تقديم الدراسة:
"الرواية كملحمة بورجوازية" هذه الدراسة كتبها جورج لوكاش أثناء إقامته في موسكو في الثلاثينيات من القرن العشرين، وإبان هذه الفترة كون وصاغ مجموعة من المفاهيم الأساسية في مضمار النظرية الأدبية، وبخاصة نظرية الرواية، وفي مقدمتها الواقعية الكبرى .
هذه الدراسة مكونة من نصين، الأول تحت عنوان (تقرير عن الرواية)، و هو عبارة عن مدخل لمناقشة حول الرواية نظمتها مجلة (النقد الأدبي) الروسية سنة 1934. والنص الثاني يحمل عنوان (الرواية كملحمة بورجوازية) نشر في المجلد التاسع من الموسوعة الأدبية سنة 1935.
وفي هذا العرض اعتمدت ترجمة جورج طرابيشي ، الصادرة من دار الطليعة للطباعة والنشر (بيروت) سنة 1979، وسأحاول في هذا العمل التطرق للمحاور التالية:
I-سيرة جورج لوكاش .
II-التنظير الروائي قبل لوكاش .
1-الحركة الرومانسية الألمانية .
2-كتاب الاستتيقا لهيجل .
III- الرواية والمجتمع.
IV-المراحل الأساسية للرواية:
1-الرواية في طور الولادة .
2-اقتحام الواقع اليومي .
3-شعر الملكوت الحيواني الروحي .
4-المدرسة الروائية وانحلال الشكل الروائي .
5-منظورات الواقعية الاشتراكية .
-خاتمة.
I-سيرة جورج لوكاش:
ولد جورج لوكاش (Gyorgy Lukacs) عام 1885 في مدينة بودابست، ونال شهادة الدكتوراه في الفلسفة سنة 1909، وبعد أن أمضى فترة دراسية طويلة في برلين انتقل من هناك إلى هايدلبرغ حيث تردد على حلقات عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، وأقام صداقات مع مفكرين من طراز باول ارنست والفيلسوف الماركسي ارنست بلوخ، وفي عام 1911 كتب دراسة حول الدراما في جزئين، بلغت صفحاتها الألف، وفي العام نفسه نشر دراسة فلسفية بالألمانية بعنوان (الروح والأشكال). انضم لوكاش إلى الحزب الشيوعي الهنغاري سنة 1918، وشغل منصب مفوض الشعب لشؤون الثقافة في الحكومة الثورية، كما أسهم في معهد ماركس –انجلز- لينين بموسكو بمجموعة من الأعمال، إضافة إلى عضويته في البرلمان الهنغاري، وفي المجلس الرئاسي لأكاديمية العلوم المجرية، مثلما أنه نال كرسي الأستاذية لعلم الجمال وفلسفة الحضارة في جامعة بودابست، اشترك في ثورة المجر عام 1956 وشغل منصب وزير الثقافة في حكومة إيمري ناجي، وقد توفي لوكاش في صيف عام 1971 ، مخلفا مجموعة من الأعمال نذكر منها:"دراسات في الواقعية"، و "نظرية الرواية"، و"ماركسية أم وجودية؟" ، و" بلزاك والواقعية الفرنسية" ، و "التاريخ والوعي الطبقي" ، و"الرواية التاريخية"، إضافة إلى عمله "الرواية كملحمة بورجوازية" ، وهو موضوع دراستنا في هذا العرض.
II-التنظير الروائي قبل لوكاش:
1-الحركة الرومانسية الألمانية:
ظهرت محاولة الحركة الرومانسية الأولى بألمانيا ، من خلال مجلة أتينيوم L’Athenoeum التي طرحت مسألة نظرية الرواية ضمن تصورها العام المتطلع إلى (المطلق الأدبي)، الذي يتخطى الأجناس التعبيرية ليقترب من (كلية عضوية) قادرة على أن تلد نفسها وتلد عالما مجزءا، ومن ثم فإن فردريك شليكل في رسالته عن الرواية، يلح على أن (كل نظرية للرواية يجب أن تكون هي نفسها رواية) مشتملة على النبرات الخالدة للنزوة . إن الرواية لا يمكن أن تستحق اسمها إذا (لم تكن خليطا من المحكي والنشيد ومن أشكال أخرى) لكن التصورات النظرية لهذه الحركة تظل محدودة (وتابعة) لفكرتهم الأساسية عن المطلق الأدبي: فهم لا يقبلون الرواية إلا بوصفها (جنسا) للحرية الذاتية وللتعبير عن النزوات في أشكال زخرفية .
لكن العنصر الأساسي في تنظيرهم للرواية هو اعتبارهم لها جنسا قائما على تعدد الأجناس التعبيرية وعلى تجاوز العناصر الروائية مع الفكر الخالص، والغنائية النثرية المبتذلة. إن هذا العنصر سيصبح أحد المكونات البارزة في تشييدات نظرية الرواية التالية للرومانسية الألمانية .
2-كتاب الاستتيقا لهيجل:
يعد الفيلسوف الألماني هيجل أول من قدم نظرية للرواية في الغرب من خلال رؤية فلسفية جمالية مثالية مطلقة، ويعتبر كتابه الاستتيقا أبرز الكتب التي عنيت بالتنظير الروائي من خلال ربط شكلها ومضمونها بالتحولات التي عرفها المجتمع الأوربي في القرن 19م، فقد اهتم هيجل بالانتقال من الملحمة إلى الرواية اهتماما كبيرا .
لكنه مع ذلك يصنف الرواية كأنها تفريع ثانوي من تفريعات الملحمة، ويرى أن الفرق بينهما يكمن في اللغة الشعرية من (حهة الملحمة) ، واللغة النثرية من جهة الرواية ، ويرى أيضا أن الواقع الذي تعالجه الرواية يستدعي الخروج من الشعر المرتبط بالنوازع والعواطف والوصول إلى النثر المرتبط أكثر بالظروف والمناسبات، ويستنتج أن الشكل الروائي الجديد ملتصق بصعود البورجوازية وبهاجسها الأخلاقي والتعليمي الذي يؤدي إلى ثورة البطل الرومانسية أو سقوطه أو مكابرته، وتعيش المغامرة الروائية بالتالي في الأوهام، نتيجة للفارق الكبير القائم بين الواقع المرجو والواقع المعيش.
وقد استقى لوكاش الكثير من أفكار وتصورات أستاذه هيجل، ولكن ليس من منطلق مثالي، بل اعتمد في تصوراته على المادية الجدلية الماركسية في فهم المجتمع الرأسمالي وتفسير تناقضاته، وقد ألح على غرار هيجل بكون وجود الرواية مرتبط بالانتقال من الإقطاعية التي طورت الفن الملحمي إلى الرأسمالي التي أوجدت لها فنا متميزا هو الفن الروائي.
III-الرواية والمجتمع:
يذهب رولان بارت (R.Barthes) في بعض كتاباته إلى أن الرواية عمل قابل للتكيف مع المجتمع، وأن الرواية تبدو وكأنها مؤسسة أدبية ثابتة الكيان، فهي الجنس الأدبي الذي يعبر بشيء من الامتياز عن مؤسسات مجموعة اجتماعية، وبنوع من رؤية العالم الذي يجره معه، ويحتويه في داخله .
أما عند جورج لوكاش، فالرواية في رأيه النوع الأدبي النموذجي للمجتمع البورجوازي: بولادته رأت النور، ومع تطوره تطورت، وبزواله وبقيام المجتمع الاشتراكي تعود إلى منابعها البطولية الأولى ، وتستعيد أبعادها الملحمية مع كبرى الإنجازات الروائية للواقعية الاشتراكية: (الأم) لمكسيم غوركي، و(الدون الهادئ) لشولوخوف .
فالرواية تظل الشكل التعبيري الأمثل بالنسبة إلى كل مجتمع لم يحقق درجة متقدمة من الاندماج بين الذاتيية الفردية والموضوعية الاجتماعية، "إنها النوع الأدبي النموذجي للمجتمع البورجوازي"، والرواية هي التي تصور تناقضات المجتمع البورجوازي النوعية أصدق تصوير، وأكثر نموذجية. إذن فتناقضات المجتمع الرأسمالي هي التي تقدم لنا المفتاح لفهم الرواية من حيث إنها نوع أدبي قائم بذاته، في هذا الصدد يقول لوكاش:"إن الرواية، ذلك النوع الملحمي الكبير، ذلك التصوير الحكائي للكلية الاجتماعية، هي القطب المقابل لملحمة العصور القديمة ونقيضها الجذري" .
V-المراحل الأساسية للرواية:
يقول لوكاش بأن "الماركسي لا يستطيع أن يعالج نوعا من الأنواع الأدبية إلا من منظور منهجي وتاريخي، والمخطط الإجمالي الذي وضعناه للتعيينات الأساسية للرواية إنما يرتكز إلى معرفة تاريخ المجتمع، وقد عرفنا الرواية بأنها نوع أدبي قائم بذاته على أساس التصور الماركسي للتاريخ، ولهذا لا يمكن تحديد التحقيب الذي يحدث في داخل تطور الرواية إلا على أساس معرفة تطور الطبقات وصراعها في مراحلها الكبرى" .
ومن هذا المنطلق يحدد لوكاش المراحل الأساسية التي شهدتها الرواية:
1-الرواية في طور الولادة:
وهي مرحلة المجتمع البورجوازي الصاعد، حيث تولد الرواية من وجهة نظر المضمون ، لكن التناقض الحاد مع عالم القرون الوسطى لا يحول دون انفتاح الرواية التي على وشك أن ترى النور على كل ميراث الثقافة الإقطاعية الحكائية، وهذا الميراث أهم بكثير من عناصر المغامرات المادية التي تبنتها الرواية الجديدة في شكل محاكاة هجائية ساخرة أو بعد أن أدخلت عليها تعديلات إيديولوجية أخرى .
إن عظمة (رابليه) و(سرفانتس) المؤسسين الكبيرين للرواية الحديثة ترتكز أساسا على صراع خاض غماره على جبهتين بحكم وضعها التاريخي، والمقصود هو نضالهما ضد انحطاط الإنسان الناجم عن المجتمع البورجوازي الناشئ. فكان النضال ضد (بطولة) الفروسية (التي طفق خواؤها يفتضح)، وضد حطة نثر المجتمع البورجوازي (الذي انكشف أمره للعيان من البداية) .
إن الخاصية الأسلوبية الأساسية لهذه المرحلة تتمثل في نزعة واقعية تسعى وراء الغرابة، فكان التغيير في بنى الشكل والمضمون من خلال تسرب عناصر عامية وشعبية موروثة من العصر الوسيط، يقول هايني:"لقد خلق سرفانتس الرواية الحديثة بإدخاله على رواية الفروسية تصويرا أمنيا للطبقات الدنيا، وبمزجه بها حياة الشعب" .
2-اقتحام الواقع اليومي:
هي مرحلة التراكم البدائي، حيث أفق الغرابة الفسيح يضيق وينكمش، وحبكة العمل وطبائع الشخصيات تغدو واقعية بالمعنى الضيق للكلمة. فالبورجوازية تحولت الآن إلى طبقة سائدة اقتصاديا، واكتسبت الحق في أن تغدو مصائرها الطبقة الخاصة، بما هي كذلك موضوعا في النوع الملحمي الكبير. لذا جرى التشديد في هذه المرحلة على المبدأ الفعال للبورجوازية ، أي على عامل التقدم أكثر مما في أي طور آخر من أطوار التطور، كذلك ظهرت في هذه المرحلة تحديد أجرأ المحاولات لخلق بطل بورجوازي (إيجابي). ويضيف لوكاش أن التأييد الذي محضه كبار كتاب تلك المرحلة لتقدمية ذلك التطور البورجوازي لم يمنعهم من أن يصوروا بملء الحقيقة أهوال انقلاب المجتمع في عصر التراكم البدائي وويلاته، وهذا التناقض الخصب بالنسبة إلى الرواية، هو هنا التناقض غير المحلول بين ويلات المشروع المطروح وبين تفاؤل الطبقة الصاعدة الكامل (ديفو). ونضال البورجوازية من أجل فرض أشكالها الحياتية الخاصة على الأدب أنتج في الوقت نفسه، وفي مواجهة تقليد إقطاعي متحجر، الرواية التي تكافح في سبيل تبرير العواطف والذاتوية (ريتشاردسن، روسو…) ، هذه الذاتوية التي تمثل ميلا تقدميا قابلا حتى لأن يتحول إلى ميل ثوري، تؤدي في الوقت نفسه إلى انحطاط نسبي وانحلال ذاتوي للشكل الروائي .
3-شعر الملكوت الحيواني الروحي:
هي المرحلة التي ظهرت فيها للملأ تناقضات المجتمع البورجوازي، فبعد الثورة الفرنسية التي وضعت حدا (للأوهام البطولية) لإيديولوجيي الطبقة البورجوازية، كما ذهب إلى ذلك كارل ماركس، ثم تلى ذلك صعود البروليتاريا إلى خشبة المسرح كقوة مستقلة بذاتها، وبالتالي ولادة الرومانسية كتيار عالمي هام .
فالرومانسية تكافح الرأسمالية باسم الأشكال المجتمعية البائدة، ومن جهة ثانية تضع نفسها بنفسها من دون أن تعي ذلك في أكثر الأحيان على أرض الرأسمالية، إنها تمثل إذن كفاحا مثاليا، تحركه إيديولوجية ذاتوية، ضد الرأسمالية المنظور إليها على أنها مكتملة، أي أنها (قدر) .
إن الرومانسية تشدد من جانب واحد، وعلى نحو يخدم في كثير من الأحيان الروح الرجعية على عامل الانحطاط الإنساني في الرأسمالية. ويتسم كتاب هذه المرحلة بأسلوب واقعي رفيع، وذلك بتغلبهم على الميول الرومانسية، وبنضالهم في سبيل فهم كلية عصرهم من خلال تظاهر تناقضاته كافة، بالرغم من أن محاولاتهم يكتنفها الالتباس، فمن جهة يتغلبون حقا على الميول الرومانسية ، ويدمجون العناصر الرومانسية في إبداعاتهم رغم ما في هذا الإدماج من عيوب. ومن جهة أخرى يحتوي نضالهم ضد نثر الحياة بالحتم والضرورة على عناصر رومانسية غير متجاوزة، هذا التجاوز الفعلي وهذا التجاوز الظاهري للرومانسية يتداخلان ويتمازجان على نحو شديد التناقض لدى نفس الكاتب.
ومثال ذلك (البرج الغامض في "سنوات تدريب فلهلم مايستر"، رواية غوته، هو في آن واحد من باب النثر الذي قاوم الانحلال ومن باب المبالغة الرومانسية) .
4-المدرسة الطبيعية وانحلال الشكل الروائي:
وهي مرحلة الأفول الإيديولوجي للبورجوازية، وتنامي النزعة إلى المنافحة والتقريض في جميع الميادين الإيديولوجية .
حيث غدا الصراع الطبقي بين البورجوازية والبروليتارية على نحو سافر ومكشوف مركز جميع أحداث المجتمع، اختفى طردا مع ذلك الأدب الروائي البورجوازي. لكن كلما تحاشى الكتاب عن وعي أو لا وعي مسألة عصرهم المركزية، وجدوا أنفسهم مكرهين على الانزلاق في نمط تصويرهم للأحداث نحو ما هو هامشي، وتظهر آثار ذلك أيضا حيثما لا يتشكل الصراع الطبقي بين البورجوازيا والبروليتاريا، وإبان هذه المرحلة يحل ميراث الرومانسية الإيديولوجي محل ميراث التقليد الواقعي الكبير.
ويتسلط على أسلوب الرواية البورجوازية أكثر فأكثر الإحراج الكاذب بين الذاتوية الخاوية من كل مضمون ، والموضوعية المنفوخة اصطناعا. ويتضاءل أكثر فأكثر قدرة الكتاب الواقعيين على تصوير المجتمع في صورة سيرورة تطورية، ويتوجهون أكثر فأكثر نحو تصويره في صورة عالم ناجز وجامد، والنتيجة المحتمة لهذا التطور ابتعاد المدرسة الطبيعية والتيارات التي أعقبتها أكثر فأكثر عن نمط تشخيص النماذج المتفردة إلى أقصى حد، واستعاضتها عنه بتصوير الإنسان المتوسط .
5-منظورات الواقعية الاشتراكية:
بحكم كينونتها الاجتماعية، تقف البروليتاريا موقفا مغايرا تماما لذلك الذي تقفه البورجوازية من تناقضات المجتمع الرأسمالي التي تعين أيضا وجودها قبل سقوط الرأسمالية، وباعتبار أن البروليتاريا تعني الانحلال الثوري للمجتمع البورجوازي، وبدءا من أشكال الصراع الطبقي البروليتاري، وكذا الأخذ بعين الاعتبار تلك التجمعات العمالية في منظمات طبقية (نقابة، حزب) ، وبدءا أيضا من مشكلات صراع الطبقات بالذات، تنبجس بالضرورة إمكانية تصوير العامل الواعي في صورة بطل (إيجابي) .
يقول لوكاش:"وهكذا أفضى كفاح خيرة ممثلي مرحلة الثورات البورجوازية البطولي في سبيل الإنسان المنسجم إلى رثاء حزين، إلى مأثم يندب فيه الإنسان الضياع الذي لا مرد له، لشروط تفتح جميع القدرات الإنسانية تفتحا منسجما، وهناك فقط حيث ينقلب نقد المجتمع البورجوازي إلى إحساس أولي بالاشتراكية" .
يشير لوكاش إلى أن استيلاء البروليتاريا على السلطة وبناء الاشتراكية، تكتسب هذه الميول نوعية جديدة، فالطبقة العاملة ببنائها الاشتراكي وبإبدائها عدوها الطبقي، تلغي الأسباب الموضوعية لانحطاط الإنسان، وهي لا تخلق إمكانية إنسان جديد فحسب، بل تخلق هذا الإنسان الجديد عينه، وكل هذا يؤدي باتجاه تعديل عميق للغاية للشكل الروائي الموروث عن البورجوازية، ذلك الشكل الذي يطرأ عليه تحول جذري، فينزع إلى التوجه نحو الأسلوب الملحمي. إن هذا التفتح الجديد للعناصر الملحمية في الرواية ليس تجديدا إجمالي النزعة للعناصر الشكلية في الملحمة القديمة أو لمضمونها، ولكنه يأتي نتيجة ضرورية وعضوية لتطور الكينونة الاجتماعية، لتطور المجتمع اللاطبقي الذي هو قيد التكون .
ويعضد لوكاش رأي ستالين في اعتبار الطبقة العاملة تعمل في سبيل الإنجاز التام لمهمتها العظيمة ، "والمتمثلة في التغلب على مخلفات الرأسمالية في الاقتصاد وفي وعي البشرية" ، هذا الكفاح هو الذي ينضج العناصر الملحمية، فهو يوقظ طاقات الجماهير ويستنهض من بين صفوفها رجالا ذوي شأن وعزيمة ويجعل منهم قادة لتلك الجماهير، وهم بذلك من خلال مشاركتهم في هذا الكفاح من أجل هدم القديم، وفي الكفاح من أجل البناء الاشتراكي يقهرون داخل أنفسهم المخلفات الإيديولوجية للرأسمالية، وفي هذا الإطار يعمل كتاب الواقعية الاشتراكية في الرواية.
خاتمـــة:
تعتبر أعمال جورج لوكاش محاولة جادة لتقعيد الرواية التي اعتبرها النوع الأدبي النموذجي للمجتمع البورجوازي، هذا الأخير الذي اتخذ الرواية أداة تعبيرية في صراعه مع الطبقات المعادية ولاسيما طبقة الإقطاع وطبقة البروليتاريا. وقد استفاد لوكاش من أعمال هيجل الذي أقر بأن الرواية ملحمة بورجوازية أفرزتها تناقضات المجتمع الرأسمالي، كما استفاد من أعمال المدرسة الرومانسية الألمانية الأولى، وكذا أعمال كل من ماركس وإنجلز.
وهكذا اعتبر لوكاش الرواية جنسا أدبيا له بنية شديدة التعقيد، متراكبة التشكيل تطورت عبر مجموعة مراحل، وهو لا ينظر إليها باعتبارها ظاهرة معزولة أو جنسا أدبيا مستقلا، بل باعتبارها لاحقة لأجناس أخرى، وهي بذلك منفتحة على مستوى الشكل والمضمون بشكل مستمر.
وقد استفاد اللاحقون من تصورات لوكاش خصوصا لوسيان غولدمان في دراسته السوسيولوجية للرواية، والذي ينطلق من تصور بنيوي في مقاربة الرواية الغربية التي أفرزتها البورجوازية الأوربية.
لائحة المصادر والمراجع:
-جورج لوكاش، الرواية كملحمة بورجوازية، تر: جورج طرابيشي، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، 1979.
-جورج لختهايم، سلسلة أعلام الفكر العالمي (جورج لوكاش)، تر: ماهر الكيالي، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1982.
-ميخائيل باختين، الخطاب الروائي، تر: محمد برادة، الرباط، دار الأمان للنشر والتوزيع، طبعة 2، 1987.
-جورج لوكاش: دراسات في الواقعية، تر: نايف بلوز، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1985.
-عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية (سلسلة عالم المعرفة)، العدد 240، الكويت، إصدار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، دجنبر 1998.
COLOR][ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
"الرواية كملحمة بورجوازية" هذه الدراسة كتبها جورج لوكاش أثناء إقامته في موسكو في الثلاثينيات من القرن العشرين، وإبان هذه الفترة كون وصاغ مجموعة من المفاهيم الأساسية في مضمار النظرية الأدبية، وبخاصة نظرية الرواية، وفي مقدمتها الواقعية الكبرى .
هذه الدراسة مكونة من نصين، الأول تحت عنوان (تقرير عن الرواية)، و هو عبارة عن مدخل لمناقشة حول الرواية نظمتها مجلة (النقد الأدبي) الروسية سنة 1934. والنص الثاني يحمل عنوان (الرواية كملحمة بورجوازية) نشر في المجلد التاسع من الموسوعة الأدبية سنة 1935.
وفي هذا العرض اعتمدت ترجمة جورج طرابيشي ، الصادرة من دار الطليعة للطباعة والنشر (بيروت) سنة 1979، وسأحاول في هذا العمل التطرق للمحاور التالية:
I-سيرة جورج لوكاش .
II-التنظير الروائي قبل لوكاش .
1-الحركة الرومانسية الألمانية .
2-كتاب الاستتيقا لهيجل .
III- الرواية والمجتمع.
IV-المراحل الأساسية للرواية:
1-الرواية في طور الولادة .
2-اقتحام الواقع اليومي .
3-شعر الملكوت الحيواني الروحي .
4-المدرسة الروائية وانحلال الشكل الروائي .
5-منظورات الواقعية الاشتراكية .
-خاتمة.
I-سيرة جورج لوكاش:
ولد جورج لوكاش (Gyorgy Lukacs) عام 1885 في مدينة بودابست، ونال شهادة الدكتوراه في الفلسفة سنة 1909، وبعد أن أمضى فترة دراسية طويلة في برلين انتقل من هناك إلى هايدلبرغ حيث تردد على حلقات عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، وأقام صداقات مع مفكرين من طراز باول ارنست والفيلسوف الماركسي ارنست بلوخ، وفي عام 1911 كتب دراسة حول الدراما في جزئين، بلغت صفحاتها الألف، وفي العام نفسه نشر دراسة فلسفية بالألمانية بعنوان (الروح والأشكال). انضم لوكاش إلى الحزب الشيوعي الهنغاري سنة 1918، وشغل منصب مفوض الشعب لشؤون الثقافة في الحكومة الثورية، كما أسهم في معهد ماركس –انجلز- لينين بموسكو بمجموعة من الأعمال، إضافة إلى عضويته في البرلمان الهنغاري، وفي المجلس الرئاسي لأكاديمية العلوم المجرية، مثلما أنه نال كرسي الأستاذية لعلم الجمال وفلسفة الحضارة في جامعة بودابست، اشترك في ثورة المجر عام 1956 وشغل منصب وزير الثقافة في حكومة إيمري ناجي، وقد توفي لوكاش في صيف عام 1971 ، مخلفا مجموعة من الأعمال نذكر منها:"دراسات في الواقعية"، و "نظرية الرواية"، و"ماركسية أم وجودية؟" ، و" بلزاك والواقعية الفرنسية" ، و "التاريخ والوعي الطبقي" ، و"الرواية التاريخية"، إضافة إلى عمله "الرواية كملحمة بورجوازية" ، وهو موضوع دراستنا في هذا العرض.
II-التنظير الروائي قبل لوكاش:
1-الحركة الرومانسية الألمانية:
ظهرت محاولة الحركة الرومانسية الأولى بألمانيا ، من خلال مجلة أتينيوم L’Athenoeum التي طرحت مسألة نظرية الرواية ضمن تصورها العام المتطلع إلى (المطلق الأدبي)، الذي يتخطى الأجناس التعبيرية ليقترب من (كلية عضوية) قادرة على أن تلد نفسها وتلد عالما مجزءا، ومن ثم فإن فردريك شليكل في رسالته عن الرواية، يلح على أن (كل نظرية للرواية يجب أن تكون هي نفسها رواية) مشتملة على النبرات الخالدة للنزوة . إن الرواية لا يمكن أن تستحق اسمها إذا (لم تكن خليطا من المحكي والنشيد ومن أشكال أخرى) لكن التصورات النظرية لهذه الحركة تظل محدودة (وتابعة) لفكرتهم الأساسية عن المطلق الأدبي: فهم لا يقبلون الرواية إلا بوصفها (جنسا) للحرية الذاتية وللتعبير عن النزوات في أشكال زخرفية .
لكن العنصر الأساسي في تنظيرهم للرواية هو اعتبارهم لها جنسا قائما على تعدد الأجناس التعبيرية وعلى تجاوز العناصر الروائية مع الفكر الخالص، والغنائية النثرية المبتذلة. إن هذا العنصر سيصبح أحد المكونات البارزة في تشييدات نظرية الرواية التالية للرومانسية الألمانية .
2-كتاب الاستتيقا لهيجل:
يعد الفيلسوف الألماني هيجل أول من قدم نظرية للرواية في الغرب من خلال رؤية فلسفية جمالية مثالية مطلقة، ويعتبر كتابه الاستتيقا أبرز الكتب التي عنيت بالتنظير الروائي من خلال ربط شكلها ومضمونها بالتحولات التي عرفها المجتمع الأوربي في القرن 19م، فقد اهتم هيجل بالانتقال من الملحمة إلى الرواية اهتماما كبيرا .
لكنه مع ذلك يصنف الرواية كأنها تفريع ثانوي من تفريعات الملحمة، ويرى أن الفرق بينهما يكمن في اللغة الشعرية من (حهة الملحمة) ، واللغة النثرية من جهة الرواية ، ويرى أيضا أن الواقع الذي تعالجه الرواية يستدعي الخروج من الشعر المرتبط بالنوازع والعواطف والوصول إلى النثر المرتبط أكثر بالظروف والمناسبات، ويستنتج أن الشكل الروائي الجديد ملتصق بصعود البورجوازية وبهاجسها الأخلاقي والتعليمي الذي يؤدي إلى ثورة البطل الرومانسية أو سقوطه أو مكابرته، وتعيش المغامرة الروائية بالتالي في الأوهام، نتيجة للفارق الكبير القائم بين الواقع المرجو والواقع المعيش.
وقد استقى لوكاش الكثير من أفكار وتصورات أستاذه هيجل، ولكن ليس من منطلق مثالي، بل اعتمد في تصوراته على المادية الجدلية الماركسية في فهم المجتمع الرأسمالي وتفسير تناقضاته، وقد ألح على غرار هيجل بكون وجود الرواية مرتبط بالانتقال من الإقطاعية التي طورت الفن الملحمي إلى الرأسمالي التي أوجدت لها فنا متميزا هو الفن الروائي.
III-الرواية والمجتمع:
يذهب رولان بارت (R.Barthes) في بعض كتاباته إلى أن الرواية عمل قابل للتكيف مع المجتمع، وأن الرواية تبدو وكأنها مؤسسة أدبية ثابتة الكيان، فهي الجنس الأدبي الذي يعبر بشيء من الامتياز عن مؤسسات مجموعة اجتماعية، وبنوع من رؤية العالم الذي يجره معه، ويحتويه في داخله .
أما عند جورج لوكاش، فالرواية في رأيه النوع الأدبي النموذجي للمجتمع البورجوازي: بولادته رأت النور، ومع تطوره تطورت، وبزواله وبقيام المجتمع الاشتراكي تعود إلى منابعها البطولية الأولى ، وتستعيد أبعادها الملحمية مع كبرى الإنجازات الروائية للواقعية الاشتراكية: (الأم) لمكسيم غوركي، و(الدون الهادئ) لشولوخوف .
فالرواية تظل الشكل التعبيري الأمثل بالنسبة إلى كل مجتمع لم يحقق درجة متقدمة من الاندماج بين الذاتيية الفردية والموضوعية الاجتماعية، "إنها النوع الأدبي النموذجي للمجتمع البورجوازي"، والرواية هي التي تصور تناقضات المجتمع البورجوازي النوعية أصدق تصوير، وأكثر نموذجية. إذن فتناقضات المجتمع الرأسمالي هي التي تقدم لنا المفتاح لفهم الرواية من حيث إنها نوع أدبي قائم بذاته، في هذا الصدد يقول لوكاش:"إن الرواية، ذلك النوع الملحمي الكبير، ذلك التصوير الحكائي للكلية الاجتماعية، هي القطب المقابل لملحمة العصور القديمة ونقيضها الجذري" .
V-المراحل الأساسية للرواية:
يقول لوكاش بأن "الماركسي لا يستطيع أن يعالج نوعا من الأنواع الأدبية إلا من منظور منهجي وتاريخي، والمخطط الإجمالي الذي وضعناه للتعيينات الأساسية للرواية إنما يرتكز إلى معرفة تاريخ المجتمع، وقد عرفنا الرواية بأنها نوع أدبي قائم بذاته على أساس التصور الماركسي للتاريخ، ولهذا لا يمكن تحديد التحقيب الذي يحدث في داخل تطور الرواية إلا على أساس معرفة تطور الطبقات وصراعها في مراحلها الكبرى" .
ومن هذا المنطلق يحدد لوكاش المراحل الأساسية التي شهدتها الرواية:
1-الرواية في طور الولادة:
وهي مرحلة المجتمع البورجوازي الصاعد، حيث تولد الرواية من وجهة نظر المضمون ، لكن التناقض الحاد مع عالم القرون الوسطى لا يحول دون انفتاح الرواية التي على وشك أن ترى النور على كل ميراث الثقافة الإقطاعية الحكائية، وهذا الميراث أهم بكثير من عناصر المغامرات المادية التي تبنتها الرواية الجديدة في شكل محاكاة هجائية ساخرة أو بعد أن أدخلت عليها تعديلات إيديولوجية أخرى .
إن عظمة (رابليه) و(سرفانتس) المؤسسين الكبيرين للرواية الحديثة ترتكز أساسا على صراع خاض غماره على جبهتين بحكم وضعها التاريخي، والمقصود هو نضالهما ضد انحطاط الإنسان الناجم عن المجتمع البورجوازي الناشئ. فكان النضال ضد (بطولة) الفروسية (التي طفق خواؤها يفتضح)، وضد حطة نثر المجتمع البورجوازي (الذي انكشف أمره للعيان من البداية) .
إن الخاصية الأسلوبية الأساسية لهذه المرحلة تتمثل في نزعة واقعية تسعى وراء الغرابة، فكان التغيير في بنى الشكل والمضمون من خلال تسرب عناصر عامية وشعبية موروثة من العصر الوسيط، يقول هايني:"لقد خلق سرفانتس الرواية الحديثة بإدخاله على رواية الفروسية تصويرا أمنيا للطبقات الدنيا، وبمزجه بها حياة الشعب" .
2-اقتحام الواقع اليومي:
هي مرحلة التراكم البدائي، حيث أفق الغرابة الفسيح يضيق وينكمش، وحبكة العمل وطبائع الشخصيات تغدو واقعية بالمعنى الضيق للكلمة. فالبورجوازية تحولت الآن إلى طبقة سائدة اقتصاديا، واكتسبت الحق في أن تغدو مصائرها الطبقة الخاصة، بما هي كذلك موضوعا في النوع الملحمي الكبير. لذا جرى التشديد في هذه المرحلة على المبدأ الفعال للبورجوازية ، أي على عامل التقدم أكثر مما في أي طور آخر من أطوار التطور، كذلك ظهرت في هذه المرحلة تحديد أجرأ المحاولات لخلق بطل بورجوازي (إيجابي). ويضيف لوكاش أن التأييد الذي محضه كبار كتاب تلك المرحلة لتقدمية ذلك التطور البورجوازي لم يمنعهم من أن يصوروا بملء الحقيقة أهوال انقلاب المجتمع في عصر التراكم البدائي وويلاته، وهذا التناقض الخصب بالنسبة إلى الرواية، هو هنا التناقض غير المحلول بين ويلات المشروع المطروح وبين تفاؤل الطبقة الصاعدة الكامل (ديفو). ونضال البورجوازية من أجل فرض أشكالها الحياتية الخاصة على الأدب أنتج في الوقت نفسه، وفي مواجهة تقليد إقطاعي متحجر، الرواية التي تكافح في سبيل تبرير العواطف والذاتوية (ريتشاردسن، روسو…) ، هذه الذاتوية التي تمثل ميلا تقدميا قابلا حتى لأن يتحول إلى ميل ثوري، تؤدي في الوقت نفسه إلى انحطاط نسبي وانحلال ذاتوي للشكل الروائي .
3-شعر الملكوت الحيواني الروحي:
هي المرحلة التي ظهرت فيها للملأ تناقضات المجتمع البورجوازي، فبعد الثورة الفرنسية التي وضعت حدا (للأوهام البطولية) لإيديولوجيي الطبقة البورجوازية، كما ذهب إلى ذلك كارل ماركس، ثم تلى ذلك صعود البروليتاريا إلى خشبة المسرح كقوة مستقلة بذاتها، وبالتالي ولادة الرومانسية كتيار عالمي هام .
فالرومانسية تكافح الرأسمالية باسم الأشكال المجتمعية البائدة، ومن جهة ثانية تضع نفسها بنفسها من دون أن تعي ذلك في أكثر الأحيان على أرض الرأسمالية، إنها تمثل إذن كفاحا مثاليا، تحركه إيديولوجية ذاتوية، ضد الرأسمالية المنظور إليها على أنها مكتملة، أي أنها (قدر) .
إن الرومانسية تشدد من جانب واحد، وعلى نحو يخدم في كثير من الأحيان الروح الرجعية على عامل الانحطاط الإنساني في الرأسمالية. ويتسم كتاب هذه المرحلة بأسلوب واقعي رفيع، وذلك بتغلبهم على الميول الرومانسية، وبنضالهم في سبيل فهم كلية عصرهم من خلال تظاهر تناقضاته كافة، بالرغم من أن محاولاتهم يكتنفها الالتباس، فمن جهة يتغلبون حقا على الميول الرومانسية ، ويدمجون العناصر الرومانسية في إبداعاتهم رغم ما في هذا الإدماج من عيوب. ومن جهة أخرى يحتوي نضالهم ضد نثر الحياة بالحتم والضرورة على عناصر رومانسية غير متجاوزة، هذا التجاوز الفعلي وهذا التجاوز الظاهري للرومانسية يتداخلان ويتمازجان على نحو شديد التناقض لدى نفس الكاتب.
ومثال ذلك (البرج الغامض في "سنوات تدريب فلهلم مايستر"، رواية غوته، هو في آن واحد من باب النثر الذي قاوم الانحلال ومن باب المبالغة الرومانسية) .
4-المدرسة الطبيعية وانحلال الشكل الروائي:
وهي مرحلة الأفول الإيديولوجي للبورجوازية، وتنامي النزعة إلى المنافحة والتقريض في جميع الميادين الإيديولوجية .
حيث غدا الصراع الطبقي بين البورجوازية والبروليتارية على نحو سافر ومكشوف مركز جميع أحداث المجتمع، اختفى طردا مع ذلك الأدب الروائي البورجوازي. لكن كلما تحاشى الكتاب عن وعي أو لا وعي مسألة عصرهم المركزية، وجدوا أنفسهم مكرهين على الانزلاق في نمط تصويرهم للأحداث نحو ما هو هامشي، وتظهر آثار ذلك أيضا حيثما لا يتشكل الصراع الطبقي بين البورجوازيا والبروليتاريا، وإبان هذه المرحلة يحل ميراث الرومانسية الإيديولوجي محل ميراث التقليد الواقعي الكبير.
ويتسلط على أسلوب الرواية البورجوازية أكثر فأكثر الإحراج الكاذب بين الذاتوية الخاوية من كل مضمون ، والموضوعية المنفوخة اصطناعا. ويتضاءل أكثر فأكثر قدرة الكتاب الواقعيين على تصوير المجتمع في صورة سيرورة تطورية، ويتوجهون أكثر فأكثر نحو تصويره في صورة عالم ناجز وجامد، والنتيجة المحتمة لهذا التطور ابتعاد المدرسة الطبيعية والتيارات التي أعقبتها أكثر فأكثر عن نمط تشخيص النماذج المتفردة إلى أقصى حد، واستعاضتها عنه بتصوير الإنسان المتوسط .
5-منظورات الواقعية الاشتراكية:
بحكم كينونتها الاجتماعية، تقف البروليتاريا موقفا مغايرا تماما لذلك الذي تقفه البورجوازية من تناقضات المجتمع الرأسمالي التي تعين أيضا وجودها قبل سقوط الرأسمالية، وباعتبار أن البروليتاريا تعني الانحلال الثوري للمجتمع البورجوازي، وبدءا من أشكال الصراع الطبقي البروليتاري، وكذا الأخذ بعين الاعتبار تلك التجمعات العمالية في منظمات طبقية (نقابة، حزب) ، وبدءا أيضا من مشكلات صراع الطبقات بالذات، تنبجس بالضرورة إمكانية تصوير العامل الواعي في صورة بطل (إيجابي) .
يقول لوكاش:"وهكذا أفضى كفاح خيرة ممثلي مرحلة الثورات البورجوازية البطولي في سبيل الإنسان المنسجم إلى رثاء حزين، إلى مأثم يندب فيه الإنسان الضياع الذي لا مرد له، لشروط تفتح جميع القدرات الإنسانية تفتحا منسجما، وهناك فقط حيث ينقلب نقد المجتمع البورجوازي إلى إحساس أولي بالاشتراكية" .
يشير لوكاش إلى أن استيلاء البروليتاريا على السلطة وبناء الاشتراكية، تكتسب هذه الميول نوعية جديدة، فالطبقة العاملة ببنائها الاشتراكي وبإبدائها عدوها الطبقي، تلغي الأسباب الموضوعية لانحطاط الإنسان، وهي لا تخلق إمكانية إنسان جديد فحسب، بل تخلق هذا الإنسان الجديد عينه، وكل هذا يؤدي باتجاه تعديل عميق للغاية للشكل الروائي الموروث عن البورجوازية، ذلك الشكل الذي يطرأ عليه تحول جذري، فينزع إلى التوجه نحو الأسلوب الملحمي. إن هذا التفتح الجديد للعناصر الملحمية في الرواية ليس تجديدا إجمالي النزعة للعناصر الشكلية في الملحمة القديمة أو لمضمونها، ولكنه يأتي نتيجة ضرورية وعضوية لتطور الكينونة الاجتماعية، لتطور المجتمع اللاطبقي الذي هو قيد التكون .
ويعضد لوكاش رأي ستالين في اعتبار الطبقة العاملة تعمل في سبيل الإنجاز التام لمهمتها العظيمة ، "والمتمثلة في التغلب على مخلفات الرأسمالية في الاقتصاد وفي وعي البشرية" ، هذا الكفاح هو الذي ينضج العناصر الملحمية، فهو يوقظ طاقات الجماهير ويستنهض من بين صفوفها رجالا ذوي شأن وعزيمة ويجعل منهم قادة لتلك الجماهير، وهم بذلك من خلال مشاركتهم في هذا الكفاح من أجل هدم القديم، وفي الكفاح من أجل البناء الاشتراكي يقهرون داخل أنفسهم المخلفات الإيديولوجية للرأسمالية، وفي هذا الإطار يعمل كتاب الواقعية الاشتراكية في الرواية.
خاتمـــة:
تعتبر أعمال جورج لوكاش محاولة جادة لتقعيد الرواية التي اعتبرها النوع الأدبي النموذجي للمجتمع البورجوازي، هذا الأخير الذي اتخذ الرواية أداة تعبيرية في صراعه مع الطبقات المعادية ولاسيما طبقة الإقطاع وطبقة البروليتاريا. وقد استفاد لوكاش من أعمال هيجل الذي أقر بأن الرواية ملحمة بورجوازية أفرزتها تناقضات المجتمع الرأسمالي، كما استفاد من أعمال المدرسة الرومانسية الألمانية الأولى، وكذا أعمال كل من ماركس وإنجلز.
وهكذا اعتبر لوكاش الرواية جنسا أدبيا له بنية شديدة التعقيد، متراكبة التشكيل تطورت عبر مجموعة مراحل، وهو لا ينظر إليها باعتبارها ظاهرة معزولة أو جنسا أدبيا مستقلا، بل باعتبارها لاحقة لأجناس أخرى، وهي بذلك منفتحة على مستوى الشكل والمضمون بشكل مستمر.
وقد استفاد اللاحقون من تصورات لوكاش خصوصا لوسيان غولدمان في دراسته السوسيولوجية للرواية، والذي ينطلق من تصور بنيوي في مقاربة الرواية الغربية التي أفرزتها البورجوازية الأوربية.
لائحة المصادر والمراجع:
-جورج لوكاش، الرواية كملحمة بورجوازية، تر: جورج طرابيشي، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، 1979.
-جورج لختهايم، سلسلة أعلام الفكر العالمي (جورج لوكاش)، تر: ماهر الكيالي، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1982.
-ميخائيل باختين، الخطاب الروائي، تر: محمد برادة، الرباط، دار الأمان للنشر والتوزيع، طبعة 2، 1987.
-جورج لوكاش: دراسات في الواقعية، تر: نايف بلوز، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1985.
-عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية (سلسلة عالم المعرفة)، العدد 240، الكويت، إصدار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، دجنبر 1998.
COLOR][ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
الجمعة أبريل 18, 2014 6:49 am من طرف viva star
» مناهج النقد الأدبي . مترجم.rar
الخميس أبريل 17, 2014 5:01 pm من طرف viva star
» مصطلحات توليدية
السبت فبراير 08, 2014 2:55 pm من طرف رعاش وليد
» ارجو المساعدة
الجمعة يناير 10, 2014 2:10 am من طرف مريم عبد الرحمان
» مساعدة عاجلة جداااااااااا
الثلاثاء يناير 07, 2014 6:53 am من طرف مريم عبد الرحمان
» كتب في علم الدلالة
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:35 pm من طرف safih
» عرض حول معجم المقاييس لابن فارس
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:15 pm من طرف safih
» المعجم الالكتروني
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:06 pm من طرف safih
» تشغيل الجزيرة الرياضية بالشرينغ
الثلاثاء نوفمبر 12, 2013 11:29 am من طرف safih