مطابقات في التنظير اللساني 1٭
غياث المرزوق
1. مقدمة
لقد دعت الضرورة الموضوعية، في هذا الزمن العصيب، إلى طرح سلسلة من المناظرات المقارنة في ما تمكن عنونته بـمطابقات في التنظير اللساني، مناظراتٍ غايتها الوحيدة، من هذه الزاوية على الأقل، هي إلفات نظر القارئ إلى المدى الكبير الذي تتطابق فيه مجموعة من النظريات اللسانية العربية (في الماضي)، من طرف، مع مجموعة مقابلة من النظريات اللسانية الأمريكية والأوربية (في الحاضر)، من طرف آخر. وهكذا، ومن خلال التوكيد على الجوانب الأكثر فاعليةً من هذه النظريات، فيما يظهر، فإن الحاجة إلى البحث الجاد في الـمطابقات المعنية تغدو أكثرَ مَسيسًا حتى، في هذا الزمن الحَرِج، وبالأخصِّ حين يبلغ ذلك التوتُّرُ غيرُ المُراد بين المسمَّيَيْن زعمًا "الشرق" و"الغرب" منتهاه، وياللأسف! وينبغي التذكير هنا، مع ذلك، بألا يتمَّ النظرُ إلى مطابقاتٍ كهذه وكأنها أشكالٌ من التداعي الرومانسي المُكبَّل في إسار ذكرياتٍ حنينية أو حُنانية عن ماضٍ "جميل". الـمطابقاتُ المعنية محاولاتٌ جادَّةٌ في إقامة الدليل الملموس على أن ثمَّة تناغمًا لافتًا بين عقول فذَّةٍ (أنّى وُلدت) فيما طرحته من أفكار حول اللغة الإنسانية، تناغمًا جِدَّ قابل للصياغة (أو الصياغات) الحوارية بغية الردِّ على سائر أنواع المتعصِّبين تعصُّبًا دينيًّا، بثُلَلِهم البالية، أو على كافة أشكال المتحزِّبين تحزُّبًا سياسيًّا، بمؤسَّساتهم القذرة، تلك الثُّلَل أو المؤسَّسات التي ليس بوسع بقائها "المتناغم"، فيما يبدو، إلا أن يكونَ مرهونًا بذلك التمييز المتعمَّد والمتفكَّر فيه "عن رويَّةٍ" بين مبتنياتٍ استيهامية كما "الشرق" و"الغرب". وإن كان لابدَّ من بداءةِ بدءٍ، في هذا الصدد، فسوف تسعى أولى هذه المناظرات المقارنة إلى معالجة بضعةٍ من القضايا المتطابقة في التنظير اللساني عند كلٍّ من ابن خلدون (1332-1406) وتشومسكي (1928).
في الجزء الأخير من كتابه الموسوعي المقدِّمة (وهو جزءٌ يضمُّ مداخلَ معمَّقةً لمختلف العلوم الإنسانية والطبيعية والإلهية)، ألَّف ابن خلدون عددًا من الفصول في طبيعة الكلم ومشكلاته، يمكن إدراجُها الآن تحت عنوان مقدِّمة في اللغة، ويمكن النظرُ إليها، من ثمَّ، بوصفها مبحثًا علميًّا تخصُّصيًّا قائمًا بذاته. وعلى الرغم من كونه مبحثًا يطرح مسائل وثيقة المِساس بالتفكير اللغوي المعاصر، بوجه العموم، إلا أنه لم يسترع من الباحثين، فيما يبدو، اهتمامًا جادًّا ووافيًا في أيٍّ من حقول اللسانيات المقارنة، على وجه التحديد. لهذا السبب، سيُعمد في هذه الدراسة الاستهلالية إلى محاولة في سدِّ هذا الفراغ الفكري المترتِّب، وذلك من خلال الإفادة من بعض المسارات المفهومية الهادية للنظرية اللسانية الحديثة، كما سيتمُّ تبيانه في الأقسام الآتية. لقد وصف المؤرِّخُ الإنكليزي آرنولد توينبي (1889-1975) مقدِّمة ابن خلدون، ذات مرَّةٍ، على أنها "أعظمُ كتابٍ ابتكره العقلُ البشريُّ، من نوعه، في أيِّما زمان أو مكان"[1]، ذلك الوصف الذي يتَّفق على الإقرار به، دونما ريب، حتى أولئك المؤرِّخون الذين لم يلمَّ شملَهم رأيٌ واحد، والذين شنُّوا هجومًا عنيفًا على منهج توينبي الرُّوحاني في قيام الحضارات وسقوطها – خلافًا للمنهج المادي الذي انتهجه ماركس. وهكذا، إذن، فإن ذلك الوصفَ يشيرُ إلى شخص ابن خلدون بصفته، قبل كلِّ شيء، منظِّرًا أصيلاً في فلسفة التاريخ وبصفته، كذلك، منظِّرًا ألمعيًّا في علم الاجتماع وعلم الاقتصاد السياسي والجغرافيا البشرية، وغيرها من العلوم الإنسانية التي اكتسبت تسمياتٍ حديثةً كهذه في العصر الحديث. إذ لا مجال، من هذا الخصوص، لإنكار (أو حتى للطعن في) ما تركه ابن خلدون من أثر فكري كبير في فيلسوف التاريخ (الثقافي) الإيطالي جِيامْباتيستا ڤيكو (1668-1744)، وفي فيلسوف السياسة الفرنسي شارل-لويس مونْتِسْكيو (1689-1755)، وفي فيلسوف اللاهوت الألماني يوهان غوتْفريد فون هيرْدَر (1744-1803)، وفي غيرهم من الشخصيات الفكرية الأوربية الفذَّة[2]. وبالرَّغم من أن ابن خلدون لم يكن، في المقام الأول، عالِمًا لسانيًّا فريدًا، كما هي الحالُ في العديد من معاصريه وأسلافه القروسطيين، إلا أنَّ في نفاذِ بصيرته من ضُروبٍ من قضايا لسانية كانت (ولاتزال) من الأهمية بمكانٍ، ما يسوِّغ قَمانَتَه، فعلاً، بالنظر الجادِّ إلى ما أصدره، هو ذاته، من بياناتٍ (وإن لم تكن بياناتٍ يسيرةَ المِراس)، وخصوصًا على ضوء ما يُسمّى بنظرية "القواعد الشمولية (أو الكلِّية)" universal grammar، تلك النظرية التي تتبدّى، فيما يبدو، على أنها أشدُّ نظريةٍ تأثيرًا وتنفُّذًا في أيٍّ من فروع اللسانيات العامَّة، في هذا الزمن. فالهدف الأساسيُّ من هذه الدراسة المقارنة، إذن، هو تسليط الضوء على بضعةٍ من أوجهٍ جدِّ مغمورةٍ من تنظير ابن خلدون حول ظاهرة اللغة، أوجهٍ تتكشَّف بجدِّ قابليَّتها للمقارنة، فيما يظهر، بنظائرها المفهومية في إطار تنظير تشومسكي حول الظاهرة ذاتها. وعلى اعتبار أن ثمَّة حقبةً من الزمان تفصل المجتمعَ الذي عاش فيه ابنُ خلدون عن المجتمع الذي يعيش فيه تشومسكي (تلك الحقبةَ التي تمتدُّ إلى أكثرَ من ستة قرون)، يتجلى التشابه الفكريُّ اللافت بين المفكِّرَيْن، من خلال هذه الدراسة المقارنة، يتجلى بصفته دليلاً من الدلائل على حقيقةِ أن لا شيءَ يقف حائلاً دون تلاقي الأفكار، مهما تكن، بغضِّ النظر عن أيِّما "اختلافٍ" كائن بالفعل أو كائنٍ بالقوة بين مُبْتَدَعاتٍ خيالية كما "الشرق" و"الغرب".
تقع هذه الدراسة المقارنة في ثلاثة أقسام رئيسية، يُعنى كلٌّ منها بمبتنىً محوري بغية التحليل المقارن. فأما القسم الأول منها (أي القسم: 2)، فسيناقش مبتنى ما تمكن تسميته بـ"أثْنَنَةِ اللغة" language dichotomization، وذلك من أجل تحديد ماهية تلك الثنائية dichotomy التي افترضها تشومسكي من بين عددٍ من الثنائيات التراهُصية (كثنائية "الحازة-الأداء" competence-performance وثنائية "اللغة الباطنية-اللغة الظاهرية" I-language-E-language، وغيرهما)[3]، والتي قد تتطابق تطابقًا مفهوميًّا مع ذلك التمييز الذي وضعه ابن خلدون بين "اللسان" language (بمعناه المُعَمَّم) وبين "اللغة" a language (بمعناها المُخَصَّص)، إذ سيتمُّ النظر إلى التطابق المفهومي هذا من منظور بنيوي (أي تركيبي) محض. وأما القسم الثاني منها (أي القسم: 3)، فسيشرح مبتنى ما يمكن دعاؤه بـ"ابتطان اللغة" language internalization، وسيعيِّن بذلك اللغةَ الإنسانية بوصفها ظاهرةً نفسية/ذهنية، كما يراها كلٌّ من تشومسكي وابن خلدون (خلافًا لما يراها دو سوسور)، إذ سيفضي هذا التعيين إلى إلقاء الضوء على المقايسة المفهومية بين فكرة "الحازة اللسانية" linguistic competence عند تشومسكي وبين فكرة "المَلَكة اللسانية" linguistic faculty عند ابن خلدون (انظر، أيضًا، الحاشية: 3). وسيقتضي هذا التعيين، كذلك، عَرْضًا مقارنًا لبضعةٍ من القضايا الفرضية المنضوية، كمفهوم الأمْثَلة idealization أو التمام perfection، وطبيعة المعرفة اللسانية (التي تكمن وراء الحازة/المَلَكة)، ونوعية الآلية (أو الآليات) الأساسية/التحتية التي تسيِّر هذه المعرفة. وأما القسم الثالث والأخير منها (أي القسم: 4)، فسيدرس مبتنى ما يمكن الاصطلاح عليه بـ"اظطهار اللغة" language externalization، وسيعرِّف بذلك طبيعةَ المعرفة اللسانية بطابع تَمْدِيَتها في بنى (أو تراكيب) الخطاب الفعلي، إذ سيؤدي هذا التعريف إلى تسليط الضوء على المقايسة المفهومية الأخرى بين فكرة "الأداء اللغوي" linguistic performance عند تشومسكي وبين فكرة "التصرُّف اللغوي" linguistic behaviour عند ابن خلدون. وسيستلزم هذا التعريف، أيضًا، شَرْحًا مقارنًا لبضعةٍ من المسائل الفرضية التابعة، كافتراض أسبقية النحو syntax المنطقية، ومفهوم الحُيُودية deviancy أو اللاحُيُودية non-deviancy، والتمثيل المادي أو الإحساسي لهذا المفهوم. أخيرًا، سيُعمد، من خلال التعليل والتحليل اللسانيين، إلى إقصاء جميع التفاصيل الفنية الشائكة، وذلك استئناسًا بالبساطة والوضوح.
2. أثْنَنَة اللغة Language dichotomization
قبلَ بزوغ اللسانيات الحديثة في مطلع القرن العشرين، يظهر أن جُلَّ ما جرت العادةُ على تسميتهم بـ"فقهاء اللغة" (أو "الفيلولوجيين") كانوا قد سنَّدوا تلك النظريات التخمينية التي حاولت أن تفسِّر أصل اللغة، بوصفها ظاهرة إنسانية، وذلك استنادًا إلى ما هو معروف بـ"حكاية الصوت" أو "المحاكاة الصوتية" onomatopoeia، بمعنى أن ثمة رابطًا جناسيًّا-صوتيًّا نظاميًّا (أو "مبرمجًا") يربط بين كلٍّ من ماهية الدَّال signifiant وماهية المدلول signifié، على حدِّ اصطلاح العالِم اللساني السويسري دو سوسور (1857-1913). وتفنيدًا لسائر النظريات التحزُّرية هذه، إذن، وضع دو سوسور التوكيدَ على اعتباطية (أو جُزافية) الصلة التي تصل بين هاتين الماهيتين، وعلى غياب طابعها الجناسي-الصوتي، بوجه العموم. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، ليست توجد ثمَّة، من قريب أو بعيد، أيَّة سمةٍ "خِنْزيرية" pig-like أو سمةٍ "خِنَّوْصِية" piglet-like يمكن استشفافهما من كلمة "خِنْزير" pig أو كلمة "خِنَّوْص" piglet، على الترتيب[4]. وقُصارى القول، لقد أدى تفنيدٌ كهذا بدو سوسور إلى تعريف اللغة الطبيعية (أي الإنسانية) على أنها نظامٌ تفاضليُّ لدواليلَ signs، ليس إلا، بحيث يجسِّد كلٌّ من هذه الدواليل رابطةً اعتباطية (أو جُزافية) تربط بين مقوِّمه المادي أو الإحساسي الذي يحدِّد الدالَّ، من جهة، وبين مقوِّمه المعنوي أو الإدراكي الذي يعيِّن المدلولَ، من جهة ثانية. ووفقًا لذلك، طرح دو سوسور ثنائيته الشهيرة "اللغة-الكلام" langue-parole لكي يشدِّد على البعدين المتميِّزين للغة الطبيعية (أو الإنسانية)، في حدِّ ذاتها. فمن طرف، يتجلَّى التمثيلُ اللافيزيائيُّ لـ"اللغة" langue بوصفه تمثيلاً (مجرَّدًا) يشتمل، بكلانيته، على سائر العادات اللغوية التي تسنَّى لها البقاءُ في مجتمع من المجتمعات أو في مشترَك من المشترَكات. ومن طرف آخر، يتبدَّى التحقيقُ الفيزيائيُّ لـ"الكلام" parole بكونه تحقيقًا (ملموسًا) يحتوي، بجزآنيته، على أية مصفوفة قابلةٍ للرصد من الأفعال الكلامية التي ينتجها الفردُ في المجتمع نفسه أو في المشترَك عينه[5]. وبالتالي، فإن ما يسعى إليه دو سوسور، في إطار منهجه في التحليل اللساني-البنيوي، هو، في حقيقة الأمر، استكشافُ مستوى "اللاوعي الجمْعي" للغة الإنسانية وما تكمِّنه ظاهرةٌ كهذه من كُمونية محتَّمة تحتيمًا طبيعيًّا، على الصعيد الاجتماعي أو المجتمعي[6].
وفي إطار منهجه في التحليل اللساني-التوليدي، يعرِّف تشومسكي، بدوره، ماهيةَ اللغة الطبيعية (أو الإنسانية) بصفتها نظامًا ابتكاريًّا لقواعدَ متناهيةٍ finite rules (قا: "نظام الدواليل التفاضلي" عند دو سوسور)، نظامًا مستترًا أو مضمَرًا يمكِّن المتكلِّم الفطري (أي الناطق بلغته الأم) من إدراك، ومن ثم إنتاج، عددٍ لامتناهٍ من الجُمل التي تنحو منحاةَ القواعد المتناهية بعينها، حتى لو لم يسبق لبعض هذه الجُمل أن سُمعت أو قيلت على أرض الواقع[7]. وحسبما يرتئيه تشومسكي، إذن، فإن الغاية الجوهرية من هذا التعريف هي إلقاءُ الضوء على الجانب النفسي أو الفردي للغة على حساب جانبها الاجتماعي أو الجمعي (بحسب مفهوم دو سوسور)، وذلك من جرّاء المجيء بفكرةٍ استبطانيةٍ introspective حول المنظومة الاشتقاقية التي تؤدي عملها في حيِّز "وسائطيٍّ" يقع تحت مستوى الوعي. وهكذا، فيما يظهر، تتكشَّف المنظومة الاشتقاقية هذه، بقدر ما تؤدي وظيفتها على هذه الشاكلة، تتكشَّف عن مَنْظِم مُبْتَطَنٍ (أو مُذَوَّتٍ) internalized ordinance، إذا جاز التعبير، مَنْظِمٍ تُفَسَّر واقعيَّتهُ الذِّهنية تفسيرًا سَبْقيًّا ويُنْظَر إليها من منظور ما يُعْرَف بـ"القواعد الشمولية (أو الكلِّية)" universal grammar. إذ إن ما يرمي إليه تشومسكي، من وراء هذا التفسير، هو إدلاؤه بفرضية كانت، ولا تزال، من الأهمية بمكان، تلك الفرضية القائلة بأن اللغاتِ الإنسانيةَ بأسرها تتقارب في تطبيق مصفوفةٍ من المَبادئ العامة general principles التي يُمْليها اللبُّ الخفيُّ لبنيان القواعد الشمولية (أو الكلِّية) تلك، على حين أن القشرةَ الجليةَ للبنيان ذاته، فضلاً عن ذلك، يتمُّ تعليلُها بموسوميةِ markedness مجموعةٍ من المَناهي الخاصة particular parameters التي تتبدّى كتمثيلاتٍ (تجريبية) لمصادفاتٍ تاريخية، ليس إلا. وعلى ذلك، ففي إطار الأنموذج الرئيسي الأول للقواعد الشمولية (أو الكلِّية) الذي ساد حتى السبعينيات من القرن العشرين (ألا وهو: أنموذج القواعد التوليدية-التحويلية transformational-generative grammar)، كان المفهوم القياسيُّ (أو المعتمَد) للمنظومة الاشتقاقية تلك يقتضي إدماجَ (أو توظيفَ) مستويَيْن متميّزَيْن من مستويات التمثيل البنيوي (أي التاريخ الاشتقاقي): أولاً، مستوى البنية السَّطْحية surface structure التي ينتج عنها خَرْجُ المكوِّن النحوي syntactic component، من طرفٍ، فيتبدّى بذلك دَخْلُ المكوِّن الصوتي phonological component، من طرف آخر؛ وثانيًا، مستوى البنية العُمْقية deep structure التي يتمخَّض عنها خَرْجُ المكوِّن المُعْجَمي lexical component، من جهةٍ، فيتجلّى بذلك دَخْلُ المكوِّن الدَّلالي semantic component، من جهة أخرى[8]. فمنذ أن تمَّ الإدماجُ (أو التوظيفُ) الأوليُّ لمستويَيْ التمثيل البنيوي هذين في ثنايا المنظومة الاشتقاقية عينها، كان كلاهما، في حقيقة الأمر، موضعَ ممارياتٍ لاذعة عنيفة ما بين علماء اللسان والفلاسفة وعلماء النفس، على حدٍّ سواء، وتلك مسألةٌ لن يُصارَ إلى الخوض في غمارها في هذه الدراسة[9].
غير أن ما له مِساسٌ وثيقٌ، في هذه القرينة، هو فحوى تلك الثنائية الشهيرة "الحازة-الأداء" competence-performance التي طرحها تشومسكي، في جملة ما طرح، من جرّاء ما يستلزمه استلزامًا نظريًّا التحليلُ اللساني-التوليدي القياسي (أو المعتمَد) للمنظومة الاشتقاقية ذاتها (انظر الحاشية: 3). إذ يظهر أن ثنائية تشومسكي "الحازة-الأداء" هذه لا تحيد حيودًا مفهوميًّا عن ثنائية دو سوسور "اللغة-الكلام"، في الجوهر، خلا أن الجانب الذهنيَّ للغة الطبيعية (أو الإنسانية)، هنا، يسترعي اهتمامًا أكثرَ مما يسترعيه جانبها اللاذهنيُّ المقابل، كما سبق ذكره[10]. فمن طرف، يشير التمثيل المُؤَمْثَلُ idealized لـ"الحازة اللسانية" إلى معرفة المتكلِّم المكنونة (أو الكَنينةِ tacit) بلغته الأم، بحيث إن النظام الابتكاريَّ للقواعد المتناهية، المنوَّه عنه آنفًا، يبيحُ لهذا المتكلِّم سهولةَ مَنالٍ لامتناهٍ من مختلف الجُمَل النحوية أو القواعدية grammatical sentences، بعموميَّتها (قا: فكرة "العادات اللغوية" عند دو سوسور). ومن طرف آخر، يدلُّ التحقيق المُمَدّى materialized لـ"الأداء اللغوي" على تنفيذ ذلك المتكلِّم الفعليِّ، وإن كان تنفيذًا جزئيًّا، لمعرفته المكنونة (أو الكَنينة) بلغته الأم تلك، تنفيذٍ قابلٍ للرصد في المدى الملموس لما ينطقه المتكلِّم ذاته من القَوْلات الخِطابية أو الذرائعية pragmatic utterances، بخصوصيَّتها (قا: فكرة "الأفعال الكلامية" عند دو سوسور). وفي واقع الأمر، فإن الأساس النظريَّ لثنائية تشومسكي "الحازة-الأداء" تلك لا يزال له أثرٌ، والحال هذه، في التمييز التناظريِّ الذي وضعه (أي تشومسكي)، فيما بعد، بين ما يسميه بـ"اللغة الباطنية" (أو "اللغة-ب" I-language) وبين ما يدعوه بـ"اللغة الظاهرية" (أو "اللغة-ظ" E-language)، على التوالي، وذلك في إطار الأنموذج الرئيسيِّ الثاني للقواعد الشمولية (أو الكلِّية) الذي كان قائمًا في الثمانينيات من القرن المنصرم (ألا وهو: أنموذج المَبادئ والمَناهي principles and parameters). إن هذا التمييز التناظريَّ الأخير، إذن، لهو التمييزُ الذي يحدِّد الهدف الأساسيَّ من منظومة القواعد الشمولية (أو الكلِّية)، على ما يبدو: فبينما يُراد بـ"اللغة الباطنية" متصلٌ لسانيٌّ أو سيرورةٌ لسانيةٌ يتمثَّلان تمثُّلاً باطنيًّا من خلال اقترانهما بأيِّ فردٍ كان، وذلك على فَرْض أن اللغة المُرادةَ خاصيةٌ من خصائص العقل/الدماغ البشري، يُقْصَد بـ"اللغة الظاهرية" متصلٌ لغويٌّ أو سيرورةٌ لغويةٌ يتحقَّقان تحقُّقًا ظاهريًّا من جرّاء اقترانهما بمجتمعٍ ما أو بمشترَكٍ ما، وذلك على فَرْض أن اللغة المقصودةَ، والحال هذه، مستقلَّةٌ استقلالاً تامًّا عن مكنونات العقل/الدماغ البشري[11]. وبالتالي، فإن الهدف الأساسيَّ من منظومة القواعد الشمولية (أو الكلِّية) هو تسليطُ الضوء على طبيعة اكتساب اللغة language acquisition، في حدِّ ذاتها، فهو بذلك تحديدٌ (أصليٌّ) لمصفوفة المبادئ اللُّبِّيةِ core principles التي يتمُّ تطبيقُها تطبيقًا أدنويًّا، من جهة، وتخصيصٌ (فرعيٌّ) لمجموعة المناظم المعرفية cognitive orders التي يُصار إلى استخدامها استخدامًا "أعلويًّا"، من جهة ثانية.
فبالنظر إلى الغرض المحوريِّ من منظومة القواعد الشمولية (أو الكلِّية)، يتبيَّن أن ثمة مستويَيْن من مستويات الكَفاء النظريِّ على الأقل، فيما يظهر، مستويَيْن ينبغي على أيَّة نظرية لسانية كفيئةٍ أن تفيَ بشروطهما، على أكمل وجه: أولاً، ما يُسمّى بـ"الكفاءة الوصفية" descriptive adequacy، تلك الكفاءةِ التي تصف وصفًا وافيًا أو صحيحًا الكيفَ (أو الكيفيةَ، بالأحرى) التي يتمُّ بها اكتسابُ، ومن ثمَّ استعمالُ، مفترقِ اللغات الإنسانية (مهما بلغت في العُسْر من مبلغ)؛ وثانيًا، مايُدعى بـ"الكفاءة الشرحية"explanatory adequacy ، تلك الكفاءةِ التي تشرح شرحًا مفصَّلاً أو دقيقًا السببَ (أو السببيةَ، بالأقمن) في حيازة مختلفِ اللغات الإنسانية هذه على الخصائص المشترَكة التي تتبدّى فيما بينها. ناهيك من حقيقةٍ مُفادُها بأن مستويَيْ الكَفاء النظريِّ هذين لا يزالان مسألتَيْن على بساط البحث اللسانيِّ (الراهن)، وذلك في إطار الأنموذج الرئيسيِّ الثالث للقواعد الشمولية (أو الكلِّية) الذي بدأ الإعرابُ عنه في التسعينيات من القرن الفائت (ألا وهو: أنموذج أو، بالحريِّ، برنامج الاشتقاق الحدِّي-الأدنوي the minimalist program)[12]. يعني ذلك، بكلمات أُخَر، أن الغاية الجوهريةَ من منظومة القواعد الشمولية (أو الكلِّية) هي الانكبابُ على الوصف النظريِّ الوافي للغةٍ معيَّنة من اللغات الإنسانية (كاللغة الإنكليزية واللغة الدنماركية واللغة الفرنسية، إلخ)، من طرف، والتعهُّد بالشرح النظريِّ المفصَّل لمنظومة القواعد الشمولية (أو الكلِّية) برمَّتها (أي تلك المنظومة الفوقية التقاربية على اعتبارها خَلَّةً متأصِّلةً inherent quality للُّغات الإنسانية قاطبةً)، من طرف آخر. ووفقًا لذلك، فإن التمييز الضمنيَّ الذي يلمِّح إليه تشومسكي، هاهنا، بين "اللغة" التي يمكن جمعُها (فرعًا) a language و"اللغة" التي يستحيل جمعُها (أصلاً) language لجِدُّ قابلٍ للمقارنة بالتمييز الصريح الذي يضعه لاكانُ بين "اللغة" langue (بمغزاها التخصيصيِّ) و"اللسان" langage (بمغزاه التعميميِّ)، على الترتيب، في إطار منهجه في التحليل النفسي "مابعد البنيوي"، كما تمَّ ذكره آنفًا (انظر الحاشية: 5). إن هذا التمييز التشابهيَّ الجليَّ، إذن، لهو التمييزُ الذي يردِّد أصداءَ ذلك التمييزِ غير المُلاحَظٍ، فيما يبدو، الذي طرحه ابن خلدون بين "اللغة" a language (بمعناها المخصَّص) و"اللسان" language (بمعناه المعمَّم)، على التوالي، في ثنايا الجزء الأخير من مقدِّمته مقدِّمة في اللغة. وتوخِّيًا لسهولة الشرح، من هذا الخصوص، سيُعمَد إلى استخدام مصطلحَيْ لاكان langue وlangage، المصطلحين اللذين يمكن استشفافُهما من ذلك التمييز الضمنيِّ الذي يلمِّح إليه تشومسكي، كنظيرَيْن مباشرين لمصطلحَيْ ابن خلدون "اللغة" و"اللسان"، على الترتيب. لاحظ، في هذه القرينة، كيف أن ابن خلدون يميِّز تمييزًا صريحًا بين هذين المصطلحين، قائلاً:
اِعلَم أنَّ اللُّغاتِ كلَّها [....] مَلَكاتٌ في اللِّسان للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام المَلَكة أو نقصانها وليس ذلك بالنظر إلى المفردات وإنما هو بالنظر إلى التراكيب[13].
يتَّضح من هذا التمييز الاستثنائيِّ الذي يضعه ابن خلدون بين مصطلحَيْ "اللغة" langue و"اللسان" langage وضعًا صريحًا ("صريحًا" بمعنى صياغة المصطلح الأول بصيغة الجمع المخصَّص وصياغة المصطلح الأخير بصيغة المفرد المعمَّم)، يتَّضح بجلاء كيف أن هذا العلاّمةَ يدلي بحقيقة مُفادُها بأن اللغة الإنسانيةَ، في حدِّ ذاتها ومن تلقاء ذاتها، تتكشَّف عن عدد محدَّدٍ من السمات المتجذِّرة intrinsic characteristics التي يتَّسم بها العقل البشري. يدلُّ ذلك على أن نوعيةَ التعابير اللغوية linguistic expressions (أو "العبارات عن المعاني"، على حدِّ قول ابن خلدون) لمشروطةٌ بنوعية المَلَكة اللسانية linguistic faculty (المَلَكة التي تتجلّى، بدورها، كجِبِلَّة محتَّمة تحتيمًا ذهنيًّا): فإذا كانت التعابير (أو العبارات) المقصودةُ "جيِّدةً" أو "قاصرةً"، فللمَلَكة التي تولِّد هذه التعابيرَ (أو العباراتِ)، عندئذٍ، أن تكون "تامَّةً" أو "ناقصةً"، على التوالي. وهكذا، فإن الاهتمام الرئيسيَّ لعالِم اللسان، بحسب مفهوم ابن خلدون، هو أن يسعى إلى استنباط ما يمكنه من بيانات قابلةٍ للتعميم حول صفات ذهنية أو عقلية معيَّنةٍ، وذلك من خلال التبصُّر الجادِّ في اللغة الإنسانية، كما هي الحال تمامًا عند تشومسكي نفسه، ذلك العلاّمةِ الذي "تأسره، في المقام الأول، إمكانيةُ تعلُّمِ شيءٍ ما من دراسة اللغة [الإنسانية]، شيءٍ يلقي الضوءَ على [عدد محدَّدٍ من] الخصائص المتأصِّلة inherent properties التي يختصُّ بها العقل البشري"[14]. وخلافًا للعلاّمة دو سوسور الذي يُعنى، في الأساس، بالجانب الاجتماعي أو الجمعي للغة الإنسانية، كما رأيت آنفًا، يظهر أن ابن خلدون وتشومسكي كليهما يتفقان في الرأي على توكيد الجانب النفسيِّ أو الفرديِّ لهذا المتصل الشائك أو هذه السيرورة الشائكة على حساب جانبهما الاجتماعي أو الجمعي. وفضلاً عن ذلك، بما أن الهدف الأساسيَّ من القواعد الشمولية (أو الكلِّية) هو تعيينُ طبيعة اكتساب اللغة، في حدِّ ذاتها، وذلك من جرّاء التمييز ذي الأهمية الكبيرة الذي تمَّ وَضْعه بين "اللغة الباطنية" (أو "اللغة-ب") وبين "اللغة الظاهرية" (أو "اللغة-ظ")، كما رأيت أيضًا، فإن مفهوم تشومسكي عما يصطلح عليه بـ"الحازة اللسانية" linguistic competence ليبدو جِدَّ قابلٍ للمقارنة، كذلك، بمفهوم ابن خلدون عما يصطلح عليه بـ"المَلَكة اللسانية" linguistic faculty (انظر الحاشية: 3)، ذلك المصطلح الذي يُصار، أيضًا، إلى صَوْغه بكلٍّ من صيغة الجمع المخصَّص وصيغة المفرد المعمَّم، كما سترى في القسم الآتي من هذه الدراسة (أي القسم: 3).
يتبيَّن من ذلك التمييز الاستثنائيِّ ذاته الذي يضعه ابن خلدون بين مصطلحَيْ "اللغة" langue و"اللسان" langage، كما في البيان المستشهَد به من قبل، يتبيَّن بجلاء، كذلك، كيف أن هذا العلاّمةَ يعرب عن حقيقة أخرى مُفادُها بأن "اللغة" (اللغةَ التي تتجلّى بوصفها عيِّنة تجريبيةً من عيِّنات "اللسان"، ليس إلا) ينبغي النظرُ إليها على أنها مصفوفةٌ لامحدودةٌ بالقوة من التعابير (أو العبارات) اللغوية linguistic expressions، بدلاً من النظر إليها على أنها (أي "اللغة") مجموعةٌ محدودةٌ بالفعل من المفردات اللغوية (أو المعجمية) lexical items. يعني ذلك، بكلام آخر، أن نوعيةَ التعابير (أو العبارات) اللغوية، وهي نوعيةٌ موقوفةٌ على نوعية المَلَكة اللسانية linguistic faculty، كما رأيت، ينبغي لها أن تُرازَ من حيثية التمثيلات البنيوية (أو التركيبية) لهذه التعابير (أو العبارات)، لا من حيثية تمثيلاتها المعجمية (أو المفرداتية). من هنا، فإن الاهتمام الرئيسيَّ الآخرَ لعالِم اللسان، بحسب منظور ابن خلدون، هو أن يركِّز انتباهَه على الخصائص البنيوية (أو التركيبية) الصِّرْف للتعابير (أو العبارات) اللغوية (قا: قولَ ابن خلدون نفسهِ "وإنما هو بالنظر إلى التراكيب")، مثلما أن المهمّةَ الأساسية لعالِم اللسان، بحسب منظور تشومسكي، هي أن يسعى إلى تصميم جهازٍ نحويٍّ-توليديٍّ محدَّد، جهازٍ بصفته "منظومةً من القواعد التي تعيِّن الأوصافَ البنيوية (أو التركيبية) structural descriptions [المَحْض] للجُمَل [أي التعابير/العبارات] تعيينًا صريحًا مستَتِمًّا بشكل أو بآخر"[15]. وعلى خلاف دو سوسور الذي ينظر إلى اللغة الإنسانية بكونها نظامًا تفاضليًّا لدواليلَ لغويةٍ ليس غير، كما سبق ذكره، يبدو أن ابن خلدون وتشومسكي كليهما يتفقان في الرأي، أيضًا، على النظر إلى اللغة الإنسانية بكونها نظامًا ابتكاريًّا لوسائلَ متناهيةٍ تخوِّل المرءَ (أو الناطق السليقيَّ) منالاً لا ينضُبُ من الاستعمال اللامتناهي، على حدِّ تعبير تشومسكي، نقلاً عن كلام الفيلسوف اللغوي الألماني ڤيلهلم فون هومبولت (1767-1835)[16]. وعلاوة على ذلك، بما أن النظام الابتكاريَّ للوسائل المتناهية هذا هو، في حدِّ ذاته، مَنْظِمٌ مُبْتَطَنٌ (أو مُذَوَّتٌ) internalized ordinance في عقل المتكلِّم الفطريِّ بمثابةِ "حازةٍ لسانية" (أو "مَلَكةٍ لسانية")، كما سبق شرحه، فإن مفهوم تشومسكي عما يصطلح عليه بـ"الأداء اللغوي" linguistic performance ليظهرُ جِدَّ قابلٍ للمقارنة، كذلك، بمفهوم ابن خلدون عما يصطلح عليه بـ"التصرُّف اللغويّ" linguistic behaviour، ذلك المصطلح الذي تمَّ اشتقاقُه من الصيغة الفعلية "تصرَّف" to behave/act التي استعملها ابن خلدون نفسُه في بياناته، كما سترى في القسم الأخير من هذه الدراسة (أي القسم: 4)
3. ابتطان اللغة Language internalization
كما تمَّت مناقشته في القسم السابق، فإن الاهتمام الأساسيَّ لعالِم اللسان، بحسب مفهوم كلٍّ من ابن خلدون وتشومسكي، هو أن يضعَ التشديد على الجانب الذهنيِّ أو النفسيِّ للغة الإنسانية –على النقيض من دو سوسور وتوكيده على جانبها الاجتماعيِّ أو الجمعي. يدلُّ ابتطانُ (أو تذويت) اللغة، إذن، على أن هذا المتصلَ الشائك أو هذه السيرورةَ الشائكة لتتواجدان في عقل المتكلِّم الفطريِّ كمنظومة تحتيةٍ لما يُشار إليه بـ"الحازة اللسانية" linguistic competence، على حدِّ اصطلاح تشومسكي، أو بـ"المَلَكة اللسانية" linguistic faculty، على حدِّ اصطلاح ابن خلدون (انظر، أيضًا، الحاشية: 3). وهكذا، فإن صَوْغَ ابن خلدون لهذا المصطلح الأخير بصيغة الجمع المخصِّص، نحو: "مَلَكات" faculties، وصَوْغَه إيَّاه بصيغة المفرد المعمَّم، نحو: "المَلَكة" faculty، كما في البيان المستشهَد به من قبل، لصَوْغان يدلان دلالةً جلية، كذلك، على أن المتكلِّم الفطريَّ السويَّ "يملك" مَلْكًا باطنيًّا (كائنًا بالقوة) ناصيةَ قدرةٍ عقلية مترسِّخة deep-seated، قدرةٍ تحدو به إلى إدراك، ومن ثمَّ إنتاج، لغته الأم، من طرف، وأن أيَّ متكلِّم فطريٍّ سويّ، مهما تكن لغته الأم، "يملك" مَلْكًا باطنيًّا (كائنًا بالقوة) ناصيةَ القدرة العقلية المترسِّخة ذاتِها، من طرف آخر. وعلى نحو مشابه، أيضًا، يميل تشومسكي إلى القول بـ"الحازات" competences (أو "اللغات الباطنية" I-languages) جمعًا، وذلك بمقتضى المعنى اللغويِّ التخصيصيِّ (أو الجزئي)، من جهة، وينزع إلى القول بـ"الحازة" competence (أو "اللغة الباطنية" I-language) مفردًا، وذلك بموجب المعنى اللغويِّ التعميميِّ (أو الكلِّي)، من جهة أخرى. وحتى في مؤلَّفاته اللسانية الأخيرة، فضلاً عن ذلك، صار هذا العلاّمةُ يشير، بنزوع أكثر، إلى "الحازة" (أو "اللغة الباطنية")، وفقًا لمعناهما اللغويِّ الأخير، بما يصطلح عليه الآن بـ"مَلَكة اللسان" the faculty of language (أو "م. ل." FL، اختزالاً)، ليطابق بذلك مطابقةً أكثر فأكثر ما يصطلح عليه ابن خلدون بـ"المَلَكة اللسانية"[17]. فمن جرّاء انتهاجه نهجَ الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650) في علم النفس العقلاني، يؤيِّد تشومسكي الفكرةَ القائلة بأن هذه "المَلَكةَ" faculty تتجذَّر جذورُها كجِبِلَّة predisposition تجذُّرًا قَبْليًّا في بنية ذهنيةٍ مستترة أو مُضْمَرة[18]. فهو (أي تشومسكي)، بهذا الانتهاج، يعارض سائرَ المفكِّرين (وبالأخصِّ التجريبيين الأقحاح rank empiricists منهم) الذين لا يعتقدون "اعتقادًا حازمًا" بوجود بنىً ما قبل-اجتماعية، كما هي الحال تمامًا عند ابن خلدون حينما يناصر الفكرةَ القائلة بأن هذه "المَلَكةَ" faculty هي، في حدِّ ذاتها ومن تلقاء ذاتها، "صفةٌ راسخةٌ deep-rooted للنفس"، على حدِّ تعبيره[19]. وفي هذا الصدد، يقول ابن خلدون جازمًا:
والمَلَكاتُ لا تحصل إلا بتكرار الأفعال لأن الفعلَ يقع أولاً وتعود منه للذات صفةٌ ثم تتكرَّر فتكون حالاً ومعنى الحال أنها صفة غيرُ راسخةٍ ثم يزيد التكرارُ فتكون مَلَكة أي صفة راسخة[20].
فبالنظر إلى الطبيعة الراسخة للمَلَكة اللسانية عند ابن خلدون (أو مَلَكة اللسان عند تشومسكي)، يظهر أنه من الضرورة بمكانٍ أن يُصار إلى التسليم (جَدَلاً) بالإعلاء النظريِّ theoretic elevation لهذه المَلَكة غيرِ اليسيرة المِراس، حقيقةً، بغيةَ السعي وراء التنقُّب عن عوالمَ لسانيةٍ ممكنة، وتلك ضرورة موضوعية جِدُّ مألوفةٍ في شتى مجالات العلوم الطبيعية. إذ يقتضي هذا الإعلاء النظريُّ للمَلَكة اقتضاءً منطقيًّا، والحال هذه، التمجيدَ النظريَّ theoretic exaltation لمالكِها (أي المتكلِّم-السامع)، ويقتضي هذا الأخيرُ اقتضاءً منطقيًّا، بدوره، المُساماةَ النظريةَ theoretic sublimation للمجتمع أو المشترَك الذي يعيش فيه. لهذا السبب، صار تشومسكي يعرب عن هذه الضرورات الموضوعية مرارًا وتكرارًا، دونما ذَعَنٌ أو هُدونٌ، منذ أن شيَّد، بادئ ذي بدء، صَرْحَ النساخة القياسية (أو المعتمَدة) لأنموذج القواعد التوليدية-التحويلية في أوائل الستينيات من القرن الماضي (أو قبل ذلك حتى). بناءً على ذلك، يضع تشومسكي، هاهنا، التوكيدَ على ثلاثٍ من الضرورات الموضوعية فيما له مِساسٌ بالأمْثَلَة النظرية theoretic idealization، ضروراتٍ ثلاثٍ يمكن إعادة صياغتها من كلامه المستشهَد به في أحايين كثيرة، على النحو التالي: أولاً، إن المَلَكةَ ذاتَها لَمَلَكةٌ مثاليةٌ، بمعنى أنها تتكشَّف عن "معرفة [تامّة] للِّسان [وعن تطبيقها] في الأداء الفعلي". وثانيًا، إن المتكلِّمَ-السامعَ نفسَه لمتكلِّمٌ-سامعٌ مثاليٌّ، أيضًا، بمغزى أنه "غيرُ متأثِّرٍ بتلك الشروط ["الواقعية"] التي لا تمتُّ للنحو أو للقواعد بأيّة صلةٍ، كمحدودية الذاكرة وشُرودية الفكر"، وغير ذلك. وثالثًا، إن المجتمعَ الذي يعيش فيه المتكلِّمُ-السامعُ لمجتمعٌ مثاليٌّ، كذلك، بفحوى أنه يمثِّل تمثيلاً نظريًّا، والحال هذه، "مشترَكًا كلاميًّا متجانسًا تجانُسًا كاملاً"[21]. ومما يثير العَجَبَ كلَّ العَجَبِ، من هذا الخصوص، هو أن الضروراتِ الموضوعيةَ للأمْثَلَةِ النظريةِ الثلاثَ هذه لجِدُّ قابلةٍ للإدراك اليسير ممَا يكتبه ابن خلدون نفسه عن الظواهر (اللسانية) عينها. وهكذا، نراهُ يتحدَّث حديثًا صريحًا عن "تمام المَلَكة" (أو "المَلَكة التامة" perfect faculty)، ونراهُ يتكلَّم كلامًا جليًّا، كذلك، عن صَحاح "المتكلِّم-السامع" الذي يحتاج إلى "سلامة الطَّبْع" soundness of disposition (انظر، أيضًا، الحاشية: 19)، على الرغم من أنه (أي ابن خلدون) يشير إشارة ضمنيةً إلى "التناغم المثالي للمجتمع (اللساني)" أو "اللاحُيودية النظرية" theoretic non-deviancy للمشترَك الكلامي (أي المشترَك العربيّ، في هذه الحالة). يكتب ابن خلدون:
فإذا حصلت المَلَكة التامّة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير عن المعاني المقصودة ومراعاة التأليف الذي يطبّق الكلامَ على مقتضى الحال بلغ المتكلِّمُ حينئذٍ الغايةَ من إفادة مقصوده للسامع [....] ويحتاج مع ذلك إلى سلامة الطَّبْع والتفهُّم الحسن لمنازع العرب في التراكيب ومراعاة التطبيق بينها[22].
وتحت راية هذا المفهوم المُؤمْثَل لـ"المَلَكة التامّة"، في حدِّ ذاتها، المَلَكةِ التي تنجلي انجلاءً عن "معرفة [تامّة] للِّسان [وعن تطبيقها] في الأداء الفعلي"، تختفي كلُّ أشكال التفريق (أو التمييز) غير المرغوب فيه بين المجتمعات اللسانية أو بين المشترَكات الكلامية أو حتى بين الطبقات الاجتماعية اختفاءً طبيعيًّا. إذ يظهر أن عالَم المعرفة اللسانية linguistic knowledge المتحدَّثِ عنها، بهذا الصدد، ليس له، من قريبٍ أو بعيد، أيُّ مِساسٍ بالمَرْهَصة المَشاعية communal status للمتكلِّم-السامع، سواء كان هذا المتكلِّمُ-السامعُ "تِعْلامةً ثريًّا" أم "تِجْهالةً مُعْوِزًا"، إذا أمكن قولٌ لا مِراءَ فيه. ففي الواقع النفسيِّ (أو الذهني)، مع ذلك، يشير نوعُ المعرفة اللسانية المتكلَّمِ عنها، هنا، إلى نوعٍ من المعرفة الحَدْسية intuitive knowledge، تلك المعرفة التي تتواجد في مستوىً استبطانيٍّ دونَ مستوى الوعي بكثير، سواء كانت هذه المعرفة موجودةً بالفعل أم موجودةً بالقوة. وهكذا، فإن المهمةَ الأساسية الأخرى لعالِم اللسان، على حدِّ تعبير تشومسكي، هي أن يسعى إلى "تحديد ما يعرفه المتكلِّم-[السامع] من معرفة فعلية، وليس ما يمكن له أن يقرِّر عن معرفته [اللسانية]"[23]. إذ تدلُّ هذه المعرفة اللسانية الفعلية، بعبارة أخرى، على تمثيل تحتيٍّ لها بصفتها متصلاً مستترًا أو سيرورةً مُضْمَرة (أو، كما في اللغة الألمانية، شعورًا دفينًا باللسان Sprachgefühl)، متصلاً أو سيرورةً يتمُّ اكتسابُهما اكتسابًا لاواعيًا في أوضاع طبيعية أو غير رسمية (كوضع الأسرة وضعًا نموذجيًّا)، بدلاً من أن يُصارَ إلى تعلُّمهما تعلُّمًا واعيًا في أوضاع رسمية أو غير طبيعية (كوضع المدرسة، مثلاً)، بحيث يتوضَّع هذا التعلُّم الواعي للُّغة في موضع يقع خارجَ الميدان المحدَّد لمَلَكة اللسان. وللسبب ذاته، في هذه القرينة، يواصل ابن خلدون بتشديده على الفكرة القائلة بأن التعلُّمَ المتعمَّدَ (أو التعلُّم الواعي، بالحريّ) لما يسمّيه بـ"القوانين العلمية" scientific laws (ويقصد بها، هنا، "القواعد النحوية" grammatical rules، حرفيًّا)، لتعلُّمٌ يتواجد، والحال هذه، في حيِّز يقع خارجَ المجال المعيّن للمَلَكة اللسانية، كذلك. إذ يجري تعلُّمُ تلك القوانين أو القواعد، عادةً، بعد أن تبلغَ عمليةُ الاكتساب الطبيعيِّ للُّغةِ منتهاها، فهو من ثم تعلُّمٌ ليس له مِساسٌ، البتة، بالمعايرة الكمية أو الكيفية للمَلَكة اللسانية، بعينها. يقول ابن خلدون:
وهذه المَلَكة [اللسانية] ليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية التي استنبطها أهلُ صناعة اللسان فإن هذه القوانين إنما تفيد علمًا [واعيًا] بذلك اللسان ولا تفيد حصولَ المَلَكةِ بالفعل في محلِّها[24].
وبحسب منظور كلٍّ من تشومسكي وابن خلدون، إن من الخصائص الجليّة لمَلَكة اللسان أو المَلَكة اللسانية، المَلَكةِ التي يتحتَّم إدراكُها الآن على أنها طَبْعٌ يبتطن (أو يذوِّت) شكلاً من أشكال المعرفة اللسانية اللاواعية، لا الواعية، هي تكمينُها كُمونيّةَ الابتكار الحَدْسيّ intuitive creativity، كما تمّت الإشارة إليه في القسم السابق. وهكذا، فإن فكرة الابتكار (الحَدْسيّ) هذه، بالنسبة إلى تشومسكي، يمكن استشفافُها من ارتئائه الرأيَ القائل بأن مَلَكةَ اللسان هي، في حدِّ ذاتها ومن تلقاء ذاتها، نظامٌ ابتكاريٌّ لوسائلَ متناهيةٍ تبيحُ للمرء (أو الناطق السليقيِّ) منالاً لا ينفَدُ من الاستعمال اللامتناهي، على حدِّ قوله (أي تشومسكي)، نقلاً عن كلام هومبولت الآنف الذكر[25]. وعلاوة على ذلك، يكتب تشومسكي، في مكان آخر، ما يلي: "إن ميزةَ الحازةِ [أو المَلَكة] اللسانيةِ الأكثرَ لفتًا للنظر هي ما تمكن تسميته بابتكارية اللغة، أي قدرة المتكلِّم [الفطريِّ] على إنتاج جُمَلٍ جديدة"[26]. يدلُّ ذلك على أن الوسائلَ المتناهية المتحدَّثَ عنها، هنا، تتمثَّل تمثُّلاً باطنيًّا بصورة جهازٍ ذهنيٍّ mental device (مهما يكن شكله)، جهازٍ يُعينُ المتكلِّمَ-السامعَ على استقلاب processing لغته الأمِّ في أسلوبيها النظميَّيْن المتغايرين، أسلوب الإدراك وأسلوب الإنتاج، كما سيتمّ تفصيله بعد قليل. وعلى نحو مماثل، فإن فكرة الابتكار (الحَدْسيّ) تلك، بالنسبة إلى ابن خلدون، يمكن استكناهُها، كذلك، من جَزْمه على الموضوعة القائلة بأن القصد النهائيَّ من اصطلاح "المَلَكة اللسانية" هو أن ناصيةَ هذه المَلَكةِ، فيما يظهر، لمنقوشةٌ على حجرٍ في عقل المولود (الإنسانيِّ) بهيئة زِوادٍ ذهنيٍّ mental apparatus (مهما يكن نوعه، أيضًا)، "زِوادٍ" يمكِّن هذا المولودَ من "توليد" generating تراكيبَ (أو عباراتٍ) جديدة، بالمثابة ذاتها. إذ إن "تمديةَ" هذا النقش الباطنيِّ لناصية المَلَكة اللسانية ستبرز إلى حيِّز الوجود، ولا ريب، من خلال تعرُّض المولود المطَّرد لكلام أسلافه (ككلام الوالدين كلامًا نموذجيًّا). ومن هذا الخصوص، نرى ابن خلدون ذاتَه يستخدم الصيغة الاسمية "المنوال" the loom استخدامًا مجازيًّا (أو استعاريًّا) للدلالة بها على المغزى من الصيغة الاسمية "الزِّواد" apparatus المذكورة، كما سيتمّ توضيحه بعد هنيهة، ونراه (أي ابن خلدون) يستعمل الصيغة الفعلية "نَسَج" to weave استعمالاً مجازيًّا (أو استعاريًّا)، كذلك، للدلالة بها على الفحوى من الصيغة الفعلية "ولَّد" to generate المذكورة، أيضًا، كما يمكن فهمه فهمًا جليًّا ممّا يكتبه هو نفسه عن الظاهرة نفسها[27]. يتابع ابن خلدون، قائلاً:
إن حصولَ مَلَكةِ اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ [أي حفظ الطفل] من كلام العرب حتى يرتسمَ في خياله المنوالُ الذي نسجوا عليه تراكيبَهم فينسج هو عليه[28].
من هنا، يكشف هذا البيانُ النقابَ عن نقطة المقارنة اللسانية الأخيرة التي سيُعمد إلى إجرائها في نهاية هذا القسم، فيما يتعلَّق بابتطان (أو تذويت) اللغة. إذ تشير النقطة المعنيّة إشارةً جليّة إلى بيان ابن خلدون، بالذات، واستخدامه المجازيِّ (أو الاستعاريّ) للصيغة الاسمية "المنوال" the loom، نظرًا لنقشه الباطنيِّ الجِدِّ قابلٍ للإدراك بمثابة زِوادٍ ذهنيٍّ mental apparatus (مهما يكن نوعه)، "زِوادٍ" يمكِّن المتكلِّمَ الفطريَّ من "نَسْج" weaving (أو من "توليد" generating) تراكيبَ (أو عباراتٍ) جديدة، كما تمَّ ذكره توًّا (انظر، أيضًا، الحاشية: 27). فعند الانطباعة الأولى، إذن، من المحتمل جدًّا أن يوحيَ التشكيلُ الصريحُ explicit configuration لهذا "الزِّواد" الذهنيِّ إلى تلقيبٍ ضمنيٍّ implicit denomination كان يدور في "لاوعي" ابن خلدون، فحسب، لما يمكن الاصطلاحُ عليه الآن بـ"زِواد اكتساب اللغة" language acquisition apparatus، تلقيبٍ ضمنيٍّ يبدو، لهذا السبب، جِدَّ قابلٍ للتناظر بالتسمية المتوطِّدة كلَّ التوطُّد في "وعي" تشومسكي، والحال هذه، لما يصطلح عليه بـ"جِهاز اكتساب اللغة" language acquisition device، ناهيك، بالطبع، عن إصرار هذا الأخير على استخدام المصطلح ذاته في كتاباته اللسانية الأخيرة[29]. وفضلاً عن ذلك، بما أن المَلَكة اللسانية، بحسب مفهوم ابن خلدون، هي، في لُبِّ الأمر، جِبِلَّةٌ تتناقلها الأجيالُ الأصغر سنًّا عن الأجيال الأكبر سنًّا تناقُلاً طبيعيًّا، فإن "الحالة البَدَرية" incipient state لهذه المَلَكة اللسانية لمشروطةٌ شرطًا وراثيًّا (أو جينيًّا)، لأسباب واضحة، في هيئة "زِوادِ اكتساب اللغة" (أو "المنوال" الذهنيِّ نفسه). وعلى نحو مماثل، كذلك، كان تشومسكي، ولا يزال، يتحدّث على الدوام عن "الحالة البَدَهية" initial state لمَلَكة اللسان، تلك الحالة البَدَهية التي تتجلّى، بحسب مفهومه، كسَجِيّة محتومة حتمًا حيويًّا (أو بيولوجيًّا)، أيضًا، في صورة "جِهازِ اكتساب اللغة" (أو "الجهاز" الذهنيِّ عينه)، بحيث إن مقامَ الجهاز هذا يواشجُ التجربةَ المفروضةَ imposed experience (قا: التعرُّض المطَّرد، أو "كثرة الحفظ" multitudinous memorization، على حدِّ قول ابن خلدون) بمقام الحالة المُحْرَزة attained state للُّغة المعنية قيد الاكتساب. يقول تشومسكي:
من العسير أن نتفادى الموضوعةَ القائلة بأن جزءًا من الإيهاب الحيويِّ (أو البيولوجيّ) للإنسان هو "عضوٌ لغويٌّ" مختصٌّ [نصطلح عليه بـ] "مَلَكة اللسان" (م. ل.). [....] ففي وسعنا أن ننظر إلى الحالة البَدَهية لمَلَكة اللسان هذه باعتبارها جهازًا يواشج التجربةَ [المفروضةَ] بالحالة المُحْرَزة للُّغة "ل" [أو بصفتها] "جِهازَ اكتسابٍ للُّغة" (ج. ا. ل.)[30].
وهكذا، وبالنظر اليقينيِّ إلى التماثُل اللافت بين "المنوال" الذهنيِّ (أو "زِواد اكتساب اللغة" عند ابن خلدون) وبين "الجهاز" الذهنيِّ (أو "جِهاز اكتساب اللغة" عند تشومسكي)، يتبيَّن أن "الحالة البَدَرية" للمَلَكة اللسانية (تبعًا للأوّل) أو "الحالة البَدَهية" لمَلَكة اللسان (وفقًا للأخير)، تلك الحالةَ التي يمثِّلها تمثيلاً سَبْقيًّا a priori ذلك "المنوال" الذهنيُّ أو "الجهاز" الذهنيُّ، في حدِّ ذاته، يتبيَّن أنها حالةٌ تشير إلى حتميَّتها الشمولية (أو الكلِّية)، دونما ريبٌ، بغضِّ الطِّرف عن أيِّ عاملٍ ليس له مِساسٌ لسانيٌّ ولا لغويّ، في هذه القرينة (كعامل العِرْق أو السُّلالة race وعامل الجنس أو الجُنوسة gender وعامل الجنسانية أو السلوك الجنسيّ sexuality، وغيرها من العوامل). يعني ذلك، بتعبير آخر، أن "الحالة البَدَرية" أو "الحالة البَدَهية" المتكلَّمَ عنها، بهذا الصدد، لحالةٌ تضعُ التوكيدَ، من جديد، على لامِساسيّتها المنطقية بالمَرْهَصة المَشاعية communal status للمتكلِّم-السامع (أو بمنزلته الاجتماعية social status، بالحريّ)، فهي بالتالي حالةٌ تضعُ التشديدَ ثانيةً، كذلك، على التلاشي الطبيعيِّ لجميع أشكال الصراع الإنسانيِّ human conflict، والحال هذه، سواء كان هذا الصراعُ الإنسانيُّ صراعًا مجتمعيًّا (لسانيًّا) أو صراعًا مشترَكيًّا (كلاميًّا) أو حتى صراعًا طبقيًّا (اجتماعيًّا)، كما تمّ التنويه عنه آنفًا في هذا القسم.
4. اظطهار اللغة Language externalization
كما سبق ذكره في القسم الرئيسيّ الأوّل من هذه الدراسة (أي القسم: 2)، فإن الاهتمام الأساسيَّ الآخرَ لعالِم اللسان، بحسب مفهوم كلٍّ من ابن خلدون وتشومسكي، هو أن يركِّز انتباهَه على الخصائص البنيوية (أو التركيبية) المحض للجُمَل sentences (أو التعابير اللغوية linguistic expressions، بالأقْمَن) –على خلاف دو سوسور وتوكيده على الخصائص التفاضلية للدواليل signs. يدلُّ اظطهارُ (أو تجسيم) اللغة، إذن، على أن هذا المتّصلَ الشائك أو هذه السيرورةَ الشائكة لمُتاحان كلَّ الإتاحة تحت تصرُّفِ المتكلِّم الفطريِّ من أجل التمثيل الفعليِّ للمَلَكة اللسانية (أو مَلَكة اللسان). إذ يتجلّى هذا التمثيل الفعليُّ في صورةِ ما يصطلح عليه تشومسكي بـ"الأداء اللغويّ" linguistic performance أو في هيئة ما يصطلح عليه ابن خلدون بـ"التصرُّف اللغويّ" linguistic behaviour، ذلك المصطلح الذي تمّ اشتقاقُه من الصيغة الفعلية "تصرَّف" to behave/act التي استخدمها ابن خلدون ذاتُه في بياناته، كما سترى عمّا قليل. وهكذا، ففي حين أن المَلَكة اللسانيةَ، بحسب تنظير تشومسكي، تشيرُ إلى ما يعرفه المتكلِّمُ-السامعُ من معرفة فعلية actual knowing (وأن القصدَ من هذه المعرفة الفعليةِ هو أنها معرفةٌ لاواعيةٌ لا معرفة واعية –انظر أعلاه)، يوحي الأداءُ اللغويُّ، والحال هذه، إلى ما يؤدّيه المتكلِّم-السامع نفسُه من أداءٍ فعليٍّ actual doing إبّانَ تأييضه metabolizing (أو استقلابه processing) اللغةَ المعنيةَ قيد الاكتساب[31]. وعلى فَرْض أن البحث اللسانيَّ الكفيءَ يقتضي ثلاثًا من الضرورات الموضوعية للأمْثَلَة النظرية التي تمّت مناقشتها في القسم السابق (أي أمْثَلَة المَلَكة وأمْثَلَة المتكلِّم-السامع وأمْثَلَة المجتمع)، فإن اظطهارَ (أو تجسيم) اللغة بعينه ليدلُّ، كذلك، على نوع من التَّمْدِية المُؤَمْثَلَة idealized reification لهذا المتّصل الشائك أو هذه السيرورة الشائكة، وذلك من خلال الأعمال الداخلية لجِهاز اكتساب اللغة (ج. ا. ل.)، ذلك الجهاز الذهنيِّ الذي يُعِينُ المتكلِّمَ-السامعَ المقصودَ على تأييض (أو استقلاب) لغته الأمِّ في أسلوبيها النظميَّيْن المتباينين، أسلوب الإدراك وأسلوب الإنتاج. وفي هذه القرينة، يقول تشومسكي: "فحينما ندرس لغةً من اللغات [دراسةً علميةً]، إذن، ينبغي علينا أن نحاول في فَصْلِ تنويعةٍ من العوامل التي تتداخل في [عمل] المَلَكة (اللسانية) التحتية لكي يتسنّى لنا تحديدُ، أو تحتيمُ، الأداءِ (اللغويِّ) الفعليّ"[32]. وممّا لا ريبَ فيه، فإن تنويعةً من العوامل، كهذه، لهي التي تشير إلى "تلك الشروط ["الواقعية"] التي لا تمتُّ للنحو أو للقواعد بأيّة صلةٍ، كمحدودية الذاكرة وشُرودية الفكر"، وغير ذلك، كما تمّ الاستشهادُ به من قبل.
وبما أن ابن خلدون، من طرفه، يتبنّى الفكرة القائلةَ بأن الإلمامَ المتعمَّد بـ"القوانين العلمية [أو القواعد النحوية] التي استنبطها أهلُ صناعة اللسان" يتواجد في حيِّز يقع خارجَ المجال المحدَّد لعملية اكتساب اللغة، فإن التمييزَ المقصود بين "المَلَكة اللسانية" و"التصرُّف اللغويّ" ليتكشَّف، كذلك، عن التمييز المتطابق بين ما يعلمه المتكلِّمُ-السامعُ من عِلْم فعليٍّ actual cognizing (أي علم لاواعٍ –انظر أعلاه) وبين ما يعمله هذا المتكلِّمُ-السامعُ من عَمَل فعليٍّ actual working، أثناءَ تأييضه (أو استقلابه) اللغ
غياث المرزوق
1. مقدمة
لقد دعت الضرورة الموضوعية، في هذا الزمن العصيب، إلى طرح سلسلة من المناظرات المقارنة في ما تمكن عنونته بـمطابقات في التنظير اللساني، مناظراتٍ غايتها الوحيدة، من هذه الزاوية على الأقل، هي إلفات نظر القارئ إلى المدى الكبير الذي تتطابق فيه مجموعة من النظريات اللسانية العربية (في الماضي)، من طرف، مع مجموعة مقابلة من النظريات اللسانية الأمريكية والأوربية (في الحاضر)، من طرف آخر. وهكذا، ومن خلال التوكيد على الجوانب الأكثر فاعليةً من هذه النظريات، فيما يظهر، فإن الحاجة إلى البحث الجاد في الـمطابقات المعنية تغدو أكثرَ مَسيسًا حتى، في هذا الزمن الحَرِج، وبالأخصِّ حين يبلغ ذلك التوتُّرُ غيرُ المُراد بين المسمَّيَيْن زعمًا "الشرق" و"الغرب" منتهاه، وياللأسف! وينبغي التذكير هنا، مع ذلك، بألا يتمَّ النظرُ إلى مطابقاتٍ كهذه وكأنها أشكالٌ من التداعي الرومانسي المُكبَّل في إسار ذكرياتٍ حنينية أو حُنانية عن ماضٍ "جميل". الـمطابقاتُ المعنية محاولاتٌ جادَّةٌ في إقامة الدليل الملموس على أن ثمَّة تناغمًا لافتًا بين عقول فذَّةٍ (أنّى وُلدت) فيما طرحته من أفكار حول اللغة الإنسانية، تناغمًا جِدَّ قابل للصياغة (أو الصياغات) الحوارية بغية الردِّ على سائر أنواع المتعصِّبين تعصُّبًا دينيًّا، بثُلَلِهم البالية، أو على كافة أشكال المتحزِّبين تحزُّبًا سياسيًّا، بمؤسَّساتهم القذرة، تلك الثُّلَل أو المؤسَّسات التي ليس بوسع بقائها "المتناغم"، فيما يبدو، إلا أن يكونَ مرهونًا بذلك التمييز المتعمَّد والمتفكَّر فيه "عن رويَّةٍ" بين مبتنياتٍ استيهامية كما "الشرق" و"الغرب". وإن كان لابدَّ من بداءةِ بدءٍ، في هذا الصدد، فسوف تسعى أولى هذه المناظرات المقارنة إلى معالجة بضعةٍ من القضايا المتطابقة في التنظير اللساني عند كلٍّ من ابن خلدون (1332-1406) وتشومسكي (1928).
في الجزء الأخير من كتابه الموسوعي المقدِّمة (وهو جزءٌ يضمُّ مداخلَ معمَّقةً لمختلف العلوم الإنسانية والطبيعية والإلهية)، ألَّف ابن خلدون عددًا من الفصول في طبيعة الكلم ومشكلاته، يمكن إدراجُها الآن تحت عنوان مقدِّمة في اللغة، ويمكن النظرُ إليها، من ثمَّ، بوصفها مبحثًا علميًّا تخصُّصيًّا قائمًا بذاته. وعلى الرغم من كونه مبحثًا يطرح مسائل وثيقة المِساس بالتفكير اللغوي المعاصر، بوجه العموم، إلا أنه لم يسترع من الباحثين، فيما يبدو، اهتمامًا جادًّا ووافيًا في أيٍّ من حقول اللسانيات المقارنة، على وجه التحديد. لهذا السبب، سيُعمد في هذه الدراسة الاستهلالية إلى محاولة في سدِّ هذا الفراغ الفكري المترتِّب، وذلك من خلال الإفادة من بعض المسارات المفهومية الهادية للنظرية اللسانية الحديثة، كما سيتمُّ تبيانه في الأقسام الآتية. لقد وصف المؤرِّخُ الإنكليزي آرنولد توينبي (1889-1975) مقدِّمة ابن خلدون، ذات مرَّةٍ، على أنها "أعظمُ كتابٍ ابتكره العقلُ البشريُّ، من نوعه، في أيِّما زمان أو مكان"[1]، ذلك الوصف الذي يتَّفق على الإقرار به، دونما ريب، حتى أولئك المؤرِّخون الذين لم يلمَّ شملَهم رأيٌ واحد، والذين شنُّوا هجومًا عنيفًا على منهج توينبي الرُّوحاني في قيام الحضارات وسقوطها – خلافًا للمنهج المادي الذي انتهجه ماركس. وهكذا، إذن، فإن ذلك الوصفَ يشيرُ إلى شخص ابن خلدون بصفته، قبل كلِّ شيء، منظِّرًا أصيلاً في فلسفة التاريخ وبصفته، كذلك، منظِّرًا ألمعيًّا في علم الاجتماع وعلم الاقتصاد السياسي والجغرافيا البشرية، وغيرها من العلوم الإنسانية التي اكتسبت تسمياتٍ حديثةً كهذه في العصر الحديث. إذ لا مجال، من هذا الخصوص، لإنكار (أو حتى للطعن في) ما تركه ابن خلدون من أثر فكري كبير في فيلسوف التاريخ (الثقافي) الإيطالي جِيامْباتيستا ڤيكو (1668-1744)، وفي فيلسوف السياسة الفرنسي شارل-لويس مونْتِسْكيو (1689-1755)، وفي فيلسوف اللاهوت الألماني يوهان غوتْفريد فون هيرْدَر (1744-1803)، وفي غيرهم من الشخصيات الفكرية الأوربية الفذَّة[2]. وبالرَّغم من أن ابن خلدون لم يكن، في المقام الأول، عالِمًا لسانيًّا فريدًا، كما هي الحالُ في العديد من معاصريه وأسلافه القروسطيين، إلا أنَّ في نفاذِ بصيرته من ضُروبٍ من قضايا لسانية كانت (ولاتزال) من الأهمية بمكانٍ، ما يسوِّغ قَمانَتَه، فعلاً، بالنظر الجادِّ إلى ما أصدره، هو ذاته، من بياناتٍ (وإن لم تكن بياناتٍ يسيرةَ المِراس)، وخصوصًا على ضوء ما يُسمّى بنظرية "القواعد الشمولية (أو الكلِّية)" universal grammar، تلك النظرية التي تتبدّى، فيما يبدو، على أنها أشدُّ نظريةٍ تأثيرًا وتنفُّذًا في أيٍّ من فروع اللسانيات العامَّة، في هذا الزمن. فالهدف الأساسيُّ من هذه الدراسة المقارنة، إذن، هو تسليط الضوء على بضعةٍ من أوجهٍ جدِّ مغمورةٍ من تنظير ابن خلدون حول ظاهرة اللغة، أوجهٍ تتكشَّف بجدِّ قابليَّتها للمقارنة، فيما يظهر، بنظائرها المفهومية في إطار تنظير تشومسكي حول الظاهرة ذاتها. وعلى اعتبار أن ثمَّة حقبةً من الزمان تفصل المجتمعَ الذي عاش فيه ابنُ خلدون عن المجتمع الذي يعيش فيه تشومسكي (تلك الحقبةَ التي تمتدُّ إلى أكثرَ من ستة قرون)، يتجلى التشابه الفكريُّ اللافت بين المفكِّرَيْن، من خلال هذه الدراسة المقارنة، يتجلى بصفته دليلاً من الدلائل على حقيقةِ أن لا شيءَ يقف حائلاً دون تلاقي الأفكار، مهما تكن، بغضِّ النظر عن أيِّما "اختلافٍ" كائن بالفعل أو كائنٍ بالقوة بين مُبْتَدَعاتٍ خيالية كما "الشرق" و"الغرب".
تقع هذه الدراسة المقارنة في ثلاثة أقسام رئيسية، يُعنى كلٌّ منها بمبتنىً محوري بغية التحليل المقارن. فأما القسم الأول منها (أي القسم: 2)، فسيناقش مبتنى ما تمكن تسميته بـ"أثْنَنَةِ اللغة" language dichotomization، وذلك من أجل تحديد ماهية تلك الثنائية dichotomy التي افترضها تشومسكي من بين عددٍ من الثنائيات التراهُصية (كثنائية "الحازة-الأداء" competence-performance وثنائية "اللغة الباطنية-اللغة الظاهرية" I-language-E-language، وغيرهما)[3]، والتي قد تتطابق تطابقًا مفهوميًّا مع ذلك التمييز الذي وضعه ابن خلدون بين "اللسان" language (بمعناه المُعَمَّم) وبين "اللغة" a language (بمعناها المُخَصَّص)، إذ سيتمُّ النظر إلى التطابق المفهومي هذا من منظور بنيوي (أي تركيبي) محض. وأما القسم الثاني منها (أي القسم: 3)، فسيشرح مبتنى ما يمكن دعاؤه بـ"ابتطان اللغة" language internalization، وسيعيِّن بذلك اللغةَ الإنسانية بوصفها ظاهرةً نفسية/ذهنية، كما يراها كلٌّ من تشومسكي وابن خلدون (خلافًا لما يراها دو سوسور)، إذ سيفضي هذا التعيين إلى إلقاء الضوء على المقايسة المفهومية بين فكرة "الحازة اللسانية" linguistic competence عند تشومسكي وبين فكرة "المَلَكة اللسانية" linguistic faculty عند ابن خلدون (انظر، أيضًا، الحاشية: 3). وسيقتضي هذا التعيين، كذلك، عَرْضًا مقارنًا لبضعةٍ من القضايا الفرضية المنضوية، كمفهوم الأمْثَلة idealization أو التمام perfection، وطبيعة المعرفة اللسانية (التي تكمن وراء الحازة/المَلَكة)، ونوعية الآلية (أو الآليات) الأساسية/التحتية التي تسيِّر هذه المعرفة. وأما القسم الثالث والأخير منها (أي القسم: 4)، فسيدرس مبتنى ما يمكن الاصطلاح عليه بـ"اظطهار اللغة" language externalization، وسيعرِّف بذلك طبيعةَ المعرفة اللسانية بطابع تَمْدِيَتها في بنى (أو تراكيب) الخطاب الفعلي، إذ سيؤدي هذا التعريف إلى تسليط الضوء على المقايسة المفهومية الأخرى بين فكرة "الأداء اللغوي" linguistic performance عند تشومسكي وبين فكرة "التصرُّف اللغوي" linguistic behaviour عند ابن خلدون. وسيستلزم هذا التعريف، أيضًا، شَرْحًا مقارنًا لبضعةٍ من المسائل الفرضية التابعة، كافتراض أسبقية النحو syntax المنطقية، ومفهوم الحُيُودية deviancy أو اللاحُيُودية non-deviancy، والتمثيل المادي أو الإحساسي لهذا المفهوم. أخيرًا، سيُعمد، من خلال التعليل والتحليل اللسانيين، إلى إقصاء جميع التفاصيل الفنية الشائكة، وذلك استئناسًا بالبساطة والوضوح.
2. أثْنَنَة اللغة Language dichotomization
قبلَ بزوغ اللسانيات الحديثة في مطلع القرن العشرين، يظهر أن جُلَّ ما جرت العادةُ على تسميتهم بـ"فقهاء اللغة" (أو "الفيلولوجيين") كانوا قد سنَّدوا تلك النظريات التخمينية التي حاولت أن تفسِّر أصل اللغة، بوصفها ظاهرة إنسانية، وذلك استنادًا إلى ما هو معروف بـ"حكاية الصوت" أو "المحاكاة الصوتية" onomatopoeia، بمعنى أن ثمة رابطًا جناسيًّا-صوتيًّا نظاميًّا (أو "مبرمجًا") يربط بين كلٍّ من ماهية الدَّال signifiant وماهية المدلول signifié، على حدِّ اصطلاح العالِم اللساني السويسري دو سوسور (1857-1913). وتفنيدًا لسائر النظريات التحزُّرية هذه، إذن، وضع دو سوسور التوكيدَ على اعتباطية (أو جُزافية) الصلة التي تصل بين هاتين الماهيتين، وعلى غياب طابعها الجناسي-الصوتي، بوجه العموم. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، ليست توجد ثمَّة، من قريب أو بعيد، أيَّة سمةٍ "خِنْزيرية" pig-like أو سمةٍ "خِنَّوْصِية" piglet-like يمكن استشفافهما من كلمة "خِنْزير" pig أو كلمة "خِنَّوْص" piglet، على الترتيب[4]. وقُصارى القول، لقد أدى تفنيدٌ كهذا بدو سوسور إلى تعريف اللغة الطبيعية (أي الإنسانية) على أنها نظامٌ تفاضليُّ لدواليلَ signs، ليس إلا، بحيث يجسِّد كلٌّ من هذه الدواليل رابطةً اعتباطية (أو جُزافية) تربط بين مقوِّمه المادي أو الإحساسي الذي يحدِّد الدالَّ، من جهة، وبين مقوِّمه المعنوي أو الإدراكي الذي يعيِّن المدلولَ، من جهة ثانية. ووفقًا لذلك، طرح دو سوسور ثنائيته الشهيرة "اللغة-الكلام" langue-parole لكي يشدِّد على البعدين المتميِّزين للغة الطبيعية (أو الإنسانية)، في حدِّ ذاتها. فمن طرف، يتجلَّى التمثيلُ اللافيزيائيُّ لـ"اللغة" langue بوصفه تمثيلاً (مجرَّدًا) يشتمل، بكلانيته، على سائر العادات اللغوية التي تسنَّى لها البقاءُ في مجتمع من المجتمعات أو في مشترَك من المشترَكات. ومن طرف آخر، يتبدَّى التحقيقُ الفيزيائيُّ لـ"الكلام" parole بكونه تحقيقًا (ملموسًا) يحتوي، بجزآنيته، على أية مصفوفة قابلةٍ للرصد من الأفعال الكلامية التي ينتجها الفردُ في المجتمع نفسه أو في المشترَك عينه[5]. وبالتالي، فإن ما يسعى إليه دو سوسور، في إطار منهجه في التحليل اللساني-البنيوي، هو، في حقيقة الأمر، استكشافُ مستوى "اللاوعي الجمْعي" للغة الإنسانية وما تكمِّنه ظاهرةٌ كهذه من كُمونية محتَّمة تحتيمًا طبيعيًّا، على الصعيد الاجتماعي أو المجتمعي[6].
وفي إطار منهجه في التحليل اللساني-التوليدي، يعرِّف تشومسكي، بدوره، ماهيةَ اللغة الطبيعية (أو الإنسانية) بصفتها نظامًا ابتكاريًّا لقواعدَ متناهيةٍ finite rules (قا: "نظام الدواليل التفاضلي" عند دو سوسور)، نظامًا مستترًا أو مضمَرًا يمكِّن المتكلِّم الفطري (أي الناطق بلغته الأم) من إدراك، ومن ثم إنتاج، عددٍ لامتناهٍ من الجُمل التي تنحو منحاةَ القواعد المتناهية بعينها، حتى لو لم يسبق لبعض هذه الجُمل أن سُمعت أو قيلت على أرض الواقع[7]. وحسبما يرتئيه تشومسكي، إذن، فإن الغاية الجوهرية من هذا التعريف هي إلقاءُ الضوء على الجانب النفسي أو الفردي للغة على حساب جانبها الاجتماعي أو الجمعي (بحسب مفهوم دو سوسور)، وذلك من جرّاء المجيء بفكرةٍ استبطانيةٍ introspective حول المنظومة الاشتقاقية التي تؤدي عملها في حيِّز "وسائطيٍّ" يقع تحت مستوى الوعي. وهكذا، فيما يظهر، تتكشَّف المنظومة الاشتقاقية هذه، بقدر ما تؤدي وظيفتها على هذه الشاكلة، تتكشَّف عن مَنْظِم مُبْتَطَنٍ (أو مُذَوَّتٍ) internalized ordinance، إذا جاز التعبير، مَنْظِمٍ تُفَسَّر واقعيَّتهُ الذِّهنية تفسيرًا سَبْقيًّا ويُنْظَر إليها من منظور ما يُعْرَف بـ"القواعد الشمولية (أو الكلِّية)" universal grammar. إذ إن ما يرمي إليه تشومسكي، من وراء هذا التفسير، هو إدلاؤه بفرضية كانت، ولا تزال، من الأهمية بمكان، تلك الفرضية القائلة بأن اللغاتِ الإنسانيةَ بأسرها تتقارب في تطبيق مصفوفةٍ من المَبادئ العامة general principles التي يُمْليها اللبُّ الخفيُّ لبنيان القواعد الشمولية (أو الكلِّية) تلك، على حين أن القشرةَ الجليةَ للبنيان ذاته، فضلاً عن ذلك، يتمُّ تعليلُها بموسوميةِ markedness مجموعةٍ من المَناهي الخاصة particular parameters التي تتبدّى كتمثيلاتٍ (تجريبية) لمصادفاتٍ تاريخية، ليس إلا. وعلى ذلك، ففي إطار الأنموذج الرئيسي الأول للقواعد الشمولية (أو الكلِّية) الذي ساد حتى السبعينيات من القرن العشرين (ألا وهو: أنموذج القواعد التوليدية-التحويلية transformational-generative grammar)، كان المفهوم القياسيُّ (أو المعتمَد) للمنظومة الاشتقاقية تلك يقتضي إدماجَ (أو توظيفَ) مستويَيْن متميّزَيْن من مستويات التمثيل البنيوي (أي التاريخ الاشتقاقي): أولاً، مستوى البنية السَّطْحية surface structure التي ينتج عنها خَرْجُ المكوِّن النحوي syntactic component، من طرفٍ، فيتبدّى بذلك دَخْلُ المكوِّن الصوتي phonological component، من طرف آخر؛ وثانيًا، مستوى البنية العُمْقية deep structure التي يتمخَّض عنها خَرْجُ المكوِّن المُعْجَمي lexical component، من جهةٍ، فيتجلّى بذلك دَخْلُ المكوِّن الدَّلالي semantic component، من جهة أخرى[8]. فمنذ أن تمَّ الإدماجُ (أو التوظيفُ) الأوليُّ لمستويَيْ التمثيل البنيوي هذين في ثنايا المنظومة الاشتقاقية عينها، كان كلاهما، في حقيقة الأمر، موضعَ ممارياتٍ لاذعة عنيفة ما بين علماء اللسان والفلاسفة وعلماء النفس، على حدٍّ سواء، وتلك مسألةٌ لن يُصارَ إلى الخوض في غمارها في هذه الدراسة[9].
غير أن ما له مِساسٌ وثيقٌ، في هذه القرينة، هو فحوى تلك الثنائية الشهيرة "الحازة-الأداء" competence-performance التي طرحها تشومسكي، في جملة ما طرح، من جرّاء ما يستلزمه استلزامًا نظريًّا التحليلُ اللساني-التوليدي القياسي (أو المعتمَد) للمنظومة الاشتقاقية ذاتها (انظر الحاشية: 3). إذ يظهر أن ثنائية تشومسكي "الحازة-الأداء" هذه لا تحيد حيودًا مفهوميًّا عن ثنائية دو سوسور "اللغة-الكلام"، في الجوهر، خلا أن الجانب الذهنيَّ للغة الطبيعية (أو الإنسانية)، هنا، يسترعي اهتمامًا أكثرَ مما يسترعيه جانبها اللاذهنيُّ المقابل، كما سبق ذكره[10]. فمن طرف، يشير التمثيل المُؤَمْثَلُ idealized لـ"الحازة اللسانية" إلى معرفة المتكلِّم المكنونة (أو الكَنينةِ tacit) بلغته الأم، بحيث إن النظام الابتكاريَّ للقواعد المتناهية، المنوَّه عنه آنفًا، يبيحُ لهذا المتكلِّم سهولةَ مَنالٍ لامتناهٍ من مختلف الجُمَل النحوية أو القواعدية grammatical sentences، بعموميَّتها (قا: فكرة "العادات اللغوية" عند دو سوسور). ومن طرف آخر، يدلُّ التحقيق المُمَدّى materialized لـ"الأداء اللغوي" على تنفيذ ذلك المتكلِّم الفعليِّ، وإن كان تنفيذًا جزئيًّا، لمعرفته المكنونة (أو الكَنينة) بلغته الأم تلك، تنفيذٍ قابلٍ للرصد في المدى الملموس لما ينطقه المتكلِّم ذاته من القَوْلات الخِطابية أو الذرائعية pragmatic utterances، بخصوصيَّتها (قا: فكرة "الأفعال الكلامية" عند دو سوسور). وفي واقع الأمر، فإن الأساس النظريَّ لثنائية تشومسكي "الحازة-الأداء" تلك لا يزال له أثرٌ، والحال هذه، في التمييز التناظريِّ الذي وضعه (أي تشومسكي)، فيما بعد، بين ما يسميه بـ"اللغة الباطنية" (أو "اللغة-ب" I-language) وبين ما يدعوه بـ"اللغة الظاهرية" (أو "اللغة-ظ" E-language)، على التوالي، وذلك في إطار الأنموذج الرئيسيِّ الثاني للقواعد الشمولية (أو الكلِّية) الذي كان قائمًا في الثمانينيات من القرن المنصرم (ألا وهو: أنموذج المَبادئ والمَناهي principles and parameters). إن هذا التمييز التناظريَّ الأخير، إذن، لهو التمييزُ الذي يحدِّد الهدف الأساسيَّ من منظومة القواعد الشمولية (أو الكلِّية)، على ما يبدو: فبينما يُراد بـ"اللغة الباطنية" متصلٌ لسانيٌّ أو سيرورةٌ لسانيةٌ يتمثَّلان تمثُّلاً باطنيًّا من خلال اقترانهما بأيِّ فردٍ كان، وذلك على فَرْض أن اللغة المُرادةَ خاصيةٌ من خصائص العقل/الدماغ البشري، يُقْصَد بـ"اللغة الظاهرية" متصلٌ لغويٌّ أو سيرورةٌ لغويةٌ يتحقَّقان تحقُّقًا ظاهريًّا من جرّاء اقترانهما بمجتمعٍ ما أو بمشترَكٍ ما، وذلك على فَرْض أن اللغة المقصودةَ، والحال هذه، مستقلَّةٌ استقلالاً تامًّا عن مكنونات العقل/الدماغ البشري[11]. وبالتالي، فإن الهدف الأساسيَّ من منظومة القواعد الشمولية (أو الكلِّية) هو تسليطُ الضوء على طبيعة اكتساب اللغة language acquisition، في حدِّ ذاتها، فهو بذلك تحديدٌ (أصليٌّ) لمصفوفة المبادئ اللُّبِّيةِ core principles التي يتمُّ تطبيقُها تطبيقًا أدنويًّا، من جهة، وتخصيصٌ (فرعيٌّ) لمجموعة المناظم المعرفية cognitive orders التي يُصار إلى استخدامها استخدامًا "أعلويًّا"، من جهة ثانية.
فبالنظر إلى الغرض المحوريِّ من منظومة القواعد الشمولية (أو الكلِّية)، يتبيَّن أن ثمة مستويَيْن من مستويات الكَفاء النظريِّ على الأقل، فيما يظهر، مستويَيْن ينبغي على أيَّة نظرية لسانية كفيئةٍ أن تفيَ بشروطهما، على أكمل وجه: أولاً، ما يُسمّى بـ"الكفاءة الوصفية" descriptive adequacy، تلك الكفاءةِ التي تصف وصفًا وافيًا أو صحيحًا الكيفَ (أو الكيفيةَ، بالأحرى) التي يتمُّ بها اكتسابُ، ومن ثمَّ استعمالُ، مفترقِ اللغات الإنسانية (مهما بلغت في العُسْر من مبلغ)؛ وثانيًا، مايُدعى بـ"الكفاءة الشرحية"explanatory adequacy ، تلك الكفاءةِ التي تشرح شرحًا مفصَّلاً أو دقيقًا السببَ (أو السببيةَ، بالأقمن) في حيازة مختلفِ اللغات الإنسانية هذه على الخصائص المشترَكة التي تتبدّى فيما بينها. ناهيك من حقيقةٍ مُفادُها بأن مستويَيْ الكَفاء النظريِّ هذين لا يزالان مسألتَيْن على بساط البحث اللسانيِّ (الراهن)، وذلك في إطار الأنموذج الرئيسيِّ الثالث للقواعد الشمولية (أو الكلِّية) الذي بدأ الإعرابُ عنه في التسعينيات من القرن الفائت (ألا وهو: أنموذج أو، بالحريِّ، برنامج الاشتقاق الحدِّي-الأدنوي the minimalist program)[12]. يعني ذلك، بكلمات أُخَر، أن الغاية الجوهريةَ من منظومة القواعد الشمولية (أو الكلِّية) هي الانكبابُ على الوصف النظريِّ الوافي للغةٍ معيَّنة من اللغات الإنسانية (كاللغة الإنكليزية واللغة الدنماركية واللغة الفرنسية، إلخ)، من طرف، والتعهُّد بالشرح النظريِّ المفصَّل لمنظومة القواعد الشمولية (أو الكلِّية) برمَّتها (أي تلك المنظومة الفوقية التقاربية على اعتبارها خَلَّةً متأصِّلةً inherent quality للُّغات الإنسانية قاطبةً)، من طرف آخر. ووفقًا لذلك، فإن التمييز الضمنيَّ الذي يلمِّح إليه تشومسكي، هاهنا، بين "اللغة" التي يمكن جمعُها (فرعًا) a language و"اللغة" التي يستحيل جمعُها (أصلاً) language لجِدُّ قابلٍ للمقارنة بالتمييز الصريح الذي يضعه لاكانُ بين "اللغة" langue (بمغزاها التخصيصيِّ) و"اللسان" langage (بمغزاه التعميميِّ)، على الترتيب، في إطار منهجه في التحليل النفسي "مابعد البنيوي"، كما تمَّ ذكره آنفًا (انظر الحاشية: 5). إن هذا التمييز التشابهيَّ الجليَّ، إذن، لهو التمييزُ الذي يردِّد أصداءَ ذلك التمييزِ غير المُلاحَظٍ، فيما يبدو، الذي طرحه ابن خلدون بين "اللغة" a language (بمعناها المخصَّص) و"اللسان" language (بمعناه المعمَّم)، على التوالي، في ثنايا الجزء الأخير من مقدِّمته مقدِّمة في اللغة. وتوخِّيًا لسهولة الشرح، من هذا الخصوص، سيُعمَد إلى استخدام مصطلحَيْ لاكان langue وlangage، المصطلحين اللذين يمكن استشفافُهما من ذلك التمييز الضمنيِّ الذي يلمِّح إليه تشومسكي، كنظيرَيْن مباشرين لمصطلحَيْ ابن خلدون "اللغة" و"اللسان"، على الترتيب. لاحظ، في هذه القرينة، كيف أن ابن خلدون يميِّز تمييزًا صريحًا بين هذين المصطلحين، قائلاً:
اِعلَم أنَّ اللُّغاتِ كلَّها [....] مَلَكاتٌ في اللِّسان للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام المَلَكة أو نقصانها وليس ذلك بالنظر إلى المفردات وإنما هو بالنظر إلى التراكيب[13].
يتَّضح من هذا التمييز الاستثنائيِّ الذي يضعه ابن خلدون بين مصطلحَيْ "اللغة" langue و"اللسان" langage وضعًا صريحًا ("صريحًا" بمعنى صياغة المصطلح الأول بصيغة الجمع المخصَّص وصياغة المصطلح الأخير بصيغة المفرد المعمَّم)، يتَّضح بجلاء كيف أن هذا العلاّمةَ يدلي بحقيقة مُفادُها بأن اللغة الإنسانيةَ، في حدِّ ذاتها ومن تلقاء ذاتها، تتكشَّف عن عدد محدَّدٍ من السمات المتجذِّرة intrinsic characteristics التي يتَّسم بها العقل البشري. يدلُّ ذلك على أن نوعيةَ التعابير اللغوية linguistic expressions (أو "العبارات عن المعاني"، على حدِّ قول ابن خلدون) لمشروطةٌ بنوعية المَلَكة اللسانية linguistic faculty (المَلَكة التي تتجلّى، بدورها، كجِبِلَّة محتَّمة تحتيمًا ذهنيًّا): فإذا كانت التعابير (أو العبارات) المقصودةُ "جيِّدةً" أو "قاصرةً"، فللمَلَكة التي تولِّد هذه التعابيرَ (أو العباراتِ)، عندئذٍ، أن تكون "تامَّةً" أو "ناقصةً"، على التوالي. وهكذا، فإن الاهتمام الرئيسيَّ لعالِم اللسان، بحسب مفهوم ابن خلدون، هو أن يسعى إلى استنباط ما يمكنه من بيانات قابلةٍ للتعميم حول صفات ذهنية أو عقلية معيَّنةٍ، وذلك من خلال التبصُّر الجادِّ في اللغة الإنسانية، كما هي الحال تمامًا عند تشومسكي نفسه، ذلك العلاّمةِ الذي "تأسره، في المقام الأول، إمكانيةُ تعلُّمِ شيءٍ ما من دراسة اللغة [الإنسانية]، شيءٍ يلقي الضوءَ على [عدد محدَّدٍ من] الخصائص المتأصِّلة inherent properties التي يختصُّ بها العقل البشري"[14]. وخلافًا للعلاّمة دو سوسور الذي يُعنى، في الأساس، بالجانب الاجتماعي أو الجمعي للغة الإنسانية، كما رأيت آنفًا، يظهر أن ابن خلدون وتشومسكي كليهما يتفقان في الرأي على توكيد الجانب النفسيِّ أو الفرديِّ لهذا المتصل الشائك أو هذه السيرورة الشائكة على حساب جانبهما الاجتماعي أو الجمعي. وفضلاً عن ذلك، بما أن الهدف الأساسيَّ من القواعد الشمولية (أو الكلِّية) هو تعيينُ طبيعة اكتساب اللغة، في حدِّ ذاتها، وذلك من جرّاء التمييز ذي الأهمية الكبيرة الذي تمَّ وَضْعه بين "اللغة الباطنية" (أو "اللغة-ب") وبين "اللغة الظاهرية" (أو "اللغة-ظ")، كما رأيت أيضًا، فإن مفهوم تشومسكي عما يصطلح عليه بـ"الحازة اللسانية" linguistic competence ليبدو جِدَّ قابلٍ للمقارنة، كذلك، بمفهوم ابن خلدون عما يصطلح عليه بـ"المَلَكة اللسانية" linguistic faculty (انظر الحاشية: 3)، ذلك المصطلح الذي يُصار، أيضًا، إلى صَوْغه بكلٍّ من صيغة الجمع المخصَّص وصيغة المفرد المعمَّم، كما سترى في القسم الآتي من هذه الدراسة (أي القسم: 3).
يتبيَّن من ذلك التمييز الاستثنائيِّ ذاته الذي يضعه ابن خلدون بين مصطلحَيْ "اللغة" langue و"اللسان" langage، كما في البيان المستشهَد به من قبل، يتبيَّن بجلاء، كذلك، كيف أن هذا العلاّمةَ يعرب عن حقيقة أخرى مُفادُها بأن "اللغة" (اللغةَ التي تتجلّى بوصفها عيِّنة تجريبيةً من عيِّنات "اللسان"، ليس إلا) ينبغي النظرُ إليها على أنها مصفوفةٌ لامحدودةٌ بالقوة من التعابير (أو العبارات) اللغوية linguistic expressions، بدلاً من النظر إليها على أنها (أي "اللغة") مجموعةٌ محدودةٌ بالفعل من المفردات اللغوية (أو المعجمية) lexical items. يعني ذلك، بكلام آخر، أن نوعيةَ التعابير (أو العبارات) اللغوية، وهي نوعيةٌ موقوفةٌ على نوعية المَلَكة اللسانية linguistic faculty، كما رأيت، ينبغي لها أن تُرازَ من حيثية التمثيلات البنيوية (أو التركيبية) لهذه التعابير (أو العبارات)، لا من حيثية تمثيلاتها المعجمية (أو المفرداتية). من هنا، فإن الاهتمام الرئيسيَّ الآخرَ لعالِم اللسان، بحسب منظور ابن خلدون، هو أن يركِّز انتباهَه على الخصائص البنيوية (أو التركيبية) الصِّرْف للتعابير (أو العبارات) اللغوية (قا: قولَ ابن خلدون نفسهِ "وإنما هو بالنظر إلى التراكيب")، مثلما أن المهمّةَ الأساسية لعالِم اللسان، بحسب منظور تشومسكي، هي أن يسعى إلى تصميم جهازٍ نحويٍّ-توليديٍّ محدَّد، جهازٍ بصفته "منظومةً من القواعد التي تعيِّن الأوصافَ البنيوية (أو التركيبية) structural descriptions [المَحْض] للجُمَل [أي التعابير/العبارات] تعيينًا صريحًا مستَتِمًّا بشكل أو بآخر"[15]. وعلى خلاف دو سوسور الذي ينظر إلى اللغة الإنسانية بكونها نظامًا تفاضليًّا لدواليلَ لغويةٍ ليس غير، كما سبق ذكره، يبدو أن ابن خلدون وتشومسكي كليهما يتفقان في الرأي، أيضًا، على النظر إلى اللغة الإنسانية بكونها نظامًا ابتكاريًّا لوسائلَ متناهيةٍ تخوِّل المرءَ (أو الناطق السليقيَّ) منالاً لا ينضُبُ من الاستعمال اللامتناهي، على حدِّ تعبير تشومسكي، نقلاً عن كلام الفيلسوف اللغوي الألماني ڤيلهلم فون هومبولت (1767-1835)[16]. وعلاوة على ذلك، بما أن النظام الابتكاريَّ للوسائل المتناهية هذا هو، في حدِّ ذاته، مَنْظِمٌ مُبْتَطَنٌ (أو مُذَوَّتٌ) internalized ordinance في عقل المتكلِّم الفطريِّ بمثابةِ "حازةٍ لسانية" (أو "مَلَكةٍ لسانية")، كما سبق شرحه، فإن مفهوم تشومسكي عما يصطلح عليه بـ"الأداء اللغوي" linguistic performance ليظهرُ جِدَّ قابلٍ للمقارنة، كذلك، بمفهوم ابن خلدون عما يصطلح عليه بـ"التصرُّف اللغويّ" linguistic behaviour، ذلك المصطلح الذي تمَّ اشتقاقُه من الصيغة الفعلية "تصرَّف" to behave/act التي استعملها ابن خلدون نفسُه في بياناته، كما سترى في القسم الأخير من هذه الدراسة (أي القسم: 4)
3. ابتطان اللغة Language internalization
كما تمَّت مناقشته في القسم السابق، فإن الاهتمام الأساسيَّ لعالِم اللسان، بحسب مفهوم كلٍّ من ابن خلدون وتشومسكي، هو أن يضعَ التشديد على الجانب الذهنيِّ أو النفسيِّ للغة الإنسانية –على النقيض من دو سوسور وتوكيده على جانبها الاجتماعيِّ أو الجمعي. يدلُّ ابتطانُ (أو تذويت) اللغة، إذن، على أن هذا المتصلَ الشائك أو هذه السيرورةَ الشائكة لتتواجدان في عقل المتكلِّم الفطريِّ كمنظومة تحتيةٍ لما يُشار إليه بـ"الحازة اللسانية" linguistic competence، على حدِّ اصطلاح تشومسكي، أو بـ"المَلَكة اللسانية" linguistic faculty، على حدِّ اصطلاح ابن خلدون (انظر، أيضًا، الحاشية: 3). وهكذا، فإن صَوْغَ ابن خلدون لهذا المصطلح الأخير بصيغة الجمع المخصِّص، نحو: "مَلَكات" faculties، وصَوْغَه إيَّاه بصيغة المفرد المعمَّم، نحو: "المَلَكة" faculty، كما في البيان المستشهَد به من قبل، لصَوْغان يدلان دلالةً جلية، كذلك، على أن المتكلِّم الفطريَّ السويَّ "يملك" مَلْكًا باطنيًّا (كائنًا بالقوة) ناصيةَ قدرةٍ عقلية مترسِّخة deep-seated، قدرةٍ تحدو به إلى إدراك، ومن ثمَّ إنتاج، لغته الأم، من طرف، وأن أيَّ متكلِّم فطريٍّ سويّ، مهما تكن لغته الأم، "يملك" مَلْكًا باطنيًّا (كائنًا بالقوة) ناصيةَ القدرة العقلية المترسِّخة ذاتِها، من طرف آخر. وعلى نحو مشابه، أيضًا، يميل تشومسكي إلى القول بـ"الحازات" competences (أو "اللغات الباطنية" I-languages) جمعًا، وذلك بمقتضى المعنى اللغويِّ التخصيصيِّ (أو الجزئي)، من جهة، وينزع إلى القول بـ"الحازة" competence (أو "اللغة الباطنية" I-language) مفردًا، وذلك بموجب المعنى اللغويِّ التعميميِّ (أو الكلِّي)، من جهة أخرى. وحتى في مؤلَّفاته اللسانية الأخيرة، فضلاً عن ذلك، صار هذا العلاّمةُ يشير، بنزوع أكثر، إلى "الحازة" (أو "اللغة الباطنية")، وفقًا لمعناهما اللغويِّ الأخير، بما يصطلح عليه الآن بـ"مَلَكة اللسان" the faculty of language (أو "م. ل." FL، اختزالاً)، ليطابق بذلك مطابقةً أكثر فأكثر ما يصطلح عليه ابن خلدون بـ"المَلَكة اللسانية"[17]. فمن جرّاء انتهاجه نهجَ الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650) في علم النفس العقلاني، يؤيِّد تشومسكي الفكرةَ القائلة بأن هذه "المَلَكةَ" faculty تتجذَّر جذورُها كجِبِلَّة predisposition تجذُّرًا قَبْليًّا في بنية ذهنيةٍ مستترة أو مُضْمَرة[18]. فهو (أي تشومسكي)، بهذا الانتهاج، يعارض سائرَ المفكِّرين (وبالأخصِّ التجريبيين الأقحاح rank empiricists منهم) الذين لا يعتقدون "اعتقادًا حازمًا" بوجود بنىً ما قبل-اجتماعية، كما هي الحال تمامًا عند ابن خلدون حينما يناصر الفكرةَ القائلة بأن هذه "المَلَكةَ" faculty هي، في حدِّ ذاتها ومن تلقاء ذاتها، "صفةٌ راسخةٌ deep-rooted للنفس"، على حدِّ تعبيره[19]. وفي هذا الصدد، يقول ابن خلدون جازمًا:
والمَلَكاتُ لا تحصل إلا بتكرار الأفعال لأن الفعلَ يقع أولاً وتعود منه للذات صفةٌ ثم تتكرَّر فتكون حالاً ومعنى الحال أنها صفة غيرُ راسخةٍ ثم يزيد التكرارُ فتكون مَلَكة أي صفة راسخة[20].
فبالنظر إلى الطبيعة الراسخة للمَلَكة اللسانية عند ابن خلدون (أو مَلَكة اللسان عند تشومسكي)، يظهر أنه من الضرورة بمكانٍ أن يُصار إلى التسليم (جَدَلاً) بالإعلاء النظريِّ theoretic elevation لهذه المَلَكة غيرِ اليسيرة المِراس، حقيقةً، بغيةَ السعي وراء التنقُّب عن عوالمَ لسانيةٍ ممكنة، وتلك ضرورة موضوعية جِدُّ مألوفةٍ في شتى مجالات العلوم الطبيعية. إذ يقتضي هذا الإعلاء النظريُّ للمَلَكة اقتضاءً منطقيًّا، والحال هذه، التمجيدَ النظريَّ theoretic exaltation لمالكِها (أي المتكلِّم-السامع)، ويقتضي هذا الأخيرُ اقتضاءً منطقيًّا، بدوره، المُساماةَ النظريةَ theoretic sublimation للمجتمع أو المشترَك الذي يعيش فيه. لهذا السبب، صار تشومسكي يعرب عن هذه الضرورات الموضوعية مرارًا وتكرارًا، دونما ذَعَنٌ أو هُدونٌ، منذ أن شيَّد، بادئ ذي بدء، صَرْحَ النساخة القياسية (أو المعتمَدة) لأنموذج القواعد التوليدية-التحويلية في أوائل الستينيات من القرن الماضي (أو قبل ذلك حتى). بناءً على ذلك، يضع تشومسكي، هاهنا، التوكيدَ على ثلاثٍ من الضرورات الموضوعية فيما له مِساسٌ بالأمْثَلَة النظرية theoretic idealization، ضروراتٍ ثلاثٍ يمكن إعادة صياغتها من كلامه المستشهَد به في أحايين كثيرة، على النحو التالي: أولاً، إن المَلَكةَ ذاتَها لَمَلَكةٌ مثاليةٌ، بمعنى أنها تتكشَّف عن "معرفة [تامّة] للِّسان [وعن تطبيقها] في الأداء الفعلي". وثانيًا، إن المتكلِّمَ-السامعَ نفسَه لمتكلِّمٌ-سامعٌ مثاليٌّ، أيضًا، بمغزى أنه "غيرُ متأثِّرٍ بتلك الشروط ["الواقعية"] التي لا تمتُّ للنحو أو للقواعد بأيّة صلةٍ، كمحدودية الذاكرة وشُرودية الفكر"، وغير ذلك. وثالثًا، إن المجتمعَ الذي يعيش فيه المتكلِّمُ-السامعُ لمجتمعٌ مثاليٌّ، كذلك، بفحوى أنه يمثِّل تمثيلاً نظريًّا، والحال هذه، "مشترَكًا كلاميًّا متجانسًا تجانُسًا كاملاً"[21]. ومما يثير العَجَبَ كلَّ العَجَبِ، من هذا الخصوص، هو أن الضروراتِ الموضوعيةَ للأمْثَلَةِ النظريةِ الثلاثَ هذه لجِدُّ قابلةٍ للإدراك اليسير ممَا يكتبه ابن خلدون نفسه عن الظواهر (اللسانية) عينها. وهكذا، نراهُ يتحدَّث حديثًا صريحًا عن "تمام المَلَكة" (أو "المَلَكة التامة" perfect faculty)، ونراهُ يتكلَّم كلامًا جليًّا، كذلك، عن صَحاح "المتكلِّم-السامع" الذي يحتاج إلى "سلامة الطَّبْع" soundness of disposition (انظر، أيضًا، الحاشية: 19)، على الرغم من أنه (أي ابن خلدون) يشير إشارة ضمنيةً إلى "التناغم المثالي للمجتمع (اللساني)" أو "اللاحُيودية النظرية" theoretic non-deviancy للمشترَك الكلامي (أي المشترَك العربيّ، في هذه الحالة). يكتب ابن خلدون:
فإذا حصلت المَلَكة التامّة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير عن المعاني المقصودة ومراعاة التأليف الذي يطبّق الكلامَ على مقتضى الحال بلغ المتكلِّمُ حينئذٍ الغايةَ من إفادة مقصوده للسامع [....] ويحتاج مع ذلك إلى سلامة الطَّبْع والتفهُّم الحسن لمنازع العرب في التراكيب ومراعاة التطبيق بينها[22].
وتحت راية هذا المفهوم المُؤمْثَل لـ"المَلَكة التامّة"، في حدِّ ذاتها، المَلَكةِ التي تنجلي انجلاءً عن "معرفة [تامّة] للِّسان [وعن تطبيقها] في الأداء الفعلي"، تختفي كلُّ أشكال التفريق (أو التمييز) غير المرغوب فيه بين المجتمعات اللسانية أو بين المشترَكات الكلامية أو حتى بين الطبقات الاجتماعية اختفاءً طبيعيًّا. إذ يظهر أن عالَم المعرفة اللسانية linguistic knowledge المتحدَّثِ عنها، بهذا الصدد، ليس له، من قريبٍ أو بعيد، أيُّ مِساسٍ بالمَرْهَصة المَشاعية communal status للمتكلِّم-السامع، سواء كان هذا المتكلِّمُ-السامعُ "تِعْلامةً ثريًّا" أم "تِجْهالةً مُعْوِزًا"، إذا أمكن قولٌ لا مِراءَ فيه. ففي الواقع النفسيِّ (أو الذهني)، مع ذلك، يشير نوعُ المعرفة اللسانية المتكلَّمِ عنها، هنا، إلى نوعٍ من المعرفة الحَدْسية intuitive knowledge، تلك المعرفة التي تتواجد في مستوىً استبطانيٍّ دونَ مستوى الوعي بكثير، سواء كانت هذه المعرفة موجودةً بالفعل أم موجودةً بالقوة. وهكذا، فإن المهمةَ الأساسية الأخرى لعالِم اللسان، على حدِّ تعبير تشومسكي، هي أن يسعى إلى "تحديد ما يعرفه المتكلِّم-[السامع] من معرفة فعلية، وليس ما يمكن له أن يقرِّر عن معرفته [اللسانية]"[23]. إذ تدلُّ هذه المعرفة اللسانية الفعلية، بعبارة أخرى، على تمثيل تحتيٍّ لها بصفتها متصلاً مستترًا أو سيرورةً مُضْمَرة (أو، كما في اللغة الألمانية، شعورًا دفينًا باللسان Sprachgefühl)، متصلاً أو سيرورةً يتمُّ اكتسابُهما اكتسابًا لاواعيًا في أوضاع طبيعية أو غير رسمية (كوضع الأسرة وضعًا نموذجيًّا)، بدلاً من أن يُصارَ إلى تعلُّمهما تعلُّمًا واعيًا في أوضاع رسمية أو غير طبيعية (كوضع المدرسة، مثلاً)، بحيث يتوضَّع هذا التعلُّم الواعي للُّغة في موضع يقع خارجَ الميدان المحدَّد لمَلَكة اللسان. وللسبب ذاته، في هذه القرينة، يواصل ابن خلدون بتشديده على الفكرة القائلة بأن التعلُّمَ المتعمَّدَ (أو التعلُّم الواعي، بالحريّ) لما يسمّيه بـ"القوانين العلمية" scientific laws (ويقصد بها، هنا، "القواعد النحوية" grammatical rules، حرفيًّا)، لتعلُّمٌ يتواجد، والحال هذه، في حيِّز يقع خارجَ المجال المعيّن للمَلَكة اللسانية، كذلك. إذ يجري تعلُّمُ تلك القوانين أو القواعد، عادةً، بعد أن تبلغَ عمليةُ الاكتساب الطبيعيِّ للُّغةِ منتهاها، فهو من ثم تعلُّمٌ ليس له مِساسٌ، البتة، بالمعايرة الكمية أو الكيفية للمَلَكة اللسانية، بعينها. يقول ابن خلدون:
وهذه المَلَكة [اللسانية] ليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية التي استنبطها أهلُ صناعة اللسان فإن هذه القوانين إنما تفيد علمًا [واعيًا] بذلك اللسان ولا تفيد حصولَ المَلَكةِ بالفعل في محلِّها[24].
وبحسب منظور كلٍّ من تشومسكي وابن خلدون، إن من الخصائص الجليّة لمَلَكة اللسان أو المَلَكة اللسانية، المَلَكةِ التي يتحتَّم إدراكُها الآن على أنها طَبْعٌ يبتطن (أو يذوِّت) شكلاً من أشكال المعرفة اللسانية اللاواعية، لا الواعية، هي تكمينُها كُمونيّةَ الابتكار الحَدْسيّ intuitive creativity، كما تمّت الإشارة إليه في القسم السابق. وهكذا، فإن فكرة الابتكار (الحَدْسيّ) هذه، بالنسبة إلى تشومسكي، يمكن استشفافُها من ارتئائه الرأيَ القائل بأن مَلَكةَ اللسان هي، في حدِّ ذاتها ومن تلقاء ذاتها، نظامٌ ابتكاريٌّ لوسائلَ متناهيةٍ تبيحُ للمرء (أو الناطق السليقيِّ) منالاً لا ينفَدُ من الاستعمال اللامتناهي، على حدِّ قوله (أي تشومسكي)، نقلاً عن كلام هومبولت الآنف الذكر[25]. وعلاوة على ذلك، يكتب تشومسكي، في مكان آخر، ما يلي: "إن ميزةَ الحازةِ [أو المَلَكة] اللسانيةِ الأكثرَ لفتًا للنظر هي ما تمكن تسميته بابتكارية اللغة، أي قدرة المتكلِّم [الفطريِّ] على إنتاج جُمَلٍ جديدة"[26]. يدلُّ ذلك على أن الوسائلَ المتناهية المتحدَّثَ عنها، هنا، تتمثَّل تمثُّلاً باطنيًّا بصورة جهازٍ ذهنيٍّ mental device (مهما يكن شكله)، جهازٍ يُعينُ المتكلِّمَ-السامعَ على استقلاب processing لغته الأمِّ في أسلوبيها النظميَّيْن المتغايرين، أسلوب الإدراك وأسلوب الإنتاج، كما سيتمّ تفصيله بعد قليل. وعلى نحو مماثل، فإن فكرة الابتكار (الحَدْسيّ) تلك، بالنسبة إلى ابن خلدون، يمكن استكناهُها، كذلك، من جَزْمه على الموضوعة القائلة بأن القصد النهائيَّ من اصطلاح "المَلَكة اللسانية" هو أن ناصيةَ هذه المَلَكةِ، فيما يظهر، لمنقوشةٌ على حجرٍ في عقل المولود (الإنسانيِّ) بهيئة زِوادٍ ذهنيٍّ mental apparatus (مهما يكن نوعه، أيضًا)، "زِوادٍ" يمكِّن هذا المولودَ من "توليد" generating تراكيبَ (أو عباراتٍ) جديدة، بالمثابة ذاتها. إذ إن "تمديةَ" هذا النقش الباطنيِّ لناصية المَلَكة اللسانية ستبرز إلى حيِّز الوجود، ولا ريب، من خلال تعرُّض المولود المطَّرد لكلام أسلافه (ككلام الوالدين كلامًا نموذجيًّا). ومن هذا الخصوص، نرى ابن خلدون ذاتَه يستخدم الصيغة الاسمية "المنوال" the loom استخدامًا مجازيًّا (أو استعاريًّا) للدلالة بها على المغزى من الصيغة الاسمية "الزِّواد" apparatus المذكورة، كما سيتمّ توضيحه بعد هنيهة، ونراه (أي ابن خلدون) يستعمل الصيغة الفعلية "نَسَج" to weave استعمالاً مجازيًّا (أو استعاريًّا)، كذلك، للدلالة بها على الفحوى من الصيغة الفعلية "ولَّد" to generate المذكورة، أيضًا، كما يمكن فهمه فهمًا جليًّا ممّا يكتبه هو نفسه عن الظاهرة نفسها[27]. يتابع ابن خلدون، قائلاً:
إن حصولَ مَلَكةِ اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ [أي حفظ الطفل] من كلام العرب حتى يرتسمَ في خياله المنوالُ الذي نسجوا عليه تراكيبَهم فينسج هو عليه[28].
من هنا، يكشف هذا البيانُ النقابَ عن نقطة المقارنة اللسانية الأخيرة التي سيُعمد إلى إجرائها في نهاية هذا القسم، فيما يتعلَّق بابتطان (أو تذويت) اللغة. إذ تشير النقطة المعنيّة إشارةً جليّة إلى بيان ابن خلدون، بالذات، واستخدامه المجازيِّ (أو الاستعاريّ) للصيغة الاسمية "المنوال" the loom، نظرًا لنقشه الباطنيِّ الجِدِّ قابلٍ للإدراك بمثابة زِوادٍ ذهنيٍّ mental apparatus (مهما يكن نوعه)، "زِوادٍ" يمكِّن المتكلِّمَ الفطريَّ من "نَسْج" weaving (أو من "توليد" generating) تراكيبَ (أو عباراتٍ) جديدة، كما تمَّ ذكره توًّا (انظر، أيضًا، الحاشية: 27). فعند الانطباعة الأولى، إذن، من المحتمل جدًّا أن يوحيَ التشكيلُ الصريحُ explicit configuration لهذا "الزِّواد" الذهنيِّ إلى تلقيبٍ ضمنيٍّ implicit denomination كان يدور في "لاوعي" ابن خلدون، فحسب، لما يمكن الاصطلاحُ عليه الآن بـ"زِواد اكتساب اللغة" language acquisition apparatus، تلقيبٍ ضمنيٍّ يبدو، لهذا السبب، جِدَّ قابلٍ للتناظر بالتسمية المتوطِّدة كلَّ التوطُّد في "وعي" تشومسكي، والحال هذه، لما يصطلح عليه بـ"جِهاز اكتساب اللغة" language acquisition device، ناهيك، بالطبع، عن إصرار هذا الأخير على استخدام المصطلح ذاته في كتاباته اللسانية الأخيرة[29]. وفضلاً عن ذلك، بما أن المَلَكة اللسانية، بحسب مفهوم ابن خلدون، هي، في لُبِّ الأمر، جِبِلَّةٌ تتناقلها الأجيالُ الأصغر سنًّا عن الأجيال الأكبر سنًّا تناقُلاً طبيعيًّا، فإن "الحالة البَدَرية" incipient state لهذه المَلَكة اللسانية لمشروطةٌ شرطًا وراثيًّا (أو جينيًّا)، لأسباب واضحة، في هيئة "زِوادِ اكتساب اللغة" (أو "المنوال" الذهنيِّ نفسه). وعلى نحو مماثل، كذلك، كان تشومسكي، ولا يزال، يتحدّث على الدوام عن "الحالة البَدَهية" initial state لمَلَكة اللسان، تلك الحالة البَدَهية التي تتجلّى، بحسب مفهومه، كسَجِيّة محتومة حتمًا حيويًّا (أو بيولوجيًّا)، أيضًا، في صورة "جِهازِ اكتساب اللغة" (أو "الجهاز" الذهنيِّ عينه)، بحيث إن مقامَ الجهاز هذا يواشجُ التجربةَ المفروضةَ imposed experience (قا: التعرُّض المطَّرد، أو "كثرة الحفظ" multitudinous memorization، على حدِّ قول ابن خلدون) بمقام الحالة المُحْرَزة attained state للُّغة المعنية قيد الاكتساب. يقول تشومسكي:
من العسير أن نتفادى الموضوعةَ القائلة بأن جزءًا من الإيهاب الحيويِّ (أو البيولوجيّ) للإنسان هو "عضوٌ لغويٌّ" مختصٌّ [نصطلح عليه بـ] "مَلَكة اللسان" (م. ل.). [....] ففي وسعنا أن ننظر إلى الحالة البَدَهية لمَلَكة اللسان هذه باعتبارها جهازًا يواشج التجربةَ [المفروضةَ] بالحالة المُحْرَزة للُّغة "ل" [أو بصفتها] "جِهازَ اكتسابٍ للُّغة" (ج. ا. ل.)[30].
وهكذا، وبالنظر اليقينيِّ إلى التماثُل اللافت بين "المنوال" الذهنيِّ (أو "زِواد اكتساب اللغة" عند ابن خلدون) وبين "الجهاز" الذهنيِّ (أو "جِهاز اكتساب اللغة" عند تشومسكي)، يتبيَّن أن "الحالة البَدَرية" للمَلَكة اللسانية (تبعًا للأوّل) أو "الحالة البَدَهية" لمَلَكة اللسان (وفقًا للأخير)، تلك الحالةَ التي يمثِّلها تمثيلاً سَبْقيًّا a priori ذلك "المنوال" الذهنيُّ أو "الجهاز" الذهنيُّ، في حدِّ ذاته، يتبيَّن أنها حالةٌ تشير إلى حتميَّتها الشمولية (أو الكلِّية)، دونما ريبٌ، بغضِّ الطِّرف عن أيِّ عاملٍ ليس له مِساسٌ لسانيٌّ ولا لغويّ، في هذه القرينة (كعامل العِرْق أو السُّلالة race وعامل الجنس أو الجُنوسة gender وعامل الجنسانية أو السلوك الجنسيّ sexuality، وغيرها من العوامل). يعني ذلك، بتعبير آخر، أن "الحالة البَدَرية" أو "الحالة البَدَهية" المتكلَّمَ عنها، بهذا الصدد، لحالةٌ تضعُ التوكيدَ، من جديد، على لامِساسيّتها المنطقية بالمَرْهَصة المَشاعية communal status للمتكلِّم-السامع (أو بمنزلته الاجتماعية social status، بالحريّ)، فهي بالتالي حالةٌ تضعُ التشديدَ ثانيةً، كذلك، على التلاشي الطبيعيِّ لجميع أشكال الصراع الإنسانيِّ human conflict، والحال هذه، سواء كان هذا الصراعُ الإنسانيُّ صراعًا مجتمعيًّا (لسانيًّا) أو صراعًا مشترَكيًّا (كلاميًّا) أو حتى صراعًا طبقيًّا (اجتماعيًّا)، كما تمّ التنويه عنه آنفًا في هذا القسم.
4. اظطهار اللغة Language externalization
كما سبق ذكره في القسم الرئيسيّ الأوّل من هذه الدراسة (أي القسم: 2)، فإن الاهتمام الأساسيَّ الآخرَ لعالِم اللسان، بحسب مفهوم كلٍّ من ابن خلدون وتشومسكي، هو أن يركِّز انتباهَه على الخصائص البنيوية (أو التركيبية) المحض للجُمَل sentences (أو التعابير اللغوية linguistic expressions، بالأقْمَن) –على خلاف دو سوسور وتوكيده على الخصائص التفاضلية للدواليل signs. يدلُّ اظطهارُ (أو تجسيم) اللغة، إذن، على أن هذا المتّصلَ الشائك أو هذه السيرورةَ الشائكة لمُتاحان كلَّ الإتاحة تحت تصرُّفِ المتكلِّم الفطريِّ من أجل التمثيل الفعليِّ للمَلَكة اللسانية (أو مَلَكة اللسان). إذ يتجلّى هذا التمثيل الفعليُّ في صورةِ ما يصطلح عليه تشومسكي بـ"الأداء اللغويّ" linguistic performance أو في هيئة ما يصطلح عليه ابن خلدون بـ"التصرُّف اللغويّ" linguistic behaviour، ذلك المصطلح الذي تمّ اشتقاقُه من الصيغة الفعلية "تصرَّف" to behave/act التي استخدمها ابن خلدون ذاتُه في بياناته، كما سترى عمّا قليل. وهكذا، ففي حين أن المَلَكة اللسانيةَ، بحسب تنظير تشومسكي، تشيرُ إلى ما يعرفه المتكلِّمُ-السامعُ من معرفة فعلية actual knowing (وأن القصدَ من هذه المعرفة الفعليةِ هو أنها معرفةٌ لاواعيةٌ لا معرفة واعية –انظر أعلاه)، يوحي الأداءُ اللغويُّ، والحال هذه، إلى ما يؤدّيه المتكلِّم-السامع نفسُه من أداءٍ فعليٍّ actual doing إبّانَ تأييضه metabolizing (أو استقلابه processing) اللغةَ المعنيةَ قيد الاكتساب[31]. وعلى فَرْض أن البحث اللسانيَّ الكفيءَ يقتضي ثلاثًا من الضرورات الموضوعية للأمْثَلَة النظرية التي تمّت مناقشتها في القسم السابق (أي أمْثَلَة المَلَكة وأمْثَلَة المتكلِّم-السامع وأمْثَلَة المجتمع)، فإن اظطهارَ (أو تجسيم) اللغة بعينه ليدلُّ، كذلك، على نوع من التَّمْدِية المُؤَمْثَلَة idealized reification لهذا المتّصل الشائك أو هذه السيرورة الشائكة، وذلك من خلال الأعمال الداخلية لجِهاز اكتساب اللغة (ج. ا. ل.)، ذلك الجهاز الذهنيِّ الذي يُعِينُ المتكلِّمَ-السامعَ المقصودَ على تأييض (أو استقلاب) لغته الأمِّ في أسلوبيها النظميَّيْن المتباينين، أسلوب الإدراك وأسلوب الإنتاج. وفي هذه القرينة، يقول تشومسكي: "فحينما ندرس لغةً من اللغات [دراسةً علميةً]، إذن، ينبغي علينا أن نحاول في فَصْلِ تنويعةٍ من العوامل التي تتداخل في [عمل] المَلَكة (اللسانية) التحتية لكي يتسنّى لنا تحديدُ، أو تحتيمُ، الأداءِ (اللغويِّ) الفعليّ"[32]. وممّا لا ريبَ فيه، فإن تنويعةً من العوامل، كهذه، لهي التي تشير إلى "تلك الشروط ["الواقعية"] التي لا تمتُّ للنحو أو للقواعد بأيّة صلةٍ، كمحدودية الذاكرة وشُرودية الفكر"، وغير ذلك، كما تمّ الاستشهادُ به من قبل.
وبما أن ابن خلدون، من طرفه، يتبنّى الفكرة القائلةَ بأن الإلمامَ المتعمَّد بـ"القوانين العلمية [أو القواعد النحوية] التي استنبطها أهلُ صناعة اللسان" يتواجد في حيِّز يقع خارجَ المجال المحدَّد لعملية اكتساب اللغة، فإن التمييزَ المقصود بين "المَلَكة اللسانية" و"التصرُّف اللغويّ" ليتكشَّف، كذلك، عن التمييز المتطابق بين ما يعلمه المتكلِّمُ-السامعُ من عِلْم فعليٍّ actual cognizing (أي علم لاواعٍ –انظر أعلاه) وبين ما يعمله هذا المتكلِّمُ-السامعُ من عَمَل فعليٍّ actual working، أثناءَ تأييضه (أو استقلابه) اللغ
الجمعة أبريل 18, 2014 6:49 am من طرف viva star
» مناهج النقد الأدبي . مترجم.rar
الخميس أبريل 17, 2014 5:01 pm من طرف viva star
» مصطلحات توليدية
السبت فبراير 08, 2014 2:55 pm من طرف رعاش وليد
» ارجو المساعدة
الجمعة يناير 10, 2014 2:10 am من طرف مريم عبد الرحمان
» مساعدة عاجلة جداااااااااا
الثلاثاء يناير 07, 2014 6:53 am من طرف مريم عبد الرحمان
» كتب في علم الدلالة
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:35 pm من طرف safih
» عرض حول معجم المقاييس لابن فارس
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:15 pm من طرف safih
» المعجم الالكتروني
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:06 pm من طرف safih
» تشغيل الجزيرة الرياضية بالشرينغ
الثلاثاء نوفمبر 12, 2013 11:29 am من طرف safih