تميزت الفيودالية، كنظام تفتق منذ القرن التاسع الميلادي نتيجة ضعف المؤسسة الملكية، بتحلل السلطة العمومية واضمحلال هياكلها التي وضعها الغزاة المتبربرون في أوربا الغربية.
فالسلطة الملكية أصابها الوهن وظهرت تجليات ذلك ابتداء من العقود الأولى للقرن التاسع الميلادي. و قد لعبت الخلافات داخل الأسرة الكارولنجية دورا في تسارع وثيرة ذلك التفكك، و استفحل الأمر مع عجز الملوك عن آداء مهامهم الأساسية و لا سيما في الميدان العسكري بعدم القدرة على خوض حرب والانتصار فيها، ورد الغزاة الذين هددوا الاستقرار، و خاصة الغزاة النورمانديين.
بدأ التصدع السياسي في القمة، على مستوى المساعدين الأساسيين للحكم، وهم المركيزات Les Marquis و الادواق Les Ducs و الكونتات Les Comtes المكلفين بتنسيق الأنشطة العسكرية في أقاليم شاسعة من المملكة1. و أدت هذه الوضعية إلى شيوع حالة من الفراغ في مجالات السلطة والقوة العمومية والإدارة ولا سيما في المجال الذي أصبح يعرف منذ معاهدة فيردان ببلاد الفرنجة الغربية Francia Occidentalis مما ولد علاقات اجتماعية و سياسية جديدة.
و يستنتج بوتي ديتايي بأن الفيودالية نمت في ظل الغياب البين للسلطة الذي شهده المجال العمومي في الغرب "لقد نشأت الفيودالية، يقول بوتي ديتايي، في الغرب تلقائيا تحت أشكال متعددة. نشأت حيث الفوضى أنتجت نظاما قائما على الزبناء"2 . و كما يقول نفس المؤلف فهذه العلاقات مبنية على" التعلق بالشخص، والولاء، و روح التضحية لدى التابع، و رعاية المولى" و ذلك هو" الأساس العميق والدائم لهذا التنظيم الذي حل محل الدولة المفككة"3 .
لقد جعل ضعف المؤسسة الملكية المذكور، من العلاقات المبنية على الرعاية المولوية والولاء والتعلق بالشخص المشار اليهما "الدعامة الوحيدة للعلاقات السياسية"4 ومن النظام "القائم على المسيدة الرباط الاجتماعي الوحيد"5. و بين "خلايا صغرى مستقلة تشكلت حول القلاع"ّ6 توزعت أدوار مراقبة السكان سواء من اجل الزجر أو التحكيم بينهم أو استخلاص واجباتهم إزاء الجهة التي يدينون لها بالولاء، و تفشت الروح الجهوية وخاصة بفرنسا7.
ويرى المؤرخ الفرنسي جورج ديبي Georges Duby بان " علاقات الرعاية والولاء الشخصي التي ترعرعت في المجال الخاص"توغلت " تدريجيا في هياكل الدولة"8 محدثة بذلك تحولا في المشهد السياسي بأوربا الغربية بين القرنين العاشر والثالث عشر الميلاديين وهو مشهد سيتطور إلى وضع يتسم بهيمنة النمط الذي يعرف بالملكية الفيودالية 9 .
1- الملكية الفيودالية: المفهوم والنموذج.
أ- ما هي الملكية الفيودالية؟ : إن الملكية الفيودالية حسب برنار جيني صفة يطلقها المؤرخون الفرنسيون على النظام الملكي الذي عرفته أوربا الغربية، وفرنسا بالخصوص، خلال القرن الثالث عشر الميلادي أساسا، "القرن الثالث عشر، يكتب برنار جيني، هو زمن ما اسماه المؤرخون الفرنسيون أحيانا بالملكية الفيودالية، و ما يسميه المؤرخون الألمان بدولة الضيعة"10 .
ويذهب جورج ديبي في تحليله للفيودالية إلى أن الملكية هي نظام خارج الفيودالية, غير أن هذه الأخيرة حافظت عليها اعتبار لصورة الملكية لديها كتجل دنيوي للسلطة الإلهية, و كخاصية " ضرورية لنظام العالم". لقد نظم الملوك الفيوداليون شبكة من العلاقات القائمة على التبعية تتجه نحو شخصهم وسنوا" مبدأ بان لا يقوم الملوك بتشريف غيرهم "11.
و يجازف البعض، كما هو حال المؤرخين السوفيات لأسباب إيديولوجية، بإطلاق هذه الصفة على كل الأنظمة الملكية القائمة في الغرب حتى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي12. لكن هذه الصفة لا تستقيم إلا بتوفر الشروط التي يصبح معها إطلاقها تعبيرا عن نظام حكم خاضع للمقاييس الفيودالية المحض.
وبالرغم من اعترافه بتداخل أشكال الملكية وحضور باقي الأشكال إلى جانب الشكل المهيمن يأخذ جاك ايلول Jacques Ellul على ذلك بعدم اعتبار مدى توفر الأسياد على صلاحيات حقيقية, إذ لا يمكن الحديث عن ملكية فيودالية إلا بتمتع هؤلاء الأسياد ب"سلطات سياسية فعلية" على حساب الملوك منها مثلا حق صك النقود و إصدار العملة، والتوفر على جيش، واستخلاص الضرائب13 .
« الملكية الفيودالية هي النظام الذي تجد فيه سلطة الملك نفسها مقيدة بالبنية الفيودالية للمملكة» حيث يمارس الأسياد الفيوداليون "السلطات الفعلية للقوة العمومية"وتتميز الملكية الفيودالية عن باقي الأشكال الأخرى من الملكية بسعي السيد إلى الحكم "باعتباره ممثلا فعليا لسكان ضيعاته، و عندما يكون التنظيم الفيودالي معترفا به من طرف الجميع لا يمكن للملك أن يحكم إلا بموافقة وانضمام الأسياد الفيوداليين. و هذا ما كان عليه الحال بفرنسا بين القرنين X وXV.. فالملك يحصل الضرائب من الكبار ويترك لهم الوصاية على طبقات الفلاحين"14.
تصبح في النظام الفيودالي مهمة أي سلطة مركزية مستحيلة بسبب طبيعة هذا النظام. ترى الباحثة الفرنسية الشهيرة ريجين بيرنو المختصة في العصر الوسيط الأوربي أن " التابث تاريخيا أنه خلال العصور الوسطى لم يكن هناك مكان لا لنظام مستبد ولا لملكية مطلقة"15. ذلك أن المشهد العام يقوم على المسيداتSeigneuries، وكل مسيدة تشكل إقليما قائما بذاته ويتمتع بخصوصيتة. فمنصب الملك ظل قائما ولكن وفق العرف الفيودالي الذي يحصر الملك في وضع يصبح فيه "سيد الأسياد"16 و يوجز جورج بوردنوف، وهو أحد الباحثين في الشأن الملكي الفرنسي، وضع الملك الفرنسي في إطار النظام الفيودالي قائلا:"إذا أصبحت الملكية الفرنسية وراثية منذ روبير التقي، فان الملك لم يكن وسط أتباعه إلا الأول بين نظراءه Primo Inter Paras و امتيازه الوحيد هو تلقي تمسيح التنصيب والتمثيل الوهمي للقوة العمومية"17 .لذلك يصعب أن تتكون دولة مركزية يشخصها نظام مستبد أو ملكية مطلقة على غرار الملكيات التي عرفتها أوربا الغربية لاحقا.
« لم يكن الملك يتمتع, تكتب ريجين بيرنو, إلا بسلطة غير مباشرة على ميادين الأسياد. فالأعيان الذين كانوا يخضعون له كانوا قليلين، لكنهم كان يمكن لهم أن يرجعوا إلى مواليهم، والأوامر التي كان يصدرها كانت تنقل عبر سلسلة من الوسطاء داخل المملكة. والحق الذي كان يمارسه هو أساسا حق المراقبة بالسهر على ماهو مسطر في العرف لكي يطبق بشكل طبيعي، أي الحفاظ على الهدوء والنظام. و على هذا الأساس كان هو الحكم المعين لتهدئة خصومات الأتباع "18.
لكن الملك الفيودالي تمتع بسلطة معنوية على الأتباع، وثقل أخلاقي بينهم، وذلك ما ضمن الاستمرارية. " لقد أمكن لهذه القوة أن تظل بلا جدوى، تكتب ريجين بيرنو دائما، ... لكن الهيبة التي أضفاها عليه المسح، و المنزلة الأخلاقية الرفيعة للأسرة الكابتية انكشفا أكثر فعالية ضد الأسياد الثائرين... حتى القرن الرابع عشر قامت السلطة الملكية أساسا على القوة المعنوية أكثر من اعتمادها على قوة الجيوش"19.
ب- الميدان الملكي: كانت الملكية تقوم مجاليا على نواة أساسية هي مجال النفوذ الفعلي للملك والمدعو في العرف الفيودالي بالميدان الملكيDomaine Royale20. و في هذا المجال كانت توجد كل الممتلكات من قلاع وقصور وأراضي فلاحية ومطاحن, فقد كان الميدان الملكي الفرنسي مثلا يمتد بين السين و اللوار، و فيه يوجد المحور باريس- أورليان الذي يضم المسالك الاقتصادية الرئيسية و أخصب الأراضي التي عرفت استصلاحا وشهدت دفعة ديمغرافية قوية وشجع الملوك داخله نمو المدن وأنشطتها الاقتصادية.
لقد كان هم الملوك الفرنسيين في عهد الأسرة الكابتية هو توسيع المسيدة التي تشكل الميدان الملكي بواسطة ضم الممتلكات التي يحصلون عليها عن طريق المصاهرة أو الإرث، أو عبر المصادرة باسم الحق الفيودالي في إطار نزع الملكية Commise."لما بدأت حركتهم، يكتب ديك دي كاستري عن الكابتيين، لم تكن فوق التراب لا وحدة لغوية ولا جماعة قانونية أو عرفية. لقد كان الهم الوحيد للملك هو أن يكون سيدا في ميدانه، أي إخضاع أتباعه أو تنحيتهم إذا كانوا عصاة. وباستيلاءه عن ممتلكاتهم يصبح مالكها"21
غير أن الميدان الملكي ظل صغيرا قياسا على مجال دوقيات تدين بالولاء للتاج الفرنسي في إطار النظام الفيودالي كدوقية نورماندي، وهذا ما تعبر عنه ريجين بيرنو من خلال حديثها عن موارد الملك الفرنسي ذلك أنه " خلال الفترة الأطول من العصر الوسيط كان ملك فرنسا بميدانه الضيق يتصرف في موارد أقل من موارد أتباعه"22. و يحاول دي كاستري إعطاء رقم تقريبي للمساحة الحقيقية للميدان الملكي" لا تغطي، يكتب دي كاستري متحدثا عن ملك فرنسا في القرن الثاني عشر، ضيعته اثني عشر ألف كيلومتر مربع"23.
ج- نموذجان للملك الفيودالي: يقدم التاريخ الفرنسي والإنجليزي نموذج الملكية الفيودالية، وذلك من خلال مثالي أسرتي الكابتيين والبلانتاجني.
ففي فرنسا بلغت الملكية الفيودالية ذروتها في عهد فليب اوغست Philippe Auguste، الذي أرسى في فرنسا قواعد الحكم المستمرة على الأقل إلى غاية عهد فليب لوبيل الذي حكم فرنسا بين 1285 و 131024.
توج فليب أوغست ملكا على فرنسا بعد وفاة والده الملك لويس السابع في 18 شتنبر 1180. لقب بالفاتح، قبل إن يطلق عليه ريغور Rigord فيما بعد اللقب الذي اشتهر به في تاريخ فرنسا25. جعل فليب او غست من شخصه محور الحكم فقد كان هذا الملك يعتبر أول المنتمين للأسرة الكابتية الذي له إحساس بتحملاته في إطار العرف الفيودالي26 ، وفرض أسلوبه على الأتباع إذ خلال خمس سنوات من الحكم فاصلة بين تتويجه ملكا و توقيعه لمعاهدة بوفBoves في 1185 أصبحت سلطته فوق منازعات اتباعه و" منذ ذلك التاريخ ارتسمت امكانية مصير عظيم"27 .
في عهد فليب اوغست تم التشديد على احترام مقتضيات القانون الفيودالي، و رعاية حقوق الأتباع وفق منظور يأخذ بعين الاعتبار المصلحة البعيدة المدى للأسرة الكابتية، "عوض حسن الذوق، يكتب دي كاستري، نقص الثقافة لديه) فليب أوغست( فهو الكابتي الأول الذي له حس بمسؤوليته، الفارض لإرادته، المتشدد في تطبيق القانون الفيودالي بظهوره غيورا على ما يقتضيه من التزامات. و في هدا الباب فان فليب أوغست هو واحد من محدثي الضريبة، إن لم يكن ميزانية الدولة"28.
وقد تجلى بوضوح حرصه على التقليد السياسي والقانوني الفيودالي في سياسته إزاء المملكة الإنجليزية، وخاصة في عهد جان سان تيرJean Sans Terre، باعتبار ملكها الذي يوجد على راس مسيدات بفرنسا تابعا للتاج الفرنسي وفق الأعراف الفيودالية.
وإذا كان والده لويس السابع الملك الفرنسي الأول من الأسرة الكابتية الذي غادر فرنسا لمدة زمنية طويلة مما اعتبر رسوخا لملكية تلك الأسرة، فان فليب أوغست هو الكابتي الأول الذي لم يشرك في ملكه خلال حياته الابن الذي سيتوج ملكا بعد رحيله كما دأب على ذلك الملوك الفرنسيون منذ هوج كابتHugues Capet، وقد اعتبر ذلك تكريسا لمبدأ وراثة الحكم تلقائيا عن طريق أحقية الابن البكر من الذكور في خلافة الأب.
والحالة الثانية التي تلتقي مع فليب او غست في النموذج الفيودالي، هي الملك الإنجليزي هنري الثاني الذي ينتمي إلى أسرة البلانتاجني Plantagenêt، وهي أسرة حاكمة من فرنسا.
نصب هنري البلانتاجني ملكا على انجلترا في 19 دجنبر 1154 تحت اسم هنري الثاني واستمر في الملك إلى غاية وفاته في 6 يوليوز 1190، وجمع بين هذه الصفة و كونت آنجو و مين و دوق نورماندي، و أصبح الملك الإنجليزي يطوق نفوذ الملك الفرنسي.فقد امتد نفوذه إلى غاية جنوب فرنساMidi ، وربط علاقة مصاهرة مع ملك قشتالة وملك صقلية وعقد حلفا مع ملك أراغون، وبدا الأمر بمثابة تهديد حقيقي للتاج الفرنسي.
"لقد كان هنري الثاني، يكتب بوتي ديتايي، أحد كبار ملوك انجلترا وأحد المؤسسين للنظام الملكي في الغرب"29. حاول هنري الثاني الاستفادة من المنهجية المعمول بها لدى الكابتيين بالعمل على انتخاب ابنه هنري الشاب شريكا في الملك، سنة 1155، وبالتالي خلافة الأب بعد وفاته لضمان استمرارية الأسرة الحاكمة والنموذج. و بمحاولة الابن الانقلاب عليه سنة 1170تخلى بعد وفاة الأخير عن هذه المنهجية التي ستنقرض حتى في موطنها الأصلي، أي فرنسا.
كان هنري الثاني ملكا مثقفا يقرأ باللاتينية باعتبارها اللغة العالمة في الغرب المسيحي خلال عصره، و توطدت علاقته برجال الدين، ومن بينهم كان يختار مستشاريه، و وضعهم في سلك القضاء والبعثات الدبلوماسية. و اعتبرت هذه العلاقة دفعة جديدة للملكية وللدولة عموما.
لقد تطور الفكر السياسي في انجلترا خلال هذا العهد, وانعكس ذلك على تنظيم القضاء والإدارة و كان رجال القانون الكنسي في عهد هنري الثاني يقيمون كثيرا في القصر، ويحتك بهم الأدباء والخطباء وكتاب الحوليات، و هؤلاء كانوا مختصين بالاستشارة الملكية وبالقضاء أيضا." عبر القانون الكنسي، يكتب بوتي ديتايي, و بواسطة مناهجه ونمط تعبيره، مارس القانون الروماني المدروس في بولونيا بايطاليا تأثيره في مملكة هنري الثاني. و رجال الكنيسة النورمان أو الإنجليز هم الذين ابتكروا التفسير القانوني و ادخلوا تقليد التعليل و روح النظام في القانون, و بهذا الخصوص يرجع لهم الفضل في إدخال القانون العام إلى انجلترا"30.
إن هذين النموذجين هما اللذان سيطبعان مصير أوربا الغربية على الأقل حتى بداية القرن الرابع عشر، وستؤدي سياستهما إلى إفراز مخاض جديد انتهى بتحول الملكية من ملكية فيودالية إلى ملكية مركزية ستتحول لاحقا إلى ملكية مطلقة.
2- تحولات الملكية الفيودالية:
أ- صراع الكابتيين والبلانتاجني:
إن السمة الأساسية لنهاية القرن الثاني عشر وبداية القرن الثالث عشر هي الصراع الحاد بين الملكية الفرنسية مشخصة في التاج الكابتي، والملكية الإنجليزية مشخصة في التاج البلانتاجوني.
و للصراع بين الملكيتين, الذي سيغير عمق الخريطة السياسية، جذور أسرية ترتبط أساسا بزواج كونت آنجو هنري بلانتاجني من اليينور دي اكيتانAliénor d?Aquitaine طليقة لويس السابع ملك فرنسا يوم 18 ماي 1152. لقد كان هذا الارتباط بين زوجين تابعين بحكم المهام وفق الأعراف الفيودالية للتاج الفرنسي حدثا سياسيا بامتياز. فحصول اقتران بهذا المستوى هو تهديد لنفوذ أسرة الكابتيين. و اكيتانيا، الميدان الذي كانت تمتلكه اليينور, هي مجال يساوي ثمانية أضعاف مساحة الميدان الملكي. إذ حول هذا الزواج هنري بلانتاجني إلى سيد على ميدان يمتد بين السين وجبال البرانس، أصبح معه الميدان الملكي مطوقا ومهددا.
حاول لويس السابع أن يمنع زواجهما غير انه لم يوفق في ذلك."و ادراكا منه في وقت متأخر للخطر، يكتب بوتي ديتايي، حاول لويس السابع عبثا الاعتراض على زواجهما الذي يجعل من هنري، وهو لم يصبح بعد ملكا على انجلترا، تابعا أكثر قوة من مولاه"31.
بعد أن توج هنري بلانتاجني ملكا على انجلترا في 19 دجنبر 1154 يتوجه بخطاب إلى اوفيائه الفرنسيين والإنجليز من اجل الإصلاح32, فأصبح الملك الفرنسي في وضعية صعبة33 .
أدرك لويس السابع خطورة الوضع، و إمكانية تحالف الملكية الإنجليزية بامتدادتها الترابية الجديدة مع الإمبراطورية مشخصة في أسرة بربروسBarberousse, لذلك كرس جهده لكي لا تكون حدود مشتركة بين القوتين، ووظف القانون الذي يقوم بموجبه الملك بمحاكمة الأتباع حتى يتفادى أي دعم محتمل يقدمه الادواق والكونتات من داخل فرنسا للإمبراطور اوهنري الثاني ملك انجلترا، ووظف علاقته مع البابا و قد أثمرت وساطة هذا الأخير في تفادي فرنسا لمخاطرحلف تشكل ضدها وهددها سنة 1177.
هذا الوضع هو الذي ورثه فليب اوغست بعد وفاة والده لويس السابع في 1180.
وظف فليب اوغست ملك فرنسا الصراع داخل أسرة البلانتاجني لصالحه، بالتفاوض مع ابني هنري الثاني المتمردين على أبيهما لإضعاف موقف هذا الأخير. فالملك هنري الثاني لم يكن له بد من توقيع ميثاق جيسور في 1180، وهو معاهدة بعدم الاعتداء واعتراف من جانب الملك الإنجليزي بتبعيته للتاج الفرنسي. وردع ملك فرنسا حلف شامبانيا و فلاندرة بتوقيع معاهدة بوف Boves في شهر يوليوز 1185. وقد كرست هذه المعاهدة هيبة الملكية الفرنسية على أتباعها وأصبح الملك الشاب غير منازع في سلطته" خلال خمس سنوات من الحكم، يكتب دي كاستري، ظهر الملك الشاب سيدا لا ينازع الأتباع في سلطته. و منذ ذلك التاريخ لاحت إمكانية مصير عظيم "34.
شكلت وفاة هنري الثاني ملك انجلترا يوم 6 يوليوز 1190 حدثا جوهريا في مسيرة الملك فليب اوغيست في صراعه ضد التاج البلانتاجني. فالملك الذي خلف والده هو ريتشارد قلب الأسد. ذهب الملكان في الحملة الصليبية الثالثة التي فرضها انتصار صلاح الدين الأيوبي واسترجاعه القدس سنة 1187. خلال هذه الحملة مات كونت فلاندرة في حصار عكا. اتخذ فليب اوغيست هذه الوفاة ذريعة للعودة إلى فرنسا من أجل الحصول على آرتوا و فرماندوا، كنصيب لملك فرنسا من ارث الهالك، المضمونتين بموجب معاهدة بوف Boves استغل ملك فرنسا غياب ريتشارد قلب الأسد لتحريض أخيه جان سان تيرعلى الانقلاب، وأدت هذه المناورة إلى صراع مفتوح بين الملكين أصبحت معه الحملة الصليبية الثالثة قوسا مغلقا في العلاقات الفرنسية الإنجليزية.
عاد ريتشارد قلب الأسد من الأرض المقدسة، واضطر إلى مقايضة الإمبراطور باعترافه بتبعيته له لكي يضمن على الأقل حياده في الصراع، وخاض حربا حامية ضد ملك فرنسا وحقق انتصارات دفعت بمجموعة من أتباع التاج الكابتي إلى التحالف مع الملك الإنجليزي، فاضطر فليب أوغست إلى طلب وساطة البابا الذي فرض على المتحاربين هدنة فيرنون وبعدها معاهدة بيرون التي فقد بموجبها ملك فرنسا الأراضي التي ضمها من قبل.
وعلى الرغم من الاتفاق الحاصل بين الملكين، عاد ريتشارد قلب الأسد إلى المواجهات، وقد لعبت الصدفة دورا في إنهاء هذه الحلقة. "كان الحظ , يكتب دي كاستري، بجانب فليب أوغست. فريتشارد قلب الأسد المزهو بانتصاراته، استأنف المواجهات وبادر إلى محاصرة شالي بالليموزان، و هناك وضع أحد الرماة حدا لمسيرته المبنية على المغامرات"35.
في 1199 أصبحت خلافة الملك الإنجليزي الهالك مناسبة للملك الفرنسي بصفته سيدا للتدخل في وراثة التاج البلانتاجني من أجل تأجيج الخلافات الداخلية في المملكة الإنجليزية. انحاز فليب اوغيست إلى جانب أرتور دي بروطاني ضد جان سان تير أخ ريتشارد قلب الأسد، واعترف بالأول دوقا على نورماندي وكونتا لآنجو.
اعتبرت الينور دي أكيتان الأمر خطرا على ابنها جان سان تير فنصبته دوقا على أكيتان ودبرت أمر ذهابه إلى لندن استعجالا لتتويجهه ملكا. لما استتب الأمر هناك استولى على نورماندي، وظهر فليب اوغيست عاجزا عن صد غريمه فوقع معه معاهدة كولي Gouletالتي اعترفت بالوضع القائم.
لما بسط جان سان تير سلطته على أكيتان، صادر ضيعات اللوزينيانLusignans. وطالب هؤلاء من الملك فليب اوغيست باسم القانون الفيودالي التدخل لحماية حقهم كأتباع. استدعى ملك فرنسا كسيد ملك انجلترا للمثول أمام محكمة الإقطاعيين في ابريل 1202. رفض جان سان تير الامتثال فقام الملك باسم القانون الفيودالي بما يعرف بنزع ملكية المسيدة Commise "كان نزع ملكية المسيدة، يكتب جورج ديبي، المقرر من طرف محكمة الإقطاعيين الوسيلة التي اختارها فليب اوغيست ليضم للميدان الملكي جزءا من ضيعات تابعه الرئيسي والاخطر جان سان تير، دوق نورماندي، وكونت آنجو، ودوق أكيتان"36.
وفي 1203 احتدمت المواجهة في نورماندي وسجل جان سان تير انتصارا على آرتور دي بروطاني المنصب من طرف من طرف فليب اوغيست. تدخل هذا الأخير بعد وفاة حليفه، واستولى على روون في 24 يونيو 1204 ضاما نورماندي بصفة نهائية إلى الميدان الملكي.
رتب جان سان تير حلفا لخوض الحرب على واجهتين ضد فرنسا ، في اكيتانيا وفي الشمال، في الواجهة الأولى تراجع الملك الإنجليزي، وفي الواجهة الثانية انتصر فليب اوغيست على الحلف المضاد في بوفين بتاريخ 27 يوليوز 1214، مكرسا بذلك المكتسبات الترابية التي حققتها الأسرة الكابتية حتى ذلك التاريخ .
بعد فشل الحملة المزدوجة فرض البارونات الإنجليز على ملكهم يوم 15 يونيو 1215 الميثاق العظيم الذي يضمن حرية الانتخابات في صفوف رجال الدين، وحماية النبلاء من التسلط الملكي فيما يتعلق بالخلافة الفيودالية وتزويج الوريثات، وتأكيد امتيازات المدن، وتنظيم القضاء، وعدم إقرار أي ضريبة إلا بالتوافق حولها.
ب- نحو ملكية مركزية: حسم فليب اوغيست الصراع لفائدة الملكية الفرنسية التي توسعت ممتلكاتها إذ تضاعفت مساحة الميدان الملكي أربعة مرات خلال عهد هذا الملك" إن تاريخ الحكم الملكي بفرنسا بين 987 و 1270 هو أقل غليانا.فتطوراته لم تبدأ إلا في زمن متأخر، وهي غامضة و بطيئة . والزمن الوحيد الذي تم خلاله حرق المراحل هو عهدي فليب اوغست ولويس الثامن."37
تأكدت خلال هذا العصر قوة الملكية الكابتية ورسوخها " حلت الأسرة الكابتية، يكتب بوتي ديتايي، ابتداء من 987 محل الأسرة الكارولنجية بصفة نهائية، وحافظت على العرش بالصدفة وخصوبة الملكات و بفضل مناورة الاشتراك في العرش، التي جعلت من مبدأ الانتخاب شرطا فارغا، وهي مناورة قائمة على الحظ تخلى عنها فليب أوغست الذي استوعب عبرة ثورة هنري الشاب في انجلترا. هكذا دخل مبدأ وراثة الابن البكر في العادات و مسالة الوصاية في حال القصور أو الغياب أصبح يتم حلها من طرف الملك نفسه قبل وفاته أو سفره، وقد تؤدي إلى اضطرابات أو قلق لكنها لا تؤدي إلى ثورات "38
تعزز موقع الملك الذي أمكنه إجراء سلسلة من الإصلاحات على النظام، من ذلك ظهور بوادر مركزية إدارية باتخاذ مدينة باريس عاصمة وإصلاح وضعية الجامعة بهذه المدينة. وتطور المعمار وبنيت الكاتدرائيات. وتم تقنين وتحديد حقوق الإقطاعيين الكبار، وأضاع الأسياد الصغار سلطتهم، و استمرت الملكية الفرنسية في تنظيم نفسها بعد التوسع الترابي خلال عهد لويس الثامن و وصاية بلانش دي كاستي و سان لوي" هناك أربعة أمراء، يكتب بوتي ديتايي, وجدوا سندهم في الكنيسة، وفي نبالة وفية و حاصلة على مكافآتها، و في بورجوازية نظمت داخل أسوار المدن الحكم الذاتي الوحيد الموجود بفرنسا. و حول الملك نمت وهي تشتغل طبقة جديدة من الموظفين، رجال دين أو لائيكيين، مستلهمة تلك التي صنعت في القرن الثاني عشر عظمة الملكية النورماندية والإنجليزية"39.
و قد ساعد في هذه التطورات غياب وحدة بين النبلاء في فرنسا." إن غياب جبهة مشتركة، يكتب ليوبولد جنيكو، شل النبلاء الفرنسيين"40 و أفضى هذا الوضع إلى تطورات، أحدثت تحولا في وضع الملكية يتجلى في ثلاثة محاور :
1. الحق الكنسي: الذي أضفى على الملك في فرنسا قدسية إضافية، وجعل من الملكية شأنا الهيا41، وابتداء من 1243 لم يعد من الممكن تحريم ملك فرنسا إلا من طرف الباب وحده.
2. حق فيودالي: لم يعد معه ممكنا منذ عهد سان لوي أن يشن أي تابع الحرب على الملك.
3. حق مدني: أصبح الملك في نظر الفقهاء ورجال القانون عموما صاحب أهلية لسن قوانين وفرضها داخل المملكة بكاملها.
ويخلص ليوبولد حنيكو إلى أن القرن الثالث عشر عرف بواسطة الفلاسفة والحقوقيين صياغة قانون عام وبناء نظرية للدولة عبر أحياء القانون الروماني، واكتشاف آرسطو42 . و يذهب جورج ديبي إلى " منذ القرن الثاني عشر الميلادي.. أدت الدراسات القانونية إلى إعادة اكتشاف مبادئ السيادة في القانون الروماني"43 .
إن هذه التطورات مؤشر على سير الملكية الفيودالية نحو ملكية مركزية ارتسمت معالمها في عهد سان لوي، الذي أصبح في عهده يتم التمييز بين المجال العام والمجال الخاص من خلال الفصل بين الإقامة الخاصة للملك والقصر الذي يعتبر مركز السلطة العليا في الدولة.
و اتضح المسار لترسيخ ملكية مركزية في عهد فليب لوبيل مع بداية القرن الرابع عشر يقول برنارجيني: " ماذا يمثل القرنان 14 و 15 في تطور الدول في الغرب؟ أي معنى أعطاه المؤرخون لهذه المرحلة؟ إن الموضوع العام والأكثر شيوعا هو أن القرنين يشكلان جزءا من فترة الانتقال حيث أمحت الدولة القروسطية شيئا فشيئا أمام الدولة الحديثة » 44.
> هوامش:
1 Georges Duby, Féodalité, Encyclopaedia Universalis, Encyclopaedia Universalis, Paris, 2002, Vol 9, P 308.
2 Petit-Dutaillis (Ch.), La monarchie féodale en France et en Angleterre- Xe-XIIIe siècle, Avant Propos d?Henri Berr, La Renaissance du Livre, Paris, 1933, P1.
3 Petit-Dutaillis (Ch.), La monarchie féodale, op cit
4 Georges Duby, Féodalité, op cit, p 307.
5 Petit-Dutaillis (Ch.), La monarchie féodale, op cit, p 424.
6 Georges Duby, Féodalité, op cit, p 307.
7 Petit-Dutaillis (Ch.), La monarchie féodale, op cit, p 424.
8 Georges Duby, Féodalité, op cit, p 307.
9 ثمة مرجع كلاسيكي للموضوع في الاسطوغرافيا الفرنسية هو Petit-Dutaillis (Ch.), La monarchie féodale en France et en Angleterre- Xe-XIIIe siècle, op cit.، ويرى جاك ايلول بان الملكية الفيودالية نظام سياسي عرفته فرنسا بين القرن العاشر والقرن الخامس عشر الميلاديين, و عرفته الصين في عهد المينغ، واليابان منذ القرن الخامس عشر الميلادي، و روسيا في عهد كاترين الثانية أنظر: Jacques Ellul, Monarchie, in Encyclopaedia Universalis, op cit, Vol 15, p 399
10 Bernard Guenée, L?occident aux XIVe et XVe siècles : Les états, Puf, Paris, 1971, P79.
11 Georges Duby, Féodalité, op cit, p 310.
12 Jacques Ellul, Monarchie, Encyclopaedia Universalis, op cit, Vol 15, p 399.
13 Jacques Ellul, Monarchie, op cit, p 399.
14 Jacques Ellul, Monarchie, op cit, p 399..
15 Régine Pernoud, Lumière du moyen age, Grasset, Paris, 1981, P 74.
16 Léopold Génicot, Le XIIIe siècle européen, Puf, Paris, 1968, P141.
17 Georges Bordonove, Une compagne de libération contre l?Anglais, Historia Spécial Historia Spécial(Paris), No 65, janvier- février 2000, P 10.
18 Régine Pernoud, Lumière, PP76 -77.
19 Régine Pernoud, Lumière, P77.
20 Jacques le Goff, Les Capétiens, in Encyclopaedia Universalis, op cit, Vol 4, p 905.
21 Duc de Castries, Histoire de France : des origines à 1981, Robert Laffont, Pris, 1983, P 90.
22 Régine Pernoud, Lumière, P77.
23 Duc de Castries, Histoire de France, op cit, P 90.
24 «إن بداية القرن الرابع عشر هذه هي فترة انتقال: فقد حل نظام ملكي محض محل ملكية فيودالية كانت مشخصة في فليب اوغست» Catherine Decouan, Marigny :un superministre pour gouverner, Historia Spécial(Paris), No 65, janvier- février 2000, p34
25 « فليب الثاني هذا لقب بأوغست لأنه ولد في شهر أغسطس» Duc de Castries, Histoire de France, op cit, p96
26 Duc de Castries, Histoire de France, op cit, P 98.
27 Id, p 99.
28 Duc de Castries, Histoire de France, P 98.
29 Petit-Dutaillis (Ch.), La monarchie féodale, op cit, p 120.
30 Petit-Dutaillis (Ch.), La monarchie féodale, op cit, p 123.
31 Petit-Dutaillis (Ch.), La monarchie féodale, op cit, p 116.
.32 Petit-Dutaillis (Ch.), La monarchie féodale, op cit, p 116-117.
33 Duc de Castries, Histoire de France, op cit, P 95.
34 Duc de Castries, Histoire de France : des origines à 1981, op cit, P 99.
35 Duc de Castries, Histoire de France, P 100.
36 Georges Duby, Féodalité, op cit, p 310.
37 Petit-Dutaillis (Ch.), La monarchie féodale, op cit, p 423.
38 Petit-Dutaillis (Ch.), La monarchie féodale, op cit, p 423.
39 Petit-Dutaillis (Ch.), La monarchie féodale, op cit, p 425.
40 Léopold Génicot, Le XIIIe siècle européen, op cit, p 157.
41 يحيل النموذج الثوراثي على تنصيب رجال الدين للملوك عن طريق التمسيح من خلال مثال تنصيب النبي صموئيل لشاؤول أول ملوك إسرائيل: "الرب مسحك رئيسا على شعبه إسرائيل"، صموئيل الأول، الإصحاح 10، الآية 1. و يحيل النموذج على الموضوع أساسا من خلال مثال الملك داوود الذي مسحه صموئيل ملكا على إسرائيل بعد تنحية شاؤول:".. و كان حسن العينين (داوود( ، وسيم المنظر .فقال الرب لصموئيل:" قم امسحه ملكا فهذا هو". فاخذ صموئيل قرن الزيت ومسحه ملكا من بين إخوته، فحل روح الرب على داوود من ذلك اليوم فصاعدا"، صموئيل الأول، الإصحاح 16 الآيتين 12 و 13، و قد كان الملك داوود بمثابة المثال المنشود لدى الملوك المسيحيين في أوربا خلال العصر الوسيط و لا سيما في حالة سان لوي بفرنسا. و توجد وصية مقدسة في سفر الثتنية، الإصحاح 17، الآيات14-16:" إذا دخلتم الأرض التي يعطيكم الرب إلهكم وامتلكتموها وسكنتم فيها وقلتم " نقيم علينا ملكا كسائر الأمم الذين حوالينا" فأقيموا عليكم ملكا يختاره الرب إلهكم من بين إخوتكم بني قومكم، ولا تقيموا رجلا غريبا عنكم لئلا يتغلب عليه أصله". الكتب المقدس، الترجمة العربية، دار الكتاب المقدس بالشرق الأوسط، بيروت، 1995.
42 Léopold Génicot, Le XIIIe siècle européen, op cit, p 143. يرى أرسطو أن الملكية هي نظام حكم فردي يختلف عن نمط الحكم الاستبدادي والطاغوت باعتماده على القوانين، ويمارس باسم الجميع وليس باسم الملك أو لمصلحة الملك وحده.
43 Georges Duby, Féodalité, op cit, p 310
44Bernard Guenée, L?occident aux XIVe et XVe siècles, op cit
منقول
http://www.maghress.com/alittihad/84454
فالسلطة الملكية أصابها الوهن وظهرت تجليات ذلك ابتداء من العقود الأولى للقرن التاسع الميلادي. و قد لعبت الخلافات داخل الأسرة الكارولنجية دورا في تسارع وثيرة ذلك التفكك، و استفحل الأمر مع عجز الملوك عن آداء مهامهم الأساسية و لا سيما في الميدان العسكري بعدم القدرة على خوض حرب والانتصار فيها، ورد الغزاة الذين هددوا الاستقرار، و خاصة الغزاة النورمانديين.
بدأ التصدع السياسي في القمة، على مستوى المساعدين الأساسيين للحكم، وهم المركيزات Les Marquis و الادواق Les Ducs و الكونتات Les Comtes المكلفين بتنسيق الأنشطة العسكرية في أقاليم شاسعة من المملكة1. و أدت هذه الوضعية إلى شيوع حالة من الفراغ في مجالات السلطة والقوة العمومية والإدارة ولا سيما في المجال الذي أصبح يعرف منذ معاهدة فيردان ببلاد الفرنجة الغربية Francia Occidentalis مما ولد علاقات اجتماعية و سياسية جديدة.
و يستنتج بوتي ديتايي بأن الفيودالية نمت في ظل الغياب البين للسلطة الذي شهده المجال العمومي في الغرب "لقد نشأت الفيودالية، يقول بوتي ديتايي، في الغرب تلقائيا تحت أشكال متعددة. نشأت حيث الفوضى أنتجت نظاما قائما على الزبناء"2 . و كما يقول نفس المؤلف فهذه العلاقات مبنية على" التعلق بالشخص، والولاء، و روح التضحية لدى التابع، و رعاية المولى" و ذلك هو" الأساس العميق والدائم لهذا التنظيم الذي حل محل الدولة المفككة"3 .
لقد جعل ضعف المؤسسة الملكية المذكور، من العلاقات المبنية على الرعاية المولوية والولاء والتعلق بالشخص المشار اليهما "الدعامة الوحيدة للعلاقات السياسية"4 ومن النظام "القائم على المسيدة الرباط الاجتماعي الوحيد"5. و بين "خلايا صغرى مستقلة تشكلت حول القلاع"ّ6 توزعت أدوار مراقبة السكان سواء من اجل الزجر أو التحكيم بينهم أو استخلاص واجباتهم إزاء الجهة التي يدينون لها بالولاء، و تفشت الروح الجهوية وخاصة بفرنسا7.
ويرى المؤرخ الفرنسي جورج ديبي Georges Duby بان " علاقات الرعاية والولاء الشخصي التي ترعرعت في المجال الخاص"توغلت " تدريجيا في هياكل الدولة"8 محدثة بذلك تحولا في المشهد السياسي بأوربا الغربية بين القرنين العاشر والثالث عشر الميلاديين وهو مشهد سيتطور إلى وضع يتسم بهيمنة النمط الذي يعرف بالملكية الفيودالية 9 .
1- الملكية الفيودالية: المفهوم والنموذج.
أ- ما هي الملكية الفيودالية؟ : إن الملكية الفيودالية حسب برنار جيني صفة يطلقها المؤرخون الفرنسيون على النظام الملكي الذي عرفته أوربا الغربية، وفرنسا بالخصوص، خلال القرن الثالث عشر الميلادي أساسا، "القرن الثالث عشر، يكتب برنار جيني، هو زمن ما اسماه المؤرخون الفرنسيون أحيانا بالملكية الفيودالية، و ما يسميه المؤرخون الألمان بدولة الضيعة"10 .
ويذهب جورج ديبي في تحليله للفيودالية إلى أن الملكية هي نظام خارج الفيودالية, غير أن هذه الأخيرة حافظت عليها اعتبار لصورة الملكية لديها كتجل دنيوي للسلطة الإلهية, و كخاصية " ضرورية لنظام العالم". لقد نظم الملوك الفيوداليون شبكة من العلاقات القائمة على التبعية تتجه نحو شخصهم وسنوا" مبدأ بان لا يقوم الملوك بتشريف غيرهم "11.
و يجازف البعض، كما هو حال المؤرخين السوفيات لأسباب إيديولوجية، بإطلاق هذه الصفة على كل الأنظمة الملكية القائمة في الغرب حتى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي12. لكن هذه الصفة لا تستقيم إلا بتوفر الشروط التي يصبح معها إطلاقها تعبيرا عن نظام حكم خاضع للمقاييس الفيودالية المحض.
وبالرغم من اعترافه بتداخل أشكال الملكية وحضور باقي الأشكال إلى جانب الشكل المهيمن يأخذ جاك ايلول Jacques Ellul على ذلك بعدم اعتبار مدى توفر الأسياد على صلاحيات حقيقية, إذ لا يمكن الحديث عن ملكية فيودالية إلا بتمتع هؤلاء الأسياد ب"سلطات سياسية فعلية" على حساب الملوك منها مثلا حق صك النقود و إصدار العملة، والتوفر على جيش، واستخلاص الضرائب13 .
« الملكية الفيودالية هي النظام الذي تجد فيه سلطة الملك نفسها مقيدة بالبنية الفيودالية للمملكة» حيث يمارس الأسياد الفيوداليون "السلطات الفعلية للقوة العمومية"وتتميز الملكية الفيودالية عن باقي الأشكال الأخرى من الملكية بسعي السيد إلى الحكم "باعتباره ممثلا فعليا لسكان ضيعاته، و عندما يكون التنظيم الفيودالي معترفا به من طرف الجميع لا يمكن للملك أن يحكم إلا بموافقة وانضمام الأسياد الفيوداليين. و هذا ما كان عليه الحال بفرنسا بين القرنين X وXV.. فالملك يحصل الضرائب من الكبار ويترك لهم الوصاية على طبقات الفلاحين"14.
تصبح في النظام الفيودالي مهمة أي سلطة مركزية مستحيلة بسبب طبيعة هذا النظام. ترى الباحثة الفرنسية الشهيرة ريجين بيرنو المختصة في العصر الوسيط الأوربي أن " التابث تاريخيا أنه خلال العصور الوسطى لم يكن هناك مكان لا لنظام مستبد ولا لملكية مطلقة"15. ذلك أن المشهد العام يقوم على المسيداتSeigneuries، وكل مسيدة تشكل إقليما قائما بذاته ويتمتع بخصوصيتة. فمنصب الملك ظل قائما ولكن وفق العرف الفيودالي الذي يحصر الملك في وضع يصبح فيه "سيد الأسياد"16 و يوجز جورج بوردنوف، وهو أحد الباحثين في الشأن الملكي الفرنسي، وضع الملك الفرنسي في إطار النظام الفيودالي قائلا:"إذا أصبحت الملكية الفرنسية وراثية منذ روبير التقي، فان الملك لم يكن وسط أتباعه إلا الأول بين نظراءه Primo Inter Paras و امتيازه الوحيد هو تلقي تمسيح التنصيب والتمثيل الوهمي للقوة العمومية"17 .لذلك يصعب أن تتكون دولة مركزية يشخصها نظام مستبد أو ملكية مطلقة على غرار الملكيات التي عرفتها أوربا الغربية لاحقا.
« لم يكن الملك يتمتع, تكتب ريجين بيرنو, إلا بسلطة غير مباشرة على ميادين الأسياد. فالأعيان الذين كانوا يخضعون له كانوا قليلين، لكنهم كان يمكن لهم أن يرجعوا إلى مواليهم، والأوامر التي كان يصدرها كانت تنقل عبر سلسلة من الوسطاء داخل المملكة. والحق الذي كان يمارسه هو أساسا حق المراقبة بالسهر على ماهو مسطر في العرف لكي يطبق بشكل طبيعي، أي الحفاظ على الهدوء والنظام. و على هذا الأساس كان هو الحكم المعين لتهدئة خصومات الأتباع "18.
لكن الملك الفيودالي تمتع بسلطة معنوية على الأتباع، وثقل أخلاقي بينهم، وذلك ما ضمن الاستمرارية. " لقد أمكن لهذه القوة أن تظل بلا جدوى، تكتب ريجين بيرنو دائما، ... لكن الهيبة التي أضفاها عليه المسح، و المنزلة الأخلاقية الرفيعة للأسرة الكابتية انكشفا أكثر فعالية ضد الأسياد الثائرين... حتى القرن الرابع عشر قامت السلطة الملكية أساسا على القوة المعنوية أكثر من اعتمادها على قوة الجيوش"19.
ب- الميدان الملكي: كانت الملكية تقوم مجاليا على نواة أساسية هي مجال النفوذ الفعلي للملك والمدعو في العرف الفيودالي بالميدان الملكيDomaine Royale20. و في هذا المجال كانت توجد كل الممتلكات من قلاع وقصور وأراضي فلاحية ومطاحن, فقد كان الميدان الملكي الفرنسي مثلا يمتد بين السين و اللوار، و فيه يوجد المحور باريس- أورليان الذي يضم المسالك الاقتصادية الرئيسية و أخصب الأراضي التي عرفت استصلاحا وشهدت دفعة ديمغرافية قوية وشجع الملوك داخله نمو المدن وأنشطتها الاقتصادية.
لقد كان هم الملوك الفرنسيين في عهد الأسرة الكابتية هو توسيع المسيدة التي تشكل الميدان الملكي بواسطة ضم الممتلكات التي يحصلون عليها عن طريق المصاهرة أو الإرث، أو عبر المصادرة باسم الحق الفيودالي في إطار نزع الملكية Commise."لما بدأت حركتهم، يكتب ديك دي كاستري عن الكابتيين، لم تكن فوق التراب لا وحدة لغوية ولا جماعة قانونية أو عرفية. لقد كان الهم الوحيد للملك هو أن يكون سيدا في ميدانه، أي إخضاع أتباعه أو تنحيتهم إذا كانوا عصاة. وباستيلاءه عن ممتلكاتهم يصبح مالكها"21
غير أن الميدان الملكي ظل صغيرا قياسا على مجال دوقيات تدين بالولاء للتاج الفرنسي في إطار النظام الفيودالي كدوقية نورماندي، وهذا ما تعبر عنه ريجين بيرنو من خلال حديثها عن موارد الملك الفرنسي ذلك أنه " خلال الفترة الأطول من العصر الوسيط كان ملك فرنسا بميدانه الضيق يتصرف في موارد أقل من موارد أتباعه"22. و يحاول دي كاستري إعطاء رقم تقريبي للمساحة الحقيقية للميدان الملكي" لا تغطي، يكتب دي كاستري متحدثا عن ملك فرنسا في القرن الثاني عشر، ضيعته اثني عشر ألف كيلومتر مربع"23.
ج- نموذجان للملك الفيودالي: يقدم التاريخ الفرنسي والإنجليزي نموذج الملكية الفيودالية، وذلك من خلال مثالي أسرتي الكابتيين والبلانتاجني.
ففي فرنسا بلغت الملكية الفيودالية ذروتها في عهد فليب اوغست Philippe Auguste، الذي أرسى في فرنسا قواعد الحكم المستمرة على الأقل إلى غاية عهد فليب لوبيل الذي حكم فرنسا بين 1285 و 131024.
توج فليب أوغست ملكا على فرنسا بعد وفاة والده الملك لويس السابع في 18 شتنبر 1180. لقب بالفاتح، قبل إن يطلق عليه ريغور Rigord فيما بعد اللقب الذي اشتهر به في تاريخ فرنسا25. جعل فليب او غست من شخصه محور الحكم فقد كان هذا الملك يعتبر أول المنتمين للأسرة الكابتية الذي له إحساس بتحملاته في إطار العرف الفيودالي26 ، وفرض أسلوبه على الأتباع إذ خلال خمس سنوات من الحكم فاصلة بين تتويجه ملكا و توقيعه لمعاهدة بوفBoves في 1185 أصبحت سلطته فوق منازعات اتباعه و" منذ ذلك التاريخ ارتسمت امكانية مصير عظيم"27 .
في عهد فليب اوغست تم التشديد على احترام مقتضيات القانون الفيودالي، و رعاية حقوق الأتباع وفق منظور يأخذ بعين الاعتبار المصلحة البعيدة المدى للأسرة الكابتية، "عوض حسن الذوق، يكتب دي كاستري، نقص الثقافة لديه) فليب أوغست( فهو الكابتي الأول الذي له حس بمسؤوليته، الفارض لإرادته، المتشدد في تطبيق القانون الفيودالي بظهوره غيورا على ما يقتضيه من التزامات. و في هدا الباب فان فليب أوغست هو واحد من محدثي الضريبة، إن لم يكن ميزانية الدولة"28.
وقد تجلى بوضوح حرصه على التقليد السياسي والقانوني الفيودالي في سياسته إزاء المملكة الإنجليزية، وخاصة في عهد جان سان تيرJean Sans Terre، باعتبار ملكها الذي يوجد على راس مسيدات بفرنسا تابعا للتاج الفرنسي وفق الأعراف الفيودالية.
وإذا كان والده لويس السابع الملك الفرنسي الأول من الأسرة الكابتية الذي غادر فرنسا لمدة زمنية طويلة مما اعتبر رسوخا لملكية تلك الأسرة، فان فليب أوغست هو الكابتي الأول الذي لم يشرك في ملكه خلال حياته الابن الذي سيتوج ملكا بعد رحيله كما دأب على ذلك الملوك الفرنسيون منذ هوج كابتHugues Capet، وقد اعتبر ذلك تكريسا لمبدأ وراثة الحكم تلقائيا عن طريق أحقية الابن البكر من الذكور في خلافة الأب.
والحالة الثانية التي تلتقي مع فليب او غست في النموذج الفيودالي، هي الملك الإنجليزي هنري الثاني الذي ينتمي إلى أسرة البلانتاجني Plantagenêt، وهي أسرة حاكمة من فرنسا.
نصب هنري البلانتاجني ملكا على انجلترا في 19 دجنبر 1154 تحت اسم هنري الثاني واستمر في الملك إلى غاية وفاته في 6 يوليوز 1190، وجمع بين هذه الصفة و كونت آنجو و مين و دوق نورماندي، و أصبح الملك الإنجليزي يطوق نفوذ الملك الفرنسي.فقد امتد نفوذه إلى غاية جنوب فرنساMidi ، وربط علاقة مصاهرة مع ملك قشتالة وملك صقلية وعقد حلفا مع ملك أراغون، وبدا الأمر بمثابة تهديد حقيقي للتاج الفرنسي.
"لقد كان هنري الثاني، يكتب بوتي ديتايي، أحد كبار ملوك انجلترا وأحد المؤسسين للنظام الملكي في الغرب"29. حاول هنري الثاني الاستفادة من المنهجية المعمول بها لدى الكابتيين بالعمل على انتخاب ابنه هنري الشاب شريكا في الملك، سنة 1155، وبالتالي خلافة الأب بعد وفاته لضمان استمرارية الأسرة الحاكمة والنموذج. و بمحاولة الابن الانقلاب عليه سنة 1170تخلى بعد وفاة الأخير عن هذه المنهجية التي ستنقرض حتى في موطنها الأصلي، أي فرنسا.
كان هنري الثاني ملكا مثقفا يقرأ باللاتينية باعتبارها اللغة العالمة في الغرب المسيحي خلال عصره، و توطدت علاقته برجال الدين، ومن بينهم كان يختار مستشاريه، و وضعهم في سلك القضاء والبعثات الدبلوماسية. و اعتبرت هذه العلاقة دفعة جديدة للملكية وللدولة عموما.
لقد تطور الفكر السياسي في انجلترا خلال هذا العهد, وانعكس ذلك على تنظيم القضاء والإدارة و كان رجال القانون الكنسي في عهد هنري الثاني يقيمون كثيرا في القصر، ويحتك بهم الأدباء والخطباء وكتاب الحوليات، و هؤلاء كانوا مختصين بالاستشارة الملكية وبالقضاء أيضا." عبر القانون الكنسي، يكتب بوتي ديتايي, و بواسطة مناهجه ونمط تعبيره، مارس القانون الروماني المدروس في بولونيا بايطاليا تأثيره في مملكة هنري الثاني. و رجال الكنيسة النورمان أو الإنجليز هم الذين ابتكروا التفسير القانوني و ادخلوا تقليد التعليل و روح النظام في القانون, و بهذا الخصوص يرجع لهم الفضل في إدخال القانون العام إلى انجلترا"30.
إن هذين النموذجين هما اللذان سيطبعان مصير أوربا الغربية على الأقل حتى بداية القرن الرابع عشر، وستؤدي سياستهما إلى إفراز مخاض جديد انتهى بتحول الملكية من ملكية فيودالية إلى ملكية مركزية ستتحول لاحقا إلى ملكية مطلقة.
2- تحولات الملكية الفيودالية:
أ- صراع الكابتيين والبلانتاجني:
إن السمة الأساسية لنهاية القرن الثاني عشر وبداية القرن الثالث عشر هي الصراع الحاد بين الملكية الفرنسية مشخصة في التاج الكابتي، والملكية الإنجليزية مشخصة في التاج البلانتاجوني.
و للصراع بين الملكيتين, الذي سيغير عمق الخريطة السياسية، جذور أسرية ترتبط أساسا بزواج كونت آنجو هنري بلانتاجني من اليينور دي اكيتانAliénor d?Aquitaine طليقة لويس السابع ملك فرنسا يوم 18 ماي 1152. لقد كان هذا الارتباط بين زوجين تابعين بحكم المهام وفق الأعراف الفيودالية للتاج الفرنسي حدثا سياسيا بامتياز. فحصول اقتران بهذا المستوى هو تهديد لنفوذ أسرة الكابتيين. و اكيتانيا، الميدان الذي كانت تمتلكه اليينور, هي مجال يساوي ثمانية أضعاف مساحة الميدان الملكي. إذ حول هذا الزواج هنري بلانتاجني إلى سيد على ميدان يمتد بين السين وجبال البرانس، أصبح معه الميدان الملكي مطوقا ومهددا.
حاول لويس السابع أن يمنع زواجهما غير انه لم يوفق في ذلك."و ادراكا منه في وقت متأخر للخطر، يكتب بوتي ديتايي، حاول لويس السابع عبثا الاعتراض على زواجهما الذي يجعل من هنري، وهو لم يصبح بعد ملكا على انجلترا، تابعا أكثر قوة من مولاه"31.
بعد أن توج هنري بلانتاجني ملكا على انجلترا في 19 دجنبر 1154 يتوجه بخطاب إلى اوفيائه الفرنسيين والإنجليز من اجل الإصلاح32, فأصبح الملك الفرنسي في وضعية صعبة33 .
أدرك لويس السابع خطورة الوضع، و إمكانية تحالف الملكية الإنجليزية بامتدادتها الترابية الجديدة مع الإمبراطورية مشخصة في أسرة بربروسBarberousse, لذلك كرس جهده لكي لا تكون حدود مشتركة بين القوتين، ووظف القانون الذي يقوم بموجبه الملك بمحاكمة الأتباع حتى يتفادى أي دعم محتمل يقدمه الادواق والكونتات من داخل فرنسا للإمبراطور اوهنري الثاني ملك انجلترا، ووظف علاقته مع البابا و قد أثمرت وساطة هذا الأخير في تفادي فرنسا لمخاطرحلف تشكل ضدها وهددها سنة 1177.
هذا الوضع هو الذي ورثه فليب اوغست بعد وفاة والده لويس السابع في 1180.
وظف فليب اوغست ملك فرنسا الصراع داخل أسرة البلانتاجني لصالحه، بالتفاوض مع ابني هنري الثاني المتمردين على أبيهما لإضعاف موقف هذا الأخير. فالملك هنري الثاني لم يكن له بد من توقيع ميثاق جيسور في 1180، وهو معاهدة بعدم الاعتداء واعتراف من جانب الملك الإنجليزي بتبعيته للتاج الفرنسي. وردع ملك فرنسا حلف شامبانيا و فلاندرة بتوقيع معاهدة بوف Boves في شهر يوليوز 1185. وقد كرست هذه المعاهدة هيبة الملكية الفرنسية على أتباعها وأصبح الملك الشاب غير منازع في سلطته" خلال خمس سنوات من الحكم، يكتب دي كاستري، ظهر الملك الشاب سيدا لا ينازع الأتباع في سلطته. و منذ ذلك التاريخ لاحت إمكانية مصير عظيم "34.
شكلت وفاة هنري الثاني ملك انجلترا يوم 6 يوليوز 1190 حدثا جوهريا في مسيرة الملك فليب اوغيست في صراعه ضد التاج البلانتاجني. فالملك الذي خلف والده هو ريتشارد قلب الأسد. ذهب الملكان في الحملة الصليبية الثالثة التي فرضها انتصار صلاح الدين الأيوبي واسترجاعه القدس سنة 1187. خلال هذه الحملة مات كونت فلاندرة في حصار عكا. اتخذ فليب اوغيست هذه الوفاة ذريعة للعودة إلى فرنسا من أجل الحصول على آرتوا و فرماندوا، كنصيب لملك فرنسا من ارث الهالك، المضمونتين بموجب معاهدة بوف Boves استغل ملك فرنسا غياب ريتشارد قلب الأسد لتحريض أخيه جان سان تيرعلى الانقلاب، وأدت هذه المناورة إلى صراع مفتوح بين الملكين أصبحت معه الحملة الصليبية الثالثة قوسا مغلقا في العلاقات الفرنسية الإنجليزية.
عاد ريتشارد قلب الأسد من الأرض المقدسة، واضطر إلى مقايضة الإمبراطور باعترافه بتبعيته له لكي يضمن على الأقل حياده في الصراع، وخاض حربا حامية ضد ملك فرنسا وحقق انتصارات دفعت بمجموعة من أتباع التاج الكابتي إلى التحالف مع الملك الإنجليزي، فاضطر فليب أوغست إلى طلب وساطة البابا الذي فرض على المتحاربين هدنة فيرنون وبعدها معاهدة بيرون التي فقد بموجبها ملك فرنسا الأراضي التي ضمها من قبل.
وعلى الرغم من الاتفاق الحاصل بين الملكين، عاد ريتشارد قلب الأسد إلى المواجهات، وقد لعبت الصدفة دورا في إنهاء هذه الحلقة. "كان الحظ , يكتب دي كاستري، بجانب فليب أوغست. فريتشارد قلب الأسد المزهو بانتصاراته، استأنف المواجهات وبادر إلى محاصرة شالي بالليموزان، و هناك وضع أحد الرماة حدا لمسيرته المبنية على المغامرات"35.
في 1199 أصبحت خلافة الملك الإنجليزي الهالك مناسبة للملك الفرنسي بصفته سيدا للتدخل في وراثة التاج البلانتاجني من أجل تأجيج الخلافات الداخلية في المملكة الإنجليزية. انحاز فليب اوغيست إلى جانب أرتور دي بروطاني ضد جان سان تير أخ ريتشارد قلب الأسد، واعترف بالأول دوقا على نورماندي وكونتا لآنجو.
اعتبرت الينور دي أكيتان الأمر خطرا على ابنها جان سان تير فنصبته دوقا على أكيتان ودبرت أمر ذهابه إلى لندن استعجالا لتتويجهه ملكا. لما استتب الأمر هناك استولى على نورماندي، وظهر فليب اوغيست عاجزا عن صد غريمه فوقع معه معاهدة كولي Gouletالتي اعترفت بالوضع القائم.
لما بسط جان سان تير سلطته على أكيتان، صادر ضيعات اللوزينيانLusignans. وطالب هؤلاء من الملك فليب اوغيست باسم القانون الفيودالي التدخل لحماية حقهم كأتباع. استدعى ملك فرنسا كسيد ملك انجلترا للمثول أمام محكمة الإقطاعيين في ابريل 1202. رفض جان سان تير الامتثال فقام الملك باسم القانون الفيودالي بما يعرف بنزع ملكية المسيدة Commise "كان نزع ملكية المسيدة، يكتب جورج ديبي، المقرر من طرف محكمة الإقطاعيين الوسيلة التي اختارها فليب اوغيست ليضم للميدان الملكي جزءا من ضيعات تابعه الرئيسي والاخطر جان سان تير، دوق نورماندي، وكونت آنجو، ودوق أكيتان"36.
وفي 1203 احتدمت المواجهة في نورماندي وسجل جان سان تير انتصارا على آرتور دي بروطاني المنصب من طرف من طرف فليب اوغيست. تدخل هذا الأخير بعد وفاة حليفه، واستولى على روون في 24 يونيو 1204 ضاما نورماندي بصفة نهائية إلى الميدان الملكي.
رتب جان سان تير حلفا لخوض الحرب على واجهتين ضد فرنسا ، في اكيتانيا وفي الشمال، في الواجهة الأولى تراجع الملك الإنجليزي، وفي الواجهة الثانية انتصر فليب اوغيست على الحلف المضاد في بوفين بتاريخ 27 يوليوز 1214، مكرسا بذلك المكتسبات الترابية التي حققتها الأسرة الكابتية حتى ذلك التاريخ .
بعد فشل الحملة المزدوجة فرض البارونات الإنجليز على ملكهم يوم 15 يونيو 1215 الميثاق العظيم الذي يضمن حرية الانتخابات في صفوف رجال الدين، وحماية النبلاء من التسلط الملكي فيما يتعلق بالخلافة الفيودالية وتزويج الوريثات، وتأكيد امتيازات المدن، وتنظيم القضاء، وعدم إقرار أي ضريبة إلا بالتوافق حولها.
ب- نحو ملكية مركزية: حسم فليب اوغيست الصراع لفائدة الملكية الفرنسية التي توسعت ممتلكاتها إذ تضاعفت مساحة الميدان الملكي أربعة مرات خلال عهد هذا الملك" إن تاريخ الحكم الملكي بفرنسا بين 987 و 1270 هو أقل غليانا.فتطوراته لم تبدأ إلا في زمن متأخر، وهي غامضة و بطيئة . والزمن الوحيد الذي تم خلاله حرق المراحل هو عهدي فليب اوغست ولويس الثامن."37
تأكدت خلال هذا العصر قوة الملكية الكابتية ورسوخها " حلت الأسرة الكابتية، يكتب بوتي ديتايي، ابتداء من 987 محل الأسرة الكارولنجية بصفة نهائية، وحافظت على العرش بالصدفة وخصوبة الملكات و بفضل مناورة الاشتراك في العرش، التي جعلت من مبدأ الانتخاب شرطا فارغا، وهي مناورة قائمة على الحظ تخلى عنها فليب أوغست الذي استوعب عبرة ثورة هنري الشاب في انجلترا. هكذا دخل مبدأ وراثة الابن البكر في العادات و مسالة الوصاية في حال القصور أو الغياب أصبح يتم حلها من طرف الملك نفسه قبل وفاته أو سفره، وقد تؤدي إلى اضطرابات أو قلق لكنها لا تؤدي إلى ثورات "38
تعزز موقع الملك الذي أمكنه إجراء سلسلة من الإصلاحات على النظام، من ذلك ظهور بوادر مركزية إدارية باتخاذ مدينة باريس عاصمة وإصلاح وضعية الجامعة بهذه المدينة. وتطور المعمار وبنيت الكاتدرائيات. وتم تقنين وتحديد حقوق الإقطاعيين الكبار، وأضاع الأسياد الصغار سلطتهم، و استمرت الملكية الفرنسية في تنظيم نفسها بعد التوسع الترابي خلال عهد لويس الثامن و وصاية بلانش دي كاستي و سان لوي" هناك أربعة أمراء، يكتب بوتي ديتايي, وجدوا سندهم في الكنيسة، وفي نبالة وفية و حاصلة على مكافآتها، و في بورجوازية نظمت داخل أسوار المدن الحكم الذاتي الوحيد الموجود بفرنسا. و حول الملك نمت وهي تشتغل طبقة جديدة من الموظفين، رجال دين أو لائيكيين، مستلهمة تلك التي صنعت في القرن الثاني عشر عظمة الملكية النورماندية والإنجليزية"39.
و قد ساعد في هذه التطورات غياب وحدة بين النبلاء في فرنسا." إن غياب جبهة مشتركة، يكتب ليوبولد جنيكو، شل النبلاء الفرنسيين"40 و أفضى هذا الوضع إلى تطورات، أحدثت تحولا في وضع الملكية يتجلى في ثلاثة محاور :
1. الحق الكنسي: الذي أضفى على الملك في فرنسا قدسية إضافية، وجعل من الملكية شأنا الهيا41، وابتداء من 1243 لم يعد من الممكن تحريم ملك فرنسا إلا من طرف الباب وحده.
2. حق فيودالي: لم يعد معه ممكنا منذ عهد سان لوي أن يشن أي تابع الحرب على الملك.
3. حق مدني: أصبح الملك في نظر الفقهاء ورجال القانون عموما صاحب أهلية لسن قوانين وفرضها داخل المملكة بكاملها.
ويخلص ليوبولد حنيكو إلى أن القرن الثالث عشر عرف بواسطة الفلاسفة والحقوقيين صياغة قانون عام وبناء نظرية للدولة عبر أحياء القانون الروماني، واكتشاف آرسطو42 . و يذهب جورج ديبي إلى " منذ القرن الثاني عشر الميلادي.. أدت الدراسات القانونية إلى إعادة اكتشاف مبادئ السيادة في القانون الروماني"43 .
إن هذه التطورات مؤشر على سير الملكية الفيودالية نحو ملكية مركزية ارتسمت معالمها في عهد سان لوي، الذي أصبح في عهده يتم التمييز بين المجال العام والمجال الخاص من خلال الفصل بين الإقامة الخاصة للملك والقصر الذي يعتبر مركز السلطة العليا في الدولة.
و اتضح المسار لترسيخ ملكية مركزية في عهد فليب لوبيل مع بداية القرن الرابع عشر يقول برنارجيني: " ماذا يمثل القرنان 14 و 15 في تطور الدول في الغرب؟ أي معنى أعطاه المؤرخون لهذه المرحلة؟ إن الموضوع العام والأكثر شيوعا هو أن القرنين يشكلان جزءا من فترة الانتقال حيث أمحت الدولة القروسطية شيئا فشيئا أمام الدولة الحديثة » 44.
> هوامش:
1 Georges Duby, Féodalité, Encyclopaedia Universalis, Encyclopaedia Universalis, Paris, 2002, Vol 9, P 308.
2 Petit-Dutaillis (Ch.), La monarchie féodale en France et en Angleterre- Xe-XIIIe siècle, Avant Propos d?Henri Berr, La Renaissance du Livre, Paris, 1933, P1.
3 Petit-Dutaillis (Ch.), La monarchie féodale, op cit
4 Georges Duby, Féodalité, op cit, p 307.
5 Petit-Dutaillis (Ch.), La monarchie féodale, op cit, p 424.
6 Georges Duby, Féodalité, op cit, p 307.
7 Petit-Dutaillis (Ch.), La monarchie féodale, op cit, p 424.
8 Georges Duby, Féodalité, op cit, p 307.
9 ثمة مرجع كلاسيكي للموضوع في الاسطوغرافيا الفرنسية هو Petit-Dutaillis (Ch.), La monarchie féodale en France et en Angleterre- Xe-XIIIe siècle, op cit.، ويرى جاك ايلول بان الملكية الفيودالية نظام سياسي عرفته فرنسا بين القرن العاشر والقرن الخامس عشر الميلاديين, و عرفته الصين في عهد المينغ، واليابان منذ القرن الخامس عشر الميلادي، و روسيا في عهد كاترين الثانية أنظر: Jacques Ellul, Monarchie, in Encyclopaedia Universalis, op cit, Vol 15, p 399
10 Bernard Guenée, L?occident aux XIVe et XVe siècles : Les états, Puf, Paris, 1971, P79.
11 Georges Duby, Féodalité, op cit, p 310.
12 Jacques Ellul, Monarchie, Encyclopaedia Universalis, op cit, Vol 15, p 399.
13 Jacques Ellul, Monarchie, op cit, p 399.
14 Jacques Ellul, Monarchie, op cit, p 399..
15 Régine Pernoud, Lumière du moyen age, Grasset, Paris, 1981, P 74.
16 Léopold Génicot, Le XIIIe siècle européen, Puf, Paris, 1968, P141.
17 Georges Bordonove, Une compagne de libération contre l?Anglais, Historia Spécial Historia Spécial(Paris), No 65, janvier- février 2000, P 10.
18 Régine Pernoud, Lumière, PP76 -77.
19 Régine Pernoud, Lumière, P77.
20 Jacques le Goff, Les Capétiens, in Encyclopaedia Universalis, op cit, Vol 4, p 905.
21 Duc de Castries, Histoire de France : des origines à 1981, Robert Laffont, Pris, 1983, P 90.
22 Régine Pernoud, Lumière, P77.
23 Duc de Castries, Histoire de France, op cit, P 90.
24 «إن بداية القرن الرابع عشر هذه هي فترة انتقال: فقد حل نظام ملكي محض محل ملكية فيودالية كانت مشخصة في فليب اوغست» Catherine Decouan, Marigny :un superministre pour gouverner, Historia Spécial(Paris), No 65, janvier- février 2000, p34
25 « فليب الثاني هذا لقب بأوغست لأنه ولد في شهر أغسطس» Duc de Castries, Histoire de France, op cit, p96
26 Duc de Castries, Histoire de France, op cit, P 98.
27 Id, p 99.
28 Duc de Castries, Histoire de France, P 98.
29 Petit-Dutaillis (Ch.), La monarchie féodale, op cit, p 120.
30 Petit-Dutaillis (Ch.), La monarchie féodale, op cit, p 123.
31 Petit-Dutaillis (Ch.), La monarchie féodale, op cit, p 116.
.32 Petit-Dutaillis (Ch.), La monarchie féodale, op cit, p 116-117.
33 Duc de Castries, Histoire de France, op cit, P 95.
34 Duc de Castries, Histoire de France : des origines à 1981, op cit, P 99.
35 Duc de Castries, Histoire de France, P 100.
36 Georges Duby, Féodalité, op cit, p 310.
37 Petit-Dutaillis (Ch.), La monarchie féodale, op cit, p 423.
38 Petit-Dutaillis (Ch.), La monarchie féodale, op cit, p 423.
39 Petit-Dutaillis (Ch.), La monarchie féodale, op cit, p 425.
40 Léopold Génicot, Le XIIIe siècle européen, op cit, p 157.
41 يحيل النموذج الثوراثي على تنصيب رجال الدين للملوك عن طريق التمسيح من خلال مثال تنصيب النبي صموئيل لشاؤول أول ملوك إسرائيل: "الرب مسحك رئيسا على شعبه إسرائيل"، صموئيل الأول، الإصحاح 10، الآية 1. و يحيل النموذج على الموضوع أساسا من خلال مثال الملك داوود الذي مسحه صموئيل ملكا على إسرائيل بعد تنحية شاؤول:".. و كان حسن العينين (داوود( ، وسيم المنظر .فقال الرب لصموئيل:" قم امسحه ملكا فهذا هو". فاخذ صموئيل قرن الزيت ومسحه ملكا من بين إخوته، فحل روح الرب على داوود من ذلك اليوم فصاعدا"، صموئيل الأول، الإصحاح 16 الآيتين 12 و 13، و قد كان الملك داوود بمثابة المثال المنشود لدى الملوك المسيحيين في أوربا خلال العصر الوسيط و لا سيما في حالة سان لوي بفرنسا. و توجد وصية مقدسة في سفر الثتنية، الإصحاح 17، الآيات14-16:" إذا دخلتم الأرض التي يعطيكم الرب إلهكم وامتلكتموها وسكنتم فيها وقلتم " نقيم علينا ملكا كسائر الأمم الذين حوالينا" فأقيموا عليكم ملكا يختاره الرب إلهكم من بين إخوتكم بني قومكم، ولا تقيموا رجلا غريبا عنكم لئلا يتغلب عليه أصله". الكتب المقدس، الترجمة العربية، دار الكتاب المقدس بالشرق الأوسط، بيروت، 1995.
42 Léopold Génicot, Le XIIIe siècle européen, op cit, p 143. يرى أرسطو أن الملكية هي نظام حكم فردي يختلف عن نمط الحكم الاستبدادي والطاغوت باعتماده على القوانين، ويمارس باسم الجميع وليس باسم الملك أو لمصلحة الملك وحده.
43 Georges Duby, Féodalité, op cit, p 310
44Bernard Guenée, L?occident aux XIVe et XVe siècles, op cit
منقول
http://www.maghress.com/alittihad/84454
الجمعة أبريل 18, 2014 6:49 am من طرف viva star
» مناهج النقد الأدبي . مترجم.rar
الخميس أبريل 17, 2014 5:01 pm من طرف viva star
» مصطلحات توليدية
السبت فبراير 08, 2014 2:55 pm من طرف رعاش وليد
» ارجو المساعدة
الجمعة يناير 10, 2014 2:10 am من طرف مريم عبد الرحمان
» مساعدة عاجلة جداااااااااا
الثلاثاء يناير 07, 2014 6:53 am من طرف مريم عبد الرحمان
» كتب في علم الدلالة
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:35 pm من طرف safih
» عرض حول معجم المقاييس لابن فارس
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:15 pm من طرف safih
» المعجم الالكتروني
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:06 pm من طرف safih
» تشغيل الجزيرة الرياضية بالشرينغ
الثلاثاء نوفمبر 12, 2013 11:29 am من طرف safih