نظرية النحو التوليدي التحويلي واكتساب اللغة
د. علي حسين فياض
كلية الزهراء للبنات
سلطنة عمان
وإذا كانت اللغويات التوليدية قد صمدت بفضل صلابة مرتكزاتها الفلسفية على الرغم من التحديات
منذ ظهور نظرية النحو التوليدي التي أرسى دعائمها اللغوي الأمريكي نعوم جومسكي في الخمسينيات من القرن الماضي, وهي تمخر عباب بحر هائج, بين مؤيديها ومناوئيها.
لقد تميزت هذه النظرية, التي صارت فلسفة لغوية بحد ذاتها, بميزتين اثنتين: العقلانية والواقعية, أنها مدرسة عقلانية في تصوراتها للغة التي ترى فيها كفاءة, يولد الناس وهم موهوبون(1) بها (وقد ارتبط بهذا الفهم مجموعة مبادئ شاملة بعضها ذو صفة توليدية وأخرى تفسيرية); وأنها مدرسة واقعية من خلال قبولها بالرأي الآخر ضمن معسكرها أو بين جماعات المعسكر المقابل, التي يصورها عملياً التطورات التي حصلت فيها بدءاً من نسختها الأولى التي ظهرت في كتاب البنى النحوية (1957) وانتهاء ببرنامج الحد الأدنى للنظرية اللغوية (1995).
وإذا كانت اللغويات التوليدية قد صمدت بفضل صلابة مرتكزاتها الفلسفية على الرغم من التحديات (حتى من أتباعها الذين انقلبوا عليها نتيجة أمور خلافية لا تمت لجوهر الفلسفة بل لتفسيراتها لبعض المكونات أو التراكيب اللغوية). فإنها كانت وما تزال تعيش التحدي الأهم للجمهور الأوسع (متكلمي اللغة), وهو: ما إفرازات هذه المدرسة فيما يتعلق باكتساب اللغة والموضوع المرتبط بها, وهو تعليمها؟
سنحاول في هذه المقالة تسليط الضوء بإيجاز على أهم مرتكزات الفلسفة الجومسكية والأسس التي ارتكزت عليها في فرضيتها المسماة »أداة اكتساب اللغة (LAD)«(2) التي يولد الطفل مسلحاً بها, وسنركزعلى عرض الآلية الجديدة التي أسماها جومسكي »تعلمية« اللغة.
إن الهدف الأساسي لهذه المحاولة التي أقوم بها هنا هو تحديد موقف النظرية أمام التحدي الأوسع المتمثل بضرورة تفعيل آلية جديدة للبحث العربي الجماعي (وبخاصة نحن نعيش ضمن دائرة صارمة داعية لتعليم اللغات الأجنبية - وبالتحديد الإنجليزية - في عالمنا العربي اليوم) في علاقة هذه اللغة باللغة العربية وكيفية إيجاد أرضية صلبة للتعامل (التي يرفضها لغويون عرب كثيرون بحجة المحافظة على العربية) من ناحية, وفي إيجاد أفضل الأسس لتعليم اللغات (الأم والثانية والأجنبية) من ناحية أخرى.
أنا متأكد أن هذه المقالة ستواجه بموجة من »الضد معه« - إن صح التعبير, كما أني واثق بأن أصحاب المعسكرين (ضد + مع) جميعهم سيكونون متسلحين بالموضوعية والرأي البناء.
تحظى نظرية النحو التوليدي (التحويلي) اليوم بالموقع الأول في الدراسة اللغوية, وقد أثار مؤسسها نعوم جو مسكي منذ خمسينيات القرن الماضي ثورة في عالم اللغة. فهو يصنف ضمن الفلاسفة العقلانيين الذين يرون في العقل الإنساني وسيلة للمعرفة, فبالنسية له »ليس هنالك صواب مطلق في طريقة نحوية معينة, ولكن هنالك طريقة أصح وأفضل من طرق أخرى«, وهو يؤكد »أن اللغة هي أهم ما يميز الإنسان, ومن ثم فإنها نظام دقيق ليس من اليسير أن نقول إن الطرق النحوية التي بين أيدينا قادرة أن تقف على أسراره وحقائقه«, ولبلوغ ذلك هنالك إجراءات تقييمية (Evaluative) وأخرى استكشافية (Discovery) على اللغوي أن يتبعها للوصول إلى الهدف المرجو.
وعلى الرغم من أن جومسكي قد عد المكون النحوي (أو التركيبي) عنصر التوليد الأساس في اللغة, وعد المكونين الصوتي والدلالي تفسيريين في مستهل نظريته المسماة »النظرية المعيارية« (Standard Theory) التي تبلورت في كتابيه البنى التحتية (1967) وجوانب من نظرية النحو (1965), إلا أن همه الأساس كان منصباً على استقلالية المكون النحوي عن المكون الصرفي وعن المكون الصرفي وعن المكون الصوتي من جهة, وعن المكون الدلالي من جهة أخرى, على الرغم من أنه يقر بأن الحدود بين المكونين النحوي والدلالي غير واضحة تمام الوضوح. وفي كتابه الموسوم دراسات الدلالة في القواعد التوليدية (1972), وضع في نظريته المسماة »المعيارية الموسعة« (Extended Standard) المكون الدلالي في البنية التحتانية التي هي البنية الوحيدة التي تحدد دلالة الجمل وتمثيلها الدلالي المناسب, مع إدراكه أن هنالك عناصر من التمثيل الدلالي يجري إدخالها في المستوى التحويلي(3). ثم تطورت نظريته اللغوية وظهرت نظرية »الحكم النحوي والعائدية« Govemment and (Binding) عام ,1981 ثم نظرية »التخوم« (Barriers) في العام ,1986 التي قيد فيهما القواعد التحويلية وركز على قاعدة شاملة هي قاعدة تحريك الفا (a movement) وهي قاعدة تحريك أي شيء في الجملة إلى أي موقع فيها, وذلك في أثر الانتقادات التي وجهها إليه أتباعه التوليديون (أنصار مدرسة نحو تركيب الجملة المعمم (GPSG) ومدرسة النحو الوظيفي المعجمي (LFG)(4). الذين رفضوا فكرة البناء التحتاني وقواعد تحويله التي أضرت بالنظرية نفسها, ووفروا كيانات قواعدية بديلة ضمن المبادئ العامة لفلسفة جومسكي عبرت عن الحقائق اللغوية ووفرت تفسيرات للعديد من الحالات التي كان النحو التحويلي عاجزاً عنها (مثلاً التوابع غير المقيدة (Unbounded Dependencies)(5).
وفي العام 1995 ظهر لنا جومسكي بنظرية جديدة أسماها »برنامج الحد الأدنى للنظرية اللغوية« (The minimalist Program) التي ترتكز على فرضية تقول إنه يجب وصف النظريات النحوية بوساطة قائمة الحد الأدنى من الأدوات النظرية (theoretical) والوصفية (descriptive) الضرورية.
ولأن البرنامج هو الأنضج والأحدث ولأنه يتعرض مباشرة إلى عملية اكتساب اللغة سوف أقوم بالتركيز على هذا البرنامج مبتدئاً بالسمات الأساسية فيه:
النحو هو دراسة المبادئ التي تحكم تكوين الكلمات والعبارات والجمل وتفسيرها.
هنالك بناءان للغة: الكفاءة اللغوية والأداء اللغوي. والنحو يهتم بالأول وليس الثاني. وهذا لا يعني أن لا أهمية للأخير, لأنه يدرس ضمن الحقل المختلف (المرتبط بالنحو من دون شك) وهو علم اللغة النفسي الذي يتناول العمليات النفسية التي تستبطن إنتاج الكلام واستيعابه لكن تظل دراسة الكفاءة اللغوية تلعب دوراً أساسياً في دراسة الأداء اللغوي, طالما أن علينا أن نفهم ما الذي يعرفه المتكلمون الأصليون للغة عشوائياً عن لغتهم قبل أن ندرس آثار الإرهاق والمرض وسواهما في أدائهم.
فإذا سلمنا بأن دراسة اللغة هي دراسة الكفاءة النحوية (grammatical), فاننا نعلن موقفاً عقلياً لطبيعة اللغة; لأننا عندها نرى أن تلك الكفاءة تستخدم للإشارة إلى الكيفية الضمنية التي يتصرف بها هؤلاء المتكلمون نحو لغتهم. لذلك فإن النحو هو جزء من الدراسة الأوسع والأشمل للإدراك (أي المعرفة الإنسانية). وبحسب تعبير جو مسكي فإننا ندرس اللغة نظاماً عقلياً مذّوتاً (internalized) في الدماغ البشري. ولكن كيف يمكننا التمعن بطبيعة العمليات التي يستخدمها المتكلم الأصلي وهي غير مدركة بالإحساس? وإذا كان يمكن دراسة الكفاءة اللغوية بصورة غير مباشرة. فكيف?
يحصل هذا من خلال: (آ) يمكِّننا النحو من تحديد نوعية الجمل: نحوية وغير نحوية. ولا بد من أن نشير هنا إلى أن دراسة النحو على وفق نظرية جو مسكي تركز أكثر على تفسير اللانحوية (ungrammaticality) - أي لماذا بعض أنواع الجمل غير نحوية, أكثر من تركيزها على الجمل النحوية. (ب) ترتبط طبيعة الكفاءة النحوية بسليقة / حدس المتكلم الأصلي في تفسير الكلمات والعبارات والجمل الخاصة بلغته الأم.
ويتطلب هذا وجود معايير لكفاية (adequacy) القواعد في تفسير جميع حقائق اللغة. فنظرية النحو هي مجموعة الفرضيات عن طبيعة الأبنية النحوية الممكنة / غير الممكنة للغات (البشرية) الطبيعية, وإن أحد هذه المعايير هو الشمولية التي تعني أن على النحو أن يمدنا بالوسائل الضرورية لوصف نحو أية لغة طبيعية بكفاية تامة. لذا فإن الهدف النهائي يتمحور حول ضرورة إيجاد نظرية نحوية شاملة (Universal Grammar).
إن الآليات الفسيولوجية اللغة خلال مدة قصيرة من الزمن نسبياً (يستطيع الطفل ذو الثمانية عشر شهراً تكوين تراكيب أساسية من كلمتين, وفي سن الثلاثين شهراً يكون قد اكتسب عدداً كبيراً من التراكيب النحوية المختلفة التي تمكنه من إنتاج جمل ذات تعقيد نحوي واضح). لذا فإن العامل الأساسي في النظرية النحوية الكفء هو تعلمّيتها (learnability) أي المدى الذي تستطيع فيه توفير نحو يمكِّن هؤلاء الأطفال من تعلم اللغة بمدة زمنية قصيرة نسبياً.
وهذا يتطلب أن تزود النظريات النحوية بآلية نظرية ذات حد أدنى تقدم تشخيصاً وصفياً مقبولاً للظواهر اللغوية: أي أن القواعد / النظريات النحوية يجب أن تكون على قدر أكبر من البساطة. لقد انطوى الكثير من البحث في النحو خلال الثمانينيات على افتراض تراكيب ومبادئ بالغة التعقيد. وكرد فعل على مثل هذا التعقيد المبالغ فيه وضع جو مسكي في التسعينيات من القرن الماضي نظرية الحد الأدنى حجر الأساس في النظرية اللغوية. فبرنامج الحد الأدنى للنظرية اللغوية (1995) ناجم إلى حد كبير عن الرغبة في أن يكتسب الطفل لغته بأدنى حد من القواعد, وهو أمر يعني مضاعفة أو تسريع تعليمه قواعد نحو اللغات الطبيعية.
إن الانتظام والسرعة في نمط الأطفال اللغوي هما الحقيقتان المركزيتان اللتان يجب على نظرية اكتساب اللغة أن تفسرهما, ولكن كيف? يقول جو مسكي إن التفسير المقبول ظاهرياً لهذا الانتظام والسرعة في اكتساب اللغة الأولى يتطلب أن نفرض وجود سياق مقرر للاكتساب على شاكلة ملكة اللغة الموهوبة بيولوجيا بصورة فطرية (أو كما يسمى مجازاً في برامجيات الكمبيرتر, برنامج اكتساب اللغة) ومقرها المخ الذي يزود الأطفال بالخوارزميات (Algorithms)(6). أي مجموعة الإجراءات, لتطوير اللغة على أساس خبراتهم اللغوية (أي على أساس المدخلات الكلامية التي يخضعون لها), وصورها على هذه الشاكلة (المخطط (1)):
نحو اللغة ملكة اللغة التجربة اللغوية
المدخلات المخرجات
نؤطر هذه العملية ضمن ما يسميه جو مسكي فرضية السليقة (innateness), التي ترى في اكتساب اللغة نشاطاً فريداً خاصاً بالإنسان ويختلف عن بقية أنواع التعلم التي يمر بها الفرد; لأن تعلم اللغة يتضمن عمليات عقلية مختلفة تماماً عن غيرها (كتعلم الشطرنج أو كتعلم ركوب الدراجة الهوائية). فهي مقدرة خاصة بالجنس البشري يتقاسمها كل الناس بغض النظر عن معدل ذكائهم, وهي ذات انتظام موجه وموروث خلال مهمة بناء قواعد اللغة الأم, ويدل على ذلك تشابه انتظام اكتساب أنواع القواعد من قبل مختلف الناطقين بلغة ما. كما يدعم ذلك السرعة في اكتسابها التي تحدد وراثياً أيضاً. ومما يدعم فرضية السلقية عند جو مسكي هو أنه يرى أن اكتساب اللغة هو نشاط (دون وعي) لا إرادي (بمعنى أنك لست مخيراً في اختبار لغتك الأم, في حين أنك تستطيع أن تختار بين أن تلعب الشطرنج أم لا). فاللغة فعالية غير موجهة إلى حد كبير, بمعنى أن الوالدين لا يعلمان أطفالهم كيف يتكلمون. فالأطفال يكتسبون اللغة بنجاح ملحوظ حتى بدون عناية خاصة لتعليمهم إياها. لذا فنحن لا نتعلم كيف تكون لنا لغتنا, بالطريقة نفسها التي لا نتعلم فيها كيف يكون لنا أذرع وأرجل, فهي جزء من هذه الهبة الوراثية.
أكد جو مسكي على الإبداعية عند اكتساب اللغة وميز الأخيرة عن اكتساب الحيوان للغة (عن طريق المثير والاستجابة المشروطة) التي هي عملية محاكاة خالصة. فاكتساب اللغة من قبل الأطفال هو ليست عملية محاكاة خالصة, بل هو عملية إبداعية فطرية, والدليل على ذلك أننا عندما نكتسب لغة ما فاننا نستطيع فهم جمل لم نكن قد سمعناها قبلاً (أي جمل غير مألوفة لنا), فضلاً عن فهم ما سبق أن تعلمناه من جمل. فمتكلم اللغة, أي لغة, له القدرة على أن ينتج ويفسر مثل هذه الجمل الغريبة وأن يقدم أحكاماً على مقبوليتها. وهذا يدل من دون شك على أن اكتساب اللغة ليس مجرد محاكاة فحسب: فالتعليم يجب ألا يحتوي على قائمة من الجمل يضعها الآخرون ويستظهرها الدارسون بطريقة ببغاوية. فإذا كان الفرد يمتلك مثل هذه الملكة اللغوية, فما سماتها المحددة لها?
من حيث المبدأ يستطيع الأطفال اكتساب أية لغة طبيعية على أنها لغتهم الأم (مثلاً الأطفال الأيتام من البوسنة الذين تربوا على أيدي إنجليز, اكتسبوا اللغة الإنجليزية على أنها لغتهم الأم). هذا يقودنا إلى أن ملكة اللغة يجب أن تجسد مجموعة من مبادئ النحو الشامل, بمعنى أنه يجب أن تكون ملكة اللغة هكذا كي تسمح باكتساب الطفل نحو أية لغة طبيعية على أساس الخبرة اللغوية الملائمة مع اللغة نفسها (أي بوجود مدخلات كلامية وافية). وهكذا فإن الخبرة مع لغة معينة (أمثلة من الكلمات والعبرات والجمل يسمعها الطفل من المتكلمين الأصليين لتلك اللغة) تصلح أن تكون مدخلاً لمبادئ النحو الشامل التي تشكل جزءاً موروثاً في ملكة اللغة عند الطفل, ثم يقوم النحو الشامل بمد الطفل بالخوارزميات اللازمة لتطوير نحو تلك اللغة. فإذا افترضنا أن ملكة اللغة لا تختلف بصورة ذات مغزى بين إنسان (اعتيادي) وآخر, فإن تلك الأشكال من اللغة التي تحدد بالسليقة ستكون شاملة (بعضهم يسميها »عالمية أو كلية أو عامة«); لذلك, إذا سعينا إلى تحديد طبيعة ملكة اللغة, فأننا بالضرورة سنبحث عن المبادئ الشاملة التي تحدد التركيب نفسه للغة - أي المبادئ التي تحكم أنواع العمليات النحوية المقبولة (وغير المقبولة) في اللغات الطبيعية, التي هي مبادئ ذات طبيعة مجردة لدرجة لا يمكن أن يتم بصورة معقولة تعليمها / تعلمها على أساس الخبرة; ولكن كيف نعرف ما هذه المبادئ الشاملة المجردة التي تقيد مدى العمليات النحوية المقبولة في نحو اللغات الطبيعية?
والجواب عن ذلك أنه طالما افترضنا أن المبادئ ذات العلاقة شاملة, فإنها ستحدد تطبيق كل عملية نحوية في كل لغة. لذلك فإن الدراية التفصيلية لعملية نحوية واحدة فقط في لغة واحدة تعد دليلاً على وجودها ضمن مبادئ النحو الشامل. لذا إذا كانت ملكة اللغة تتضمن نظرياً للنحو الشامل تجهز الطفل بالخوارزميات اللازمة لتطوير نحو أي لغة فإن المخطط رقم (1) يجب أن يعدل ليكون بهذه الصورة (المخطط (2)):
الخبرة اللغوية النحو الشامل نحو لغة ما
أي أن خبرة الطفل يتم التعامل معها بوساطة وحدة انتقال النحو الشامل الذي هو جزء متمم للملكة اللغوية.
إن مثل هذه النظرية تقلل من العبء المفروض على الطفل في تعلم النحو, أن نظرية النحو الشامل التي وضعها جو مسكي تفسر السرعة في النمو النحوي عند الطفل بافتراض مجموعة شاملة من المبادئ النحوية الموهوبة فطرياً التي تحدد طبيعة التركيب النحوي ومدى العمليات النحوية الموجودة في نحو اللغات الطبيعية. وبما أن مبادىء النحو الشامل الموهوبة فطرياً لا يحتاج أن يتعلمها الطفل, فإن نظرية النحو الشامل تقلل من عبء التعلم المفروض على الطفل, وهي بذلك تزيد من تعلمية نحو اللغات الطبيعية.
إن هذا يعني أنه على الرغم من وجود قواعد النحو الشامل التي تحدد الأطر العريضة للبناء النحوي للكلمات والعبارات والجمل في كل لغة طبيعية, فإن هنالك سمات للبناء النحوي خاصة بكل لغة يجب على الأطفال تعلمها بوصفها جزءاً مهماً من اكتساب لغتهم الأم. ولهذا فإن اكتساب اللغة لا يشتمل على تعلم المفردات (تعلم مفردات اللغة أي كلماتها وسماتها اللغوية المميزة) وحسب, بل على تعلم التراكيب ايضاً. وتعلم التراكيب ليس مقصوداً به تعلم أشكال التركيب المبادئ النحوية الشاملة (الفطرية) بل يجب أن يكون مقصوراً على تعلم باراميترات(7) (Parameters) تلك الأبنية النحوية التي تختلف اللغات فيها: فتلعم التراكيب محدد بتعلم الأشكال المختلفة لبناء نحوي ما في اللغات. وبناء على ذلك, فإن الطريقة الأسلم لتحديد المظاهر الباراميترية للبناء النحوي الصحيح في لغتهم الأم, تتوجب أن يتعلم الأطفال التمعن في مدى التباين الباراميتري للتراكيب النحوية بين مختلف اللغات الطبيعية (التي يستعملها الكبار).
ومع هذا يرى جومسكي أن نظرية النحو الشامل المرتبطة بملكة اللغة تفرض قيوداً وراثية على مدى التباين الباراميتري المسموح به في نحو اللغات الطبيعية. فمثلاً فيما يتعلق بباراميتر الموصوف (Head Parameter) - أي الباراميتر الذي عين الموقع النسبي للموصوف قياساً إلى ما يوصف به (أي فضلته), فإن النحو الشامل بوجود مجموعتين ثنائيتين من الاحتمالات لا غير, وهما: إما أن تكون اللغة ذات ترتيب يكون فيها موقع الموصوف متقدماً على الدوام أو متأخراً على الدوام بالنسبة إلى فضلته, فإذا كان الأمر كذلك, فإن العبء الوحيد الملقى على عاتق الأطفال في تعلم التركيب المتعلق بسمات رتبة الكلمات الخاصة بنوع من التراكيب هو أن يختاروا (استناداً إلى خبرتهم اللغوية) أي النمطين البديلين لهذا الباراميتر في النحو الشامل أكثر ملاءمة للغة موضع الاكتساب / التعلم. وهذا بدوره يقود إلى أن هذه السمة الموروثة للباراميتر هي التي تقيد مدى التباين التركيبي بين اللغات, وتحددها ضمن خيار ثنائي بسيط. لذا فإن النحو الشامل يقرر خياراً ثنائياً للقيم المحتملة لكل باراميتر.
إن هذا يقودنا إلى تحديد عملية اكتساب اللغة, فإذا كانت المهمة المركزية التي يواجهها الطفل عند اكتسابه اللغة هي بناء نحو اللغة, فإن ملكة اللغة عنده تتضمن نظرية للنحو الشامل تحتوي على (1): مجموعة من المبادئ العامة للبناء النحوي, و(2): مجموعة من الباراميترات التركيبية التي تفرض قيوداً شديدة على مدى التباين التركيبي المسموح به في اللغات الطبيعية (ومن المحتمل أنها تقصر هذا المدى على مجموعة من الخيارات الثنائية). ولأن المبادئ العامة للتركيب النحوي ليس من الضرورة أن تعلم, فإن مهمة تعلم الطفل للتراكيب تتحدد في تنميط الباراميترات (أي تحديد النمط المناسب لكل باراميتر تركيبي ذي علاقة). وهذا الأنموذج يعرف الآن باسم نظرية الباراميترات في اللغة.
سيقلل هذا الأنموذج إلى درجة كبيرة من عبء مهمة اكتساب اللغة الذي يواجهه الأطفال. وهو يقودنا إلى أن نتوقع أن المبادئ التركيبية الثابتة عبر جميع اللغات يجب ألا يتعلمها الطفل لأنها جزء من موهبته الوراثية. لذلك فالأحرى أن يتعلم الطفل تلك السمات النحوية الخاضعة للتباين الباراميتري عبر اللغات. كما أن العبء يمكن أن يبسط بصورة أكبر إذا كانت القيم المنسوبة إلى كل باراميتر محددة بأضيق مجال, ومن المحتمل أنها موصوفة بعبارة المجموعات الثنائية الاختيار. وهذا يتضمن الحقيقة التي مفادها أن اكتساب باراميترات محددة يبدو بوضوح عبارة عن عملية سريعة وخالية من الأغلاط لدى الأطفال الصغار.
إن السؤال هو: كيف يصل الأطفال على وفق أنموذج التنميط الباراميتري للاكتساب إلى تعيين المجموعة الملائمة للباراميترات المدروسة, وما الدليل (الأدلة) التي يستخدمونها في تعيين الباراميترات?
يقول جومسكي في كتابه »محاضرات عن الحكم النحوي والعائدية« (1981:8-9) إن هناك من حيث المبدأ نوعين من البرهان يمكن أن تتصور وجودهما بتعلم اللغة - وهما برهان إيجابي وآخر سلبي. فالأول يشتمل على مجموعة من الجمل الملاحظة التي تشرح ظاهرة معينة ما. مثلاً, إذا ظهر أن في خبرة الأطفال تراكيب يسبق فيها الموصوف فضلته, فإن هذا يزودهم ببرهان إيجابي يمكنه من تشكيل باراميتر الموصوف بصورة صحيحة. أما البرهان السلبي فهو على نوعين, مباشر وغير مباشر. فالمباشر يتم عن طريق تصحيح أغلاط الطفل الذي يقوم به متكلمو اللغة الأخرون. والتصحيح - خلافاً لما يعتقد عادة - ليس له دور جدير بالذكر في اكتساب اللغة لعلتين: أولاهما, ان التصحيح لا يحصل بصورة دائمة بل هو نادر لأن الكبار لا يصححون أغلاط الصغار دوماً (حتى لو حصل ذلك, فإن الأطفال سيتعرضون للإحباط والإذلال ولا يتشجعون على الكلام). والأخرى, إن الأطفال قد يتصرفون بوقاحة ولا يستجيبون للتصحيح. كما قد يتخذ البرهان المباشر شكل التصحيح الذاتي الذي يقوم به بعض متكلمي اللغة, وهذا بدوره ظاهرة نادرة إلى درجة لا يمكن ان يكون له دور في عملية اكتساب اللغة.
وبدلاً من القول إن الأطفال يستندون إلى البرهان السلبي المباشر, فإننا نقترح أنهم يتعلمون من خلال البرهان السلبي غير المباشر (أي البرهان الذي يستند إلى عدم وجود بعض أنواع التراكيب). فلنفترض أنه لا توجد في خبرة الطفل تراكيب يتبع فيها الموصوف فضلته, يستنتج الطفل حينها بأن الإنجليزية ليست لغة يأتي فيها الموصوف في آخر التركيب. ومع أن هذا يبدو معقولاً, إلا أن ذلك تستبطنه مشكلة تعليمية محتملة, لأن تجربة الطفل تظل تفتقر إلى شمولها على التراكيب جميعها من ناحية, ومن ناحية ثانية فأنه لا بد من أن يرى الفضلة تسبق الموصوف (أي بالبرهان الإيجابي) فيقرر نوع العلاقة الصحيحة في ضوئها(.
أدت هذه الاعتبارات التعليمية بجومسكي إلى الاستنتاج في كتابه الموسوم »معرفة اللغة: طبيعتها وأصلها واستخدامها« (1986:55) بأن هنالك برهاناً وافياً لان نعتقد بأن الأطفال يتعلمون لغتهم بالاستناد إلى البرهان الإيجابي فقط«. إن الافتراض بأن الأطفال لا يستفيدون من البرهان السلبي في تشكيل الباراميترات الخاصة بالتراكيب اللغوية يسمى بفرضية البرهان غير السلبي, وهي شائعة إلى حد كبير في البحث الراهن في حقل اكتساب اللغة.
ويؤكد جومسكي أن فكرة أن اللغة هي مرآة العقل هي فكرة تقليدية كانت محط تفسيرات مختلفة الأشكال على مر القرون. وأن مثل هذا التعبير المجازي يجب ألا يؤخذ بهذه الحرفية. والأفضل, إن اللغة تبدو مكوناً أساساً في العقل البشري. والمخ البشري هو أكثر الأنظمة البيولوجية التي نعرفها تعقيداً وتشابكاً. فعندما ندرس سماته وامتداداته, فإننا ندرس ما نصطلح عليه »العقل«. فالعقل البشري يظهر متكوناً من أنظمة مختلفة كل منها بالغ التعقيد ومتناهي التخصص, بتداخلات من نوع عالي الثبات تحدده هبتنا الموروثة. من منطلق هذه الاعتبارات, فهو يشبه جميع الأنظمة الحياتية المعروفة الأخرى, كالأعضاء الفسيولوجية للجسم الواقعة تحت الرقبة مثلاِ. وأحد هذه الأنظمة هي »ملكة اللغة البشرية«. إنها مثيرة حقاً لأنها سمة عامة لجميع البشر, مع قليل من التباين, إن لم يكن لا وجود لمثل هذا التباين (فيما عدا العاهات الخطيرة جداً), فاللغة تبدو صفة فريدة للجنس البشري. وعلى الضد مما يرد في المثيولوجيا (الأساطير), فإن الكائنات الأخرى تفتقد إلى أقل السمات تعويضية عن حاسة اللغة البشرية, وهي حقيقة تم الكشف عنها بصورة مثيرة جداً في الدراسات الأخيرة عن القردة. لذلك فاللغة البشرية تبدو »سمة إنسانية« حقيقية, تدخل أساساً في الفكر والاستيعاب. ولكنها ليست, من وجهة نظر جومسكي, مرآة للعقل. بل هي مكون أساس في العقل البشري وعنصر جوهري في الوجود الإنساني.
لقد أكد جومسكي في كتابه الموسوم باللغة والعقل (1968), بما معناه أنه طالما إن البحث في النحو مستمر, يمكننا أن نتوقع إن الأحداث التي تبدو واضحة اليوم قد تتغير - إلى أساس جديد في ترتيب النحو. واليوم ما تلك التغيرات - إذا كانت قد حصلت?
يؤكد جومسكي بأنه قد حصلت تغيرات عديدة حول مفهومنا لطبيعة اللغة خلال الثلاثين سنة الأخيرة. فالبحث الأولي في النحو التوليدي, كما هو في البنى النحوية (1957). كان في بعض أشكاله شبيهاً بالنحو التقليدي. وبالتحديد, كان يتضمن قواعد متعلقةبتراكيب معينة وبلغات معينة. لذلك فقاعدة تكوين الأسئلة في الإنجليزية أو قاعدة المبني للمجهول فيها, كانت محددة بلغة واحدة, ومحددة بتركيب واحد, تماماً كما كان الحال في النحو التقليدي حيث كان هنالك فصل عن المبني للمجهول وآخر عن الأسئلة وهكذا. إن ما يعرف بقواعد النحو التقليدي هي في الواقع مجرد تلميحات, مفهومه للقارىء البارع الذي يعرف اللغة مسبقاً, تماماً كما أن القواعد في تعليم النحو تفترض بأن المتعلم سوف يعرف التركيب الأساس للغة. لكن على الضد من ذلك, حاولت مدرسة النحو التوليدي أن تبين بوضوح ما كان فرضية مسبقة - في الواقع, حتى ما هو غير معروف - في النحو التقليدي والتعليمي.
وبغض النظر عن هذا التمييز الحيوي, الذي كان لأنظمة قواعد النحو التوليدي الأولى, فإن البحوث القريبة جداً قد أرست الخلاصة التي مفادها أن القواعد التقليدية وقواعد النحو التوليدي الأولى كانت عبارة عن مسائل اصطناعية وليست عناصر حقيقية في العقل والفكر. فليس هنالك الآن قواعد خاصة بتركيب ما, بل هنالك مبادئ عامة جداً, وهذه المبادئ لتفسير العناصر المفقودة, التي تتصف بشموليتها للغات جميعها وللتراكيب جميعها, فاللغات تختلف في الهيئة التي أشرنا إليها آنفاً, وليس باختيار القواعد المختلفة; لذلك فالبحوث الحديثة تبتعد تماماً عن التقليد الذي كان سائداً في دراسة اللغة خلال ألوف السنوات الماضية.
تفترض النظرية التوليدية أنه عند ولادة الأطفال فإنهم يتبرمجون وراثياً لاكتساب اللغة ويحصل هذا بصورة عفوية. فهل هناك ما يبرر هذا التركيز الكبير الذي يولى لتطوير اللغة في الحضانات ورياض الأطفال?
يرد جومسكي قائلاً ليس هنالك كثير من الشك في أن التركيب الأساس للغة ومبادئها التي تقرر الجمل وتفسيراتها في لغة بشرية هي عفوية إلى حد كبير; ولكن لا يتبع هذا أن التوكيد على تطور اللغة هو ليس في مكانه الصحيح. فإذا وضع الطفل في بيئة فقيرة, فإنه ببساطة لن تتطور قدراته المكنونة ولا تنضج أو تزدهر. لنأخذ مثلاً واحداً واضحاً جداً, أن الطفل الذي يجبر على الوقوف على قدميه لمدة طويلة جداً لن يتعلم المشي, والطفل الذي يحرم من التغذية الصحيحة لن ينضج إلا بعد مدة طويلة, أو قد لا ينضح أبداً على الرغم من أنه ليس هنالك من شك في أن المشي والنضوج الجنسي سمتان بيولوجيتان مقررتان فطرياً. وبالصورة نفسها, فإن الطفل الذي يربى في معهد مع خبرة وتغذية جيدتين, قد لا ينمو بصورة طبيعية جسمانياً أو عقلياً, إذا كان الاتصال الإنساني الطبيعي مفقوداً.
انه رأي قديم أن التعليم لا يشبه ملء قدح بالماء, ولكنه أكثر شبها بجعل الزهرة تنمو على طبيعتها. ولكنها لن تنمو وتزدهر بدون العناية الصحية. إن نمو اللغة وتطورها, كأي نمو وتطور إنسانيين, يتحددان بصورة كبيرة بطبيعة البيئة المحيطة وقد يتوقف بشدة إذا لم تكن هذه البيئة ملائمة. إن البيئة المحفزة مطلوبة لتعجيل نمو حب الاستطلاع / الشغف الطبيعي والذكاء والإبداع, ولتحفيز قدراتنا البيولوجية على البروز. إن حقيقة أن مسار النمو مقرر لحد كبير فطرياً يجب أن لا تعني أنها يمكن أن تتواصل بدون عناية وإثارة وفرصة متوافرة.
نحن نعلم أن علم اللغة هو الدراسة الموضوعية للغة, وليس قائمة جاهزة لتدريس اللغة. فإذا كان معلمو المدارس الابتدائية عارفين بعملك, فما التغييرات أو التأكيدات التي يجب أن يقوموا بها خلال تدريسهم القراءة? وما المقترحات العامة التي يمكن أن تساعدهم?
يتردد جومسكي كثيراً حتى في اقتراح إجابة عن الأسئلة التي توجه له عن مضامين نظريته للتدريس. فهو أن المتمرسين يجب أن يقرروا بأنفسهم ما هو المفيد في العلوم, وما هو غير المفيد. وهو, كمتخصص في اللغة, لا يملك المؤهلات أوالمعرفة التي تمكنه أو تؤهله لتقرير طرق لتعليم اللغة. ولكنه أفاد خلال المقابلة المذكورة, بأنه كإنسان, له أفكاره الخاصة حول الموضوع, وهذه الأخيرة ترتكز على خبرته الذاتية (في جزء منها, بوصفه معلم لغة للأطفال), وبصيرته وأحكامه الشخصية, التي يجب أن لا تخلط مع أي نوع من خبرته المهنية, ونقدمها على إنها حقائق صادرة عن شخص متمرس.
يعتقد جومسكي أن التعليم إلى حد بعيد في كل مستوى, بدءاً من الحضانة وانتهاءً بمؤسسات الدراسات العليا, هو مسألة تشجيع النمو الطبيعي. لذلك »فالطريقة« المثلى للتعليم هي تلك التي تبين بصورة لا لبس فيها أن الموضوع المدروس هو جدير بالتعليم, التي تفتح المجال على مصراعيه لقدرة الشغف والبحث الطبيعيتين عند الطفل (أو البالغين) واهتمامه بالحقيقة وفهمها لأن تنضج وتنمو. وهذا يشكل 90% من المشكلة, إن لم يكن أكثر, أما طرق التدريس فإنها قد تؤثر في القليل الباقي.
قدمنا في الأجزاء السابقة من هذه المقالة حقائق وآراء متعددة عن مدرسة النحو التوليدي التحويلي, تكرر بعضها لأهميته أو لضرورة إعادته لتوضيح النص المعروض. وهنا سأقوم بتقديم خلاصة مركزة عما يمكن أن نعّده أولويات لتصحيح الوضع الشائك المتعلق بموضوعة اكتساب اللغة وتعليمها السائدة في بلادنا العربية.
أولاً: اللغويات التوليدية هي فلسفة نظرية تحدد الأطر والمبادئ الشاملة التي تفسر اللغة (بوصفها مكونات أساسية دلالية ونحوية وصوتية). وهذا يعني أنها ليست - ولا يصح أن تكون - طريقة لتعليم اللغات.
ثانياً: لا يتعارض هذا مع التفسيرات التي نعرفها للطريقة التي يكتسب فيها الطفل (وبالمحصلة الناس عموماً) اللغة, وهي تقول إن اللغة هبة وراثية غنية ومحكومة بنظام من القواعد والمبادئ المحوسبة عقلياً والمربوطة بجهاز إدراكي حركي, وهي مكون أساس في العقل البشري وعنصر جوهري في الوجود الإنساني.
ثالثاً: تختلف اللغات في خياراتها المميزة لها وبعض البدائل المحددة وغير المقررة بموجب المبادئ الواحدة والثانية للهبة الوراثية.
رابعاً: إن الطريقة الأمثل للتعليم هي التي تؤكد بصورة مطلقة أن »الموضوع المدروس هو موضوع جدير بالتعلم« وذلك لتحرير القدرات الكامنة عند المتعلم للاستزادة والبحث في الحقيقة وفهمها. وهذا هو العبء الأكبر في التعليم. أما طرائق التدريس فهي ثانوية الأثر.
يتطلب هذا منا أن نكون حريصين على ترتيب المادة بحسب أهميتها واختيارها بما يتلاءم ومتطلبات الحياة الراهنة, فالموضوعات القديمة التي يتجرعها طلبتنا رغماً عنهم في الموضوعات كافة يجب أن يعاد النظر فيها. تختلف المدرسة الحديثة عن المدرسة القديمة في أنها تعد اللغة استعمالاً يومياً, وليس قواعد مفروضة. ولأنها ذات عون للحياة اليومية فإنها يجب أن تتناول موضوعات ذات صلة بالمتعلم. فليس من المعقول أننا نعيش عصر الإنترنت ولا يوجد في كتاب منهجي واحد بمدارسنا موضوع حوله. والحياة حبلى بالأحداث, لكننا ما زلنا ندرس أولادنا قصصاً خيالية لا غير. إن حاجة المتعلم هي الأساس ويجب أن نعده لكي يكون قادراً على التفكير الصحيح والمثمر في كل الموضوعات. إن ذلك يقتضي مراجعة دورية متواصلة, وكفاءات إعدادية بحثية متفهمة وفاهمة لهذا الدور, وتقوم مديريات المناهج ووزارات التربية والتعليم العالي بدور مهم وخطير, وإذا أرادت منظمة الثقافة والعلوم والآداب (على مستوى جامعة الدول العربية أو المنظمة الدولية) الإسهام, فإن هذا المستوى سيتعزز بلا شك.
خامساً: بعد أن تطرقنا إلى التفسير الذي قدمته نظرية النحو التوليدي التحويلي لماهية اللغة ولموضوعة اكتسابها, لا بد من أن نلقي الضوء هنا وبشيء من التركيز على المرحلة الأمثل التي يجب أن يتعرض فيها الطفل إلى تعلم لغة أو لهجة غير لغته أو لهجته الأم.
يرى جومسكي أن اللغات واحدة لا فرق بينها أساساً, وبأن لغة قوم ما تهيمن اليوم لأسباب تتعلق بأولئك القوم وبظروف ترتبط بهم. لكن هذه الهيمنة لهؤلاء القوم قد تزول اليوم ويتسيد آخرون مع لغتهم. وكلتا اللغتين تظل كما هي في كلتا المرحلتين. بعبارة أخرى اللغة ثابتة والناس وما يحيط بهم يتغيرون. فإذا كان الأمر هكذا فإن لغة مهيمنة الآن قد تزول مع الزمن فتذهب جهود المتكالبين على تعلمها أو تعليمها سدى. إذن ما المطلوب?
يقول جومسكي لكي نحرر قدرات التفكير والتحليل لدى الطفل علينا أن ندعه في مراحل حياته الأولى يتعلمها بلغة الأم. فخبرة الطفل مع لغته أو لهجته الأم تساعده على التميّز, أما إخضاعه لغير ذلك فسيعرضه إلى الإذلال وبخاصة إذا لم يستطع لسبب أن يواكب تعلم اللغة المهيمنة أو المستهدفة, لذلك يجب ألا نشغل الطفل بعبء إضافي يعيقه عن التفكير, بل علينا أن نركز على تعليمه طريقة هذا التفكير بلغته الأم أولاً. ولهذا في تقديري أثر حاسم على تكوين شخصية الطفل في المستقبل.
سادساً: يتعلق بالفقرة (خامساً) موضوع مهم شغل اللغويين والسياسيين معاً. فاصطف هؤلاء صفين في الرأي وفي كل صف متطرفون باتجاه الحدين. وهذا الموضوع هو متى ندرس اللغة الأجنبية (الإنجليزية تحديداً) في مدارسنا? وقبل الاسترسال في هذا الموضوع كان الجميع قد اتفقوا على تدريس اللغة الأجنبية في الصف الخامس صعوداً, وهو ما يتفق في تقديرنا مع رأي جومسكي.
ولكن هل يمكن للطلبة ان يتعلموا في مرحلة مبكرة? الجواب نعم لأن ملكة اللغة هي نفسها عند الجميع. لكن الاعتراض الوحيد أن الطفل وهو في مرحلة مبكرة يحتاج إلى أن يوجه جهوده جميعها بصورة متوازنة تجاه مختلف المعارف الأساسية, لذا لا بد من أن يترك ما يمكن أن يتعلمه في مرحلة لاحقة, أي أن المسألة هي مسألة ترتيب لا غير.
وبالطبع هذا الأمر خاضع - كما أشار جومسكي - إلى قرارات لا يستطيع الطفل أو المتعلم أن يتخذها وإنما هي للسلطة المهيمنة. أي أن إقرار ما يجب أن يتعلمه الطفل هو قرار سياسي تحكمه ظروفه وهو يخضع لرأي صاحبه واتجاهاته من دون شك.
سابعاً: للدور المهم الذي تلعبه النظرية الجومسكية في تعزيز هذه الأفكار لدراسي اللغة الإنجليزية بوصفها لغة أجنبية للمراحل الجامعية, يتوجب وبدءأً من مرحلة البكالوريوس أن تقرر مساقاً إجبارياً في المناهج الدراسية. لنركن جانب التخوف ولنكف عن تقديم الحجج والتبريرات لعدم فائدة هذه النظرية, ولنعلم طلبتنا المتخصصين هذه النظرية.
المراجع :
Chomshy, Noam, 1957. Syntactic Structures. The Hague: Mouton.
______, 1965. Aspects of the Theory of Syntax. Cambridge, Mass.: MIT Press.
______, 1968. Language and Mind. New York: Harcourt Brace.
______, 1972. Studies on Semantics in Generative Grammar. The Hague: Mouton.
______, 1986a. Knwledge of Language: Its Nature, Origin and Use. New York: Prager.
______, 1986b. Barriers. Cambridge, Mass.: MIT Press.
______, 1994. RInterview with N. ChomskyS(.
______, 1995. The Minimalist Program. Mass.: MIT Press.
Ek, J.A. van and L.G. Alexander. 1975. The Threshold Level. Oxford. Prrgamon Press.
Gazdar, Gerald. 1981. RUnbounded dependencies and coordinate structureS(. Linguistic Inquiry: 12.
______, E. Klein, G.K. Pullum and l. Sag. 1982. RCoordinate structure and unbounded dependenciesS(. In M. Barlow, D. Flickinger and l. Sag (eds), Developments in Generalized Phrase Structure Grammar: Stanford Working Papers In Grammatical Theory 2. Bloomington: Indiana University Linguistics Club.
Horrocks, Geoffrey. 1987. Generative Grammar, London: Longaman.
Sells, Peter, 1985. Lectures on Contemporary Syntactic Theories: An Introduction to Government-Binding Theory, Generalized Phrase Structure Grammar and Lexical-Functional Grammar. Stanford University: University of Chicago Press.
Thomas, Owen. 1966. Transformational Grammar and the Teacher of English. New York: Holt, Rinehart & Winston, Inc.
Wilkins, D.A.1976. Notional Syllabus. Oxford: O.U.P.
الهوامش :
يولد الإنسان وهو مزود بيولوجياً بملكة اللغة التي هي هبة موروثة فطرياً, تنمو عنده من خلال تقادم تجربته أو خبرته اللغوية (التي تعبّر عن استعداده لاكتساب اللغة).
أي (Language Acquisition Device) التي يصفها جومسكي (3 : 1986 ) بأنها » المكون الغريزي في العقل البشري الذي ينتج لغة ما بالتفاعل مع الخبرة المتوفرة , وهي وسيلة تحول الخبرة إلى نظام معلومات متحصلة : معلومات لهذه أو تلك من اللغات البشرية « .
يتطلب ذلك أساساً إبقاء الدلالة ضمن البنية التحتانية حيث توضع معاني المفردات والعلاقات النحوية الأساسية (كالفاعل والمفعول به) للتمثيل الدلالي, على الرغم من ان بعض المسائل اللغوية (كالابتداء focus مثلاً) يجري إدخالها ضمن المكون التحويلي لغرض إعطائها التمثيل الدلالي الصحيح.
انظر في كتابي كل من سيلز (Sells) في عام 1985 وهرروكس (Horrocks) في عام 1987 اللذين عرضا أساسيات هاتين المدرستين وعلاقتهما بنظرية النحو التوليدي التحويلي.
لمزيد من التفصيل, انظر في مقالتي غارادار (Gazdar), في العام 1981 وغارادار وجماعته في العام .1982
الخوارزمية هي الترجمة العربية الحرفية لكلمة (Algorithm), في الرياضيات هي إجراء ينتقل خطوة خطوة لحل مسألة رياضية ذات عدد محدد من الخطوات, يتضمن في العادة تكراراً للعملية الحسابية ذاتها. وعند جومسكي فهي تعني مجموعة القواعد والمبادئ اللازمة لتطوير نحو اللغة.
يعني الباراميتر في الرياضيات قيمة المتغير التي إذا تبدلت فإنها تنتج عبارة حسابية ثانية مختلفة, لكنها تظل مرتبطة بسلسلة معينة من هذه العبارات. وهي تعني عند جومسكي »المعلمة«. وهنا سنستخدم الكلمة المعربة ذاتها - أي باراميتر.
يسمى هذا الإجراء في العربية المثال والأمثال أو المنتمي واللامنتمي.
lien
الجمعة أبريل 18, 2014 6:49 am من طرف viva star
» مناهج النقد الأدبي . مترجم.rar
الخميس أبريل 17, 2014 5:01 pm من طرف viva star
» مصطلحات توليدية
السبت فبراير 08, 2014 2:55 pm من طرف رعاش وليد
» ارجو المساعدة
الجمعة يناير 10, 2014 2:10 am من طرف مريم عبد الرحمان
» مساعدة عاجلة جداااااااااا
الثلاثاء يناير 07, 2014 6:53 am من طرف مريم عبد الرحمان
» كتب في علم الدلالة
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:35 pm من طرف safih
» عرض حول معجم المقاييس لابن فارس
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:15 pm من طرف safih
» المعجم الالكتروني
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:06 pm من طرف safih
» تشغيل الجزيرة الرياضية بالشرينغ
الثلاثاء نوفمبر 12, 2013 11:29 am من طرف safih