جماليات التشكيل الإيقاعي عند نازك الملائكة
قراءة مقارنة في التصورات النظرية
تصدر نازك الملائكة في تصوراتها عن التجديد في الشعر العربي الى أمرين : أحدهما : معرفتها بالعروض العربي، وثانيهما : قراءتها للشعر الإنجليزي، غير أن المعرفة والقراءة هاتين لم تخرجا عن الأصول العربية، لأن شعر التفعيلة على الرغم من اختلافه عن شعر الشطرين فإنهما يتماثلان في مزايا وعيوب، وإنهما جميعا لا يخرجان عن أصول عروضية معروفة، ولذلك أكدت نازك الملائكة » أن شعرنا الجديد مستمد من عروض الخليل بن أحمد قائم على أساسه « [1]، غاية ما في الأمر أن حركة شعر التفعيلة استعانت ببعض تفاصيل العروض القديم على «إحداث تجديد يساعد الشاعر المعاصر على حرية التعبير وإطالة العبارة وتقصيرها بحسب مقتضى الحال « [2]. إن نازك الملائكة لا تنبذ شعر الشطرين ولا تهدف الى القضاء على أوزان الخليل وإنما ترمي الى » أن تبدع أسلوبا جديدا توقفه الى جوار الأسلوب القديم وتستعين به على بعض موضوعات العصر المعقدة « [3]
وتمايز نازك الملائكة بين نظام الشطرين ونظام التفعيلة، لأن نظام الشطرين يلزم الشاعر بنظامي الصدر والعجز، وان الشاعر لا بد أن يقف في البحور الستة عشر » عند نهاية الشطر الثاني وقفة صارمة لا مهرب منها فتنتهي الألفاظ وينتهي المعنى « [4]، إن نظام الشطرين عند نازك الملائكة يفرض قيودا هندسية صارمة على الشاعر لأن » الأشطر المتساوية والوحدات المعزولة لا بد أن تفرض، على المادة المصبوبة، شكلا مماثلا يملك عين الانضغاط وتساوي المسافات . أو لنقل أن هندسة الشكل، لا بد أن تفرض هندسة مقابلة في الفكر الذي يستوعبه هذا الشكل « [5] أما نظام التفعيلة فإنه يتمرد على نظام الشطرين هذا أولا، ويعتمد التفعيلة ثانيا، ويتعمد ثالثا » تحطيم استقلال الشطر تحطيما كاملا»[6]، وهذا لا يعني أنه ليس هناك من وقفات صارمة يفرضها الإيقاع والمعنى في نهاية كل شطر ،لأن شعر التفعيلة لا يلزم الشاعر » أن ينهي المعنى والإعراب عند آخر الشطر ،وإنما يجعل من حقه أن يمدهما الى الشطر الثاني أو ما بعده « [7].
وفي ضوء هذا يبدو تمرد نازك الملائكة على نظام الشطرين استجابة لعنصرين، أحدهما : يتجاوب فيه شعر التفعيلة مع الفكر المعاصر الذي » يكره النسب المتساوية ويضيق بفكرة النموذج ضيقا شديدا « [8] ولذلك فشعر التفعيلة هو الآخر يتمرد على هذه السيمترية الصارمة فيخرج على الرتابة » وعلى فكرة النموذج المتسق اتساقا « [9]، اما ثاني العنصرين فإنه يتصل بالمعنى وعلاقته بنظامي الشطرين والتفعيلة على السواء، فإن نظام الشطرين يتحكم في طول العبارة وفي المعنى الذي يحددها، ولذلك يخضع المعنى لهندسة نظام الشطرين، بمعنى أن الأشطر المتساوية في نظام الشطرين تفرض عبارات متساوية [10]، وهذا ما يتجاوزه شعر التفعيلة الذي تهدف نازك الملائكة من ورائه الى أن يكون السطر الشعري خاضعا للمعنى، فيتوقف الشاعر » حيث يشاء المعنى والتعبير « [11] .
إن المعنى وطول العبارة وقصرها خاضعة في نظام الشطرين لطبيعة الوزن وأطوال أشطره، بمعنى أن الخارجي ـ نظام الشطرين ـ يتحكم في الداخلي ـ المعنى ـ، ولكن طبيعة الوزن وأطوال الأشطر خاضعة للمعنى في شعر التفعيلة، أي أن الداخلي ـ المعنى ـ يتحكم في تحديد الخارجي، ومن ثم تكون أشطر شعر التفعيلة غير متساوية، ولا يستطيع أحد أن يحدد أبعادها .
وفي ضوء هذا تخلص نازك الملائكة الى القول إن نظام الشطرين« متسلط، يريد ان يضحي الشاعر بالتعبير من أجل شكل معين من الوزن، والقافية الموحدة مستبدة لأنها تفرض على الفكر أن يبدد نفسه في البحث عن عبارات تنسجم مع قافية معينة ينبغي استعمالها، ومن ثم فإن الأسلوب القديم عروضي الاتجاه، يفضل سلامة الشكل على صدق التعبير وكفاءة الانفعال، ويتمسك بالقافية الموحدة ولو على حساب الصور والمعاني التي تملأ نفس الشاعر »[12]، وتتكرر الأفكار ذاتها لدى رائد من رواد الشعر الحر ـ بلند الحيدري ـ الذي يرى أن القصيدة التقليدية « تنمو طابقيا، هذا طابق فوقه طابق .. الخ ولكل طابق حياته الخاصة، والتي تكاد القافية والروي أن تكون المزلاج الذي يغلق الباب على المعنى الا في القصائد ذات الأشكال القصصية، وهي قصائد موضوعية نجدها عند امريء القيس وأبي نواس بكثرة، وعند الجواهري وخاصة عند أبي ريشة في الفترة الأخيرة»[13].
ويرفض محمد النويهي إيقاع الشطرين لأنه إيقاع حاد » يزيد من رتوبه وإملاله تنظيمه في البحر التقليدي تنظيما هندسيا مسرفا في السيمترية، إذ بعد انقسام القصيدة الى أبيات متساوية تماما ينقسم البيت الى شطرين متساويين متناظرين وينتهي كل بيت بنفس القافية والروي من مطلع القصيدة الى نهايتها « [14]، ويقرن النويهي الإيقاع بما يحدث في العالم الداخلي » فليس الشعر بأوزانه المختلفة وأنظمة إيقاعه المتعددة سوى محاكاة لهذا الاهتزاز الجسمي والتموج الصوتي اللذين يأخذاننا ونحن نعاني الانفعالات القوية »[15] .ويقول النويهي » أما الشكل الجديد فلا يلتزم فيه الشاعر بأي عدد من التفاعيل، بل يزيد منها وينقص بحسب ما تحتاج إليه كل فقرة من معناه وكل موجة من موجات عاطفته في جملة من الجمل الموسيقية المتتالية التي تنقسم عاطفته إليها وتتتابع فيها . فقد يكون البيت تفعيلة واحدة بل جزءا من تفعيلة وقد يكون أي عدد من التفاعيل يحتاج إليها الشاعر لبناء جملته الموسيقية « [16].
ولا يختلف عز الدين إسماعيل عن نازك الملائكة ومحمد النويهي في تحديد الخصائص التي يتميز بها نظام الشطرين، والفوارق التي يختلف فيها شعر التفعيلة ،إذ يرى عز الدين إسماعيل أن البحور الشعرية إنما تمثل أشياء ناجزة يتعامل معها الشاعر بطريقتين فهو اما » أن يطوع الكلمات لنسق سابق لم يصنعه ولم يشارك في صنعه . إنه بذلك كمن يشكل نفسه من خلال الطبيعة لا كمن يشكل الطبيعة من خلال نفسه »[17]، وبذا نكون في صميم نظام الشطرين الذي يتحكم فيه الوزن في الجور على انفعال الشاعر والمعاني التي يروم التعبير عنها ،إن الخارجي متمثلا في الوزن والقافية يتحكمان في الداخلي، ويحددان نوعه وطبيعته، إن البحر بالنسبة للشاعر » بمثابة الأدراج التي يطلب منه أن يملأها . أما تصميم هذه الأدراج ذاتها فلا دخل له فيه « [18].
أما شعر التفعيلة فإن الشاعر » ينسق الطبيعة .... تنسيقا خاصا يتلاءم مع حالته الشعورية « [19] أي أن الدفقة الشعورية والانفعالية تتحكم في تحديد طبيعة الوزن، وهذا يعني أن الداخلي متمثلا في الانفعال والتجربة الشعورية يتحكمان في الخارجي ـ الوزن والقافية ـ ويحددان نوعيهما وطبيعتيهما .
إذن هناك علاقة وثيقة بين العالم الداخلي للمبدع والإيقاع لدى بعض نقاد شعر التفعيلة، ويتحكم الداخلي ـ المعنى عند نازك والانفعال عند النويهي وعز الدين إسماعيل ـ بالخارجي ـ الإيقاع ـ، ويبدو لي أن هذه التصورات تلوين وتنويع لتصورات اليوت الذي يرى أن » القصيدة ذات الطول يجب أن يكون فيها صعود وهبوط في درجتها من الحدة حتى تطابق ما يحدث فعلا للعاطفة الإنسانية من تراوح بين الصعود والهبوط . وبهذا التراوح تتم الوحدة الموسيقية الشاملة لبناء القصية ككل « [20]
ويؤكد النويهي في مواطن عديدة أن شعر التفعيلة يمثل خطوة في تجديد القصيدة العربية، وهو مرحلة انتقالية، ويعاني شعر التفعيلة من عيب أساسي كونه » لا يزال مرتبطا بالتفعيلة القديمة لم يتخلص تماما من الموسيقية الحادة « [21]، ويدعو النويهي الى بديل آخر يقوم على أساس النبر، غير أن النبر ليس له تأثير دلالي في اللغة العربية، وان أبعاده الإيقاعية لم تتضح بعد بدليل أن النويهي نفسه يؤكد » أن الإيقاع النبري يحتاج الى تدريب ومراس حتى تألفه آذاننا وتهتدي الى ما فيه من موسيقى خفيفة ونظام سمح مرن « [22]، ولما كان هذا البديل الإيقاعي المقترح لم يتأسس بعد، وإنما هو في طور التكوين ،وحوله خلافات كثيرة، فإننا سندع الحديث عنه الآن .
إن نازك الملائكة ومحمد النويهي وعز الدين إسماعيل يؤكدون أن نظام الشطرين خاضع لنظام هندسي صارم [23]، ولكنهم لا ينفون عن الشعر : من نظام الشطرين والتفعيلة التقيد بسيمترية معينه يحكمها العالم الداخلي، إذ تؤكد نازك الملائكة أهمية المعنى في تحديد تشكيل الشعر، وتحديد أوزانه وأطوال أشطره، وإذا كان المعنى يمثل خاصية تتولد في الذات فإن عز الدين إسماعيل لا يبتعد كثيرا عن هذا التصور، إذ يؤكد أهمية النظام بوصفه عنصرا جوهريا في الأعمال الفنية، ولكنه حريص على جعل » هذا النظام شيئا يصدر عن نفس الشاعر لا شيئا يفرض من الخارج أو يفرضه الشاعر نفسه على نفسه « [24] .
إن المنظور الجديد لتشكيل الإيقاع عند عز الدين إسماعيل يرجع إلى أساس جمالي يغاير الأساس الجمالي القديم تمام المغايرة ،لأن القصيدة القديمة لا تمثل«بنية أو صورة موسيقية ... بل كانت ... وحدة موسيقية مكررة مرة ومرة تكون هذه الوحدة بيتا ينتهي بقافية متكررة، ومرة تكون مجموعة من الأبيات لها نظام وقواف تتكرر في الوحدات الأخرى . كانت القصيدة القديمة شكلا موسيقيا «مفتوحا»... يمكن أن تتكرر فيه الوحدة الموسيقية الى مالا نهاية، شأنها شأن الزخرفة العربية » فن الأرابسك « [25] أما الأساس الجمالي الجديد لشعر التفعيلة فيتجلى في » أن القصيدة بنية إيقاعية خاصة، ترتبط بحالة شعورية معينة لشاعر بذاته، فتعكس هذه الحالة لا في صورتها المهوشة التي كانت عليها من قبل نفس الشاعر « [26].
وأكدت نازك الملائكة أن الشعر الحر » ظاهرة عروضية قبل كل شيء . ذلك أنه يتناول الشكل الموسيقي للقصيدة ويتعلق بعدد التفعيلات في الشطر، ويعنى بترتيب الأشطر والقوافي، وأسلوب استعمال التدوير والزحاف والوتد « [27]، بمعنى أنه ليس نفيا لقصيدة الشطرين، وإنما كان هدفها » أن تبدع أسلوبا جديدا توقفه الى جوار الأسلوب القديم وتستعين به على بعض موضوعات العصر المعقدة « [28]، ويماثل هذا التصور ما ذهب اليه عز الدين إسماعيل فهو يؤكد » أن الشعر الجديد لم يلغ الوزن ولا القافية، لكنه أباح لنفسه ... أن يدخل تعديلا جوهريا عليهما لكي يحقق بهما الشاعر من نفسه وذبذبات مشاعره وأعصابه ما لم يكن الإطار القديم يسعف على تحقيقه . فلم يعد الشاعر حين يكتب القصيدة الجديدة يرتبط بشكل معين ثابت للبيت ذي الشطرين وذي التفعيلات المتساوية العدد والمتوازنة في هذين الشطرين، وكذلك لم يتقيد في نهاية الأبيات بالروي المتكرر أو المنوع على نظام ثابت « [29]
ومن الجدير بالذكر أن نازك الملائكة ومحمد النويهي وعز الدين إسماعيل يتحدثون عن تحطيم البيت في قصيدة الشطرين ،إذ تذهب نازك الملائكة إلى«تحطيم استقلال الشطر تحطيما كاملا « [30]ويتم ذلك من خلال تجاوز وقفات القافية من ناحية واستخدام التضمين الذي يجعل البيت » مفضيا بمعناه وإعرابه الى البيت الذي يليه « [31]من ناحية ثانية، ويؤكد النويهي أن الشكل الجديد «يهدم السمترية الحادة البارزة للبيت ذي الشطرين « [32]، ويذهب عز الدين إسماعيل الى الوصول الى بنية إيقاعية ذات أثر ودلالة لا يتم بإلغاء الشعراء الوزن والقافية وإنما » أن يحطموا الوحدة الموسيقية للبيت تلك الوحدة التي تفرض على النفس حركة معينة لم تكن في أغلب الأحيان هي الحركة الأصلية التي تموج بها النفس « [33]
وفي ضوء هذا فإن النص الشعري لا يلغي الوزن أو القافية وإنما يقدم مفهوما جديدا لهما، فالسطر الشعري » سواء أطال أم قصر ما زال خاضعا للتنسيق الجزئي للأصوات والحركات المتمثل في التفعيلة، أما عدد هذه التفعيلات في كل سطر فغير محدد وغير خاضع لنظام معين ثابت « [34]
إن المعنى عند نازك الملائكة هو الذي يحدد طول السطر الشعري أو قصره [35]، ويرى محمد النويهي ان الأسطر الشعرية » ليست تطول وتقصر كيفما اتفق، ولا لاستتمام المعنى اللغوي وحده، بل مع تهدجات العاطفة وتلاعبها بالنفس الصادر من الرئتين « [36]، بمعنى أن الشاعر لا تحكمه سيمترية الشطرين، فيتوقف في ضوء القوالب المسبقة، وإنما » يستطيع أن يقف ما أن ينتهي معناه وموجته العاطفية في جملته الموسيقية » [37]ويرجع عز الدين إسماعيل ذلك » لنوع الدفعات والتموجات الموسيقية التي تموج بها نفس الشاعر في حالته الشعورية المعينة « [38]، ولا يختلف عنهم حسن توفيق الذي يرى » أن يكون الإيقاع العروضي متمشيا مع الإيقاع النفسي الذي يتردد في روح الشاعر عندما يشرع في التعبير عن تجربته، ومن الطبيعي أن يختلف الإيقاع النفسي من شاعر الى آخر وان يختلف أيضا عند الشاعر الواحد تبعا لاختلاف تجاربه وتنوعها « [39] .
ويبدو أن محمد بنيس لا يبتعد كثيرا عن التصورات السابقة، فهو يمايز بين زمان الشعر وزمان نصوص أخرى كالتاريخ والنحو مثلا، ويؤكد أهمية الداخلي في تحديد الخارجي، أي أنه يرجع عملية الإبداع كلها الى » منظومة الدواخل « ،وعلى الرغم من إغراء هذه العبارة التي تؤكد الداخل رؤية ولغة فإنه حين يفسرها يرجع بها الى مقولات تكاد تقترب من مقولات بعض النقاد الذين سبقت الإشارة اليهم، يقول : » يخالف الزمان الشعري كلا من أزمنة التاريخ والنحو والتقنية . زمان الشعر متشكل من منظومة الدواخل، إنه النَّفس [40]بكل توتراته وانبساطاته، لا يستسلم حتما لتقعيد مسبق « [41] إن النفس يمثل جوهرا أساسيا تتشكل في ضوئه معطيات الكتابة وتجلياتها فهو الذي يتحكم في تنظيم الوحدات الصوتية والوحدات الدلالية، لأن الربط بين هذه الوحدات صوتية ودلالية » تبعا لإيقاع النَّفس هو ما يؤسس إيقاعا مغايرا له صيحة المغامرة وحجة التجربة والممارسة وألق الخروج « [42]، إن العلاقة بين النفس والإيقاع ليست علاقة التابع بالمتبوع، كما تدل النصوص السابقة وإنما يصل الأمل بالناقد الى قصر أحدهما على الآخر في قوله » وما الإيقاع الا النفَّس، ولذا فإن ما يحدد المتتاليات داخل النص هو هذا النفس، ضوء الجسد النافذ الى عتمة الكلام اليومي وقوانينه العامة . إنه أيضا رؤية المبدع للعالم . تدمير القوانين العامة، وإعادة تركيب المتتالية ـ المتتاليات، حسب إيقاع النفس، مقدمة لتدمير سلطة اللغة وأنماط الخضوع لتراتب مسبق للوجود والموجودات « [43].
إن الناقد يحيل هنا الى مجهول يتحكم في تحديد بناء الإيقاع فإن النَّفس مفهوم مضبب لا حدود لطبيعته وماهيته، ومن الجدير بالذكر ان الناقد ينبه الى هذا الأمر في قوله » إن قوانين اللاوعي التي نجهل أسرارها تتدخل في صوغ هذا الإيقاع»[44].
إن هذه التصورات تحيل في بعض تجلياتها الى أن عملية الإبداع الشعري في الشعر الحر ترجع الى قوى غيبية تذكرنا بكهنة معبد كوبيلا ـ التي ذكرها أفلاطون ـ، وبشياطين الشعر ـ عند العرب ـ، وليس الأمر كذلك في تقديري لأن عملية الإبداع ترجع في الحقيقة الى عملية واعية يقصد إليها الشاعر، وهي نتاج عملية جدل بين الذات ت وموضوعها . وأعني بالذات ـ هنا ـ الوعي الإنساني المقصود القار في أعماق الإنسان، وأن الموضوع يقع خارجها، مهما كان نوعه وشكله، وإن الذات في أثناء تفاعلها مع موضوعها تحدث حركة جدل يتم من خلالهما وعي للذات ولموضوعها، ويعبر الإنسان عن هذا بطرائق كتابية مختلفة، شعرا، تاريخا، فلسفة، وقد تكون محصلة الجدل ـ هذا ـ وعيا ناقصا وبسيطا، ومن ثم لا يقدم سوى نتاج هزيل، وقد يكون التجادل عميقا يسهم في التأثير بين طرفي الذات بموضوعها، تأثيرا بالغا .
إن الوعي في حالة إبداع النص الأدبي يلغي التراتبية التي يتم تأكيدها في مواطن أخرى من الكتابة، لأن الشعر ليس وصفا وتحليلا، وإنما خلق، والخلق لا يلتزم بتراتبية مسبقة، وإنما يخلق تراتبيته الخاصة به، وهي وليدة جدل عميق بين الذات وموضوعها، والجدل هذا وعي .
نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، دار العلم للملايين، بيروت، 1983 م .، ص 7 .
[2] ـ نفسه، ص 52 .
[3] ـ نفسه، ص 64 .
[4] ـ نفسه، ص 42.
[5] ـ نفسه، ص 59 .
[6] ـ نفسه، ص 42 .
[7] ـ نفسه، ص 42 .
[8] ـ نفسه، ص 60 .
[9] ـ نفسه، ص 60 .
[10] ـ ينظر : نفسه، ص 50 .
[11] ـ نفسه، ص 60 .
[12] ـ نفسه، ص 63 .
[13] ـ عبد العزيز المقالح، الشعر بين الرؤيا والتشكيل، دار العودة بيروت، 1981 . ،ص 42
[14] ـ محمدالنويهي، قضية الشعر الجديد،، معهد الدراسات العربية، المطبعة العالمية، القاهرة 1964م ص 95 .
[15] ـ نفسه، ص 33 .
[16] ـ نفسه، ص 87 ـ 88 .
[17] ـ عز الدين اسماعيل، الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1967 م، ص 54 .
[18] ـ نفسه .
[19] ـ نفسه .
[20] ـ محمد النويهي، قضية الشعر الجديد، ص 22 .
[21] ـ نفسه، ص 100، وينظر 102 و 231 و232 وغيرها .
[22] ـ نفسه، ص 244 .
[23] ـ ينظر نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، ص 59 ومحمد النويهي، قضية الشعر الجديد ص 95 وعز الدين اسماعيل، قضايا الشعر المعاصر، ص 56 .
[24] ـ عز الدين اسماعيل، قضايا الشعر المعاصر ،ص 56 .وتتكرر هذه الأفكار لدى نقاد آخرين، إذ يؤكد أدونيس أن (( الذهنية العربية تميز بين الأنواع وترغب في أن يظل النظام الهندسي سائدا في الشعر والفن عامة )) أدونيس، قصيدة النثر، مجلة شعر، ص 76 . وينظر : محي الدين اللاذقاني، القصيدة الحرة، مجلة فصول العدد الأول صيف 1997.
[25] ـ عز الدين اسماعيل، قضايا الشعر المعاصر، ص 63 ـ 64 .
[26] ـ نفسه، ص 64 .
[27] ـ نازك الملائكة ،قضايا الشعر المعاصر، ص 69 .
[28] ـ نفسه، 64 .
[29] ـ عز الدين اسماعيل ،الشعر العربي المعاصر، ص 65 .
[30] ـ نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، ص 42 .
[31] ـ نفسه، ص 10 .
[32] ـ محمد النويهي، قضية الشعر الجديد، ص 100 .
[33] ـ عز الدين اسماعيل، الشعر العربي المعاصر، ص 66 .
[34] ـ نفسه، ص 66 .
[35] ـ نازك الملائكة، قضايا الشعر العربي المعاصر، 60 .
[36] ـ محمد النويهي، قضية الشعر الجديد، 104 .
[37] ـ نفسه، 107 .
[38] ـ عز الدين اسماعيل، الشعر العربي المعاصر ،ص 67 .
[39] ـ حسن توفيق، اتجاهات الشعر الحر، ص 27 .
[40] ـ التشديد من الكاتب .
[41] ـ محمد بنيس، حداثة السؤال، ص 24 .
[42] ـ نفسه. ولا يختلف عبد العزيز المقالح عنهم إذ يقول : يقول عبد العزيز المقالح : )) التشكيل الموسيقي ـ إذن إيقاع وزني، أو وحدات موسيقية صوتية تخضع لاختيار الشاعر نفسه، وهو بدوره يضعها ـ ما يشاء ـ في الاطار النفسي أو اشعوري الذي يجد نفسه خاضعا له أثناء الكتابة اشعرية . وليس هناك بالضرورة وزن حزين ووزن مبهج، وإنما هناك لحظة شعرية تعبر عن الحالة الشعورية للشاعر، وهذه اللحظة هي التي تتحكم في الأوزان وفي حركة التشكيل الموسيقي، موقعة ما تشاء من الألحان الحزينة أو السارة (( ينظر : عبد العزيز المقالح ،الشعر بين الرؤيا والتشكيل، ص 116 .
[43] ـ نفسه، ص 28 .جماليات التشكيل الإيقاعي عند نازك الملائكة
قراءة مقارنة في التصورات النظرية
تصدر نازك الملائكة في تصوراتها عن التجديد في الشعر العربي الى أمرين : أحدهما : معرفتها بالعروض العربي، وثانيهما : قراءتها للشعر الإنجليزي، غير أن المعرفة والقراءة هاتين لم تخرجا عن الأصول العربية، لأن شعر التفعيلة على الرغم من اختلافه عن شعر الشطرين فإنهما يتماثلان في مزايا وعيوب، وإنهما جميعا لا يخرجان عن أصول عروضية معروفة، ولذلك أكدت نازك الملائكة » أن شعرنا الجديد مستمد من عروض الخليل بن أحمد قائم على أساسه « [1]، غاية ما في الأمر أن حركة شعر التفعيلة استعانت ببعض تفاصيل العروض القديم على «إحداث تجديد يساعد الشاعر المعاصر على حرية التعبير وإطالة العبارة وتقصيرها بحسب مقتضى الحال « [2]. إن نازك الملائكة لا تنبذ شعر الشطرين ولا تهدف الى القضاء على أوزان الخليل وإنما ترمي الى » أن تبدع أسلوبا جديدا توقفه الى جوار الأسلوب القديم وتستعين به على بعض موضوعات العصر المعقدة « [3]
وتمايز نازك الملائكة بين نظام الشطرين ونظام التفعيلة، لأن نظام الشطرين يلزم الشاعر بنظامي الصدر والعجز، وان الشاعر لا بد أن يقف في البحور الستة عشر » عند نهاية الشطر الثاني وقفة صارمة لا مهرب منها فتنتهي الألفاظ وينتهي المعنى « [4]، إن نظام الشطرين عند نازك الملائكة يفرض قيودا هندسية صارمة على الشاعر لأن » الأشطر المتساوية والوحدات المعزولة لا بد أن تفرض، على المادة المصبوبة، شكلا مماثلا يملك عين الانضغاط وتساوي المسافات . أو لنقل أن هندسة الشكل، لا بد أن تفرض هندسة مقابلة في الفكر الذي يستوعبه هذا الشكل « [5] أما نظام التفعيلة فإنه يتمرد على نظام الشطرين هذا أولا، ويعتمد التفعيلة ثانيا، ويتعمد ثالثا » تحطيم استقلال الشطر تحطيما كاملا»[6]، وهذا لا يعني أنه ليس هناك من وقفات صارمة يفرضها الإيقاع والمعنى في نهاية كل شطر ،لأن شعر التفعيلة لا يلزم الشاعر » أن ينهي المعنى والإعراب عند آخر الشطر ،وإنما يجعل من حقه أن يمدهما الى الشطر الثاني أو ما بعده « [7].
وفي ضوء هذا يبدو تمرد نازك الملائكة على نظام الشطرين استجابة لعنصرين، أحدهما : يتجاوب فيه شعر التفعيلة مع الفكر المعاصر الذي » يكره النسب المتساوية ويضيق بفكرة النموذج ضيقا شديدا « [8] ولذلك فشعر التفعيلة هو الآخر يتمرد على هذه السيمترية الصارمة فيخرج على الرتابة » وعلى فكرة النموذج المتسق اتساقا « [9]، اما ثاني العنصرين فإنه يتصل بالمعنى وعلاقته بنظامي الشطرين والتفعيلة على السواء، فإن نظام الشطرين يتحكم في طول العبارة وفي المعنى الذي يحددها، ولذلك يخضع المعنى لهندسة نظام الشطرين، بمعنى أن الأشطر المتساوية في نظام الشطرين تفرض عبارات متساوية [10]، وهذا ما يتجاوزه شعر التفعيلة الذي تهدف نازك الملائكة من ورائه الى أن يكون السطر الشعري خاضعا للمعنى، فيتوقف الشاعر » حيث يشاء المعنى والتعبير « [11] .
إن المعنى وطول العبارة وقصرها خاضعة في نظام الشطرين لطبيعة الوزن وأطوال أشطره، بمعنى أن الخارجي ـ نظام الشطرين ـ يتحكم في الداخلي ـ المعنى ـ، ولكن طبيعة الوزن وأطوال الأشطر خاضعة للمعنى في شعر التفعيلة، أي أن الداخلي ـ المعنى ـ يتحكم في تحديد الخارجي، ومن ثم تكون أشطر شعر التفعيلة غير متساوية، ولا يستطيع أحد أن يحدد أبعادها .
وفي ضوء هذا تخلص نازك الملائكة الى القول إن نظام الشطرين« متسلط، يريد ان يضحي الشاعر بالتعبير من أجل شكل معين من الوزن، والقافية الموحدة مستبدة لأنها تفرض على الفكر أن يبدد نفسه في البحث عن عبارات تنسجم مع قافية معينة ينبغي استعمالها، ومن ثم فإن الأسلوب القديم عروضي الاتجاه، يفضل سلامة الشكل على صدق التعبير وكفاءة الانفعال، ويتمسك بالقافية الموحدة ولو على حساب الصور والمعاني التي تملأ نفس الشاعر »[12]، وتتكرر الأفكار ذاتها لدى رائد من رواد الشعر الحر ـ بلند الحيدري ـ الذي يرى أن القصيدة التقليدية « تنمو طابقيا، هذا طابق فوقه طابق .. الخ ولكل طابق حياته الخاصة، والتي تكاد القافية والروي أن تكون المزلاج الذي يغلق الباب على المعنى الا في القصائد ذات الأشكال القصصية، وهي قصائد موضوعية نجدها عند امريء القيس وأبي نواس بكثرة، وعند الجواهري وخاصة عند أبي ريشة في الفترة الأخيرة»[13].
ويرفض محمد النويهي إيقاع الشطرين لأنه إيقاع حاد » يزيد من رتوبه وإملاله تنظيمه في البحر التقليدي تنظيما هندسيا مسرفا في السيمترية، إذ بعد انقسام القصيدة الى أبيات متساوية تماما ينقسم البيت الى شطرين متساويين متناظرين وينتهي كل بيت بنفس القافية والروي من مطلع القصيدة الى نهايتها « [14]، ويقرن النويهي الإيقاع بما يحدث في العالم الداخلي » فليس الشعر بأوزانه المختلفة وأنظمة إيقاعه المتعددة سوى محاكاة لهذا الاهتزاز الجسمي والتموج الصوتي اللذين يأخذاننا ونحن نعاني الانفعالات القوية »[15] .ويقول النويهي » أما الشكل الجديد فلا يلتزم فيه الشاعر بأي عدد من التفاعيل، بل يزيد منها وينقص بحسب ما تحتاج إليه كل فقرة من معناه وكل موجة من موجات عاطفته في جملة من الجمل الموسيقية المتتالية التي تنقسم عاطفته إليها وتتتابع فيها . فقد يكون البيت تفعيلة واحدة بل جزءا من تفعيلة وقد يكون أي عدد من التفاعيل يحتاج إليها الشاعر لبناء جملته الموسيقية « [16].
ولا يختلف عز الدين إسماعيل عن نازك الملائكة ومحمد النويهي في تحديد الخصائص التي يتميز بها نظام الشطرين، والفوارق التي يختلف فيها شعر التفعيلة ،إذ يرى عز الدين إسماعيل أن البحور الشعرية إنما تمثل أشياء ناجزة يتعامل معها الشاعر بطريقتين فهو اما » أن يطوع الكلمات لنسق سابق لم يصنعه ولم يشارك في صنعه . إنه بذلك كمن يشكل نفسه من خلال الطبيعة لا كمن يشكل الطبيعة من خلال نفسه »[17]، وبذا نكون في صميم نظام الشطرين الذي يتحكم فيه الوزن في الجور على انفعال الشاعر والمعاني التي يروم التعبير عنها ،إن الخارجي متمثلا في الوزن والقافية يتحكمان في الداخلي، ويحددان نوعه وطبيعته، إن البحر بالنسبة للشاعر » بمثابة الأدراج التي يطلب منه أن يملأها . أما تصميم هذه الأدراج ذاتها فلا دخل له فيه « [18].
أما شعر التفعيلة فإن الشاعر » ينسق الطبيعة .... تنسيقا خاصا يتلاءم مع حالته الشعورية « [19] أي أن الدفقة الشعورية والانفعالية تتحكم في تحديد طبيعة الوزن، وهذا يعني أن الداخلي متمثلا في الانفعال والتجربة الشعورية يتحكمان في الخارجي ـ الوزن والقافية ـ ويحددان نوعيهما وطبيعتيهما .
إذن هناك علاقة وثيقة بين العالم الداخلي للمبدع والإيقاع لدى بعض نقاد شعر التفعيلة، ويتحكم الداخلي ـ المعنى عند نازك والانفعال عند النويهي وعز الدين إسماعيل ـ بالخارجي ـ الإيقاع ـ، ويبدو لي أن هذه التصورات تلوين وتنويع لتصورات اليوت الذي يرى أن » القصيدة ذات الطول يجب أن يكون فيها صعود وهبوط في درجتها من الحدة حتى تطابق ما يحدث فعلا للعاطفة الإنسانية من تراوح بين الصعود والهبوط . وبهذا التراوح تتم الوحدة الموسيقية الشاملة لبناء القصية ككل « [20]
ويؤكد النويهي في مواطن عديدة أن شعر التفعيلة يمثل خطوة في تجديد القصيدة العربية، وهو مرحلة انتقالية، ويعاني شعر التفعيلة من عيب أساسي كونه » لا يزال مرتبطا بالتفعيلة القديمة لم يتخلص تماما من الموسيقية الحادة « [21]، ويدعو النويهي الى بديل آخر يقوم على أساس النبر، غير أن النبر ليس له تأثير دلالي في اللغة العربية، وان أبعاده الإيقاعية لم تتضح بعد بدليل أن النويهي نفسه يؤكد » أن الإيقاع النبري يحتاج الى تدريب ومراس حتى تألفه آذاننا وتهتدي الى ما فيه من موسيقى خفيفة ونظام سمح مرن « [22]، ولما كان هذا البديل الإيقاعي المقترح لم يتأسس بعد، وإنما هو في طور التكوين ،وحوله خلافات كثيرة، فإننا سندع الحديث عنه الآن .
إن نازك الملائكة ومحمد النويهي وعز الدين إسماعيل يؤكدون أن نظام الشطرين خاضع لنظام هندسي صارم [23]، ولكنهم لا ينفون عن الشعر : من نظام الشطرين والتفعيلة التقيد بسيمترية معينه يحكمها العالم الداخلي، إذ تؤكد نازك الملائكة أهمية المعنى في تحديد تشكيل الشعر، وتحديد أوزانه وأطوال أشطره، وإذا كان المعنى يمثل خاصية تتولد في الذات فإن عز الدين إسماعيل لا يبتعد كثيرا عن هذا التصور، إذ يؤكد أهمية النظام بوصفه عنصرا جوهريا في الأعمال الفنية، ولكنه حريص على جعل » هذا النظام شيئا يصدر عن نفس الشاعر لا شيئا يفرض من الخارج أو يفرضه الشاعر نفسه على نفسه « [24] .
إن المنظور الجديد لتشكيل الإيقاع عند عز الدين إسماعيل يرجع إلى أساس جمالي يغاير الأساس الجمالي القديم تمام المغايرة ،لأن القصيدة القديمة لا تمثل«بنية أو صورة موسيقية ... بل كانت ... وحدة موسيقية مكررة مرة ومرة تكون هذه الوحدة بيتا ينتهي بقافية متكررة، ومرة تكون مجموعة من الأبيات لها نظام وقواف تتكرر في الوحدات الأخرى . كانت القصيدة القديمة شكلا موسيقيا «مفتوحا»... يمكن أن تتكرر فيه الوحدة الموسيقية الى مالا نهاية، شأنها شأن الزخرفة العربية » فن الأرابسك « [25] أما الأساس الجمالي الجديد لشعر التفعيلة فيتجلى في » أن القصيدة بنية إيقاعية خاصة، ترتبط بحالة شعورية معينة لشاعر بذاته، فتعكس هذه الحالة لا في صورتها المهوشة التي كانت عليها من قبل نفس الشاعر « [26].
وأكدت نازك الملائكة أن الشعر الحر » ظاهرة عروضية قبل كل شيء . ذلك أنه يتناول الشكل الموسيقي للقصيدة ويتعلق بعدد التفعيلات في الشطر، ويعنى بترتيب الأشطر والقوافي، وأسلوب استعمال التدوير والزحاف والوتد « [27]، بمعنى أنه ليس نفيا لقصيدة الشطرين، وإنما كان هدفها » أن تبدع أسلوبا جديدا توقفه الى جوار الأسلوب القديم وتستعين به على بعض موضوعات العصر المعقدة « [28]، ويماثل هذا التصور ما ذهب اليه عز الدين إسماعيل فهو يؤكد » أن الشعر الجديد لم يلغ الوزن ولا القافية، لكنه أباح لنفسه ... أن يدخل تعديلا جوهريا عليهما لكي يحقق بهما الشاعر من نفسه وذبذبات مشاعره وأعصابه ما لم يكن الإطار القديم يسعف على تحقيقه . فلم يعد الشاعر حين يكتب القصيدة الجديدة يرتبط بشكل معين ثابت للبيت ذي الشطرين وذي التفعيلات المتساوية العدد والمتوازنة في هذين الشطرين، وكذلك لم يتقيد في نهاية الأبيات بالروي المتكرر أو المنوع على نظام ثابت « [29]
ومن الجدير بالذكر أن نازك الملائكة ومحمد النويهي وعز الدين إسماعيل يتحدثون عن تحطيم البيت في قصيدة الشطرين ،إذ تذهب نازك الملائكة إلى«تحطيم استقلال الشطر تحطيما كاملا « [30]ويتم ذلك من خلال تجاوز وقفات القافية من ناحية واستخدام التضمين الذي يجعل البيت » مفضيا بمعناه وإعرابه الى البيت الذي يليه « [31]من ناحية ثانية، ويؤكد النويهي أن الشكل الجديد «يهدم السمترية الحادة البارزة للبيت ذي الشطرين « [32]، ويذهب عز الدين إسماعيل الى الوصول الى بنية إيقاعية ذات أثر ودلالة لا يتم بإلغاء الشعراء الوزن والقافية وإنما » أن يحطموا الوحدة الموسيقية للبيت تلك الوحدة التي تفرض على النفس حركة معينة لم تكن في أغلب الأحيان هي الحركة الأصلية التي تموج بها النفس « [33]
وفي ضوء هذا فإن النص الشعري لا يلغي الوزن أو القافية وإنما يقدم مفهوما جديدا لهما، فالسطر الشعري » سواء أطال أم قصر ما زال خاضعا للتنسيق الجزئي للأصوات والحركات المتمثل في التفعيلة، أما عدد هذه التفعيلات في كل سطر فغير محدد وغير خاضع لنظام معين ثابت « [34]
إن المعنى عند نازك الملائكة هو الذي يحدد طول السطر الشعري أو قصره [35]، ويرى محمد النويهي ان الأسطر الشعرية » ليست تطول وتقصر كيفما اتفق، ولا لاستتمام المعنى اللغوي وحده، بل مع تهدجات العاطفة وتلاعبها بالنفس الصادر من الرئتين « [36]، بمعنى أن الشاعر لا تحكمه سيمترية الشطرين، فيتوقف في ضوء القوالب المسبقة، وإنما » يستطيع أن يقف ما أن ينتهي معناه وموجته العاطفية في جملته الموسيقية » [37]ويرجع عز الدين إسماعيل ذلك » لنوع الدفعات والتموجات الموسيقية التي تموج بها نفس الشاعر في حالته الشعورية المعينة « [38]، ولا يختلف عنهم حسن توفيق الذي يرى » أن يكون الإيقاع العروضي متمشيا مع الإيقاع النفسي الذي يتردد في روح الشاعر عندما يشرع في التعبير عن تجربته، ومن الطبيعي أن يختلف الإيقاع النفسي من شاعر الى آخر وان يختلف أيضا عند الشاعر الواحد تبعا لاختلاف تجاربه وتنوعها « [39] .
ويبدو أن محمد بنيس لا يبتعد كثيرا عن التصورات السابقة، فهو يمايز بين زمان الشعر وزمان نصوص أخرى كالتاريخ والنحو مثلا، ويؤكد أهمية الداخلي في تحديد الخارجي، أي أنه يرجع عملية الإبداع كلها الى » منظومة الدواخل « ،وعلى الرغم من إغراء هذه العبارة التي تؤكد الداخل رؤية ولغة فإنه حين يفسرها يرجع بها الى مقولات تكاد تقترب من مقولات بعض النقاد الذين سبقت الإشارة اليهم، يقول : » يخالف الزمان الشعري كلا من أزمنة التاريخ والنحو والتقنية . زمان الشعر متشكل من منظومة الدواخل، إنه النَّفس [40]بكل توتراته وانبساطاته، لا يستسلم حتما لتقعيد مسبق « [41] إن النفس يمثل جوهرا أساسيا تتشكل في ضوئه معطيات الكتابة وتجلياتها فهو الذي يتحكم في تنظيم الوحدات الصوتية والوحدات الدلالية، لأن الربط بين هذه الوحدات صوتية ودلالية » تبعا لإيقاع النَّفس هو ما يؤسس إيقاعا مغايرا له صيحة المغامرة وحجة التجربة والممارسة وألق الخروج « [42]، إن العلاقة بين النفس والإيقاع ليست علاقة التابع بالمتبوع، كما تدل النصوص السابقة وإنما يصل الأمل بالناقد الى قصر أحدهما على الآخر في قوله » وما الإيقاع الا النفَّس، ولذا فإن ما يحدد المتتاليات داخل النص هو هذا النفس، ضوء الجسد النافذ الى عتمة الكلام اليومي وقوانينه العامة . إنه أيضا رؤية المبدع للعالم . تدمير القوانين العامة، وإعادة تركيب المتتالية ـ المتتاليات، حسب إيقاع النفس، مقدمة لتدمير سلطة اللغة وأنماط الخضوع لتراتب مسبق للوجود والموجودات « [43].
إن الناقد يحيل هنا الى مجهول يتحكم في تحديد بناء الإيقاع فإن النَّفس مفهوم مضبب لا حدود لطبيعته وماهيته، ومن الجدير بالذكر ان الناقد ينبه الى هذا الأمر في قوله » إن قوانين اللاوعي التي نجهل أسرارها تتدخل في صوغ هذا الإيقاع»[44].
إن هذه التصورات تحيل في بعض تجلياتها الى أن عملية الإبداع الشعري في الشعر الحر ترجع الى قوى غيبية تذكرنا بكهنة معبد كوبيلا ـ التي ذكرها أفلاطون ـ، وبشياطين الشعر ـ عند العرب ـ، وليس الأمر كذلك في تقديري لأن عملية الإبداع ترجع في الحقيقة الى عملية واعية يقصد إليها الشاعر، وهي نتاج عملية جدل بين الذات ت وموضوعها . وأعني بالذات ـ هنا ـ الوعي الإنساني المقصود القار في أعماق الإنسان، وأن الموضوع يقع خارجها، مهما كان نوعه وشكله، وإن الذات في أثناء تفاعلها مع موضوعها تحدث حركة جدل يتم من خلالهما وعي للذات ولموضوعها، ويعبر الإنسان عن هذا بطرائق كتابية مختلفة، شعرا، تاريخا، فلسفة، وقد تكون محصلة الجدل ـ هذا ـ وعيا ناقصا وبسيطا، ومن ثم لا يقدم سوى نتاج هزيل، وقد يكون التجادل عميقا يسهم في التأثير بين طرفي الذات بموضوعها، تأثيرا بالغا .
إن الوعي في حالة إبداع النص الأدبي يلغي التراتبية التي يتم تأكيدها في مواطن أخرى من الكتابة، لأن الشعر ليس وصفا وتحليلا، وإنما خلق، والخلق لا يلتزم بتراتبية مسبقة، وإنما يخلق تراتبيته الخاصة به، وهي وليدة جدل عميق بين الذات وموضوعها، والجدل هذا وعي .
نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، دار العلم للملايين، بيروت، 1983 م .، ص 7 .
[2] ـ نفسه، ص 52 .
[3] ـ نفسه، ص 64 .
[4] ـ نفسه، ص 42.
[5] ـ نفسه، ص 59 .
[6] ـ نفسه، ص 42 .
[7] ـ نفسه، ص 42 .
[8] ـ نفسه، ص 60 .
[9] ـ نفسه، ص 60 .
[10] ـ ينظر : نفسه، ص 50 .
[11] ـ نفسه، ص 60 .
[12] ـ نفسه، ص 63 .
[13] ـ عبد العزيز المقالح، الشعر بين الرؤيا والتشكيل، دار العودة بيروت، 1981 . ،ص 42
[14] ـ محمدالنويهي، قضية الشعر الجديد،، معهد الدراسات العربية، المطبعة العالمية، القاهرة 1964م ص 95 .
[15] ـ نفسه، ص 33 .
[16] ـ نفسه، ص 87 ـ 88 .
[17] ـ عز الدين اسماعيل، الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1967 م، ص 54 .
[18] ـ نفسه .
[19] ـ نفسه .
[20] ـ محمد النويهي، قضية الشعر الجديد، ص 22 .
[21] ـ نفسه، ص 100، وينظر 102 و 231 و232 وغيرها .
[22] ـ نفسه، ص 244 .
[23] ـ ينظر نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، ص 59 ومحمد النويهي، قضية الشعر الجديد ص 95 وعز الدين اسماعيل، قضايا الشعر المعاصر، ص 56 .
[24] ـ عز الدين اسماعيل، قضايا الشعر المعاصر ،ص 56 .وتتكرر هذه الأفكار لدى نقاد آخرين، إذ يؤكد أدونيس أن (( الذهنية العربية تميز بين الأنواع وترغب في أن يظل النظام الهندسي سائدا في الشعر والفن عامة )) أدونيس، قصيدة النثر، مجلة شعر، ص 76 . وينظر : محي الدين اللاذقاني، القصيدة الحرة، مجلة فصول العدد الأول صيف 1997.
[25] ـ عز الدين اسماعيل، قضايا الشعر المعاصر، ص 63 ـ 64 .
[26] ـ نفسه، ص 64 .
[27] ـ نازك الملائكة ،قضايا الشعر المعاصر، ص 69 .
[28] ـ نفسه، 64 .
[29] ـ عز الدين اسماعيل ،الشعر العربي المعاصر، ص 65 .
[30] ـ نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، ص 42 .
[31] ـ نفسه، ص 10 .
[32] ـ محمد النويهي، قضية الشعر الجديد، ص 100 .
[33] ـ عز الدين اسماعيل، الشعر العربي المعاصر، ص 66 .
[34] ـ نفسه، ص 66 .
[35] ـ نازك الملائكة، قضايا الشعر العربي المعاصر، 60 .
[36] ـ محمد النويهي، قضية الشعر الجديد، 104 .
[37] ـ نفسه، 107 .
[38] ـ عز الدين اسماعيل، الشعر العربي المعاصر ،ص 67 .
[39] ـ حسن توفيق، اتجاهات الشعر الحر، ص 27 .
[40] ـ التشديد من الكاتب .
[41] ـ محمد بنيس، حداثة السؤال، ص 24 .
[42] ـ نفسه. ولا يختلف عبد العزيز المقالح عنهم إذ يقول : يقول عبد العزيز المقالح : )) التشكيل الموسيقي ـ إذن إيقاع وزني، أو وحدات موسيقية صوتية تخضع لاختيار الشاعر نفسه، وهو بدوره يضعها ـ ما يشاء ـ في الاطار النفسي أو اشعوري الذي يجد نفسه خاضعا له أثناء الكتابة اشعرية . وليس هناك بالضرورة وزن حزين ووزن مبهج، وإنما هناك لحظة شعرية تعبر عن الحالة الشعورية للشاعر، وهذه اللحظة هي التي تتحكم في الأوزان وفي حركة التشكيل الموسيقي، موقعة ما تشاء من الألحان الحزينة أو السارة (( ينظر : عبد العزيز المقالح ،الشعر بين الرؤيا والتشكيل، ص 116 .
[43] ـ نفسه، ص 28 .جماليات التشكيل الإيقاعي عند نازك الملائكة
الجمعة أبريل 18, 2014 6:49 am من طرف viva star
» مناهج النقد الأدبي . مترجم.rar
الخميس أبريل 17, 2014 5:01 pm من طرف viva star
» مصطلحات توليدية
السبت فبراير 08, 2014 2:55 pm من طرف رعاش وليد
» ارجو المساعدة
الجمعة يناير 10, 2014 2:10 am من طرف مريم عبد الرحمان
» مساعدة عاجلة جداااااااااا
الثلاثاء يناير 07, 2014 6:53 am من طرف مريم عبد الرحمان
» كتب في علم الدلالة
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:35 pm من طرف safih
» عرض حول معجم المقاييس لابن فارس
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:15 pm من طرف safih
» المعجم الالكتروني
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:06 pm من طرف safih
» تشغيل الجزيرة الرياضية بالشرينغ
الثلاثاء نوفمبر 12, 2013 11:29 am من طرف safih