المدخل لدراسة التاريخ
كتبهاحرفوش مدني
1- مفهوم التاريخ
ما المقصود بدراسة التاريخ؟ وما دلالة اللفظ اللغوية والاصطلاحية ؟
تدل كلمة التاريخ أو التأريخ في اللغة العربية على الإعلام بالوقت، مضافا إليه ما وقع في ذلك الوقت من أخبار ووقائع(1)، والتاريخ بهذا المعنى اللغوي قديم، فقد قال الجوهري “التاريخ تعريف الوقت والتوريخ مثله، يقال أرخت وورخت”(2)، أما المقريزي فيعرف التاريخ بأنه إخبار عما حدث في العالم الماضي (3).
من خلال هذه التعريفات الوجيزة وغيرها يتضح لنا أن التاريخ عند اغلب المؤرخين هو بحث و دراسة واستقصاء لأخبار الناس وحركتهم، والنظر في أحوالهم الماضية، أما موضوعه فهو الحياة الإنسانية في امتدادها الزمني على الأرض منذ بدء الخلق إلى اليوم، وما يحكم هذه الحياة من عوامل وأسباب.
فإذا كان التاريخ هو حركة الزمن من خلال المجتمع(4)، وموضوعه الإنسان في هذا الزمن(5). فالسؤال الذي يطرح نفسه هو متى بدأ التاريخ ؟ ومتى بدأت العصور التاريخية.؟
بدأت العصور التاريخية منذ أن اخترع الإنسان الكتابة وأخذ يسجل ما يعرفه على الأحجار والكهوف والجلود والألواح الطينية، وتختلف الأبحاث العلمية في تحديد السنة بالضبط إذ تتراوح ما بين خمس آلاف سنة قبل الميلاد وثلاثة آلاف وخمسمائة سنة قبل الميلاد، لكنها تتفق جميعا أن ذلك تم في بلاد الرافدين(العراق حاليا) على يد السومريين الذين اخترعوا الكتابة المسمارية .
ومن هنا بدأت العصور الإنسانية عهدا جديدا سمي بعصر التاريخ، أما العصور التي سبقت ظهور الكتابة فتسمى عصور ما قبل التاريخ.
ونريد أن نلفت النظر هنا إلى أننا عندما نسمي عصور ما قبل ظهور الكتابة بعصور ما قبل التاريخ لا ننفي مطلقا وجود الأحداث والوقائع خلال هذه الفترة، ولكن المقصود أن ما وقع خلال هذه العهود غير معروف على وجه الدقة والتمحيص، وتبقى التخمينات المبنية على علم الآثار (الأركيولوجيا) هي أساس المعلومات في ظل غياب أي مصدر مكتوب عن تلك المرحلة، ولذلك أطلق عليها مجازا عصور ما قبل التاريخ لتمييزها عن مرحلة ما بعد ظهور الكتابة والتي اتسمت بتسجيل الأحداث.
2- علم التاريخ
يعتبر التاريخ علما من العلوم الاجتماعية، لكن هل للتاريخ قوانين تتحكم فيه؟ وتوجه تطوره بنوع من الضرورة الحتمية؟ وهل من خلال الإحاطة بهذه القوانين يمكننا التنبؤ بسير الأحداث في المستقبل؟
ونقصد هنا بالقوانين مفهومها العلمي الذي يعني ارتباط الأسباب بالمسببات والنتائج بالمقدمات، كما هو الحال في ظواهر الفيزياء والكيمياء والحساب والطبيعة.
لقد ظل الجدل قائما حول هذه المسألة وما يزال، إذ أثار علماء التاريخ والمناهج مسالة ما إذا كان التاريخ علما كالعلوم التجريبية أم لا، وقد استهوى هذا المبحث نفوس كبار المؤرخين، فمنهم من ينفي صفة العلمية عن التاريخ، باعتبار أن العلم يفيد المعرفة اليقينية الدقيقة بحقيقة الشيء، ومنهم من يرى أن التاريخ هو تلك المعرفة العلمية بشؤون الماضي، وأنه بالإمكان نقل مناهج العلوم التجريبية إلى حقل العلوم الإنسانية نظرا لأوجه التشابه بين علم التاريخ وعلوم الطبيعة، فالمنهج التاريخي هو نفسه المنهج المطبق في العلوم الحقة الأخرى، أما المؤرخون الذين ينفون صفة العلمية عن التاريخ، فيرون أن علوم الطبيعة وحدها خاضعة للتفسير والتعليل، لأنها تقوم على التجربة والملاحظة والاستقراء والمقارنة، بخلاف العلوم الإنسانية ومن ضمنها التاريخ فإنها لا تخضع إلا للفهم والتأمل، ويقصد هنا بالتفسير النهج التحليلي الذي يقوم على إبراز العلاقات السببية بين الظواهر، في حين أن الفهم نهج تركيبي يرتكز على معرفة الغير وتأويل النوايا البشرية عبر استعمال أساليب التفكير الفلسفي، باعتبار أن الحقيقة البشرية الماضية ليست معطيات واضحة يستطيع المؤرخ الكشف عنها وعرضها بطريقة تامة وكاملة، بل المؤرخ في الواقع يقوم بمسائلة تلك الحقيقة وإعادة ترتيبها وتنظيمها وبنائها من جديد في إطار تسلسل زمني وربطها بعلاقات منطقية وسببية، فينتهي بذلك إلى تركيب الأحداث التاريخية.
ثم إن هذا الجدل استمر بين أنصار علمية التاريخ ومناوئيهم، وقد ظهر ذلك جليا في القرن التاسع عشر، حيث منح مؤرخو المدرسة المنهجية (الوضعانية ) للتاريخ صفة العلم، باعتبار أن التاريخ لا يتم إلا بالوثائق، وبما أن الوثيقة هي الشاهد الوحيد على أحداث الماضي فان التاريخ علم.
وإذا كان الهدف الذي تسعى إليه الكتابة التاريخية هو الوصول إلى الحقيقة التاريخية كما حدثت في الماضي انطلاقا من الوثائق، فان السؤال الذي يطرح نفسه بحدة هو عن ماهية هذه الحقيقة ؟ وهل الحدث التاريخي الذي يكتبه المؤرخون يعبر حقيقة عما حدث بالفعل؟ أم أن الواقعة التاريخية من صنع مخيلة المؤرخ وحده؟ وبالتالي فهي تخضع للاختلاف من مؤرخ لآخر.
فإذا كان المؤرخ الوضعاني ينطلق في أبحاثه من الوثيقة “تحقق أولا من الوقائع ثم قم باستخلاص نتائجك منها “(6) فإن المؤرخ الحالي هو الذي يضفي صفة الوثيقة على هذا المصدر أو ذاك، تساؤلاته هي التي تدفعه إلى الاحتفاظ بنوع من الوثائق وترك الأخرى جانبا، فهو لا يحشر نفسه في موقف استقرائي” يخرج الأحداث من الوثائق، بل يقوم بجمع الوثائق، ويعمل على تنظيمها وتوزيعها وترتيبها وفرز الملائم منها، ثم يقوم بطبخها، ومن ثم يقدمها بالأسلوب الذي يروق له”(7) .
إن المؤرخ يلجـأ إلى انتقاء مصادره ووثائقه، فهو يقوم بعملية اختيار، مما يطرح أسئلة عديدة حول نوعية الوثائق التي اعتمد عليها، ومدى مصداقيتها، ومن كتبها، وهل هي رسمية أم غير رسمية ؟
ثم ألا يقوم المؤرخ باختيار وثائق معينة على حساب أخرى ربما فقط لتعزيز نتائجه لكي تتوافق مع فرضياته المطروحة مسبقا؟ ثم ماهي حدود الذاتية والموضوعية في الكتابة التاريخية ؟
إن مثل هذه الأسئلة وغيرها تجعلنا على يقين تام من أن المؤرخ لا يمكنه أن يكتب تاريخا حقيقيا، فثقافة المؤرخ ومنهجيته وتوجهاته الفكرية والثقافية تلعب دورا كبيرا في صناعة الحدث التاريخي.
يقول البروفيسور أوكشوت “التاريخ هو تجربة المؤرخ، إنه ليس من صنع أحد سوى المؤرخ، وكتابة التاريخ هي الطريقة الوحيدة لصنعه”(، فالتاريخ لا وجود له إلا في ذهن المؤرخ، فالماضي زال وانقضى، وأخباره الموجودة في الكتب هي من صنع المؤرخ وحده، ومن ثم لم تعد الوثيقة تلك المادة الجامدة التي يحاول المؤرخ الوصول من خلالها إلى ما تم بالفعل في الماضي، أي انه يستحيل إدراك الماضي كما كان بكل تفاصيله وحيثياته، لكن كما نتوهم أنه كان(9)، لأن الحقيقة التي حدثت في الزمن السابق لن تتكرر أبدا، وبالتالي فان المؤرخ يقوم بإعادة بناء الحدث من زاويته الخاصة به، فالتاريخ إذن هو نتاج عملية بناء جديدة، وعليه فان الحقائق التاريخية لا يمكنها بتاتا أن تصلنا كاملة، ولذلك تختلف الرواية السردية من مؤرخ لآخر، لأنها تعتمد على القاعدة التالية : “اجمع وقائعك أولا ثم قم بتحليلها، وأقحم نفسك في خطر رمال التأويل والتفسير”(10)، ومن هنا يتضح لنا جليا أنه لا يمكن عمليا كتابة التاريخ كما تم فعلا، وبشكل مطابق لما وقع في الماضي، ولكن كما نعتقد أنه كان، إن الأمر أشبه ما يكون بإعادة مباراة في كرة القدم بين فريقين بنفس الطريقة، وهذا شيء مستحيل، فالتاريخ لا يعيد نفسه مرتين، لأنه محدود في الزمان والمكان، ويتجه دائما إلى الأمام دون تكرار أو رجوع إلى الوراء.
وهكذا يبقى التاريخ دائما ميدانا مفتوحا للبحث والمراجعة كلما بقيت الحياة مجالا للاكتشاف، وكلما بقي العقل البشري قادرا على التنقيب والتفسير والتجديد.
وإذا كان مؤرخو المدرسة الوضعانية ومن بعدهم مؤرخو مدرسة الحوليات حاولوا بكل ما أوتوا من قوة أن يجعلوا من التاريخ علما مطلقا شأنه شأن العلوم الأخرى، يخضع لقوانين ثابتة وقوى متميزة يمكن قياسها وتحديدها (11)، فإنه بالمقابل هناك من يشكك كثيرا في هذا الطرح خصوصا المؤرخين الجدد الذين يعتبرون أن” التاريخ يختلف عن العلوم التجريبية الأخرى التي تعتمد على الملاحظة والتجربة (..) ومن ثم لا يمكن أن يطلق اسم العلم على أي بحث نظري إلا إذا أمكن استخدامه للتنبؤ بالمستقبل أي إلا إذا مكننا من الكشف عن بعض العلاقات أو القوانين العامة التي يمكن تطبيقها على الظواهر ولا شك أن هذا الشرط لا يمكن تحققه في التاريخ لأنه من العسير القول بان المؤرخ يستطيع استخلاص القوانين العامة التي تمكنه من التنبؤ بالحوادث قبل حصولها “(12).
ويعد هذا الجدل حديث العهد ، باعتبار أن التاريخ لم يدخل دائرة البحث العلمي إلا في وقت متأخر، فحتى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وجد في أوربا من يشكك في اعتباره علما من العلوم الإنسانية، إلى أن حسمت القضية حسما قاطعا بتطبيق التقنيات المنهجية على علم التاريخ حيث يتبع المؤرخ طرقا استقرائية يغلب عليها طابع التحليل والنقد والتحقيق والتركيب العقلي للكشف عن العلاقات السببية الموجودة بين الوقائع والأحداث التاريخية، انطلاقا من مختلف الوثائق والمصادر، فينتقل المؤرخ من مجرد سارد لوقائع حدثت في الماضي، إلى مستوى أعمق وأشمل في البحث، إذ يسعى إلى اكتشاف القوانين المتحكمة في هذه الأحداث، فتطورت بذلك الدراسات التاريخية في عالمنا المعاصر تطورا ملموسا(13)، وظهرت العديد من النظريات خاصة في مجال فلسفة التاريخ، باعتبار أن التاريخ لا يمكن فهمه إلا من خلال إمكانات الفكر الفلسفي، فالتاريخ فلسفي بطبيعته مثلما الإنسان مدني بطبعه (14). فما معنى الفلسفة ؟ وما علاقتها بالتاريخ؟.
3- الفلسفة والتاريخ.
تفلسف فلان:أي تعاط الفلسفة، وأصلها اللغوي كلمة يونانية مكونة من لفظتين فيلوس: بمعنى محب، وسوفيا: بمعنى الحكمة، ومعناها محب الحكمة(15).
لكن من الصعب جدا تحديد مدلول اصطلاحي واحد لها، فقد اختلف معناها بتغير المكان والزمان، كما تباينت التعريفات حسب المذاهب والأفكار.
ورغم الاختلاف الشديد حول المفهوم من الناحية الاصطلاحية بسبب عدم وجود شرح دقيق ومتفق عليه لدى الباحثين، شأنه في ذلك شان العديد من المصطلحات الأخرى، فإن الأقدمين كانوا يطلقون لفظة الفلسفة بأعم معانيها على مجموع ثمرات العقل الإنساني(16)، واعتبروها شكلا راقيا من أشكال الوعي، إذ سميت أم العلوم في بداياتها الأولى، لأن مباحثها اقتحمت جميع الميادين المعرفية الأخرى، ثم تطورت مع الزمن كمنهج وأسلوب في البحث.
وقد اختلف الباحثون في تاريخ الفلسفة حول مكان نشأتها الأولى، ووقفوا في هذه المسألة فريقين:
فريق أول ومنهم سيرون وكانتليان ويوجين يردون بدايات التفلسف إلى الحضارة الإغريقية(17)، باعتبار أن أول من أطلق هذه الكلمة على الحكمة هو فيثاغورس الفيلسوف اليوناني الشهير الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد .
أما الفريق الثاني من الباحثين في تاريخ الفلسفة ونشأتها مثل ديوجانوس ونومينوس أبو الأفلاطونية الحديثة في القرن الثاني بعد الميلاد(…) وجوستاف لوبون صاحب كتاب”الحضارات الأولى” وجيمس هنري برستد صاحب كتاب”انتصار الحضارة” و”فجر الضمير” و”تطور الفكر والدين في مصر القديمة”وغيره(…) فيردون نشأة الفلسفة الأولى وبداية التفلسف إلى تراث الشرق القديم، أي إلى المصريين القدامى والبابليين والكلدانيين والصينيين (18).
ورغم هذا الاختلاف فانه يجب الإشارة إلى أن اليونانيين الإغريق هم الذين نبغوا في علم الفلسفة، ومع ذلك لا يجب أن ننسى التأثيرات الكبيرة للشعوب الأخرى على اليونانيين الذين فتحوا بلادا كثيرة، إذ نشير على سبيل المثال إلى روايات كثيرة عند هيرودوت تؤكد زيارات قام بها فلاسفة يونان لبلاد مصر وغيرها,اخذوا خلالها العديد من المعلومات واقتبسوا ما تيسر لهم من الأفكار والحقائق في ميادين عدة, وهذا يؤكد فضل حضارات الشرق عليهم .
وإذا كان من الصعب الجزم بتحديد دقيق لبدء تاريخ التفلسف الإنساني، فالواقع أن التساؤل الفلسفي بصفة عامة (…) بدأ مع نشوء التجمعات الإنسانية المنظمة ومع قيام الحضارات الإنسانية الأولى، ولاشك أن الفلسفة بدأت فطرية تستند إلى الحس الظاهر، وراحت مع تطور الوعي تحكم العقل في كل مظاهر الوجود، وليس أدل على ذلك من أسئلة الطفل البديهية من أنا ؟ ولماذا خلقت؟ ومن خلقني؟ وكيف؟ ولماذا أنا ابن فلان ولست ابن فلان؟ وما هو الوجود؟ ومن أوجده ؟ وما الموت؟ والى أين المصير؟(19).
وقد كانت الميثولوجيا الأولى المبنية على الأساطير والخرافات هي أساس تفسير ظواهر الكون والحياة، ولكن سرعان ما بدأت دائرة الخيال تضيق لصالح العقل مع الزمن .
ويرى الفيلسوف الوجودي كارل جاسبرز في كتابه “المدخل إلى الفلسفة”ٌ بان التأمل الفلسفي ينبع من صميم الإنسان، ومن حيث هو كذلك فإنه شائع بين الناس صغارا وكبارا، بدائيين ومتحضرين(20).
وتبحث الفلسفة في قضايا الميتافيزيقيا والوجود وما وراء الطبيعة، وهي مليئة بالأفكار المختلفة ما بين دينية ومادية ومثالية، وما بين وضعية ووجودية.
ويجب التفريق بين العلم والفلسفة، فالعلم حقائق يقينية ثابتة مبنية على التجربة والاختبار، أما الفلسفة فنظريات حول قضايا الوجود وطبيعة الخلق، تعتمد كثرة الافتراضات والتخمينات، وتبقى خاضعة للتغيير والتعديل.
ومع هذا يظل الدور الذي قامت به الفلسفة في مسيرة الحضارة الإنسانية دورا لا يستهان به(21)، ذلك أن المعرفة الفلسفية تتميز بضروب من العمق والنظر، لا تتحقق في سواها، واستهدفت عبر تاريخها الطويل نظرة شاملة للإنسان والكون، وظلت الملاذ الوحيد والسبيل الأفضل للإنسان كلما تهيأت الظروف وتحققت الأسباب ليتجاوز الجزئيات ويرتفع عن الأعراض، ويراجع موقفه من نفسه ومن الوجود، عسى أن يحقق لنفسه وبنفسه معرفة أعمق وارسخ، ويدرك من أسرار الوجود والعلاقات والمعادلات مالا يدرك بغير الفلسفة(22).
فالفلسفة فوق كونها تعبير عن روح عصرها، باعتبار الفكر الفلسفي ابن بيئته وظروفه، فإنها من جهة أخرى تسهم بشكل فعال في حشد القدرة الفكرية والذهنية للعقل البشري, ومن هنا ارتبطت الفلسفة بالتاريخ، باعتبار أن التاريخ من أهم الميادين الفكرية التي اهتم بها الإنسان منذ القديم، لذلك فالتاريخ من المعارف الإنسانية التي تعتبر وثيقة الصلة بالفكر الفلسفي، فالفلسفة تلتقي بالتاريخ من خلال علاقات عديدة, ليس فقط من حيث تاريخ الفلسفة، أي رصد تاريخ الفكر البشري وتقلباته فقط، بل من حيث هو فلسفة التاريخ :أي التفكير في تطور التاريخ، ومحاولة البحث عن قانون يحكم هذا التطور(23)، بهذا المعنى يلتقي كل من الفلسفة والتاريخ باعتبار أن الفلسفة ظاهرة تاريخية مرتبطة بظروف عصرها ونشاطا عقليا حيويا في حياة شعوبها.
ففلسفة التاريخ إذن هي نوع من المعرفة الاجتماعية التي تبحث في الاتجاه العام لسير البشرية، وتحاول إيجاد قانون عام يحكم التاريخ الإنساني، وبهذا تكون المهمة الأساسية الأولى لفلسفة التاريخ إماطة اللثام عن النظريات التي تقوم بتأويل الأحداث التاريخية، “وكذا الكشف عن القوانين التي تتحكم في المسيرة التاريخية”(24)، ومن ثم أصبح البحث في التاريخ وكتابته فنا من فنون التناول الفلسفي في تاريخ الفكر (25) .
4- فلسفة التاريخ.
لنقل أولا انه من الصعب جدا وضع تحديد دقيق لما تعنيه عبارة فلسفة التاريخ، فالفكر الحديث رغم تقدمه لا يزال عاجزا عن تقديم تحديد واضح وحاسم لهذا المفهوم، فإذا كان التاريخ دراسة في أحوال الإنسان وحركته على الأرض، فان كل مؤرخ يميل إلى تناول أحداث الماضي بما يملك من أفكار فلسفية وإيديولوجية، لذلك فمن الطبيعي أن يكون لهذه الأفكار أثرها الكبير في رؤيته التاريخية (26).
وتعبير فلسفة التاريخ هذا لم يستعمل إلا في القرن الثامن عشر الميلادي، وذلك خلال عصر الأنوار بفرنسا، على يد فولتير، غير أن التفلسف في التاريخ بدأ فعلا قبل ابتكار هذا التعبير بمدة طويلة(27)، حيث يرى شميت أن ابن خلدون هو الذي اكتشف الميدان الحقيقي للتاريخ(28)، كما يرى كثيرون غيره أنه أبو التاريخ الحقيقي، أو مؤسس علم التاريخ بتعبير البروفيسور البان. ج . ويدرجي .
إن فلسفة التاريخ مؤسسة على علم التاريخ، من حيث أنه علم الوقائع الموجودة في المكان والزمان (29)، فالتاريخ لا يسير اعتباطا، وإنما حسب حدود مرسومة، وهذه الحدود هي المنطق الذي يربط حوادث التاريخ وينظمها، وهذا المنطق عبارة عن فروض عامة، أي فلسفة تصبغ تموجات التاريخ بصبغتها (30).
فالتاريخ البشري لا يتحرك فوضى وعلى غير هدف، وإنما تحكمه سنن ونواميس، كتلك التي تحكم الكون والعالم والحياة والأشياء سواء بسواء، وان الوقائع التاريخية لا تخلق صدفة وإنما من خلال شروط خاصة تمنحها هذه الصفة أو تلك، أو توجهها صوب هذا المصير أو ذاك(31) .
فتفسير التاريخ إذن يقصد به معرفة الروابط التي تربط الأحداث والوقائع المتفرقة، ودراستها لاستبيان دوافعها وارتباطاتها ونتائجها، واستخلاص السنن والنواميس الإلهية منها, والاعتبار بالدروس والعضات فيها, وهي مرحلة تأتى بعد الدراسة النقدية للأخبار، فالذي ثبت من الوقائع و الأحداث هو الذي يفسر, وتدرس ارتباطاته، ويتعرف على دلالته وآثاره(32)، وذلك بهدف تفسير القوانين وتحديد السنن التي تتشكل بموجبها معطيات التاريخ بوقائعه المزدحمة والمتشابكة، من اجل وضع اليد على مجموعات نمطية من المؤثرات التي تتحكم بالحركة التاريخية، فتسوقها في هذا الاتجاه أو ذاك، فيما يعرف بفلسفة التاريخ (33).
ففلسفة التاريخ هي التي تبحث في الوقائع التاريخية، فتسعى لاكتشاف العوامل الأساسية التي تؤثر في سير هذه الوقائع، وتعمل على استنباط القوانين العامة التي تتطور بموجبها الأمم والدول(34)، أي تهتم بتفسير وفهم مجرى التاريخ في ضوء نظرية فلسفية معينة, وتضع لعلم التاريخ أساسا فلسفيا، بحيث لا يبقى التاريخ مجرد سرد وتفسير للوقائع فقط, وإنما البحث عن القوانين الثابتة التي تتخطى الزمان والمكان، ولا تجري وفق الأهواء أو المصادفات، ومن ثم كانت مهمة فلسفة التاريخ هي الكشف عن هذه القوانين التي تفسر تاريخ البشرية، وفق تحليل دقيق للمصادر التاريخية ودراسة المصطلحات العامة التي يستخدمها المؤرخون في تفسير الوقائع التاريخية كالعلية والفرضية والقانون ونحوه (35).
إن فلسفة التاريخ تقوم على أساس وجود قوانين تتحكم في سير التاريخ، وهذه القوانين يجب اكتشافها والتعامل معها، ومن هذا المنظور يصبح التفسير التاريخي للحوادث اجتهادا بشريا يحتمل الخطأ والصواب، لأنه يدخل ضمن ميدان الدراسات النظرية.
وقد تطور مفهوم فلسفة التاريخ في الدراسات الحديثة فأصبح مصطلحا يشير إلى جانبين مختلفين من جوانب دراسة التاريخ، الجانب الأول يجعلها دراسة لمناهج البحث(36)، أي الطرق والأساليب المستعملة للتحقق من الوقائع التاريخية(37)، وهذه الدراسة تتضمن في جملتها الفحص الدقيق لمنهجية المؤرخ، ومن هنا يمكننا القول أن فلسفة التاريخ تقوم بدور الناقد الأعلى، إذ أنها تقوم باختبار دقيق لما يدعيه أصحاب المنهج التاريخي من معرفة أو حقيقة، وهذا الفرع يطلق عليه الفلسفة النقدية للتاريخ (38).
أما الجانب الثاني فيتمثل في تقديم وجهة نظر عن مسار التاريخ ككل (39)، وهو ما يطلق عليه الفلسفة التأملية للتاريخ, والتي تهتم بالأسباب المؤدية إلى ظهور أنماط معينة في حركة التاريخ، عن طريق اكتشاف القوانين المتحكمة في ذلك والتنبؤ على أساسها بالمستقبل(40), وهذه النظرة التأملية للتاريخ تمثل الدراسة التي يقوم بها المؤرخ للعصور السابقة بهدف استخلاص القوانين التي تحكم سير الحياة والإنسان والمجتمع والدولة والحضارة.
5- فلسفة الحضارة.
يعتبر مصطلح الحضارة أيضا من المصطلحات التي لم تستعمل بمعناها الحديث في الفكر العربي إلا منذ وقت قصير، ومع ذلك فقد شاع استخدامه بشكل كبير، ولمعرفة معنى هذا المصطلح نرجع إلى بعض المعاجم والقواميس لمعرفة الأصل اللغوي لها، فقد جاء في لسان العرب لابن منظور في مادة “حضر” أن “الحضارة” تعني “الإقامة في الحضر” أي في المدن، وهي “بخلاف البداوة التي تعني الإقامة المتنقلة في البوادي”، “والحضر والحاضرة خلاف البادية وهي المدن والقرى …سميت كذلك لأن أهلها حضروا الأمصار ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار”(41).
فالحضارة إذن خلاف البداوة لأنها تعني الإقامة في الحضر، وهذا النمط المرتبط بالتمدن مناقض لخصائص وعادات البداوة، فالحضارة والبداوة نمطان متمايزان ومختلفان إلى حد التقابل والتضاد.
أما المعنى الذاتي المجرد لمفهوم الحضارة، فهو كل مرحلة سامية من مراحل التطور الإنساني المقابلة لمرحلة الهمجية والتوحش وخشونة الطبع، حيث تصبح الحضارة نمطا من الحياة تتميز بضروب من التقدم والرقي والازدهار في المجال العلمي والثقافي والأدبي والاجتماعي والسياسي.
ويرجع أصل الحضارة إلى الاستقرار الذي بدأ مع ظهور الزراعة، حيث أن هذا الاستقرار ساعد الإنسان على إنشاء المدن والأمصار، والتفنن في الإعمار واكتساب العلوم والفنون، وإيجاد القوانين التي تنظم سير الدولة، وهو الذي فتح للمجتمعات أبواب التطور والتقدم والازدهار.
فالحضارة مرحلة متقدمة تأتى بعد حياة الترحال والتنقل والرعي والبحث عن الماء والكلأ، وترتبط بالاستقرار في المدن، وما يصحب ذلك من ظهور قيم وفنون وعلوم ونظم وأعراف وتقاليد وعادات وقوانين وشرائع(42).
فالحضارة إذن نظام اجتماعي تعين الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي والفكري، وتمكنه من استغلال موارده الاقتصادية أحسن استغلال، وتؤدي به إلى تقوية سلطة دولته وتنمية علومه وفنونه وآدابه واحترام عاداته وتقاليده وماضيه.
وهي حسب ويل ديورانت تبدأ حين ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا أمن الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها(43).
ويعرف ويليانك وتيلرالحضارة بأنها نوع من أنواع الحياة البشرية المتقدمة التي عمادها بصفة أساسية معيشة الحضر، وما تتطلبه من تنظيم، وما تسفره من نتائج وتدابير، تتمثل في الكتابة والتشريع ونظم الحكم وأساليب التجارة والتدين، فالحضارة على هذا الأساس المتقدم لا يمكن تصور قيامها إلا في رحاب المدن(44)، لذلك فالحضارة لا تظهر أبدا في البادية، لأن البدو بطبعهم “هادمون للحضارة” حسب تعبير ابن خلدون .
وقد وصف تايلور العالم الإنجليزي الحضارة” بأنها ذلك الكل المعقد الذي يشمل المعارف والعقيدة والفن والقيم الأخلاقية والقانون والتقاليد وكل القدرات والعادات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع”(45)، فقولنا تمدن الرجل أو تحضر يعني أنه ساهم في نظام معشري سياسي بقدر طاقته(..) وأنه مستعد للنهوض بمهام مادية وأخلاقية وعقلية(46).
هذا فيما يتعلق ببعض التعريفات حول مفهوم الحضارة بصفة عامة، أما اليوم فقد أصبحت الحضارة مبحثا من مباحث الدراسات التاريخية المتخصصة، حيث لم يعد التاريخ يهتم بأخبار المعارك والغزوات وسير الملوك العظماء فقط، بل بدراسة مختلف انتاجات الفكر الإنساني وشتى مظاهر الحياة اليومية، ولقد بدأ المؤرخون أخيرا يجعلون من الحضارات موضوع دراستهم واهتماماتهم لان ذلك يعينهم على معرفة الأسباب المؤدية إلى قيامها والعوامل المؤثرة في تدهورها وانهيارها.
وتاريخ الحضارات لاشك يندرج تحت طاولة أبحاث التاريخ، وإن بدت عليه بعض ملامح الفلسفة فيما يصطلح على تسميته بفلسفة الحضارة، ذلك أن الحضارة بمعناها العام هي ثمرات المجهودات الإنسانية، وهذه الثمرات لا يمكن أن تظهر إلا في مجالات تاريخية وزمنية معينة.
وقد أنجزت العديد من الدراسات والفت العديد من الكتب المتعلقة بنظريات فلسفة التاريخ، حيث تأسست نظريات تتناول مفهوم الحضارة بالتفسير والتحليل، تحاول كلها إيضاح القوانين التي تتحكم في سير الحركة التاريخية.
ومن أبرز هذه الأبحاث نجد المؤرخ عبد الرحمان ابن خلدون في كتابه الشهير|”المقدمة”، وتوينبي في كتابه “مختصر التاريخ” واشبنجلر في كتابه “اضمحلال الغرب”، وغيرهم من المفكرين والمؤرخين، ولكل منهم نظرة غائية كاملة استخلصها من دراسته العميقة لمراحل النمو والانحطاط الذي مرت بها الحضارات والأمم والدول السابقة(47) .
6- تاريخ فلسفة التاريخ .
لقد شهد العالم الأوربي في القرن السادس عشر الميلادي نهضة أوربية شملت ميدان الفكر والفن والدين والتاريخ، وشهدت هذه الفترة صراعا مريرا بين الكنيسة الكاثوليكية وبين قادة الفكر أنصار الحركة الإنسية، الذين عارضوا التصور الكنسي المسيحي الضيق للتاريخ، فقد حقق الايطالي ميكيافلي(1469-1527) انفصال التفكيرالسياسي عن الأخلاق انفصالا تاما، ووضع السياسة في قوانين ثابتة لا تتغير مستمدا مادته من تحليل ومراجعة التاريخ الروماني من خلال “كتاب المطارحات” ومن ملاحظات الدول الأوربية المعاصرة له من خلال “كتاب الأمير”(48).
في حين مهدت مقولات جان بودان (1530-1596) لتفكير علمي وفلسفي دقيق في التاريخ(49), كما ظهر اورييل داكوستا أيضا ووقف في وجه رجال الدين المحافظين من طائفته اليهودية، وقد بدا بتفسير الكتب المقدسة المسيحية واليهودية تفسيرا تاريخيا جريئا، خالف فيه كثيرا من الآراء السائدة، فتعرض نتيجة لذلك للطرد من مجمع الطائفة اليهودية بأمستردام، ولقي ألوانا شتى من المضايقات والاحتقار والمذلة، فكان اليهود يبصقون في وجهه، ويلقون على بيته القاذورات والجيف، واحتمل الرجل ذلك كله مدة سبع سنوات كاملة(..) حتى لم تعد أعصابه تحتمل، فأعلن توبته وطلب الغفران(..) لكن السلطات الدينية لطائفته طلبت إليه أن يعترف أمام جمع غفير بذنوبه وخطاياه، ففعل وجلد تسعا وثلاثين جلدة تخللتها قراءات تستنزل اللعنات عليه، وأخيرا طلب إليه أن يركع أمام المعبد، فمر جمع فوقه إمعانا في إذلاله، وكان ذلك أكثر مما تتحمله أعصاب الرجل المسكين، فعاد إلى داره وهو في اشد حالات النقمة والسخط والتذمر، وكتب رسالة سجل فيها كل ما مر به ثم قتل نفسه فمات لساعته(50).
وفي مرحلة عصر التنوير خلال القرن الثامن عشر الميلادي اهتم فولتير(1694- 1778) بالتاريخ، واعتبره مظهرا من مظاهر الاهتمام بالإنسان، وتمجيد العقل ومعارضة الفكرة المسيحية في التاريخ(51)، واليه يعزو المؤرخ ج- ب- بوري فضل استعماله أول مرة عبارة فلسفة التاريخ(..) ففولتير استعملها في بحث يرجع تاريخه إلى سنة 1756م، ثم عاد فتناولها فيما بعد أثناء مقدمة كتابه “مدخل في طبائع الأمم”(52), كما أن مونتسكيو(1689-1755) يعتبر أول من دافع عن قوانين التاريخ ضد فكرة المصادفة(53)، لذلك نال كتابه “روح القوانين”عقب انتشاره شهرة هائلة، استوجبت طبعه أكثر من عشرين مرة خلال سنة ونصف(54)، وقد بحث هذا الكتاب في العلل أكثر من الغوص في المغزى الحقيقي للتاريخ، وكان يسعى قبل كل شيء إلى أن يسوق تفاصيل للتاريخ بأسباب طبيعية كالمناخ وأحوال جغرافية أخرى(55)، ورغم ما يحتويه روح القوانين من أبحاث كثيرة تمت بصلة قوية إلى فلسفة التاريخ (..) فإنه يظل في الأساس كتاب يبحث في القوانين والشرائع، ولا يتطرق إلى مسائل التاريخ وفلسفة التاريخ إلا من وجهة علاقتهما بهذه القوانين والشرائع (56).
وتظل أشمل الدراسات في فلسفة التاريخ ما كتبه روبرت فلينت في كتابه “فلسفة التاريخ في فرنسا وألمانيا” ثم في كتابه “تاريخ فلسفة التاريخ” حيث أشاد في كتبه بمقدمة ابن خلدون وأعجب به كثيرا حتى قال في شأنه عبارته الشهيرة “إنه منقطع النظير في كل زمان ومكان، حتى ظهور فيكو بعده بأكثر من ثلاثمائة عام، ليس أفلاطون ولا أرسطو ولا القديس اوغسطينوس بأنداد له، وأما البقية فلا يستحقون حتى الذكر بجانبه”(57).
لقد تغيرت آراء علماء الغرب(..) فقد كانوا يزعمون أن فيكو هو أول من فكر في فلسفة التاريخ، ولكنهم علموا بعدئذ أن ابن خلدون قد سبقه إلى ذلك بمدة تزيد عن ثلاثة قرون ونصف القرن (58)، وأنه أقام دراسته لتطور الحضارة الإنسانية: أي ما يسمونه فلسفة التاريخ على دعائم علمية قوية(59), فإذا كان كتاب فيكو يعتبر بمثابة تفلسف في تاريخ الإغريق والرومان، فان مقدمة ابن خلدون تفلسف في تاريخ العرب والإسلام (60).
ورغم أن ابن خلدون لم يستعمل مصطلح فلسفة التاريخ صراحة، فان مقدمته تعتبر من نوع المؤلفات التي عرفت في أوربا باسم فلسفة التاريخ في القرن الثامن عشر، وباسم علم التاريخ أو المدخل إلى التاريخ في القرن التاسع عشر(61)، ذلك أنه حدد في مقدمته مبادئ النقد التاريخي وفلسفة التاريخ والاجتماع(62).
لقد أصبح التاريخ بفضل ابن خلدون علما منهجيا راسخا، ولم يعد سردا للحوادث بل تعليلا لها(63)، لقد نظر ابن خلدون إلى علل الحوادث و أسبابها، وحاول اكتشاف السنن التي تنظمها، و أكد على بدايات الحوادث وقيام الدول وتعليل سقوطها (64)، لقد تجاوز أخبار الأيام و الدول، ليستشف ويكشف عن أسبابها والقوانين التي تحكمها، ولقد أدرك أخطاء كثير من المؤرخين السابقين في تفسيرهم للأحداث بسبب التحيز والجهل بطبيعة البشر أو بطبيعة المجتمعات أو الجهل بطبائع الأحوال في العمران، ومن هنا يعتبر ابن خلدون مؤسسا لفلسفة التاريخ، إذ أخذ من الفلسفة نظرتها العلمية والتعميمية ومن التاريخ واقعيته(65).
لقد أنشأ ابن خلدون في مقدمته علما جديدا كان فيه ينسج وحده، أي لم يسبقه أحد لا من مفكري الشرق ولا من مفكري الغرب(..) وقد أطلق ابن خلدون على علمه الجديد اسم العمران(66)، ويفتخر ابن خلدون بهذا العلم ويعبر عن فخره هذا بصريح العبارات ويعتبر نفسه مبتكرا ومخترعا في هذا التأليف ولم يكن مقلدا أو مقتبسا من أحد(67).
أن مقدمة ابن خلدون بما حوته من علم جديد هي التي أكسبته الشهرة الواسعة وخلدت اسمه بين علماء العالم(68)، انه إمام ومجدد في علم التاريخ(69)، لذلك يرى كثيرون أن ابن خلدون هو أبو التاريخ أو مؤسس علم التاريخ على حد قول البروفيسور ألبان ج ويدرجي(70).
إن المقدمة تكاد تكون المؤلف العربي الوحيد الذي نحس أثناء قراءاته، انه أكثر معاصرة منا لأنفسنا وواقعنا، وبعبارة أخرى إننا عندما نقرا المقدمة نشعر بأننا نقرأ ما لم نكتبه بعد، ونسمع فعلا ما لم نقله بعد(71).
لقد كان ابن خلدون شخصية غير متوقعة بالنسبة لعصره، ذلك العصر الذي بلغ تفكك العالم الإسلامي فيه مبلغه بين دويلات طائفية متناحرة، لذلك فقد بقيت مقدمته مغمورة وضائعة وسط صخب صراع الدول الطائفية ووسط أمة خاملة، إلى أن ترجمها الأوربيون واستفادوا منها، وقامت دراسات متعددة حولها تعد بالآلاف(72)، ولقد قال جورج سارتون في حق ابن خلدون “لم يكن فحسب أعظم مؤرخي العصور الوسطى شامخا كعملاق بين قبيلة من الأقزام، بل كان من أوائل فلاسفة التاريخ سابقا ميكيافلي وبودان و فيكو وكونت وكورتو”(73)، وقد اعتبر المستشرق الفرنسي سيلفيستر دي ساسي (1758-1838) الذي درس الإنتاج العلمي لابن خلدون بقوله “انه مونتسكيو العرب”(74)، ثم فر يدريك شولتز (1799-1829)الذي أشار إلى ضرورة إصدار نشرة سريعة وترجمة لهذا البحث الفلسفي لمؤلف يدعى بحق “مونتسكيو الشرق”(75)، ذلك أن المنهج الخلدوني التاريخي تميز بالدقة العلمية، فلقد كان التاريخ قبله لونا من ألوان الأدب ونوعا من المسامرة وسرد الحوادث (..) لقد كان الأقدمون ينظرون إلى التاريخ نظرتهم إلى ديوان أخبار، ولم يعدوه علما من العلوم له قواعده وأصوله و أسسه ومناهجه(76)، ولا ينكر أحد أن التاريخ على يد ابن خلدون أضحى علما متكاملا راسخا(77)، إذ لم يهتم فقط بالتساؤل عن أحداث الماضي وتسجيلها، وإنما كان يسال أيضا عن كيفية حدوثها(..) بل تقدم إلى مرحلة سامية في المعرفة، فتساءل عن سبب وقوع هذه الأحداث(78)، وحاول استجلاء أهم العوامل والأسس التي تتقدم من خلالها الحضارة، وكذلك العوامل و الأسباب التي تؤذن بخرابها، لذلك اعتبره العديد من الباحثين والمتخصصين بأنه إمام لفلاسفة التاريخ، لأنه ولأول مرة في تاريخ الفكر الإنساني يبتدع ابن خلدون علم الاجتماع البشري والقوانين المنظمة للحياة وتطور المجتمع(79) .
كما يكتشف علما لم يكن معروفا من قبل و أعطى هذا المولود الجديد اسم علم العمران(80).
هوامش الفصل الأول
1- عبد العليم عبد الرحمان خضر (المسلمون وكتابة التاريخ – دراسة في التأصيل الإسلامي لعلم التاريخ- ) الطبعة الأولى، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1993، هيرندن- فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية.
2- محمد صامل السلمي (منهج كتابة التاريخ الإسلامي وتدريسه) الطبعة الأولى، 1988، المملكة العربية السعودية، ص47. // ونفس التعريف للتاريخ نجده في (لسان العرب) لابن منظور، المجلد الثالث، دار صادر، لبنان، ص4.
3- عبد العليم عبد الرحمان خضر(المسلمون وكتابة التاريخ )، م. س، ص24.
4- أنور الجندي (الإسلام وحركة التاريخ )الطبعة الأولى، 1970، دار الكتب اللبناني، ص486.
5- عفت الشرقاوي (في فلسفة الحضارة الإسلامية ) م. س. ص247.
6- ادوارد كار ( ما هو التاريخ ) ترجمة ماهر كيالي ، وبيار عقار، الطبعة الثانية 1980، لبنان، ص7.
المرجع أعلاه، ص 8. 7-
8- نفسه، ص 23.
9- قسطنطين زريق (نحن والتاريخ) الطبعة الثالثة، 1974، بيروت، ص57.
10- ادوارد كار ( ما هو التاريخ) م. س. ص 14.
11- دافيد ومارسيل( فلسفة التقدم) ترجمة الدكتور خالد المنصوري، بدون طبعة، القاهرة ص 8 .
12- د. ادريس فاخوري ( مدخل لدراسة مناهج العلوم القانونية ) الطبعة الأولى، 2003، مطبعة الجسور، وجدة، ص 34.
13- محمود إسماعيل (قضايا في التاريخ الإسلامي- منهج وتطبيق) الطبعة الثالثة، 1981، ص15.
14- د. سليمان الخطيب( فلسفة الحضارة الإسلامية عند مالك بن نبي- دراسة إسلامية في ضوء الواقع المعاصر) سلسلة الرسائل الجامعية 4 المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، ص48.
15- محمد فريد وجدي ( دائرة معارف القرن العشرين ) الجزء الثاني، بيروت، ص404.
16- المرجع أعلاه، ص 404.
17- مهدي فضل الله ( آراء نقدية في مشكلات الدين والفلسفة والمنطق) الطبعة الأولى، 1981، ص101.// ومحمد فريد وجدي ( دائرة معارف القرن العشرين) م.س، ص 404.
18- مهدي فضل الله ( آراء نقدية في مشكلات الدين والفلسفة والمنطق) مرجع سابق. ص 101.
19- المرجع أعلاه، ص 101.
20- نفسه، ص 101 .
21- سليمان الخطيب ( فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي) م. س.، ص 27 .
22- د فتحي التريكي ( أفلاطون والديالكتيك ) بدون طبعة، 1985، الدار التونسية للنشر، ص 5.
23- سليمان الخطيب( فلسفة الحضارة الإسلامية عند مالك بن نبي ) ص27/32.
24- ناصف نصار ( الفكر الواقعي عند ابن خلدون ) الطبعة الأولى، 1987، بيروت، ص178.
25- محمد بن صامل السلمي ( منهج كتابة التاريخ الإسلامي وتدريسه ) م. س ص 10.
26- عفت الشرقاوي ( في فلسفة الحضارة الإسلامية) م. س، ص 166.
27- ساطع الحصري ( دراسات عن مقدمة ابن خلدون ) الطبعة الثالثة ، لبنان، ص 171.
28- د محمد جلال شرف و د . علي عبد المعطي محمد ( الفكر السياسي في الإسلام شخصيات ومذاهب ) 1978، بدون طبعة، الإسكندرية، ص 580.
29- البان د ويدجيري ( المذاهب الكبرى في التاريخ من كونفوشيوس إلى توينبي ) ترجمة ذوقان قرقوط ، الطبعة الأولى، 1972، لبنان ص229.
30- د. سليمان الخطيب ( فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي) م. س ، ص 80.
31- عماد الدين خليل ( حول إعادة تشكيل العقل المسلم ) الطبعة الثانية، 1403ه، كتاب الأمة، قطر، ص51.
32- محمد بن صامل السلمي ( منهج كتابة التاريخ الإسلامي وتدريسه ) م. س، ص 15.
33- عبد العليم عبد الرحمان خضر ( المسلمون وكتابة التاريخ ) م. س. ص 10.
34- ساطع الحصري (دراسات عن مقدمة ابن خلدون) م.س. انظر ص71، 72.
35- نفسه ص 28.
36- عفت الشرقاوي ( في فلسفة الحضارة الإسلامية) م. س . ص 147 .
37- هيغل( محاضرات في فلسفة التاريخ – العقل في التاريخ ) الجزء الأول، الطبعة الثانية، لبنان ، ص 30.
38- عفت الشرقاوي ( في فلسفة الحضارة الإسلامية) م. س. ص 148.
39 هيغل (( محاضرات في فلسفة التاريخ – العقل في التاريخ ) الجزء الأول، م. س، ص30.
40- عفت الشرقاوي ( في فلسفة الحضارة الإسلامية) م. س . ص148.
41- ابن منظور ( لسان العرب ) بدون، دار صادر، بيروت، ص19.
42- محمد عبد السلام الجفائري) انظر من ص 94 إلى ص 96.
43 – ويل ديورانت ( قصة الحضارة) ترجمة زكي نجيب محمود ، الجزء الأول، الطبعة الثالثة، 1965، ص 3.
44- محمد عبد المنعم نور( الحضارة والتحضر ) بدون طبعة، 1978، القاهرة، ص6.
45- عفت الشرقاوي( في فلسفة الحضارة الإنسانية) م. س. ص 11.
46- د محمد عزيز الحبابي (عشرون حديثا في الثقافات القومية والحضارة الإنسانية) الطبعة الثانية، 1973،القاهرة، ص 24.
47- د. حسن الحلاق( مقدمة في مناهج البحث التاريخي والعلوم المساعدة وتحقيق المخطوطات) بدون طبعة، بيروت، ص246.
48-( تراث الفكر السياسي قبل الأمير وبعده ) مرجع سابق ص 246.
49- البان د ويدجيري ( المذاهب الكبرى في التاريخ من كونفوشيوس إلى توينبي ) ترجمة ذوقان قرقوط ، مرجع سابق، ص190.
50- فؤاد زكرياء(اسبينوزا) الطبعة الثانية، 1981، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، ص113.
51- عفت الشرقاوي ( في فلسفة الحضارة الإسلامية) م. س. ص 232.
52 - البان د ويدجيري ( المذاهب الكبرى في التاريخ من كونفوشيوس إلى توينبي ) ترجمة ذوقان قرقوط، مرجع سابق، ص199.
53- ادوارد كار ( ماهو التاريخ) ترجمة ماهر كيالي،وبيار عقار،الطبعة الثانية، 1980، لبنان، ص 113.
54- - ساطع الحصري (دراسات عن مقدمة ابن خلدون) م. س. ص203.
55- - البان د ويدجيري ( المذاهب الكبرى في التاريخ من كونفوشيوس إلى توينبي ) ،مرجع سابق، ص.198.
56- ساطع الحصري (دراسات عن مقدمة ابن خلدون) م. س. ص204-205 .
.57- المرجع أعلاه، ص 175.
58- عفت الشرقاوي( في فلسفة الحضارة الإنسانية) م. س. ص408.
59- علي عبد الواحد وافي (عبقريات ابن خلدون) بدون طبعة، 1973، القاهرة، ص271- 272.
60- - ساطع الحصري (دراسات عن مقدمة ابن خلدون) م. س، ص195.
61- نفسه، ص 170.
62- لبيب عبد الستار ( الحضارات) الطبعة الثامنة، بدون، دار المشرق، بيروت، ص 287.
63- د. عبد المنعم عبد الرحمان خضر( المسلمون وكتابة التاريخ) م. س، ص 146.
64- محمد بن صامل السلمي ( منهج كتابة التاريخ الإسلامي وتدريسه ) م. س، ص48.
65- محمد بن عبد السلام الجفائري ( مشكلات الحضارة عند مالك بن نبي) م. س. ص165، نقلا عن احمد محمود صبحي.
66- د حسن الساعاتي ( علم الاجتماع الخلدوني – قواعد المنهج-) الطبعة الثانية، 1974، بيروت، ص2.
67- ساطع الحصري (دراسات عن مقدمة ابن خلدون) م. س، ص136.
68- د حسن الساعاتي ( علم الاجتماع الخلدوني – قواعد المنهج-)مرجع سابق، ص 5.
69- - د محمد جلال شرف و د . علي عبد المعطي محمد ( الفكر السياسي في الإسلام شخصيات ومذاهب ) 1978، بدون طبعة، الإسكندرية، ص 151.
70- د. عبد العليم عبد الرحمان خضر( المسلمون وكتابة التاريخ) م. س. ص139.
71- د. عبد العليم عويس ( التأصيل الإسلامي لنظريات ابن خلدون )الطبعة الأولى، كتاب الأمة، 1996، قطر، ص112.
72- لمرجع أعلاه ص 109.
73- نفسه ص 112.
74- د.سفيتلانا باتسيفيا ( العمران البشري في مقدمة ابن خلدون) ترجمة رضوان إبراهيم، بدون طبعة، 1978، ليبيا، تونس ص91 .
75- المرجع أعلاه ص93.
76- عبد العليم عبد الرحمان خضر ( المسلمون وكتابة التاريخ ) م. س. ص145.
77- نفسه ، ص 146. المصدر
كتبهاحرفوش مدني
1- مفهوم التاريخ
ما المقصود بدراسة التاريخ؟ وما دلالة اللفظ اللغوية والاصطلاحية ؟
تدل كلمة التاريخ أو التأريخ في اللغة العربية على الإعلام بالوقت، مضافا إليه ما وقع في ذلك الوقت من أخبار ووقائع(1)، والتاريخ بهذا المعنى اللغوي قديم، فقد قال الجوهري “التاريخ تعريف الوقت والتوريخ مثله، يقال أرخت وورخت”(2)، أما المقريزي فيعرف التاريخ بأنه إخبار عما حدث في العالم الماضي (3).
من خلال هذه التعريفات الوجيزة وغيرها يتضح لنا أن التاريخ عند اغلب المؤرخين هو بحث و دراسة واستقصاء لأخبار الناس وحركتهم، والنظر في أحوالهم الماضية، أما موضوعه فهو الحياة الإنسانية في امتدادها الزمني على الأرض منذ بدء الخلق إلى اليوم، وما يحكم هذه الحياة من عوامل وأسباب.
فإذا كان التاريخ هو حركة الزمن من خلال المجتمع(4)، وموضوعه الإنسان في هذا الزمن(5). فالسؤال الذي يطرح نفسه هو متى بدأ التاريخ ؟ ومتى بدأت العصور التاريخية.؟
بدأت العصور التاريخية منذ أن اخترع الإنسان الكتابة وأخذ يسجل ما يعرفه على الأحجار والكهوف والجلود والألواح الطينية، وتختلف الأبحاث العلمية في تحديد السنة بالضبط إذ تتراوح ما بين خمس آلاف سنة قبل الميلاد وثلاثة آلاف وخمسمائة سنة قبل الميلاد، لكنها تتفق جميعا أن ذلك تم في بلاد الرافدين(العراق حاليا) على يد السومريين الذين اخترعوا الكتابة المسمارية .
ومن هنا بدأت العصور الإنسانية عهدا جديدا سمي بعصر التاريخ، أما العصور التي سبقت ظهور الكتابة فتسمى عصور ما قبل التاريخ.
ونريد أن نلفت النظر هنا إلى أننا عندما نسمي عصور ما قبل ظهور الكتابة بعصور ما قبل التاريخ لا ننفي مطلقا وجود الأحداث والوقائع خلال هذه الفترة، ولكن المقصود أن ما وقع خلال هذه العهود غير معروف على وجه الدقة والتمحيص، وتبقى التخمينات المبنية على علم الآثار (الأركيولوجيا) هي أساس المعلومات في ظل غياب أي مصدر مكتوب عن تلك المرحلة، ولذلك أطلق عليها مجازا عصور ما قبل التاريخ لتمييزها عن مرحلة ما بعد ظهور الكتابة والتي اتسمت بتسجيل الأحداث.
2- علم التاريخ
يعتبر التاريخ علما من العلوم الاجتماعية، لكن هل للتاريخ قوانين تتحكم فيه؟ وتوجه تطوره بنوع من الضرورة الحتمية؟ وهل من خلال الإحاطة بهذه القوانين يمكننا التنبؤ بسير الأحداث في المستقبل؟
ونقصد هنا بالقوانين مفهومها العلمي الذي يعني ارتباط الأسباب بالمسببات والنتائج بالمقدمات، كما هو الحال في ظواهر الفيزياء والكيمياء والحساب والطبيعة.
لقد ظل الجدل قائما حول هذه المسألة وما يزال، إذ أثار علماء التاريخ والمناهج مسالة ما إذا كان التاريخ علما كالعلوم التجريبية أم لا، وقد استهوى هذا المبحث نفوس كبار المؤرخين، فمنهم من ينفي صفة العلمية عن التاريخ، باعتبار أن العلم يفيد المعرفة اليقينية الدقيقة بحقيقة الشيء، ومنهم من يرى أن التاريخ هو تلك المعرفة العلمية بشؤون الماضي، وأنه بالإمكان نقل مناهج العلوم التجريبية إلى حقل العلوم الإنسانية نظرا لأوجه التشابه بين علم التاريخ وعلوم الطبيعة، فالمنهج التاريخي هو نفسه المنهج المطبق في العلوم الحقة الأخرى، أما المؤرخون الذين ينفون صفة العلمية عن التاريخ، فيرون أن علوم الطبيعة وحدها خاضعة للتفسير والتعليل، لأنها تقوم على التجربة والملاحظة والاستقراء والمقارنة، بخلاف العلوم الإنسانية ومن ضمنها التاريخ فإنها لا تخضع إلا للفهم والتأمل، ويقصد هنا بالتفسير النهج التحليلي الذي يقوم على إبراز العلاقات السببية بين الظواهر، في حين أن الفهم نهج تركيبي يرتكز على معرفة الغير وتأويل النوايا البشرية عبر استعمال أساليب التفكير الفلسفي، باعتبار أن الحقيقة البشرية الماضية ليست معطيات واضحة يستطيع المؤرخ الكشف عنها وعرضها بطريقة تامة وكاملة، بل المؤرخ في الواقع يقوم بمسائلة تلك الحقيقة وإعادة ترتيبها وتنظيمها وبنائها من جديد في إطار تسلسل زمني وربطها بعلاقات منطقية وسببية، فينتهي بذلك إلى تركيب الأحداث التاريخية.
ثم إن هذا الجدل استمر بين أنصار علمية التاريخ ومناوئيهم، وقد ظهر ذلك جليا في القرن التاسع عشر، حيث منح مؤرخو المدرسة المنهجية (الوضعانية ) للتاريخ صفة العلم، باعتبار أن التاريخ لا يتم إلا بالوثائق، وبما أن الوثيقة هي الشاهد الوحيد على أحداث الماضي فان التاريخ علم.
وإذا كان الهدف الذي تسعى إليه الكتابة التاريخية هو الوصول إلى الحقيقة التاريخية كما حدثت في الماضي انطلاقا من الوثائق، فان السؤال الذي يطرح نفسه بحدة هو عن ماهية هذه الحقيقة ؟ وهل الحدث التاريخي الذي يكتبه المؤرخون يعبر حقيقة عما حدث بالفعل؟ أم أن الواقعة التاريخية من صنع مخيلة المؤرخ وحده؟ وبالتالي فهي تخضع للاختلاف من مؤرخ لآخر.
فإذا كان المؤرخ الوضعاني ينطلق في أبحاثه من الوثيقة “تحقق أولا من الوقائع ثم قم باستخلاص نتائجك منها “(6) فإن المؤرخ الحالي هو الذي يضفي صفة الوثيقة على هذا المصدر أو ذاك، تساؤلاته هي التي تدفعه إلى الاحتفاظ بنوع من الوثائق وترك الأخرى جانبا، فهو لا يحشر نفسه في موقف استقرائي” يخرج الأحداث من الوثائق، بل يقوم بجمع الوثائق، ويعمل على تنظيمها وتوزيعها وترتيبها وفرز الملائم منها، ثم يقوم بطبخها، ومن ثم يقدمها بالأسلوب الذي يروق له”(7) .
إن المؤرخ يلجـأ إلى انتقاء مصادره ووثائقه، فهو يقوم بعملية اختيار، مما يطرح أسئلة عديدة حول نوعية الوثائق التي اعتمد عليها، ومدى مصداقيتها، ومن كتبها، وهل هي رسمية أم غير رسمية ؟
ثم ألا يقوم المؤرخ باختيار وثائق معينة على حساب أخرى ربما فقط لتعزيز نتائجه لكي تتوافق مع فرضياته المطروحة مسبقا؟ ثم ماهي حدود الذاتية والموضوعية في الكتابة التاريخية ؟
إن مثل هذه الأسئلة وغيرها تجعلنا على يقين تام من أن المؤرخ لا يمكنه أن يكتب تاريخا حقيقيا، فثقافة المؤرخ ومنهجيته وتوجهاته الفكرية والثقافية تلعب دورا كبيرا في صناعة الحدث التاريخي.
يقول البروفيسور أوكشوت “التاريخ هو تجربة المؤرخ، إنه ليس من صنع أحد سوى المؤرخ، وكتابة التاريخ هي الطريقة الوحيدة لصنعه”(، فالتاريخ لا وجود له إلا في ذهن المؤرخ، فالماضي زال وانقضى، وأخباره الموجودة في الكتب هي من صنع المؤرخ وحده، ومن ثم لم تعد الوثيقة تلك المادة الجامدة التي يحاول المؤرخ الوصول من خلالها إلى ما تم بالفعل في الماضي، أي انه يستحيل إدراك الماضي كما كان بكل تفاصيله وحيثياته، لكن كما نتوهم أنه كان(9)، لأن الحقيقة التي حدثت في الزمن السابق لن تتكرر أبدا، وبالتالي فان المؤرخ يقوم بإعادة بناء الحدث من زاويته الخاصة به، فالتاريخ إذن هو نتاج عملية بناء جديدة، وعليه فان الحقائق التاريخية لا يمكنها بتاتا أن تصلنا كاملة، ولذلك تختلف الرواية السردية من مؤرخ لآخر، لأنها تعتمد على القاعدة التالية : “اجمع وقائعك أولا ثم قم بتحليلها، وأقحم نفسك في خطر رمال التأويل والتفسير”(10)، ومن هنا يتضح لنا جليا أنه لا يمكن عمليا كتابة التاريخ كما تم فعلا، وبشكل مطابق لما وقع في الماضي، ولكن كما نعتقد أنه كان، إن الأمر أشبه ما يكون بإعادة مباراة في كرة القدم بين فريقين بنفس الطريقة، وهذا شيء مستحيل، فالتاريخ لا يعيد نفسه مرتين، لأنه محدود في الزمان والمكان، ويتجه دائما إلى الأمام دون تكرار أو رجوع إلى الوراء.
وهكذا يبقى التاريخ دائما ميدانا مفتوحا للبحث والمراجعة كلما بقيت الحياة مجالا للاكتشاف، وكلما بقي العقل البشري قادرا على التنقيب والتفسير والتجديد.
وإذا كان مؤرخو المدرسة الوضعانية ومن بعدهم مؤرخو مدرسة الحوليات حاولوا بكل ما أوتوا من قوة أن يجعلوا من التاريخ علما مطلقا شأنه شأن العلوم الأخرى، يخضع لقوانين ثابتة وقوى متميزة يمكن قياسها وتحديدها (11)، فإنه بالمقابل هناك من يشكك كثيرا في هذا الطرح خصوصا المؤرخين الجدد الذين يعتبرون أن” التاريخ يختلف عن العلوم التجريبية الأخرى التي تعتمد على الملاحظة والتجربة (..) ومن ثم لا يمكن أن يطلق اسم العلم على أي بحث نظري إلا إذا أمكن استخدامه للتنبؤ بالمستقبل أي إلا إذا مكننا من الكشف عن بعض العلاقات أو القوانين العامة التي يمكن تطبيقها على الظواهر ولا شك أن هذا الشرط لا يمكن تحققه في التاريخ لأنه من العسير القول بان المؤرخ يستطيع استخلاص القوانين العامة التي تمكنه من التنبؤ بالحوادث قبل حصولها “(12).
ويعد هذا الجدل حديث العهد ، باعتبار أن التاريخ لم يدخل دائرة البحث العلمي إلا في وقت متأخر، فحتى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وجد في أوربا من يشكك في اعتباره علما من العلوم الإنسانية، إلى أن حسمت القضية حسما قاطعا بتطبيق التقنيات المنهجية على علم التاريخ حيث يتبع المؤرخ طرقا استقرائية يغلب عليها طابع التحليل والنقد والتحقيق والتركيب العقلي للكشف عن العلاقات السببية الموجودة بين الوقائع والأحداث التاريخية، انطلاقا من مختلف الوثائق والمصادر، فينتقل المؤرخ من مجرد سارد لوقائع حدثت في الماضي، إلى مستوى أعمق وأشمل في البحث، إذ يسعى إلى اكتشاف القوانين المتحكمة في هذه الأحداث، فتطورت بذلك الدراسات التاريخية في عالمنا المعاصر تطورا ملموسا(13)، وظهرت العديد من النظريات خاصة في مجال فلسفة التاريخ، باعتبار أن التاريخ لا يمكن فهمه إلا من خلال إمكانات الفكر الفلسفي، فالتاريخ فلسفي بطبيعته مثلما الإنسان مدني بطبعه (14). فما معنى الفلسفة ؟ وما علاقتها بالتاريخ؟.
3- الفلسفة والتاريخ.
تفلسف فلان:أي تعاط الفلسفة، وأصلها اللغوي كلمة يونانية مكونة من لفظتين فيلوس: بمعنى محب، وسوفيا: بمعنى الحكمة، ومعناها محب الحكمة(15).
لكن من الصعب جدا تحديد مدلول اصطلاحي واحد لها، فقد اختلف معناها بتغير المكان والزمان، كما تباينت التعريفات حسب المذاهب والأفكار.
ورغم الاختلاف الشديد حول المفهوم من الناحية الاصطلاحية بسبب عدم وجود شرح دقيق ومتفق عليه لدى الباحثين، شأنه في ذلك شان العديد من المصطلحات الأخرى، فإن الأقدمين كانوا يطلقون لفظة الفلسفة بأعم معانيها على مجموع ثمرات العقل الإنساني(16)، واعتبروها شكلا راقيا من أشكال الوعي، إذ سميت أم العلوم في بداياتها الأولى، لأن مباحثها اقتحمت جميع الميادين المعرفية الأخرى، ثم تطورت مع الزمن كمنهج وأسلوب في البحث.
وقد اختلف الباحثون في تاريخ الفلسفة حول مكان نشأتها الأولى، ووقفوا في هذه المسألة فريقين:
فريق أول ومنهم سيرون وكانتليان ويوجين يردون بدايات التفلسف إلى الحضارة الإغريقية(17)، باعتبار أن أول من أطلق هذه الكلمة على الحكمة هو فيثاغورس الفيلسوف اليوناني الشهير الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد .
أما الفريق الثاني من الباحثين في تاريخ الفلسفة ونشأتها مثل ديوجانوس ونومينوس أبو الأفلاطونية الحديثة في القرن الثاني بعد الميلاد(…) وجوستاف لوبون صاحب كتاب”الحضارات الأولى” وجيمس هنري برستد صاحب كتاب”انتصار الحضارة” و”فجر الضمير” و”تطور الفكر والدين في مصر القديمة”وغيره(…) فيردون نشأة الفلسفة الأولى وبداية التفلسف إلى تراث الشرق القديم، أي إلى المصريين القدامى والبابليين والكلدانيين والصينيين (18).
ورغم هذا الاختلاف فانه يجب الإشارة إلى أن اليونانيين الإغريق هم الذين نبغوا في علم الفلسفة، ومع ذلك لا يجب أن ننسى التأثيرات الكبيرة للشعوب الأخرى على اليونانيين الذين فتحوا بلادا كثيرة، إذ نشير على سبيل المثال إلى روايات كثيرة عند هيرودوت تؤكد زيارات قام بها فلاسفة يونان لبلاد مصر وغيرها,اخذوا خلالها العديد من المعلومات واقتبسوا ما تيسر لهم من الأفكار والحقائق في ميادين عدة, وهذا يؤكد فضل حضارات الشرق عليهم .
وإذا كان من الصعب الجزم بتحديد دقيق لبدء تاريخ التفلسف الإنساني، فالواقع أن التساؤل الفلسفي بصفة عامة (…) بدأ مع نشوء التجمعات الإنسانية المنظمة ومع قيام الحضارات الإنسانية الأولى، ولاشك أن الفلسفة بدأت فطرية تستند إلى الحس الظاهر، وراحت مع تطور الوعي تحكم العقل في كل مظاهر الوجود، وليس أدل على ذلك من أسئلة الطفل البديهية من أنا ؟ ولماذا خلقت؟ ومن خلقني؟ وكيف؟ ولماذا أنا ابن فلان ولست ابن فلان؟ وما هو الوجود؟ ومن أوجده ؟ وما الموت؟ والى أين المصير؟(19).
وقد كانت الميثولوجيا الأولى المبنية على الأساطير والخرافات هي أساس تفسير ظواهر الكون والحياة، ولكن سرعان ما بدأت دائرة الخيال تضيق لصالح العقل مع الزمن .
ويرى الفيلسوف الوجودي كارل جاسبرز في كتابه “المدخل إلى الفلسفة”ٌ بان التأمل الفلسفي ينبع من صميم الإنسان، ومن حيث هو كذلك فإنه شائع بين الناس صغارا وكبارا، بدائيين ومتحضرين(20).
وتبحث الفلسفة في قضايا الميتافيزيقيا والوجود وما وراء الطبيعة، وهي مليئة بالأفكار المختلفة ما بين دينية ومادية ومثالية، وما بين وضعية ووجودية.
ويجب التفريق بين العلم والفلسفة، فالعلم حقائق يقينية ثابتة مبنية على التجربة والاختبار، أما الفلسفة فنظريات حول قضايا الوجود وطبيعة الخلق، تعتمد كثرة الافتراضات والتخمينات، وتبقى خاضعة للتغيير والتعديل.
ومع هذا يظل الدور الذي قامت به الفلسفة في مسيرة الحضارة الإنسانية دورا لا يستهان به(21)، ذلك أن المعرفة الفلسفية تتميز بضروب من العمق والنظر، لا تتحقق في سواها، واستهدفت عبر تاريخها الطويل نظرة شاملة للإنسان والكون، وظلت الملاذ الوحيد والسبيل الأفضل للإنسان كلما تهيأت الظروف وتحققت الأسباب ليتجاوز الجزئيات ويرتفع عن الأعراض، ويراجع موقفه من نفسه ومن الوجود، عسى أن يحقق لنفسه وبنفسه معرفة أعمق وارسخ، ويدرك من أسرار الوجود والعلاقات والمعادلات مالا يدرك بغير الفلسفة(22).
فالفلسفة فوق كونها تعبير عن روح عصرها، باعتبار الفكر الفلسفي ابن بيئته وظروفه، فإنها من جهة أخرى تسهم بشكل فعال في حشد القدرة الفكرية والذهنية للعقل البشري, ومن هنا ارتبطت الفلسفة بالتاريخ، باعتبار أن التاريخ من أهم الميادين الفكرية التي اهتم بها الإنسان منذ القديم، لذلك فالتاريخ من المعارف الإنسانية التي تعتبر وثيقة الصلة بالفكر الفلسفي، فالفلسفة تلتقي بالتاريخ من خلال علاقات عديدة, ليس فقط من حيث تاريخ الفلسفة، أي رصد تاريخ الفكر البشري وتقلباته فقط، بل من حيث هو فلسفة التاريخ :أي التفكير في تطور التاريخ، ومحاولة البحث عن قانون يحكم هذا التطور(23)، بهذا المعنى يلتقي كل من الفلسفة والتاريخ باعتبار أن الفلسفة ظاهرة تاريخية مرتبطة بظروف عصرها ونشاطا عقليا حيويا في حياة شعوبها.
ففلسفة التاريخ إذن هي نوع من المعرفة الاجتماعية التي تبحث في الاتجاه العام لسير البشرية، وتحاول إيجاد قانون عام يحكم التاريخ الإنساني، وبهذا تكون المهمة الأساسية الأولى لفلسفة التاريخ إماطة اللثام عن النظريات التي تقوم بتأويل الأحداث التاريخية، “وكذا الكشف عن القوانين التي تتحكم في المسيرة التاريخية”(24)، ومن ثم أصبح البحث في التاريخ وكتابته فنا من فنون التناول الفلسفي في تاريخ الفكر (25) .
4- فلسفة التاريخ.
لنقل أولا انه من الصعب جدا وضع تحديد دقيق لما تعنيه عبارة فلسفة التاريخ، فالفكر الحديث رغم تقدمه لا يزال عاجزا عن تقديم تحديد واضح وحاسم لهذا المفهوم، فإذا كان التاريخ دراسة في أحوال الإنسان وحركته على الأرض، فان كل مؤرخ يميل إلى تناول أحداث الماضي بما يملك من أفكار فلسفية وإيديولوجية، لذلك فمن الطبيعي أن يكون لهذه الأفكار أثرها الكبير في رؤيته التاريخية (26).
وتعبير فلسفة التاريخ هذا لم يستعمل إلا في القرن الثامن عشر الميلادي، وذلك خلال عصر الأنوار بفرنسا، على يد فولتير، غير أن التفلسف في التاريخ بدأ فعلا قبل ابتكار هذا التعبير بمدة طويلة(27)، حيث يرى شميت أن ابن خلدون هو الذي اكتشف الميدان الحقيقي للتاريخ(28)، كما يرى كثيرون غيره أنه أبو التاريخ الحقيقي، أو مؤسس علم التاريخ بتعبير البروفيسور البان. ج . ويدرجي .
إن فلسفة التاريخ مؤسسة على علم التاريخ، من حيث أنه علم الوقائع الموجودة في المكان والزمان (29)، فالتاريخ لا يسير اعتباطا، وإنما حسب حدود مرسومة، وهذه الحدود هي المنطق الذي يربط حوادث التاريخ وينظمها، وهذا المنطق عبارة عن فروض عامة، أي فلسفة تصبغ تموجات التاريخ بصبغتها (30).
فالتاريخ البشري لا يتحرك فوضى وعلى غير هدف، وإنما تحكمه سنن ونواميس، كتلك التي تحكم الكون والعالم والحياة والأشياء سواء بسواء، وان الوقائع التاريخية لا تخلق صدفة وإنما من خلال شروط خاصة تمنحها هذه الصفة أو تلك، أو توجهها صوب هذا المصير أو ذاك(31) .
فتفسير التاريخ إذن يقصد به معرفة الروابط التي تربط الأحداث والوقائع المتفرقة، ودراستها لاستبيان دوافعها وارتباطاتها ونتائجها، واستخلاص السنن والنواميس الإلهية منها, والاعتبار بالدروس والعضات فيها, وهي مرحلة تأتى بعد الدراسة النقدية للأخبار، فالذي ثبت من الوقائع و الأحداث هو الذي يفسر, وتدرس ارتباطاته، ويتعرف على دلالته وآثاره(32)، وذلك بهدف تفسير القوانين وتحديد السنن التي تتشكل بموجبها معطيات التاريخ بوقائعه المزدحمة والمتشابكة، من اجل وضع اليد على مجموعات نمطية من المؤثرات التي تتحكم بالحركة التاريخية، فتسوقها في هذا الاتجاه أو ذاك، فيما يعرف بفلسفة التاريخ (33).
ففلسفة التاريخ هي التي تبحث في الوقائع التاريخية، فتسعى لاكتشاف العوامل الأساسية التي تؤثر في سير هذه الوقائع، وتعمل على استنباط القوانين العامة التي تتطور بموجبها الأمم والدول(34)، أي تهتم بتفسير وفهم مجرى التاريخ في ضوء نظرية فلسفية معينة, وتضع لعلم التاريخ أساسا فلسفيا، بحيث لا يبقى التاريخ مجرد سرد وتفسير للوقائع فقط, وإنما البحث عن القوانين الثابتة التي تتخطى الزمان والمكان، ولا تجري وفق الأهواء أو المصادفات، ومن ثم كانت مهمة فلسفة التاريخ هي الكشف عن هذه القوانين التي تفسر تاريخ البشرية، وفق تحليل دقيق للمصادر التاريخية ودراسة المصطلحات العامة التي يستخدمها المؤرخون في تفسير الوقائع التاريخية كالعلية والفرضية والقانون ونحوه (35).
إن فلسفة التاريخ تقوم على أساس وجود قوانين تتحكم في سير التاريخ، وهذه القوانين يجب اكتشافها والتعامل معها، ومن هذا المنظور يصبح التفسير التاريخي للحوادث اجتهادا بشريا يحتمل الخطأ والصواب، لأنه يدخل ضمن ميدان الدراسات النظرية.
وقد تطور مفهوم فلسفة التاريخ في الدراسات الحديثة فأصبح مصطلحا يشير إلى جانبين مختلفين من جوانب دراسة التاريخ، الجانب الأول يجعلها دراسة لمناهج البحث(36)، أي الطرق والأساليب المستعملة للتحقق من الوقائع التاريخية(37)، وهذه الدراسة تتضمن في جملتها الفحص الدقيق لمنهجية المؤرخ، ومن هنا يمكننا القول أن فلسفة التاريخ تقوم بدور الناقد الأعلى، إذ أنها تقوم باختبار دقيق لما يدعيه أصحاب المنهج التاريخي من معرفة أو حقيقة، وهذا الفرع يطلق عليه الفلسفة النقدية للتاريخ (38).
أما الجانب الثاني فيتمثل في تقديم وجهة نظر عن مسار التاريخ ككل (39)، وهو ما يطلق عليه الفلسفة التأملية للتاريخ, والتي تهتم بالأسباب المؤدية إلى ظهور أنماط معينة في حركة التاريخ، عن طريق اكتشاف القوانين المتحكمة في ذلك والتنبؤ على أساسها بالمستقبل(40), وهذه النظرة التأملية للتاريخ تمثل الدراسة التي يقوم بها المؤرخ للعصور السابقة بهدف استخلاص القوانين التي تحكم سير الحياة والإنسان والمجتمع والدولة والحضارة.
5- فلسفة الحضارة.
يعتبر مصطلح الحضارة أيضا من المصطلحات التي لم تستعمل بمعناها الحديث في الفكر العربي إلا منذ وقت قصير، ومع ذلك فقد شاع استخدامه بشكل كبير، ولمعرفة معنى هذا المصطلح نرجع إلى بعض المعاجم والقواميس لمعرفة الأصل اللغوي لها، فقد جاء في لسان العرب لابن منظور في مادة “حضر” أن “الحضارة” تعني “الإقامة في الحضر” أي في المدن، وهي “بخلاف البداوة التي تعني الإقامة المتنقلة في البوادي”، “والحضر والحاضرة خلاف البادية وهي المدن والقرى …سميت كذلك لأن أهلها حضروا الأمصار ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار”(41).
فالحضارة إذن خلاف البداوة لأنها تعني الإقامة في الحضر، وهذا النمط المرتبط بالتمدن مناقض لخصائص وعادات البداوة، فالحضارة والبداوة نمطان متمايزان ومختلفان إلى حد التقابل والتضاد.
أما المعنى الذاتي المجرد لمفهوم الحضارة، فهو كل مرحلة سامية من مراحل التطور الإنساني المقابلة لمرحلة الهمجية والتوحش وخشونة الطبع، حيث تصبح الحضارة نمطا من الحياة تتميز بضروب من التقدم والرقي والازدهار في المجال العلمي والثقافي والأدبي والاجتماعي والسياسي.
ويرجع أصل الحضارة إلى الاستقرار الذي بدأ مع ظهور الزراعة، حيث أن هذا الاستقرار ساعد الإنسان على إنشاء المدن والأمصار، والتفنن في الإعمار واكتساب العلوم والفنون، وإيجاد القوانين التي تنظم سير الدولة، وهو الذي فتح للمجتمعات أبواب التطور والتقدم والازدهار.
فالحضارة مرحلة متقدمة تأتى بعد حياة الترحال والتنقل والرعي والبحث عن الماء والكلأ، وترتبط بالاستقرار في المدن، وما يصحب ذلك من ظهور قيم وفنون وعلوم ونظم وأعراف وتقاليد وعادات وقوانين وشرائع(42).
فالحضارة إذن نظام اجتماعي تعين الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي والفكري، وتمكنه من استغلال موارده الاقتصادية أحسن استغلال، وتؤدي به إلى تقوية سلطة دولته وتنمية علومه وفنونه وآدابه واحترام عاداته وتقاليده وماضيه.
وهي حسب ويل ديورانت تبدأ حين ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا أمن الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها(43).
ويعرف ويليانك وتيلرالحضارة بأنها نوع من أنواع الحياة البشرية المتقدمة التي عمادها بصفة أساسية معيشة الحضر، وما تتطلبه من تنظيم، وما تسفره من نتائج وتدابير، تتمثل في الكتابة والتشريع ونظم الحكم وأساليب التجارة والتدين، فالحضارة على هذا الأساس المتقدم لا يمكن تصور قيامها إلا في رحاب المدن(44)، لذلك فالحضارة لا تظهر أبدا في البادية، لأن البدو بطبعهم “هادمون للحضارة” حسب تعبير ابن خلدون .
وقد وصف تايلور العالم الإنجليزي الحضارة” بأنها ذلك الكل المعقد الذي يشمل المعارف والعقيدة والفن والقيم الأخلاقية والقانون والتقاليد وكل القدرات والعادات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع”(45)، فقولنا تمدن الرجل أو تحضر يعني أنه ساهم في نظام معشري سياسي بقدر طاقته(..) وأنه مستعد للنهوض بمهام مادية وأخلاقية وعقلية(46).
هذا فيما يتعلق ببعض التعريفات حول مفهوم الحضارة بصفة عامة، أما اليوم فقد أصبحت الحضارة مبحثا من مباحث الدراسات التاريخية المتخصصة، حيث لم يعد التاريخ يهتم بأخبار المعارك والغزوات وسير الملوك العظماء فقط، بل بدراسة مختلف انتاجات الفكر الإنساني وشتى مظاهر الحياة اليومية، ولقد بدأ المؤرخون أخيرا يجعلون من الحضارات موضوع دراستهم واهتماماتهم لان ذلك يعينهم على معرفة الأسباب المؤدية إلى قيامها والعوامل المؤثرة في تدهورها وانهيارها.
وتاريخ الحضارات لاشك يندرج تحت طاولة أبحاث التاريخ، وإن بدت عليه بعض ملامح الفلسفة فيما يصطلح على تسميته بفلسفة الحضارة، ذلك أن الحضارة بمعناها العام هي ثمرات المجهودات الإنسانية، وهذه الثمرات لا يمكن أن تظهر إلا في مجالات تاريخية وزمنية معينة.
وقد أنجزت العديد من الدراسات والفت العديد من الكتب المتعلقة بنظريات فلسفة التاريخ، حيث تأسست نظريات تتناول مفهوم الحضارة بالتفسير والتحليل، تحاول كلها إيضاح القوانين التي تتحكم في سير الحركة التاريخية.
ومن أبرز هذه الأبحاث نجد المؤرخ عبد الرحمان ابن خلدون في كتابه الشهير|”المقدمة”، وتوينبي في كتابه “مختصر التاريخ” واشبنجلر في كتابه “اضمحلال الغرب”، وغيرهم من المفكرين والمؤرخين، ولكل منهم نظرة غائية كاملة استخلصها من دراسته العميقة لمراحل النمو والانحطاط الذي مرت بها الحضارات والأمم والدول السابقة(47) .
6- تاريخ فلسفة التاريخ .
لقد شهد العالم الأوربي في القرن السادس عشر الميلادي نهضة أوربية شملت ميدان الفكر والفن والدين والتاريخ، وشهدت هذه الفترة صراعا مريرا بين الكنيسة الكاثوليكية وبين قادة الفكر أنصار الحركة الإنسية، الذين عارضوا التصور الكنسي المسيحي الضيق للتاريخ، فقد حقق الايطالي ميكيافلي(1469-1527) انفصال التفكيرالسياسي عن الأخلاق انفصالا تاما، ووضع السياسة في قوانين ثابتة لا تتغير مستمدا مادته من تحليل ومراجعة التاريخ الروماني من خلال “كتاب المطارحات” ومن ملاحظات الدول الأوربية المعاصرة له من خلال “كتاب الأمير”(48).
في حين مهدت مقولات جان بودان (1530-1596) لتفكير علمي وفلسفي دقيق في التاريخ(49), كما ظهر اورييل داكوستا أيضا ووقف في وجه رجال الدين المحافظين من طائفته اليهودية، وقد بدا بتفسير الكتب المقدسة المسيحية واليهودية تفسيرا تاريخيا جريئا، خالف فيه كثيرا من الآراء السائدة، فتعرض نتيجة لذلك للطرد من مجمع الطائفة اليهودية بأمستردام، ولقي ألوانا شتى من المضايقات والاحتقار والمذلة، فكان اليهود يبصقون في وجهه، ويلقون على بيته القاذورات والجيف، واحتمل الرجل ذلك كله مدة سبع سنوات كاملة(..) حتى لم تعد أعصابه تحتمل، فأعلن توبته وطلب الغفران(..) لكن السلطات الدينية لطائفته طلبت إليه أن يعترف أمام جمع غفير بذنوبه وخطاياه، ففعل وجلد تسعا وثلاثين جلدة تخللتها قراءات تستنزل اللعنات عليه، وأخيرا طلب إليه أن يركع أمام المعبد، فمر جمع فوقه إمعانا في إذلاله، وكان ذلك أكثر مما تتحمله أعصاب الرجل المسكين، فعاد إلى داره وهو في اشد حالات النقمة والسخط والتذمر، وكتب رسالة سجل فيها كل ما مر به ثم قتل نفسه فمات لساعته(50).
وفي مرحلة عصر التنوير خلال القرن الثامن عشر الميلادي اهتم فولتير(1694- 1778) بالتاريخ، واعتبره مظهرا من مظاهر الاهتمام بالإنسان، وتمجيد العقل ومعارضة الفكرة المسيحية في التاريخ(51)، واليه يعزو المؤرخ ج- ب- بوري فضل استعماله أول مرة عبارة فلسفة التاريخ(..) ففولتير استعملها في بحث يرجع تاريخه إلى سنة 1756م، ثم عاد فتناولها فيما بعد أثناء مقدمة كتابه “مدخل في طبائع الأمم”(52), كما أن مونتسكيو(1689-1755) يعتبر أول من دافع عن قوانين التاريخ ضد فكرة المصادفة(53)، لذلك نال كتابه “روح القوانين”عقب انتشاره شهرة هائلة، استوجبت طبعه أكثر من عشرين مرة خلال سنة ونصف(54)، وقد بحث هذا الكتاب في العلل أكثر من الغوص في المغزى الحقيقي للتاريخ، وكان يسعى قبل كل شيء إلى أن يسوق تفاصيل للتاريخ بأسباب طبيعية كالمناخ وأحوال جغرافية أخرى(55)، ورغم ما يحتويه روح القوانين من أبحاث كثيرة تمت بصلة قوية إلى فلسفة التاريخ (..) فإنه يظل في الأساس كتاب يبحث في القوانين والشرائع، ولا يتطرق إلى مسائل التاريخ وفلسفة التاريخ إلا من وجهة علاقتهما بهذه القوانين والشرائع (56).
وتظل أشمل الدراسات في فلسفة التاريخ ما كتبه روبرت فلينت في كتابه “فلسفة التاريخ في فرنسا وألمانيا” ثم في كتابه “تاريخ فلسفة التاريخ” حيث أشاد في كتبه بمقدمة ابن خلدون وأعجب به كثيرا حتى قال في شأنه عبارته الشهيرة “إنه منقطع النظير في كل زمان ومكان، حتى ظهور فيكو بعده بأكثر من ثلاثمائة عام، ليس أفلاطون ولا أرسطو ولا القديس اوغسطينوس بأنداد له، وأما البقية فلا يستحقون حتى الذكر بجانبه”(57).
لقد تغيرت آراء علماء الغرب(..) فقد كانوا يزعمون أن فيكو هو أول من فكر في فلسفة التاريخ، ولكنهم علموا بعدئذ أن ابن خلدون قد سبقه إلى ذلك بمدة تزيد عن ثلاثة قرون ونصف القرن (58)، وأنه أقام دراسته لتطور الحضارة الإنسانية: أي ما يسمونه فلسفة التاريخ على دعائم علمية قوية(59), فإذا كان كتاب فيكو يعتبر بمثابة تفلسف في تاريخ الإغريق والرومان، فان مقدمة ابن خلدون تفلسف في تاريخ العرب والإسلام (60).
ورغم أن ابن خلدون لم يستعمل مصطلح فلسفة التاريخ صراحة، فان مقدمته تعتبر من نوع المؤلفات التي عرفت في أوربا باسم فلسفة التاريخ في القرن الثامن عشر، وباسم علم التاريخ أو المدخل إلى التاريخ في القرن التاسع عشر(61)، ذلك أنه حدد في مقدمته مبادئ النقد التاريخي وفلسفة التاريخ والاجتماع(62).
لقد أصبح التاريخ بفضل ابن خلدون علما منهجيا راسخا، ولم يعد سردا للحوادث بل تعليلا لها(63)، لقد نظر ابن خلدون إلى علل الحوادث و أسبابها، وحاول اكتشاف السنن التي تنظمها، و أكد على بدايات الحوادث وقيام الدول وتعليل سقوطها (64)، لقد تجاوز أخبار الأيام و الدول، ليستشف ويكشف عن أسبابها والقوانين التي تحكمها، ولقد أدرك أخطاء كثير من المؤرخين السابقين في تفسيرهم للأحداث بسبب التحيز والجهل بطبيعة البشر أو بطبيعة المجتمعات أو الجهل بطبائع الأحوال في العمران، ومن هنا يعتبر ابن خلدون مؤسسا لفلسفة التاريخ، إذ أخذ من الفلسفة نظرتها العلمية والتعميمية ومن التاريخ واقعيته(65).
لقد أنشأ ابن خلدون في مقدمته علما جديدا كان فيه ينسج وحده، أي لم يسبقه أحد لا من مفكري الشرق ولا من مفكري الغرب(..) وقد أطلق ابن خلدون على علمه الجديد اسم العمران(66)، ويفتخر ابن خلدون بهذا العلم ويعبر عن فخره هذا بصريح العبارات ويعتبر نفسه مبتكرا ومخترعا في هذا التأليف ولم يكن مقلدا أو مقتبسا من أحد(67).
أن مقدمة ابن خلدون بما حوته من علم جديد هي التي أكسبته الشهرة الواسعة وخلدت اسمه بين علماء العالم(68)، انه إمام ومجدد في علم التاريخ(69)، لذلك يرى كثيرون أن ابن خلدون هو أبو التاريخ أو مؤسس علم التاريخ على حد قول البروفيسور ألبان ج ويدرجي(70).
إن المقدمة تكاد تكون المؤلف العربي الوحيد الذي نحس أثناء قراءاته، انه أكثر معاصرة منا لأنفسنا وواقعنا، وبعبارة أخرى إننا عندما نقرا المقدمة نشعر بأننا نقرأ ما لم نكتبه بعد، ونسمع فعلا ما لم نقله بعد(71).
لقد كان ابن خلدون شخصية غير متوقعة بالنسبة لعصره، ذلك العصر الذي بلغ تفكك العالم الإسلامي فيه مبلغه بين دويلات طائفية متناحرة، لذلك فقد بقيت مقدمته مغمورة وضائعة وسط صخب صراع الدول الطائفية ووسط أمة خاملة، إلى أن ترجمها الأوربيون واستفادوا منها، وقامت دراسات متعددة حولها تعد بالآلاف(72)، ولقد قال جورج سارتون في حق ابن خلدون “لم يكن فحسب أعظم مؤرخي العصور الوسطى شامخا كعملاق بين قبيلة من الأقزام، بل كان من أوائل فلاسفة التاريخ سابقا ميكيافلي وبودان و فيكو وكونت وكورتو”(73)، وقد اعتبر المستشرق الفرنسي سيلفيستر دي ساسي (1758-1838) الذي درس الإنتاج العلمي لابن خلدون بقوله “انه مونتسكيو العرب”(74)، ثم فر يدريك شولتز (1799-1829)الذي أشار إلى ضرورة إصدار نشرة سريعة وترجمة لهذا البحث الفلسفي لمؤلف يدعى بحق “مونتسكيو الشرق”(75)، ذلك أن المنهج الخلدوني التاريخي تميز بالدقة العلمية، فلقد كان التاريخ قبله لونا من ألوان الأدب ونوعا من المسامرة وسرد الحوادث (..) لقد كان الأقدمون ينظرون إلى التاريخ نظرتهم إلى ديوان أخبار، ولم يعدوه علما من العلوم له قواعده وأصوله و أسسه ومناهجه(76)، ولا ينكر أحد أن التاريخ على يد ابن خلدون أضحى علما متكاملا راسخا(77)، إذ لم يهتم فقط بالتساؤل عن أحداث الماضي وتسجيلها، وإنما كان يسال أيضا عن كيفية حدوثها(..) بل تقدم إلى مرحلة سامية في المعرفة، فتساءل عن سبب وقوع هذه الأحداث(78)، وحاول استجلاء أهم العوامل والأسس التي تتقدم من خلالها الحضارة، وكذلك العوامل و الأسباب التي تؤذن بخرابها، لذلك اعتبره العديد من الباحثين والمتخصصين بأنه إمام لفلاسفة التاريخ، لأنه ولأول مرة في تاريخ الفكر الإنساني يبتدع ابن خلدون علم الاجتماع البشري والقوانين المنظمة للحياة وتطور المجتمع(79) .
كما يكتشف علما لم يكن معروفا من قبل و أعطى هذا المولود الجديد اسم علم العمران(80).
هوامش الفصل الأول
1- عبد العليم عبد الرحمان خضر (المسلمون وكتابة التاريخ – دراسة في التأصيل الإسلامي لعلم التاريخ- ) الطبعة الأولى، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1993، هيرندن- فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية.
2- محمد صامل السلمي (منهج كتابة التاريخ الإسلامي وتدريسه) الطبعة الأولى، 1988، المملكة العربية السعودية، ص47. // ونفس التعريف للتاريخ نجده في (لسان العرب) لابن منظور، المجلد الثالث، دار صادر، لبنان، ص4.
3- عبد العليم عبد الرحمان خضر(المسلمون وكتابة التاريخ )، م. س، ص24.
4- أنور الجندي (الإسلام وحركة التاريخ )الطبعة الأولى، 1970، دار الكتب اللبناني، ص486.
5- عفت الشرقاوي (في فلسفة الحضارة الإسلامية ) م. س. ص247.
6- ادوارد كار ( ما هو التاريخ ) ترجمة ماهر كيالي ، وبيار عقار، الطبعة الثانية 1980، لبنان، ص7.
المرجع أعلاه، ص 8. 7-
8- نفسه، ص 23.
9- قسطنطين زريق (نحن والتاريخ) الطبعة الثالثة، 1974، بيروت، ص57.
10- ادوارد كار ( ما هو التاريخ) م. س. ص 14.
11- دافيد ومارسيل( فلسفة التقدم) ترجمة الدكتور خالد المنصوري، بدون طبعة، القاهرة ص 8 .
12- د. ادريس فاخوري ( مدخل لدراسة مناهج العلوم القانونية ) الطبعة الأولى، 2003، مطبعة الجسور، وجدة، ص 34.
13- محمود إسماعيل (قضايا في التاريخ الإسلامي- منهج وتطبيق) الطبعة الثالثة، 1981، ص15.
14- د. سليمان الخطيب( فلسفة الحضارة الإسلامية عند مالك بن نبي- دراسة إسلامية في ضوء الواقع المعاصر) سلسلة الرسائل الجامعية 4 المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، ص48.
15- محمد فريد وجدي ( دائرة معارف القرن العشرين ) الجزء الثاني، بيروت، ص404.
16- المرجع أعلاه، ص 404.
17- مهدي فضل الله ( آراء نقدية في مشكلات الدين والفلسفة والمنطق) الطبعة الأولى، 1981، ص101.// ومحمد فريد وجدي ( دائرة معارف القرن العشرين) م.س، ص 404.
18- مهدي فضل الله ( آراء نقدية في مشكلات الدين والفلسفة والمنطق) مرجع سابق. ص 101.
19- المرجع أعلاه، ص 101.
20- نفسه، ص 101 .
21- سليمان الخطيب ( فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي) م. س.، ص 27 .
22- د فتحي التريكي ( أفلاطون والديالكتيك ) بدون طبعة، 1985، الدار التونسية للنشر، ص 5.
23- سليمان الخطيب( فلسفة الحضارة الإسلامية عند مالك بن نبي ) ص27/32.
24- ناصف نصار ( الفكر الواقعي عند ابن خلدون ) الطبعة الأولى، 1987، بيروت، ص178.
25- محمد بن صامل السلمي ( منهج كتابة التاريخ الإسلامي وتدريسه ) م. س ص 10.
26- عفت الشرقاوي ( في فلسفة الحضارة الإسلامية) م. س، ص 166.
27- ساطع الحصري ( دراسات عن مقدمة ابن خلدون ) الطبعة الثالثة ، لبنان، ص 171.
28- د محمد جلال شرف و د . علي عبد المعطي محمد ( الفكر السياسي في الإسلام شخصيات ومذاهب ) 1978، بدون طبعة، الإسكندرية، ص 580.
29- البان د ويدجيري ( المذاهب الكبرى في التاريخ من كونفوشيوس إلى توينبي ) ترجمة ذوقان قرقوط ، الطبعة الأولى، 1972، لبنان ص229.
30- د. سليمان الخطيب ( فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي) م. س ، ص 80.
31- عماد الدين خليل ( حول إعادة تشكيل العقل المسلم ) الطبعة الثانية، 1403ه، كتاب الأمة، قطر، ص51.
32- محمد بن صامل السلمي ( منهج كتابة التاريخ الإسلامي وتدريسه ) م. س، ص 15.
33- عبد العليم عبد الرحمان خضر ( المسلمون وكتابة التاريخ ) م. س. ص 10.
34- ساطع الحصري (دراسات عن مقدمة ابن خلدون) م.س. انظر ص71، 72.
35- نفسه ص 28.
36- عفت الشرقاوي ( في فلسفة الحضارة الإسلامية) م. س . ص 147 .
37- هيغل( محاضرات في فلسفة التاريخ – العقل في التاريخ ) الجزء الأول، الطبعة الثانية، لبنان ، ص 30.
38- عفت الشرقاوي ( في فلسفة الحضارة الإسلامية) م. س. ص 148.
39 هيغل (( محاضرات في فلسفة التاريخ – العقل في التاريخ ) الجزء الأول، م. س، ص30.
40- عفت الشرقاوي ( في فلسفة الحضارة الإسلامية) م. س . ص148.
41- ابن منظور ( لسان العرب ) بدون، دار صادر، بيروت، ص19.
42- محمد عبد السلام الجفائري) انظر من ص 94 إلى ص 96.
43 – ويل ديورانت ( قصة الحضارة) ترجمة زكي نجيب محمود ، الجزء الأول، الطبعة الثالثة، 1965، ص 3.
44- محمد عبد المنعم نور( الحضارة والتحضر ) بدون طبعة، 1978، القاهرة، ص6.
45- عفت الشرقاوي( في فلسفة الحضارة الإنسانية) م. س. ص 11.
46- د محمد عزيز الحبابي (عشرون حديثا في الثقافات القومية والحضارة الإنسانية) الطبعة الثانية، 1973،القاهرة، ص 24.
47- د. حسن الحلاق( مقدمة في مناهج البحث التاريخي والعلوم المساعدة وتحقيق المخطوطات) بدون طبعة، بيروت، ص246.
48-( تراث الفكر السياسي قبل الأمير وبعده ) مرجع سابق ص 246.
49- البان د ويدجيري ( المذاهب الكبرى في التاريخ من كونفوشيوس إلى توينبي ) ترجمة ذوقان قرقوط ، مرجع سابق، ص190.
50- فؤاد زكرياء(اسبينوزا) الطبعة الثانية، 1981، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، ص113.
51- عفت الشرقاوي ( في فلسفة الحضارة الإسلامية) م. س. ص 232.
52 - البان د ويدجيري ( المذاهب الكبرى في التاريخ من كونفوشيوس إلى توينبي ) ترجمة ذوقان قرقوط، مرجع سابق، ص199.
53- ادوارد كار ( ماهو التاريخ) ترجمة ماهر كيالي،وبيار عقار،الطبعة الثانية، 1980، لبنان، ص 113.
54- - ساطع الحصري (دراسات عن مقدمة ابن خلدون) م. س. ص203.
55- - البان د ويدجيري ( المذاهب الكبرى في التاريخ من كونفوشيوس إلى توينبي ) ،مرجع سابق، ص.198.
56- ساطع الحصري (دراسات عن مقدمة ابن خلدون) م. س. ص204-205 .
.57- المرجع أعلاه، ص 175.
58- عفت الشرقاوي( في فلسفة الحضارة الإنسانية) م. س. ص408.
59- علي عبد الواحد وافي (عبقريات ابن خلدون) بدون طبعة، 1973، القاهرة، ص271- 272.
60- - ساطع الحصري (دراسات عن مقدمة ابن خلدون) م. س، ص195.
61- نفسه، ص 170.
62- لبيب عبد الستار ( الحضارات) الطبعة الثامنة، بدون، دار المشرق، بيروت، ص 287.
63- د. عبد المنعم عبد الرحمان خضر( المسلمون وكتابة التاريخ) م. س، ص 146.
64- محمد بن صامل السلمي ( منهج كتابة التاريخ الإسلامي وتدريسه ) م. س، ص48.
65- محمد بن عبد السلام الجفائري ( مشكلات الحضارة عند مالك بن نبي) م. س. ص165، نقلا عن احمد محمود صبحي.
66- د حسن الساعاتي ( علم الاجتماع الخلدوني – قواعد المنهج-) الطبعة الثانية، 1974، بيروت، ص2.
67- ساطع الحصري (دراسات عن مقدمة ابن خلدون) م. س، ص136.
68- د حسن الساعاتي ( علم الاجتماع الخلدوني – قواعد المنهج-)مرجع سابق، ص 5.
69- - د محمد جلال شرف و د . علي عبد المعطي محمد ( الفكر السياسي في الإسلام شخصيات ومذاهب ) 1978، بدون طبعة، الإسكندرية، ص 151.
70- د. عبد العليم عبد الرحمان خضر( المسلمون وكتابة التاريخ) م. س. ص139.
71- د. عبد العليم عويس ( التأصيل الإسلامي لنظريات ابن خلدون )الطبعة الأولى، كتاب الأمة، 1996، قطر، ص112.
72- لمرجع أعلاه ص 109.
73- نفسه ص 112.
74- د.سفيتلانا باتسيفيا ( العمران البشري في مقدمة ابن خلدون) ترجمة رضوان إبراهيم، بدون طبعة، 1978، ليبيا، تونس ص91 .
75- المرجع أعلاه ص93.
76- عبد العليم عبد الرحمان خضر ( المسلمون وكتابة التاريخ ) م. س. ص145.
77- نفسه ، ص 146. المصدر
الجمعة أبريل 18, 2014 6:49 am من طرف viva star
» مناهج النقد الأدبي . مترجم.rar
الخميس أبريل 17, 2014 5:01 pm من طرف viva star
» مصطلحات توليدية
السبت فبراير 08, 2014 2:55 pm من طرف رعاش وليد
» ارجو المساعدة
الجمعة يناير 10, 2014 2:10 am من طرف مريم عبد الرحمان
» مساعدة عاجلة جداااااااااا
الثلاثاء يناير 07, 2014 6:53 am من طرف مريم عبد الرحمان
» كتب في علم الدلالة
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:35 pm من طرف safih
» عرض حول معجم المقاييس لابن فارس
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:15 pm من طرف safih
» المعجم الالكتروني
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:06 pm من طرف safih
» تشغيل الجزيرة الرياضية بالشرينغ
الثلاثاء نوفمبر 12, 2013 11:29 am من طرف safih