك من الآراء التي ينعق بها ويرفع بها عقيرته.
وفي نهاية الحديث عن هذه القضية لا أملك إلا التذكير برأي ابن قتيبة الذي يقول فيه "ولو أن هذا المعجب بنفسه، الزاري على الإسلام برأيه، التزم بكتاب الله، وأطال النظر فيه وفي أخبار الرسول [صلى الله عليه وسلم] وصحابته، وعلوم العرب ولغتهم ما أصيب بداء الانحراف، وما خرج عن الطريق السوي، لكنه اتخذ من كتاب أرسطاليس منهجه فضل وأَضَلَّ".
وأدعوا الأديب المسلم إلى النهل من الثقافة العربية السامية التي تعتمد على القيم الإسلامية، وألفت نظره إلى ضرورة الإلمام بالمعارف اللغوية التي تقوم لسانه وتبعده عن الخطأ وركاكة الأسلوب وضعف التأليف وأدعوه أيضاً إلى تجنب الكتب المشبوهة، والأفكار المشككة، والآراء المغرضة المعادية للدين الإسلامي وتعاليمه السامية، ولا مانع بعد تفقهه في الدين من الإطلاع على ثقافة الآخرين إذا وَجد في هذه الثقافة فائدة تعينه على الفكر السامِي وتدفع به إلى الرقي الإنساني، وأعتقد أن التفقه في الدين سيصونه من الانحراف ويبعده عن الذلل، ويقيه من شر الفتن، ويحفظه من الانحراف خلف الآراء الهدامة والمذاهب الباطلة الموجهة ضد الدين الإسلامي وأدبه السامي.(24)
ج- قضية الصدق و الكذب في النص الأدبي:
ترى المعاجم اللغوية أن الصدق ضد الكذب، و تفسر بعض كتب البلاغة العربية الصدق بأنة مطابقة الخير للواقع، والكذب بعدم مطابقته للواقع، وإذا نظرنا إلى موقف النقد الأدبي الإسلامي تجاه قضية الصدق والكذب في النتاج الأدبي لتبين لنا ما يلي:
نظر النقد الإسلامي إلى هذه القضية وتناولها وأظهر موقفه منها فمدح الشعراء وقدر شعرهم على ضوء ما فيه من الصدق فعمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قدم زهير عن غيره من شعراء الجاهلية جعل الصدق من أسباب هذا التقديم. حيث يقول رضي الله عنه أنه كان لا يمدح الرجل إلا بما فيه. ويقول عثمان بن عفان رضي الله عنه معلقاً على بيت من شعر زهير "أحسن زهير وصدق."(25)
يقول الشاعر:(26)
وإن أحسن بيتٍ أنت قائله *** بيت يقال إذا أنشدته صدقاً
فحسان بن ثابت رضي الله عنه يجعل الصدق أساساً من أسس المفاضلة في الشعر، حيث يرى أن أحسن بيت في الشعر هو البيت الصادق.
ويقول الجاحظ: "وأنفع المدائح للمادح وأجداها على الممدوح وأبقاها أثراً وأحسنها ذكراً أن يكون المديح صدقاً ولحال الممدوح موافقاً وبه لائقاً."(27) ومن خلال قول الجاحظ تتجلى لنا بوضوح الدعوة إلى الإلتزام بالصدق في الشعر.
"وابن طباطبا" يذكر علل حسن الشعر فيما يرى و يعقب عليها بقوله "الصدق يجلب القلوب ويضاعف حسن موقع المعاني في النفوس، والصدق في التعبير عما في ذات النفس عاملاً معيناً على حسن الشعر."(28)
ويرى أبو حيان التوحيدى أن البلاغة(29) لا تتحقق في النص إلا مع الصدق في المعاني وائتلاف الأسماء، والأفعال و الحروف وإصابة اللغة.
ويتجلى من رأى أبى حيان التوحيدى موقفه من قضية الصدق في النتاج.
ويستحسن الآمدي في كتابه الموازنة أبياتاً للبحتري و يعلق عليها بقوله "وقد كان قوم من الرواة يقولون أجود الشعر أكذبه لا و الله ما أجود الشعر إلا أصدقه."(30)
ويقول الأصمعي أجود الشعر ما صدق فيه وانتظم المعنى. وفي هذه المقولة يجعل الأصمعي لصدق الشعر وانتظام معانيه بالغ الأثر في استحسانه.
ويقول عبد القاهر الجرجاني "يراد بخير الشعر اصدقه الشعر الذي يدل على المعنى الذي يقبله العقل، والأدب الذي يجب به الفضل، والموعظة التي تروض جماح الهوى، وتبعث على التقوى، وتبين موضع الحسن، والقبح في الأفعال، وتفصل بين المحمود و المذموم من الخصال، وعلى الشاعر أن ينحى منحى الصدق في مدح الرجال كما قيل كان زهير لا يمدح الرجل إلا بما فيه ويقول: ونحن نميل إلى نصرة الصدق و تقديمه و تفخيم أمره و تعظيمه فالصدق للعمل انفع و لصاحبه أشفع."
هذه هي وجهة نظر النقد الإسلامي من قضية الصدق و الكذب في النص الأدبي و مما يجب الانتباه إليه أن عبارة الصدق الشعوري لا تكفى في التعبير عن الصدق، وإنما يجب أن تصوب العبارة إلى الصدق الشعوري المنبعث من الإيمان، والناتج عن الالتزام بقيم الإسلام والصدق في العمل الأدبي لا يتناقض مع التعبير الفني ووسائله المختلفة طالما أن هذه الوسائل توضح الحقيقة، وتكشف عن كنهها، وتؤكدها في ذهن المتلقي.
هذه هي قضية الصدق و ذلك هو موقف النقد الإسلامي منها وبها ننهي الحديث عن هذا الموضوع و آمل أن يتحقق به الهدف المنشود.
الهوامش
(1) ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ج1، ص202.
(2) الهاشمي، جواهر الأدب، ص3.
(3) الجاحظ، البيان والتبيين، مج1، ص62.
(4) ابن بسام، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ج1، ص414.
(5) سورة الشعراء، الآية 224- 227.
(6) أبي الفرج الأصفهاني، الأغاني، ج4، ص271.
(7) ابن رشيق، العمدة، ج1، ص15.
( المرجع السابق، ج1، ص5.
(9) ابن رشيق، العمدة، 1/17، أبي زيد القرشي، جمهرة أشعار العرب، ص18.
(10) الحافظ عبد الغني المقدسي، أحاديث الشعر، ص40.
(11) نفس المرجع، ص44.
(12) ابن رشيق، العمدة، ط1، ص20.
(13) صلاح الدين الهادي، الأدب في عصر النبوة والخلفاء الراشدين، ص339. ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ص204.
(14) صلاح الدين الهادي، الأدب في عصر النبوة، ص340.
(15) ابن بسام، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ط1، مج1، ق2، ص ص544، 548، 586.
(16) سورة الحجرات، الآية 11.
(17) سنن الترمذي، 4/350، باب 48.
(18) ابن بسام، ص ص544- 548.
(19) نفس المرجع، ص249.
(20) عبد الله محمد مهران، غايات الشعر الإسلامي في العصر العباسي وخصائصه، ص5.
(21) الهاشمي، جواهر الأدب، ط29، ص3.
(22) ابن قتيبة، أدب الكاتب، 4/5، تأويل مختلف الحديث، ص ص60- 61.
(23) ابن طباطبا العلوي، عيار الشعر، تحقيق الحاجري، ص ص3-4.
(24) عبد الله مهران، الشعر الإسلامي في صدر الإسلام، ص25.
(25) المطلحات الأدبية واللغوية، ص157.
(26) البيت منسوب لحسان بن ثابت، رضي الله عنه. عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ص235.
(27) عبد السلام هارون، رسائل الجاحظ، ص22.
(28) ابن طباطبا العلوي، ص16.
(29) أبو حيان التوحيدي، ص278.
(30) الموازنة، ج2، ص58.
د. عبد الله محمد مهران
الجمعة أبريل 18, 2014 6:49 am من طرف viva star
» مناهج النقد الأدبي . مترجم.rar
الخميس أبريل 17, 2014 5:01 pm من طرف viva star
» مصطلحات توليدية
السبت فبراير 08, 2014 2:55 pm من طرف رعاش وليد
» ارجو المساعدة
الجمعة يناير 10, 2014 2:10 am من طرف مريم عبد الرحمان
» مساعدة عاجلة جداااااااااا
الثلاثاء يناير 07, 2014 6:53 am من طرف مريم عبد الرحمان
» كتب في علم الدلالة
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:35 pm من طرف safih
» عرض حول معجم المقاييس لابن فارس
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:15 pm من طرف safih
» المعجم الالكتروني
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:06 pm من طرف safih
» تشغيل الجزيرة الرياضية بالشرينغ
الثلاثاء نوفمبر 12, 2013 11:29 am من طرف safih