الصراع العثماني البرتغالي
قامت دولة البرتغال في عام 1514م بتحريك حملة على المغرب الأقصى يتزعمها الأمير هنري الملاح واستطاعت تلك الحملة أن تحتل ميناء سبتة المغربي، وكان ذلك بداية لسلسلة من الأعمال العدوانية المتتالية ثم واصلت البرتغال حملاتها على الشمال الأفريقي حتى تمكنت من الاستيلاء على اصيل، والعرائش ثم طنجة في عام 1471 للميلاد. وواصلت بعد ذلك أطماعها في مراكز هامة جداً مثل ميناء "أسفى وأغادير، وأزمورة، وماسة".
وأما عن توجه البرتغال الى المحيط الأطلسي ومحاولتهم الإلتفاف حول العالم الاسلامي فقد كان العمل مدفوعاً بالدرجة الاولى بدوافع صليبية شرسة ضد المسلمين ، حيث اعتبرت البرتغال انها نصيرة المسيحية وراعيتها ضد المسلمين ، حيث اعتبرت قتال المسلمين ضرورة ماسة وصارمة ورأت الاسلام هو العدو اللدود الذي لابد من قتاله في كل مكان.
وكان الأمير هنري الملاح شديد التعصب للنصرانية عظيم الحقد على المسلمين وقد تحصل هذا الأمير من البابا نيقولا الخامس حقاً في جميع كشوفه حتى بلاد الهند، حيث قال : (إن سرورنا العظيم إذ نعلم أن ولدنا هنري أمير البرتغال، إذ يترسم خُطى والده العظيم الملك يوحنا، وإذ تلهمه الغيرة التي تملك الأنفس كجندي باسل من جنود المسيح، قد دفع باسم الله الى آقاصي البلاد وأبعادها عن مجال علمنا كما أدخل بين أحضان الكاثوليكية الغادرين من أعداء الله وأعداء المسيح مثل العرب والكفرة...).
وقال البوكيرك في خطابه الذي ألقاه على جنده بعد وصوله الى "ملقا" مانصه: (إن ابعاد العرب عن تجارة الأفاوية هي الوسيلة التي يرجو بها البرتغاليون إضعاف قوة الاسلام).
وفي نفس الخطبة قال الخدمة الجليلة التي سنقدمها لله بطردنا العرب من هذه البلاد وبإطفاءنا شعلة شيعة محمد بحيث لا يندفع لها هنا بعد ذلك لهيب وذلك لأني على يقين أننا لو انتزعنا تجارة "ملقا" هذه من أيديهم (يقصد المسلمين) لاصبحت كل من القاهرة ومكة أثراً بعد عين ولامتنعت عن البندقية كل تجارة التوابل مالم يذهب تجارها الى البرتغال لشرائها من هناك).
وقال في يومياته: (كان هدفنا الوصول الى الأماكن المقدسة للمسلمين واقتحام المسجد النبوي وأخذ رفاة النبي محمد رهينة لنساوم عليها العرب من اجل استرداد القدس.
وقال ملك البرتغال عمانويل الأول معلناً أهداف الحملات البرتغالية: إن الغرض من اكتشاف الطريق البحري الى الهند هو نشر النصرانية والحصول على ثروات الشرق.
وهكذا يظهر للباحث المنصف أن الدافع الديني للكشوف البرتغالية كان من أهم العوامل التي دفعت البرتغال لارتياد البحار والإلتفاف حول العالم الاسلامي، فصدرت المراسيم والأوامر، ورسم الصليب والمدفع كشعار للحملات، وكان القصد من ذلك أن على المسلمين اعتناق المسيحية وإلا عليهم مواجهة المدفع.
وكان الدافع الاقتصادي في الدرجة الثانية كعامل مؤثر في سير الكشوف الجغرافية البرتغالية، فقد سهل اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح في عام 904هـ/1497م بواسطة فاسكو دي جاما مهمة وصول منتجات الشرق الاقصى للأسواق الأوروبية دون الحاجة الى مرورها عن طريق مصر، ولهذا ساعد تحويل الخط التجاري عن مناطق العبور العربية والاسلامية -ساعد- على تحقيق الهدف الديني وذلك لما للمجال الاقتصادي من اثر فعال في إضعاف القوة الاسلامية التي كان لها ابلغ الأثر في زعزعة أوروبا خلال عدة قرون، فضلاً عن الركود الاقتصادي الذي مُنيت به الدولة المملوكية بسبب هذا التحول المفاجئ.
ومما يجدر ذكره أن البرتغاليين استعانوا في حملاتهم باليهود الذين استخدموا كجواسيس ، وقد ساعدهم في ذلك معرفتهم باللغة العربية، وعلى سبيل المثال فقد ارسل ملك البرتغال يوحنا الثاني خادمه الخاص ومعه رفيق آخر يهودي الى مصر والهند والحبشة وكان من نتائج رحلتها تقديمها تقرير يتضمن بعض الخرائط العربية عن المحيط الهندي.
وذكر ابن اياس إنه في زمن الشريف بركات أمير مكة تسلل ثلاثة أشخاص الى مكة وكانوا يحومون حول المسجد الحرام وعليهم لباس عثماني ويتحدثون العربية والتركية، فأمر بالقبض عليهم وبالكشف على اجسامهم اتضح أنهم مسيحيون لأنهم كانوا بغير ختان، وبعد التحقيق معهم ظهر أنهم جواسيس، ارسلوا للعمل كأدلاء للجيش البرتغالي الصليبي عند دخوله لمكة، وتم بعد ذلك إرسالهم الى السلطان قانصوه الغوري.
ولتحقيق الأهداف البرتغالية رأى رواد الكشوف وساستهم ضرورة التحكم في مضيقي "هرمز" و "باب المندب" لكي يحكم أعداء الاسلام غزوهم للعالم الاسلامي من الخلف ودق عصب الإقتصاد في المناطق العربية والاسلامية ثم بالتالي نشر المسيحية في كل موقع يصلون إليه.
ونجح البرتغاليون في خططهم وتمكنوا من السيطرة على معابر التجارة في الساحل الأفريقي والخليج العربي وبحر العرب، وقاموا بمنع وصول المنتجات الشرقية الى أوروبا عن طريقها، وقد ساعدهم في تحقيق ذلك عدم وجود منافس بحري لهم، مما سهل لهم السيطرة على المراكز الهامة بيسر وسهولة، ثم لم يتورع البرتغاليون بعد ذلك عن استخدام العنف فشهدت المناطق التي وصلوا إليها واحتلوها الكثير من المجازر وإشعال النيران والتدمير، والاعتداء على حرمات الناس ومنع المسلمين من الذهاب الى الحج وهدم المساجد عليهم.
إما عن موقف المسلمين من هذا الغزو الغاشم فقد كان المماليك آنذاك في موقف لايحسدون عليه حيث اصابهم الوهن الاقتصادي والسياسي وانشغل السلاطين بمشاكلهم الداخلية ومجابهة الدولة العثمانية وقمع نشاط الفرسان الإسبارتية في شرق البحر الأبيض المتوسط ولهذا واجه السكان في الساحل الأفريقي والخليج واليمن مصيرهم بأنفسهم، فهاجموا الحاميات البرتغالية في كل مكان، في شرق أفريقيا وفي مسقط والبحرين وقريات وعدن ، ولكن دون جدوى لاختلاف ميزان القوى.
ثم ان المماليك شعروا بالمسؤولية على الرغم من المشاكل التي كانت تعيشها دولتهم ، وبذلوا مافي استطاعتهم للحد من وصول البرتغاليين الى الأماكن المقدسة، فقام السلطان قانصوه الغوري بإرسال حملة بحرية مكونة من ثلاثة عشرة سفينة عليه ألف وخمسائة رجل بقيادة حسين الكردي الذي وصل الى جزيرة "ديو" ثم "شول" وألتقى مع الأسطول البرتغالي بقيادة "الونز دي الميدا" وذلك في عام 914هـ/1508م فكان النصر حليفه، ثم ان البرتغال عززوا قواتهم وأعادوا الكرة مرة أخرى مما أدى الى هزيمة الاسطول الاسلامي سنة 915هـ/1509م في معركة "ديو" المشهورة في التاريخ.
أما عن الدولة العثمانية فكانت في البداية بعيدة عن ساحة المعركة ويفصل بينها وبين البرتغال دولة المماليك والدولة الصفوية ومع ذلك لبى السلطان بايزيد الثاني طلب السلطان الغوري مساعدته ضد البرتغال ، فأرسل في شهر شوال سنة 916هـ/ 1511م عدة سفن محملة بالمكاحل والأسهم وأربعين قنطاراً من البارود وغير ذلك من المستلزمات العسكرية والأموال اللازمة. ولكن هذه المساعدة لم يكتب لها الوصول سالمة بسبب تعرضها لقرصنة فرسان القديس يوحنا.
وبعد أن ضم العثمانيون بلاد مصر والشام ودخلت البلاد العربية تحت نطاق الحكم العثماني ، واجهت الدولة العثمانية البرتغاليين بشجاعة نادرة، فتمكنت من استرداد بعض الموانئ الاسلامية في البحر الأحمر مثل: مصوع وزيلع، كما تمكنت من إرسال قوة بحرية بقيادة مير علي بك الى الساحل الأفريقي فتم تحرير مقديشو وممبسة ومُنيت الجيوش البرتغالية بخسائر عظيمة.
وفي عهد السلطان سليمان القانوني 927-974هـ/1520-1566م تمكنت الدولة العثمانية من إبعاد البرتغاليين عن البحر الأحمر ومهاجمتهم في المراكز التي استقروا بها في الخليج العربي.
لقد ادرك السلطان سليمان أن مسؤولية الدفاع عن الأماكن المقدسة هي مسؤولية الدولة العثمانية، فبادر بعقد اتفاق مع حاكمي "قاليقوط" و"كامباي" وهما الحاكمان الهنديان اللذان تأثرا من الغزو البرتغالي وكان ذلك الاتفاق ينص على العمل المشترك ضد البرتغال، ثم أعقب ذلك الإتفاق إصداره مرسوماً الى سليمان باشا الخادم والي مصر هذا نصه: (عليك يابيك البكوات بمصر سليمان باشا، أن تقوم فور تسلمك أوامرنا هذه ، بتجهيز حقيبتك وحاجتك، وإعداد العدة بالسويس للجهاد في سبيل الله، حتى إذا تهيأ لك إعداد أسطول وتزويده بالعتاد والميرة والذخيرة وجمع جيش كافٍ، فعليك أن تخرج الى الهند وتستولي وتحافظ على تلك الأجزاء، فإنك اذا قطعت الطريق وحاصرت السبل المؤدية الى مكة المكرمة تجنبت سوء ما فعل البرتغاليون وأزلت رايتهم من البحر).
وقام سليمان الخادم بتنفيذ أوامر السلطان العثماني ، ووصل بعد سبعة أيام الى جدة ثم اتجه الى كمران وبعد ذلك سيطر على عدن وعيّن عليها أحد ضباطه وزودها بحامية بلغ عدد جنودها ستمائة جندي ، ثم واصل سيره الى الهند، وعند وصوله الى ديو لم يتمكن من الإستيلاء عليها وانسحب عائداً بعد ان فقد حوالي اربعمائة من رجاله، وحاول مرة اخرى الاستيلاء على الأمامية حتى استسلمت إحداها وتم أسر ثمانيين برتغالياً ، ولولا الإمدادات الجديدة للجيش البرتغالي لاستسلمت جميع القلاع، وتمّ طرد البرتغاليين من الهند ولخضعت قلعة ديو للعثمانيين خضوعاً تاماً.
وهكذا تمكن العثمانيون من صد البرتغال وإيقافهم بعيداً عن المماليك الاسلامية والحد من نشاطهم ، وهكذا نجحت الدولة العثمانية في تأمين البحر الأحمر وحماية الأماكن المقدسة من التوسع البرتغالي المبني على أهداف استعمارية وغايات دنيئة ومحاولات للتأثير على الاسلام والمسلمين بطرق مختلفة.
إن النجاح الذي حققته الدولة العثمانية في درء الخطر البرتغالي على العالم الاسلامي يستحق كل تقدير وثناء، فدولة المماليك المتهالكة كانت على وشك الانهيار، ولم تكن على مستوى من القوة يكفل لها الوقوف أمام الغزو البرتغالي فتحملت الدولة العثمانية أعباء الدفاع عن حقوق المسلمين وممتلكاتهم، ونجحت أيما نجاح في الحد من مطامع الغزاة ووصولهم الى الأماكن المقدسة كما كانوا يرغبون.
أما عن الدولة الصفوية فقد تخلت عن مساعدة سكان المناطق التي وصل إليها الغزو البرتغالي، فتركت مدن الخليج العربي تواجه مصيرها بنفسها، وزادت على ذلك أن سارت الدولة الصفوية في فلك الأعداء ولبت رغباتهم خاصة وأنها على عداء وخلاف مذهبي مع المماليك والدولة العثمانية ولذلك نجد البوكيرك القائد البرتغالي يستغل هذا الموقف ويرسل في عام 915هـ/1509م مبعوثه "روى جومير" ومعه رسالة ذكر فيها: (اني أقدّر لك احترامك للمسيحيين في بلادك، واعرض عليك الأسطول والجند والأسلحة لاستخدامها ضد قلاع الترك في الهند، وإذا أردت أن تنقض على بلاد العرب أو أن تهاجم مكة فستجدني بجانبك في البحر الأحمر أمام جدة أو في عدن أو في البحرين أو في القطيف أو في البصرة ، وسيجدني الشاة بجانبه على امتداد الساحل الفارسي ، وسأنفذ له كل مايريد).
وقد صادف هذا العرض أو هذا الموقف الفترة التي كانت القوات العثمانية تتوجه فيها لمجابهة الصفويين على الحدود، حيث كانت بعد ذلك معركة جالديران سنة 920هـ/1514م التي انهزم فيها الفرس هزيمة ساحقة أمام الجيش العثماني، مما جعلهم - أي الفرس- أكثر استعداداً للتحالف مع البرتغاليين ضد العثمانيين، فكانت فرصة البرتغال التي لاتعوض لاسيما وأنهم يدركون مدى الخطر الذي يُهددهم ويقلق أمنهم من قبل الدولة العثمانية ، فاستغلوا احتلالهم لهرمز عام 921هـ/1515م وارتبطوا بعد ذلك مباشرة مع الصفويين بمعاهدة كان من أهم بنودها؛ تقديم البرتغال أسطولها لمساعدة الشاة في حملته على البحرين والقطيف مقابل اعتراف الشاة بالحماية البرتغالية على هرمز، وتوحيد القوتين وفي حالة المواجهة مع الدولة العثمانية عدوهما المشترك .
ويظهر أن البرتغال رأوا في تحالفهم مع الصفويين وسيلة تحقق عدم الوفاق بين الدول الاسلامية التي فيما لو اتحدت ضدها لما تمكنت من السيطرة على مقدرات الشعوب في مناطق الخليج والبحر الأحمر وعدن وغير ذلك من الاماكن التي خضعت للسيطرة البرتغالية؛ ومن جهة اخرى فإن التحالف الصفوي البرتغالي والوضع السياسي والاقتصادي المتدهور لدى دولة المماليك، كل ذلك جعل الدولة العثمانية تتحمل المسؤولية كاملة في الدفاع عن الأماكن الاسلامية في كل موقع حاول البرتغاليون الوصول إليه والسيطرة عليه .
لقد كان من نتائج الصراع العثماني البرتغالي:
1- احتفظ العثمانيون بالاماكن المقدسة وطريق الحج.
2- حماية الحدود البرية من هجمات البرتغاليين طيلة القرن السادس عشر.
3- استمرار الطرق التجارية التي تربط الهند واندونيسيا بالشرق الادنى عبر الخليج العربي والبحر الأحمر.
4- استمرار عمليات تبادل البضائع الهندية مع تجار أوروبا في أسواق حلب، والقاهرة واسطنبول ففي سنة 1554م اشترى البندقيون وحدهم ستة آلاف قنطار من التوابل وفي الوقت نفسه كانت تصل الى ميناء جدة عشرين سفينة محملة بالبضائع الهندية (توابل ، أصباغ، أنسجة) .
المصدر : كتاب الدولة العثمانية عوامل النهوض و أسباب السقوط
النصدر
قامت دولة البرتغال في عام 1514م بتحريك حملة على المغرب الأقصى يتزعمها الأمير هنري الملاح واستطاعت تلك الحملة أن تحتل ميناء سبتة المغربي، وكان ذلك بداية لسلسلة من الأعمال العدوانية المتتالية ثم واصلت البرتغال حملاتها على الشمال الأفريقي حتى تمكنت من الاستيلاء على اصيل، والعرائش ثم طنجة في عام 1471 للميلاد. وواصلت بعد ذلك أطماعها في مراكز هامة جداً مثل ميناء "أسفى وأغادير، وأزمورة، وماسة".
وأما عن توجه البرتغال الى المحيط الأطلسي ومحاولتهم الإلتفاف حول العالم الاسلامي فقد كان العمل مدفوعاً بالدرجة الاولى بدوافع صليبية شرسة ضد المسلمين ، حيث اعتبرت البرتغال انها نصيرة المسيحية وراعيتها ضد المسلمين ، حيث اعتبرت قتال المسلمين ضرورة ماسة وصارمة ورأت الاسلام هو العدو اللدود الذي لابد من قتاله في كل مكان.
وكان الأمير هنري الملاح شديد التعصب للنصرانية عظيم الحقد على المسلمين وقد تحصل هذا الأمير من البابا نيقولا الخامس حقاً في جميع كشوفه حتى بلاد الهند، حيث قال : (إن سرورنا العظيم إذ نعلم أن ولدنا هنري أمير البرتغال، إذ يترسم خُطى والده العظيم الملك يوحنا، وإذ تلهمه الغيرة التي تملك الأنفس كجندي باسل من جنود المسيح، قد دفع باسم الله الى آقاصي البلاد وأبعادها عن مجال علمنا كما أدخل بين أحضان الكاثوليكية الغادرين من أعداء الله وأعداء المسيح مثل العرب والكفرة...).
وقال البوكيرك في خطابه الذي ألقاه على جنده بعد وصوله الى "ملقا" مانصه: (إن ابعاد العرب عن تجارة الأفاوية هي الوسيلة التي يرجو بها البرتغاليون إضعاف قوة الاسلام).
وفي نفس الخطبة قال الخدمة الجليلة التي سنقدمها لله بطردنا العرب من هذه البلاد وبإطفاءنا شعلة شيعة محمد بحيث لا يندفع لها هنا بعد ذلك لهيب وذلك لأني على يقين أننا لو انتزعنا تجارة "ملقا" هذه من أيديهم (يقصد المسلمين) لاصبحت كل من القاهرة ومكة أثراً بعد عين ولامتنعت عن البندقية كل تجارة التوابل مالم يذهب تجارها الى البرتغال لشرائها من هناك).
وقال في يومياته: (كان هدفنا الوصول الى الأماكن المقدسة للمسلمين واقتحام المسجد النبوي وأخذ رفاة النبي محمد رهينة لنساوم عليها العرب من اجل استرداد القدس.
وقال ملك البرتغال عمانويل الأول معلناً أهداف الحملات البرتغالية: إن الغرض من اكتشاف الطريق البحري الى الهند هو نشر النصرانية والحصول على ثروات الشرق.
وهكذا يظهر للباحث المنصف أن الدافع الديني للكشوف البرتغالية كان من أهم العوامل التي دفعت البرتغال لارتياد البحار والإلتفاف حول العالم الاسلامي، فصدرت المراسيم والأوامر، ورسم الصليب والمدفع كشعار للحملات، وكان القصد من ذلك أن على المسلمين اعتناق المسيحية وإلا عليهم مواجهة المدفع.
وكان الدافع الاقتصادي في الدرجة الثانية كعامل مؤثر في سير الكشوف الجغرافية البرتغالية، فقد سهل اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح في عام 904هـ/1497م بواسطة فاسكو دي جاما مهمة وصول منتجات الشرق الاقصى للأسواق الأوروبية دون الحاجة الى مرورها عن طريق مصر، ولهذا ساعد تحويل الخط التجاري عن مناطق العبور العربية والاسلامية -ساعد- على تحقيق الهدف الديني وذلك لما للمجال الاقتصادي من اثر فعال في إضعاف القوة الاسلامية التي كان لها ابلغ الأثر في زعزعة أوروبا خلال عدة قرون، فضلاً عن الركود الاقتصادي الذي مُنيت به الدولة المملوكية بسبب هذا التحول المفاجئ.
ومما يجدر ذكره أن البرتغاليين استعانوا في حملاتهم باليهود الذين استخدموا كجواسيس ، وقد ساعدهم في ذلك معرفتهم باللغة العربية، وعلى سبيل المثال فقد ارسل ملك البرتغال يوحنا الثاني خادمه الخاص ومعه رفيق آخر يهودي الى مصر والهند والحبشة وكان من نتائج رحلتها تقديمها تقرير يتضمن بعض الخرائط العربية عن المحيط الهندي.
وذكر ابن اياس إنه في زمن الشريف بركات أمير مكة تسلل ثلاثة أشخاص الى مكة وكانوا يحومون حول المسجد الحرام وعليهم لباس عثماني ويتحدثون العربية والتركية، فأمر بالقبض عليهم وبالكشف على اجسامهم اتضح أنهم مسيحيون لأنهم كانوا بغير ختان، وبعد التحقيق معهم ظهر أنهم جواسيس، ارسلوا للعمل كأدلاء للجيش البرتغالي الصليبي عند دخوله لمكة، وتم بعد ذلك إرسالهم الى السلطان قانصوه الغوري.
ولتحقيق الأهداف البرتغالية رأى رواد الكشوف وساستهم ضرورة التحكم في مضيقي "هرمز" و "باب المندب" لكي يحكم أعداء الاسلام غزوهم للعالم الاسلامي من الخلف ودق عصب الإقتصاد في المناطق العربية والاسلامية ثم بالتالي نشر المسيحية في كل موقع يصلون إليه.
ونجح البرتغاليون في خططهم وتمكنوا من السيطرة على معابر التجارة في الساحل الأفريقي والخليج العربي وبحر العرب، وقاموا بمنع وصول المنتجات الشرقية الى أوروبا عن طريقها، وقد ساعدهم في تحقيق ذلك عدم وجود منافس بحري لهم، مما سهل لهم السيطرة على المراكز الهامة بيسر وسهولة، ثم لم يتورع البرتغاليون بعد ذلك عن استخدام العنف فشهدت المناطق التي وصلوا إليها واحتلوها الكثير من المجازر وإشعال النيران والتدمير، والاعتداء على حرمات الناس ومنع المسلمين من الذهاب الى الحج وهدم المساجد عليهم.
إما عن موقف المسلمين من هذا الغزو الغاشم فقد كان المماليك آنذاك في موقف لايحسدون عليه حيث اصابهم الوهن الاقتصادي والسياسي وانشغل السلاطين بمشاكلهم الداخلية ومجابهة الدولة العثمانية وقمع نشاط الفرسان الإسبارتية في شرق البحر الأبيض المتوسط ولهذا واجه السكان في الساحل الأفريقي والخليج واليمن مصيرهم بأنفسهم، فهاجموا الحاميات البرتغالية في كل مكان، في شرق أفريقيا وفي مسقط والبحرين وقريات وعدن ، ولكن دون جدوى لاختلاف ميزان القوى.
ثم ان المماليك شعروا بالمسؤولية على الرغم من المشاكل التي كانت تعيشها دولتهم ، وبذلوا مافي استطاعتهم للحد من وصول البرتغاليين الى الأماكن المقدسة، فقام السلطان قانصوه الغوري بإرسال حملة بحرية مكونة من ثلاثة عشرة سفينة عليه ألف وخمسائة رجل بقيادة حسين الكردي الذي وصل الى جزيرة "ديو" ثم "شول" وألتقى مع الأسطول البرتغالي بقيادة "الونز دي الميدا" وذلك في عام 914هـ/1508م فكان النصر حليفه، ثم ان البرتغال عززوا قواتهم وأعادوا الكرة مرة أخرى مما أدى الى هزيمة الاسطول الاسلامي سنة 915هـ/1509م في معركة "ديو" المشهورة في التاريخ.
أما عن الدولة العثمانية فكانت في البداية بعيدة عن ساحة المعركة ويفصل بينها وبين البرتغال دولة المماليك والدولة الصفوية ومع ذلك لبى السلطان بايزيد الثاني طلب السلطان الغوري مساعدته ضد البرتغال ، فأرسل في شهر شوال سنة 916هـ/ 1511م عدة سفن محملة بالمكاحل والأسهم وأربعين قنطاراً من البارود وغير ذلك من المستلزمات العسكرية والأموال اللازمة. ولكن هذه المساعدة لم يكتب لها الوصول سالمة بسبب تعرضها لقرصنة فرسان القديس يوحنا.
وبعد أن ضم العثمانيون بلاد مصر والشام ودخلت البلاد العربية تحت نطاق الحكم العثماني ، واجهت الدولة العثمانية البرتغاليين بشجاعة نادرة، فتمكنت من استرداد بعض الموانئ الاسلامية في البحر الأحمر مثل: مصوع وزيلع، كما تمكنت من إرسال قوة بحرية بقيادة مير علي بك الى الساحل الأفريقي فتم تحرير مقديشو وممبسة ومُنيت الجيوش البرتغالية بخسائر عظيمة.
وفي عهد السلطان سليمان القانوني 927-974هـ/1520-1566م تمكنت الدولة العثمانية من إبعاد البرتغاليين عن البحر الأحمر ومهاجمتهم في المراكز التي استقروا بها في الخليج العربي.
لقد ادرك السلطان سليمان أن مسؤولية الدفاع عن الأماكن المقدسة هي مسؤولية الدولة العثمانية، فبادر بعقد اتفاق مع حاكمي "قاليقوط" و"كامباي" وهما الحاكمان الهنديان اللذان تأثرا من الغزو البرتغالي وكان ذلك الاتفاق ينص على العمل المشترك ضد البرتغال، ثم أعقب ذلك الإتفاق إصداره مرسوماً الى سليمان باشا الخادم والي مصر هذا نصه: (عليك يابيك البكوات بمصر سليمان باشا، أن تقوم فور تسلمك أوامرنا هذه ، بتجهيز حقيبتك وحاجتك، وإعداد العدة بالسويس للجهاد في سبيل الله، حتى إذا تهيأ لك إعداد أسطول وتزويده بالعتاد والميرة والذخيرة وجمع جيش كافٍ، فعليك أن تخرج الى الهند وتستولي وتحافظ على تلك الأجزاء، فإنك اذا قطعت الطريق وحاصرت السبل المؤدية الى مكة المكرمة تجنبت سوء ما فعل البرتغاليون وأزلت رايتهم من البحر).
وقام سليمان الخادم بتنفيذ أوامر السلطان العثماني ، ووصل بعد سبعة أيام الى جدة ثم اتجه الى كمران وبعد ذلك سيطر على عدن وعيّن عليها أحد ضباطه وزودها بحامية بلغ عدد جنودها ستمائة جندي ، ثم واصل سيره الى الهند، وعند وصوله الى ديو لم يتمكن من الإستيلاء عليها وانسحب عائداً بعد ان فقد حوالي اربعمائة من رجاله، وحاول مرة اخرى الاستيلاء على الأمامية حتى استسلمت إحداها وتم أسر ثمانيين برتغالياً ، ولولا الإمدادات الجديدة للجيش البرتغالي لاستسلمت جميع القلاع، وتمّ طرد البرتغاليين من الهند ولخضعت قلعة ديو للعثمانيين خضوعاً تاماً.
وهكذا تمكن العثمانيون من صد البرتغال وإيقافهم بعيداً عن المماليك الاسلامية والحد من نشاطهم ، وهكذا نجحت الدولة العثمانية في تأمين البحر الأحمر وحماية الأماكن المقدسة من التوسع البرتغالي المبني على أهداف استعمارية وغايات دنيئة ومحاولات للتأثير على الاسلام والمسلمين بطرق مختلفة.
إن النجاح الذي حققته الدولة العثمانية في درء الخطر البرتغالي على العالم الاسلامي يستحق كل تقدير وثناء، فدولة المماليك المتهالكة كانت على وشك الانهيار، ولم تكن على مستوى من القوة يكفل لها الوقوف أمام الغزو البرتغالي فتحملت الدولة العثمانية أعباء الدفاع عن حقوق المسلمين وممتلكاتهم، ونجحت أيما نجاح في الحد من مطامع الغزاة ووصولهم الى الأماكن المقدسة كما كانوا يرغبون.
أما عن الدولة الصفوية فقد تخلت عن مساعدة سكان المناطق التي وصل إليها الغزو البرتغالي، فتركت مدن الخليج العربي تواجه مصيرها بنفسها، وزادت على ذلك أن سارت الدولة الصفوية في فلك الأعداء ولبت رغباتهم خاصة وأنها على عداء وخلاف مذهبي مع المماليك والدولة العثمانية ولذلك نجد البوكيرك القائد البرتغالي يستغل هذا الموقف ويرسل في عام 915هـ/1509م مبعوثه "روى جومير" ومعه رسالة ذكر فيها: (اني أقدّر لك احترامك للمسيحيين في بلادك، واعرض عليك الأسطول والجند والأسلحة لاستخدامها ضد قلاع الترك في الهند، وإذا أردت أن تنقض على بلاد العرب أو أن تهاجم مكة فستجدني بجانبك في البحر الأحمر أمام جدة أو في عدن أو في البحرين أو في القطيف أو في البصرة ، وسيجدني الشاة بجانبه على امتداد الساحل الفارسي ، وسأنفذ له كل مايريد).
وقد صادف هذا العرض أو هذا الموقف الفترة التي كانت القوات العثمانية تتوجه فيها لمجابهة الصفويين على الحدود، حيث كانت بعد ذلك معركة جالديران سنة 920هـ/1514م التي انهزم فيها الفرس هزيمة ساحقة أمام الجيش العثماني، مما جعلهم - أي الفرس- أكثر استعداداً للتحالف مع البرتغاليين ضد العثمانيين، فكانت فرصة البرتغال التي لاتعوض لاسيما وأنهم يدركون مدى الخطر الذي يُهددهم ويقلق أمنهم من قبل الدولة العثمانية ، فاستغلوا احتلالهم لهرمز عام 921هـ/1515م وارتبطوا بعد ذلك مباشرة مع الصفويين بمعاهدة كان من أهم بنودها؛ تقديم البرتغال أسطولها لمساعدة الشاة في حملته على البحرين والقطيف مقابل اعتراف الشاة بالحماية البرتغالية على هرمز، وتوحيد القوتين وفي حالة المواجهة مع الدولة العثمانية عدوهما المشترك .
ويظهر أن البرتغال رأوا في تحالفهم مع الصفويين وسيلة تحقق عدم الوفاق بين الدول الاسلامية التي فيما لو اتحدت ضدها لما تمكنت من السيطرة على مقدرات الشعوب في مناطق الخليج والبحر الأحمر وعدن وغير ذلك من الاماكن التي خضعت للسيطرة البرتغالية؛ ومن جهة اخرى فإن التحالف الصفوي البرتغالي والوضع السياسي والاقتصادي المتدهور لدى دولة المماليك، كل ذلك جعل الدولة العثمانية تتحمل المسؤولية كاملة في الدفاع عن الأماكن الاسلامية في كل موقع حاول البرتغاليون الوصول إليه والسيطرة عليه .
لقد كان من نتائج الصراع العثماني البرتغالي:
1- احتفظ العثمانيون بالاماكن المقدسة وطريق الحج.
2- حماية الحدود البرية من هجمات البرتغاليين طيلة القرن السادس عشر.
3- استمرار الطرق التجارية التي تربط الهند واندونيسيا بالشرق الادنى عبر الخليج العربي والبحر الأحمر.
4- استمرار عمليات تبادل البضائع الهندية مع تجار أوروبا في أسواق حلب، والقاهرة واسطنبول ففي سنة 1554م اشترى البندقيون وحدهم ستة آلاف قنطار من التوابل وفي الوقت نفسه كانت تصل الى ميناء جدة عشرين سفينة محملة بالبضائع الهندية (توابل ، أصباغ، أنسجة) .
المصدر : كتاب الدولة العثمانية عوامل النهوض و أسباب السقوط
النصدر
الجمعة أبريل 18, 2014 6:49 am من طرف viva star
» مناهج النقد الأدبي . مترجم.rar
الخميس أبريل 17, 2014 5:01 pm من طرف viva star
» مصطلحات توليدية
السبت فبراير 08, 2014 2:55 pm من طرف رعاش وليد
» ارجو المساعدة
الجمعة يناير 10, 2014 2:10 am من طرف مريم عبد الرحمان
» مساعدة عاجلة جداااااااااا
الثلاثاء يناير 07, 2014 6:53 am من طرف مريم عبد الرحمان
» كتب في علم الدلالة
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:35 pm من طرف safih
» عرض حول معجم المقاييس لابن فارس
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:15 pm من طرف safih
» المعجم الالكتروني
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:06 pm من طرف safih
» تشغيل الجزيرة الرياضية بالشرينغ
الثلاثاء نوفمبر 12, 2013 11:29 am من طرف safih