أهمية اللغة العربية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد فإن من ألطاف الله تعالى ونعمته ورحمته أن جعل للناس لسانا يتفاهمون به، فإن الناس يحتاج بعضهم لبعض ولا يمكن أن يقوم أحد منهم بحاجته دون بعض، ولا يمكن أن يستقل منهم إنسان بقضاء أموره ولا بأداء مهماته إلا إذا وجد من يساعده على ذلك، ومن هنا احتاجوا إلى التفاهم فيما بينهم والتعارف، فجعل الله لهم وسائل للتعارف ومن أعظمها الأنساب حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وجعل لهم وسائل للتفاهم وأعظمها اللغات ولهذا ربط الله بين الألوان واللغات وبين خلق السماوات والأرض في قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} فالبشر لا يمكن أن يتفاهموا إلا عن طريق وسائل الحس، إلا عن طريق الحواس الخمس، لأن وسائل العلم لدى الإنسان ثلاثة، هي العقل والروح والحس، فالعقل لا يمكن أن يتفاهم الناس عن طريقه لأنه من الأمور المعنوية غير الحسية، والأرواح كذلك يمكن بها التعارف لكن لا يمكن بها التفاهم، ولهذا حصل التعارف بينها في عالم الذر كما صح عن النبي r فيما أخرجه البخاري تعليقا في الصحيح وأخرجه مسلم مسندا أن رسول الله r قال: «الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» لكن التفاهم إنما يتم عن طريق إحدى هذه الحواس، وهذه الحواس مدركاتها هي المسموعات والمبصرات والملموسات والمشمومات والمذوقات، وقد جعل الله تعالى أصناف الحيوان تتفاهم عن طريق هذه الوسائل، فمن الحيوانات ما يتفاهم عن طريق إفراز رائحة يحصل بها التفاهم والتعارف بفطرة الله لها على ذلك، كالنحل وغيره من الحيوانات، ومنها ما يمكن تفاهمه عن طريق السمع وما يمكن تفاهمه عن طريق البصر بالإشارات والحركات وما يمكن تفاهمه عن طريق اللمس، لكن الذوق لا يمكن أن يحصل التفاهم عن طريقه لأن الطعوم محصورة وقد صرح العلماء بأن أنواع الطعوم خمسة هي الحلاوة والمرارة والمزية والملحية والتفاهة، فهذه خمس هي أصل الطعوم كلها، أما المرئيات والمشاهدات وكذلك المسموعات فهي كثيرة جدا يمكن التفاهم عن طريقها، وبهذا تخلص لنا جارحتان للتفاهم فيما بين الإنسان، فالتفاهم بين بني آدم لا يتم إلا عن طريق السمع أو عن طريق البصر، أما عن طريق السمع فإنهم بالإمكان أن يسمعوا الكلام، وأما عن طريق البصر فإنهم بالإمكان أن يقرءوا الكتابة أو أن يفهموا الإشارات، وهاتان الوسيلتان يمكن أن تفيا بمقصود الإنسان، لكن جعل الله بعض بني آدم عميا وجعل بعضهم صما، فالعميان لا يمكن أن يتفاهموا عن طريق البصر مع غيرهم، والصم لا يمكن أن يتفاهموا عن طريق السمع مع غيرهم، فبقي التوازن بين هاتين الحاستين، لكنه جعل الزمن أيضا مقسوما بين ليل ونهار، وقد محا الله آية الليل وجعل آية النهار مبصرة، وبذلك ازدادت نسبة العميان في البشر بوجود الليل، فكان إذا التفاهم عن طريق السمع أقوى وأوسع من التفاهم عن طريق البصر، ومن هنا جعل الله هذه اللغات هي أساس التفاهم بين الناس، وقد علم آدم الأسماء كلها كما أخبر بذلك في كتابه: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}، وهذا التعليم اختلف فيه الناس هل كان عن طريق الوحي والتوقيف، أو كان عن طريق الإلهام والإلقاء، وكل ذلك ممكن والله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، لكن اتفق الناس على أن ما يتجدد من دلالات الألفاظ وما يطرأ من المجازات إنما هو عن طريق الإلهام ويضع الله القبول على بعض المصطلحات فتشيع بين الناس، ومن هنا فكل جديد يطلق الناس عليه عدة أسماء باعتبار أذواقهم، ولكنه سيثبت له اسم واحد يضع الله عليه القبول بين غيره من الأسماء، عندما صنع أول جهاز كمبيوتر في الولايات المتحدة في جامعة بنسلفانيا سمي في البداية النظامة ثم سمي الرتابة ثم سمي الحاسوب ثم سمي بالحاسب الآلي ثم سمي بعد ذلك بالعقل الإلكتروني وهذه أسماء كثيرة كلها لبعض وظائف هذه الآلة المحدثة، لكن بتطور الزمان وبتطور الدلالات لا بد أن يثبت اسم واحد لهذه الآلة يكون اسما عالميا مشهورا، وكذلك لما طرأت آلة الفاكس للإرسال الكتابي عن طريق الاتصالات الهاتفية، إما عن طريق الكابلات أو عن طريق الأقمار الصناعية أو عن طريق الألياف الزجاجية سميت في البداية كذلك بالناقل، ثم سميت كذلك بالهاتف الكاتب، ثم سميت بعد ذلك بالكاتوب، وغيرها من المصطلحات فبتطور الزمن سيختار اسم واحد يضع الله عليه القبول وينتشر بين الناس، لا شك أن البشر متنوعون في الأذواق وفي البيئة وفي أنماط الحياة وبسبب ذلك تنوعت لغاتهم واختلفت، وقد نص العلماء على أن الله تعالى علم آدم اثنتين وسبعين لغة وهي أصول لغات العالم، وهذه اللغات تنطلق إلى سلالات، سلالات لغوية أصلها أربع فقط ومنها تتشعب بقية اللغات كلها حتى تصل إلى العد الموجود اليوم، ففي الهند وحدها 450 لغة، في دولة وحدة في الهند وحدها، وهذه اللغات بعضها يكون مشتقا من بعض بالتداخل، كحال اللغة الفارسية مع اللغة البشتونية، واللغة الأردية مع الفارسية ومع العربية، واللغة التركية كذلك مع اللغة العربية في التداخل في كثير من المفردات، وكذلك فإن بعض اللغات يكون قابلا للتطور بسرعة هائلة، فيتجدد، تتجدد دلالاته ومصطلحاته ومن ذلك اللغة الإنجليزية، واللغة الفرنسية إلى حد ما، فإن ألفاظها تتناقل وتتجدد ومن هنا فنسبة عشر بالمائة من اللغة الفرنسية هو من الكلمات المنقولة إما من اللغة الإغريقية أو من اللغة الرومانية أو غيرها من اللغات حتى من اللغة العربية، لكن هذه اللغات سواء كانت توقيفية أو كانت إلهامية فإن كل ذلك يرجع إلى الاختيار الرباني والاصطفاء الإلهي والقبول الذي يضعه الله على الكلمات حتى تتناسب مع الأذواق، فالحسن والقبح بمعنى ملاءمة الطبع ومنافرته ووصف الكمال والنقص أمر عقلي، وبمعنى ترتب الثواب والعقاب عاجلا أو آجلا أمر شرعي، ومن هنا قد حصل الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة فيما يتعلق بالتحسين والتقبيح، والخلاف ينبغي أن يكون لفظيا لأن الحسن والقبح بمعنى ملاءمة الطبع ومنافرته لا شك أن هذا راجع إلى العقل، أما الحسن والقبح بمعنى ترتب الثواب والعقاب فهذا شرعي قطعا لا بد فيه من وحي، فالخلاف إذن يمكن أن يرجع إلى خلاف لفظي ولا تترتب عليه أحكام كثيرة، وإذا كان الأمر كذلك وكان الأمر راجعا إلى أن الله سبحانه وتعالى يضع القبول على بعض الكلمات فتناسب أذواق أكبر حد من البشر، فإن هذه اللغة العربية قد اصطفاها الله على غيرها من اللغات، وشرفها على غيرها من اللغات، وتكلم بها سبحانه وتعالى بهذا القرآن الذي تحدى به الثقلين الإنس والجن أن يأتوا بسورة من مثله، فأقصر سورة في كتاب الله هي سورة الكوثر، وهي ثلاث آيات وقد تحدى الله الثقلين الإنس والجن على مر الدهور منذ أنزلت هذه السورة بمكة أن يأتوا بسورة من مثلها، قدر ثلاث آيات فقط، وإلى الآن جاء كثير من المحاولات الفاشلة وباءت كلها بالفشل، بل إن تلك المحاولات إذا سمع العقلاء بعضها ضحكوا واشتد هزؤهم منه كمحاولات مسيلمة الكذاب فهي غاية في السخافة وعدم الانسجام وذلك أنه اتجه إلى اتجاه واحد وهو تركيب الألفاظ دون النظر إلى الإعجاز المعنوي والإعجاز العلمي والإعجاز التشريعي وغيرها من أنواع الإعجاز التي جعلها الله في القرآن، إذن اختيار هذه اللغة هو اختيار رباني بوحي من عند الله سبحانه وتعالى واصطفاء منه لا معقب لحكمه، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} ولو جاء الناس فصوتوا وجاءت أغلبيتهم على رفض هذه اللغة فإن ذلك لا يقلل نفوذها ولا يقلل القبول الذي جعل الله عليها، لأنه اصطفاء من عند الله لا يستطيع الناس رفضه ولا تجاهله، ومن هنا فإن الغربيين الذين يفخرون بلغاتهم ويزعمونها اللغات العالمية المسايرة لتطور العالم لا يزال فيهم من مثقفيهم وقادتهم وعلمائهم من يتخصص في دراسة اللغة العربية ويخصص وقته لها، وفي العصر الماضي اشتهر عدد كبير من هؤلاء مثل بروكلمان ومثل يوسف شخت وغيرهما من كبار المستشرقين الذين عنوا باللغة العربية ونشروا كثيرا من مخطوطاتها ودرسوها وحفظوا كثيرا من أشعار العرب، وصرح كثير منهم بأن هذه اللغة لا تعدلها أية لغة، وأذكر أننا في العام الماضي قابلنا أحد المشتشرقين الكبار في جامعة في استكتلاند في شمال بريطانيا فذكر أنه قد خلد شهادته بأن اللغة العربية لا تعدلها لغة ولا تساويها في السمو والارتقاء، ولا في الذوق ولا في الاتساع، وأنه كتب هذه الشهادة في جامعته وخلدها قبل ثلاثين سنة، وهذا كلام الأعداء، "والحق ما شهدت به الأعداء".
إننا في بحثنا في أهمية أي شيء ننظر فيه من ناحية الحكم الشرعي ثم من ناحية الفائدة والمصلحة للبشرية، فلنبدأ أولا بحكم الشرع في لغة العرب وتعلمها، فنقول إن الله سبحانه وتعالى قد فرض على كل من آمن به تعلم جزء من العربية، وبهذا تكون العربية فرض عين على كل إنسان بقدر ما يقيم به ألفاظ الفاتحة وبقدر ما يقيم به التكبير والتسميع والسلام في الصلاة فهذا القدر من العربية فرض عين على كل مسلم، ولا يسع مسلما جهله، وهذا القدر اختلف الناس في تحديده، لأن الله تعالى يقول في كتابه {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} والناس تتباين رؤاهم في تحديد هذا القدر الذي هو أقل ما يخاطب به الإنسان من تعلم العربية، فقال قوم: لا بد أن يصل إلى مستوى يفهم به ألفاظ الفاتحة وألفاظ التشهد وألفاظ الدعاء المأمور به على سبيل الوجوب، وكذلك ألفاظ الأذكار التي تجب مرة في العمر كالهيللة والاستغفار والتسبيح والتحميد وغير ذلك، فيجب عليه أن يتعلم معانيها بالعربية، وهذا القول هو الراجح، ومن القائلين به مالك والأوزاعي وسفيان الثوري وغيرهم من كبار علماء السلف، فرأوا أنه يجب على الإنسان المسلم أن يتعلم معاني هذه الكلمات لأنه لو قال: لا إله إلا الله دون أن يفقه معناها فيمكن أن تلقن هذه الكلمة لأي إنسان ولا يلزم بمقتضياتها، ولذلك فإن شهادة أن لا إله إلا الله كما ذكرنا من قبل لها أربع مقتضيات، من لم يحقق هذه المقتضيات الأربع ليس شاهدا أن لا إله إلا الله، فالمقتضى الأول، هو العلم بمعناها، العلم أن لا إله إلا الله، أن يعلم الإنسان ذلك في نفسه، والمقتضى الثاني هو مقتضى القول أن ينطق بذلك لأنها مشروطة على القادرين لا يدخل الإنسان الإيمان وهو قادر على النطق إلا إذا نطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، المقتضى الثالث أن يلتزم بحقوقها التي يقاتل عليها من تركها، «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» فهذه حقوق لا إله إلا الله، المقتضى الرابع هو الإلزام بها، أن يسعى الإنسان لنشر لا إله إلا الله وتوسيع دائرة القائلين بها وإلزام الناس بها، فهذه المقتضيات الأربع هي مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله، وقد توسع بعض المتأخرين من المتكلمين في هذا الباب فقد ذكر عليش في شرحه لـ"أم البراهين" في العقائد الأشعرية للسنوسي أن من لم يفهم ما تتناوله شهادة أن لا إله إلا الله من العقائد وهو خمس وستون عقيدة على مقتضى عد المتكلمين فإنه لم يؤد مقتضياتها، وهذا تشدد ومبالغة لا محالة، ولكنه يدلنا على أهمية فهم شهادة أن لا إله إلا الله، إذا كان بعض أهل العلم يرون أنك إذا لم تحقق مقتضياتها جميعا وهي خمس وستون عقيدة فمعنى ذلك أنك لم تفهمها فهذا يدلنا على أهمية تعلم اللغة التي تفهم بها معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم بعد ذلك إن الذي يدعو وهو لا يفهم ما يدعو به، أو يثني على الله وهو لا يفهم معنى ما يثني به لا يمكن أن ينال أجر ما يقول لأن الصلاة قال فيها النبي r: «وإن الرجل ليصلي الصلاة وما كتب له نصفها ثلثها ربعها حتى انتهى إلى العشر» لأنه لا يكتب له منها إلا ما عقل ووعى، ومن هنا فإن على الإنسان أن يتفهم ويتدبر ما يقول، ولهذا قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} وهذا الخطاب ليس للعرب وحدهم، بل لجميع من آمن بهذا القرآن ونحن مع القول الأول المسهل الذي يقتضي أقل نسبة وهي ما يكون الإنسان به فاهما لمقتضى ما يقول من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ومحبا لما سوى ذلك وعالما أنه كلام الله ومصدقا به على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل فهذا القول لا شك أسهل وأيسر وهو الراجح من ناحية الاستدلال، لكن مع هذا لا نهمل الأقوال الأخرى ولا نعتدي على أقوال أهل العلم، فلهذا لا بد أن يعلم كل إنسان أن من واجباته العينية أن يتعلم جزءا من العربية يفهم به معنى شهادة أن لا إله إلا الله ويقيم به حروف الفاتحة، ويقيم به حروف ألفاظ التعبدات في الصلاة وغيرها من الواجبات العينية، فهذا القدر لا خلاف في وجوبه، المرتبة الثانية هي ما يتعلق بفروض الكفايات من العربية، فقد افترض الله على المسلمين تعلم علوم العربية فرض كفاية إذا قام به من يحصل به إقامة الحجة على الناس كفى ذلك، وهذا داخل في عموم قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} فلا يمكن أن يكون الإنسان شاهدا لله إذا لم يكن فاهما لما يشهد به، لأن العلم شرط في الشهادة لقول الله تعالى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} ولقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، وفي حديث ابن عباس الذي أخرجه البيهقي في السنن بإسناد فيه ضعف أن رسول الله r قال: «أترى الشمس إذا طلعت؟» قال: نعم، قال: «على مثلها فاشهد أو دع»، ومن هنا فلا يمكن أن يشهد الشاهد بما لا يعلمه ولا يفهمه، لا بد أن يكون الإنسان فاهما لما يشهد به حتى تقبل شهادته على ذلك، والله تعالى جعل هذه الأمة شهداء على الناس كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ولا يمكن أن تتم الشهادة على الناس إذا كنت لا تفهم ما تشهد به، والناس لم تجد وسيلة للاطلاع على أحوالهم وما كذبوا به أنبياءهم إلا القرآن، والقرآن بلسان عربي مبين، فإذا لم تفهم هذا فلا يمكن أن تكون شاهدا على الناس، إذا جاء نوح يوم القيامة يخاصمه قومه فقالوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فقال: بلى قد مكثت فيكم ألف سنة إلا خمسين عاما، فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، إذا كنت أنت لا تفهم الآيات التي جاءت في قصة نوح فلا يمكن أن تكون من الشهداء على هذا لأن الشهادة من شرطها العلم، وفروض الكفاية في اللغة العربية هي بتعلم علومها الأساسية، وعلومها الأساسية هي أربعة عشر علما داخلة كلها في فروض الكفاية، إذا لم يكن في الأمة من يعلمها حصل الإثم على أفرادها جميعا، وإذا كان فيها في كل بلد من يعلم هذه العلوم بقدر رد الشبهات وإجابة الأسئلة المتعلقة بالقرآن والسنة سقط الإثم عن الجميع وفرض الكفاية قد اختلف العلماء هل هو أفضل أم فرض العين، ولذلك قال السيوطي رحمه الله في الكوكب الساطع:
فرض الكفاية مهم يقصد
وذهب الأستاذ والجويني
وهو على كل رأى الجمهور
فقيل مبهم وقيل عينا
ونظر عن فاعل يجرد
ونجله يفضل فرض العين
والقول بالبعض هو المنصور
وقيل من قام به ووهنا
فعلى هذا هذه العلوم الأربعة عشر لا بد أن يكون في كل حاضرة من حواضر المسلمين من يعرف منها ما يرد به الشبهات ويجيب به الاختلافات التي يوردها الناس على الكتاب والسنة، وهذه العلوم هي علم النحو الذي هو أقدمها وأشرفها، ومرجعه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهو واضعه حيث كتب لأبي الأسود الدؤلي رحمه الله كتابه، وكان منطلق هذا العلم، وهذا العلم به إقامة الكلم ومعرفة التركيب كما قال ابن مالك رحمه الله في كافيته:
وبعد فالنحو صلاح الألسنه
والنفس إن تعدم سناه في سنه
فمن لم يعرفه لا يمكن أن يفهم {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ولا أن يفهم "لا إله إلا الله" ولذلك من لا يعرف جزئياته ويستطيع إجابة مسائله لا يمكن أن يفتي الناس في كثير من مسائلهم الفقهية، ولذلك حصلت مسألة في تاريخ هذه الأمة عجيبة عرضت على عدد من كبار أهل العلم فأحجم عنها أكثرهم حتى جاء أهل اللغة وهم الذين استطاعوا أن يحلوا إشكالها، وذلك في قول الشاعر:
فأنت طلاق والطلاق عزيمة
ثلاث ومن يخرق أعق وأشأم
فهذا البيت يمكن أن يقرأ على أوجه متعددة، فأنت طلاق والطلاق عزيمةً ثلاثٌ أو فأنت طلاق والطلاق عزيمةٌ ثلاثاً ومن يخرق أعق وأشأم، ويختلف المعنى ويختلف الحكم الفقهي باختلاف الشكل، فإذا قال: فأنت طلاق والطلاق عزيمةً ثلاثٌ فإنه لا يلزم إلا طلقة واحدة، وإذا قال: فأنت طلاق والطلاق عزيمةٌ ثلاثا فإن ذلك ملزم لثلاث طلقات، ولذلك فمثل هذا كثير، وقد حصل للقرافي رحمه الله في قول الشاعر:
ما يقول الفقيه أيده اللـ
في فتى علق الطلاق بشهر
ـه ولا زال شأنه يزدان
قبلما قبل قبله رمضان
أو بعدما بعد بعده رمضان، فقال في هذين البيتين مائتان وخمسون مسألة علمية، وكل ذلك راجع إلى شكل هذين البيتين وما يتعلق بهما وما يؤخذ منهما من دلالات الألفاظ، وقد حصل للشاطبي رحمه الله قصة أخرى مع شيخه ابن الفخار أثبتها في كتابه "الإفادات والإنشادات" فيقول إن الشيخ ابن الفخار اجتمع عليه أهل الحديث ذات ليلة فحدثهم ثم أراد أن يحمض لهم، والإحماض لدى أهل الحديث أن ينشدهم قصة أو أدبا أو شعرا يزيل عنهم الملل، فسألهم عن معنى قول الشاعر:
رأت قمر السماء فأذكرتني
كلانا ناظر قمرا ولكن
ليالي وصلنا بالرقمتين
رأيت بعينها ورأت بعيني
فلم يستطع أحد منهم أن يحل هذا الأشكال، لم يستطع أحد من طلاب الحديث في الأندلس في ذلك الوقت ومنهم أبو إسحاق الشاطبي أن يحل هذا الإشكال، فسألوا الإمام ابن الفخار أن يشرح لهم هذا البيت فشرحه وبين لهم أن القمر قمران قمر حقيقي وقمر مجازي، فالقمر الحقيقي هو قمر السماء، والقمر المجازي هو الوجه المذكور هنا، وأن النظر كذلك إما أن يكون نظرا حقيقيا أو أن يكون نظرا مجازيا، فعين البصيرة وعين البصر نظران، وأن الرجل أراد ادعاء أن يجعل الحقيقة مجازا وأن يجعل المجاز حقيقة، فقال: رأت قمر السماء فأذكرتني ليالي وصلنا بالرقمتين، كلانا ناظر قمرا، ولكن رأيت بعينها، فعينها عين الحقيقة، وقد انقلبت إلي فكنت أنا ناظرا بعين الحقيقة وهي التي تنظر بعين المجاز، كلانا ناظر قمرا ولكن رأيت بعينها ورأت بعيني، فمن لم يكن عارفا بما يفهم به مثل هذا من اللغة العربية سيقع في إشكالات لا نهاية لها، وكذلك فإن لسان الدين بن الخطيب رحمه الله في كتابه: "الإحاطة في أخبار غرناطة" ذكر الإشكالات التي يقع فيها الموثقون والقضاة عندما يكتبون الأحكام ويوثقونها فكثيرا ما يكتبون ألفاظا لا تفهم أو لا تؤدي المعنى، أو تكون أحوط وأوسع مما قاله القائل، وبذلك يقولون على القائل ما لم يقله، ويكتبون عليه ما لم يشهد به، فيقعون في شهادة الزور من حيث لا يشعرون، وذلك لنقص فهمهم للعربية، ومثل هذا في رواية الحديث، فإن كثيرا من أهل الحديث يروون الحديث بالمعنى وهي مسألة خلافية الخلاف فيها مشهور قديم، لكن المشكل أن بعضهم يلحن في روايته وقد قال أحمد بن حنبل رحمه الله: «إن اللاحن في الحديث أحد الكاذبين على رسول الله r، لأن النبي r قال: «من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار»، وهو لا يلحن قطعا فمن قال عليه باللحن فقد قال عليه ما لم يقل وبهذا يكون أحد الكاذبين على رسول الله r، وبهذا يعلم خطر التكلم في العلم إذا لم يكن الإنسان صاحب لسان يمكن أن يعبر به أو أن يروي به، ومثل هذا في القراءة، فإن إقامة قراءة القرآن إنما تكون بما وافق وجها نحويا، ولذلك قال ابن الجزري رحمه الله:
وكل ما وافق وجها نحوي
وصح إسنادا هو القرآن
وكان للرسم احتمالا يحوي
فهذه الثلاثة الأركان
ولذلك فالذين يلحنون في القراءة أو في الحديث كان ذلك جرحة فيهم لدى كثير ممن سواهم بل اقتضى نبذ روايتهم لدى أكثر أهل العلم، ومن هنا فعدد من الذين تكلم فيهم ما دفعوا عن ثقة ولا عن ضبط، وإنما تكلم فيهم من جهة اللحن كأبي عبد الله بن عدي الحافظ صاحب الكامل، فقد كان يلحن فتكلم فيه كثير من أهل العلم في روايته بسبب اللحن، مع أنه إمام حافظ عدل ثقة، لكن تكلم فيهم من جهة اللحن فقط، ومثل هذا ما حصل لليث بن أبي سليم مع أنه عدل لكنه كان يلحن، ولذلك يقول فيه أحد الشعراء:
ينادي ربه باللحن ليث
لذلك إن دعاه لا يجيب
فتكلم فيه بعض الناس من قبل اللحن الذي يقع فيه، فقالوا: لا يوثق بروايته للحنه فيها، واللحن يقلب المعنى كثيرا، ولذلك فإن أبا الأسود حين كلمته ابنته فقالت: ما أشدُّ الحرِّ، قال: أيام ناجر، قالت: أنا متعجبة لا مستفهمة، قال: ما هكذا تقول العرب، هي أرادت: ما أشدَّ الحرَّ، فقالت: ما أشدُّ الحرِّ، ومثل هذا ما حصل للوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين عندما أتاه أعرابي فسأله فقال: ما شانَك؟ فقال: فدع في رسغي وعور في عيني، فقال له عمر بن عبد العزيز: الأمير يريد ما شأنُك، فقال: جئت ممتارا لأهلي، ثم سأله عمن معه ولحن في ذلك، فأخبره أن معه ختنه، قال: ومن ختنَك؟ يقصد: ومن ختنُك؟ فقال: حجام كان معنا بالبادية، فقال له عمر بن عبد العزيز: الأمير يريد: ومن ختنُك، فمثل هذا في اللحن كثير، ويقال إن عمر بن عبد العزيز حين كان بالمسجد والوليد يخطب قال الوليد: يا ليتها كانت القاضيةُ بالرفع، فقال عمر: وددتها والله، ود لو مات عندما قرأها هكذا، ولذلك فإن سبب قراءة سيبويه للنحو أنه في البداية اشتغل برواية الحديث، ولكنه قرأ: «ما من أصحابي إلا من شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء، فقرأها هو: ليس أبو الدرداء، فلحنه أصحابه وهزءوا به، فعدل عن قراءة الحديث وذهب حتى تمرس في اللغة وألف الكتاب ثم بعد ذلك روى الحديث، ولذلك فإن مالكا رحمه الله قد درس النحو على الخليل بن أحمد فجلس عنده أسبوعا يلازمه حتى أتقن النحو فيه، والشافعي رحمه الله لم يشتغل بدراسة العلم حتى جلس في قبيلة بني هذيل حتى حفظ عشرين ألفا من أشعارهم، ونحو هذا كثير جدا في حال سلفنا، فمن لم يكن ذا سلاح من علم النحو لا يمكن أن يفهم ولا أن يفتي في كثير من المسائل، ثم بعد النحو علم مفردات اللغة، وهو العلم الثاني في الأهمية، فهذه اللغة العربية ليست مثل غيرها من اللغات، بل لها كثير من المفردات المتداخلة، بعضها يجمعها جذر واحد وبعضها يختلف في الجذر، وبعضها يعرف في بعض المناطق دون بعض، والقرآن الكريم قد اختير من خير هذه الكلمات والمفردات، واختار الله له أفضل التعبيرات، فلذلك فتارة يأتي التعبير بلغة حمير لغة أهل اليمن وتارة بلغة أهل نجد وتارة بلغة أهل الحجاز يختار من كل لغة أحسنها وأفصحها وأدقها معنى وأحسنها ذوقا حتى يتكامل ذلك ويكون جميعا من اللغة العربية المختارة، والذين يزعمون أن القرآن جاء بلغة قبيلة واحدة من العرب يغلطون في هذا ويرد عليهم الاعتراض وقد جاء أحد النحويين من أهل اليمن وكان في مجلس الخليفة هارون الرشيد، فأخبره أن القرآن نزل بلغتهم وبدأ يسرد بعض الكلمات التي لا يعرفها قريش وهي في القرآن من لغة أهل اليمن ويذكر شواهدها فلما أطال كان بحضرته أحد القرشيين، فقال: أسمعت ما يقول هذا اليماني قال: لا أدري ما يقول، غير أن الله تعالى يقول فيه كتابه: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ} ولم يقل: جعلوا شناترهم في صناراتهم، وهذه لغة أهل اليمن، الشناتر الأصابع والصنارات الآذان، فالله تعالى يختار من الكلمات ألطفها وأقربها للذوق الصحيح السليم، سواء كان من لغة أهل اليمن أو من لغة أهل الحجاز أو من لغة أهل نجد أو غيرهم، ومن لم يعرف مفردات اللغة لم يحل له الكلام في التفسير ولا التفهم فيه ولا التدبر في كثير من الكلمات، بل إن كثيرا من الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتورعون من الكلام في بعض الكلمات التي جاءت في القرآن إذا لم تكن من لغتهم ولم يعرفوا دلالاتها ومدلولاتها، حتى إن أبا بكر رضي الله عنه قال: «أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في القرآن ما لا أعلم» وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في مجلسه فأتته امرأة من أهل اليمن تستعديه على زوجها، فقالت: يا أمير المؤمنين إن بعلي عبد حقي وترك الوصيد رهوا ولي عليه مهيمن فهل لي عليه من مسيطر؟ فقال: لم أفهم ما تقولين، فقال ابن عباس: كلمات كلهن في كتاب الله، إن بعلي أي زوجي، {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} عبد حقي أي تركه وضيعه {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أي التاركين لعبادة ذلك الولد أو لعبادته، وترك الوصيد رهوا، الوصيد الباب {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} رهوا أي مفتوحا {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} ولي عليه مهيمن أي شاهد {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} فهل لي عليه من مسيطر أي حاكم {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ}، فاستشهد له ابن عباس على الكلمات التي أطلقتها هذه المرأة وأنها كلها في القرآن ففهم عمر دلالاتها وأعداها على زوجها، ونظير هذا ما حصل لابن عباس رضي الله عنهما مع نافع بن الأزرق أمير الأزارقة من الخوارج، فإنه أتاه من العراق يسأله عن تفسير كلمات من مفردات اللغة العربية في القرآن، فأطال عليه وأكثر واشتهرت هذه المسائل فيما بعد بمسائل ابن الأزرق، وهي تربو على مائتي مسألة من المفردات القرآنية، منها مثلا قول: {أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} قال: ما معنى غير ممنون قال: غير مقطوع، أما سمعت قول الحارث بن حلزة اليشكري:
فترى خلفها من الرجع والوقـ
ـع منينا كأنه إهباء
سأله عن عدة كلمات من هذا ويذكر له شواهدها في اللغة، فبينما هو كذلك إذ ضجر به، فجاء عمر بن أبي ربيعة المخزومي فسأله ابن عباس عن آخر ما قال من الشعر فأنشده قصيدته التي مطلعها:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
بحاجة نفس لم تقل في جوابها
غداة غد أم رائح فمهجر
فتبلغ عذرا والمقالة تعذر
حتى أتى على آخر القصيدة وهي ثمانون بيتا، فحفظها ابن عباس بهذه المرة الواحدة، فقال له نافع بن الأزرق: «لله أنت يابن عباس نضرب إليك آباط الإبل في طلب العلم فتعرض عنا ويأتيك شاب حدث من قريش ينشدك سفها فتسمعه» فقال: «ما سمعت سفها» فقال: بلى، أما سمعت قوله:
رأت رجلا أَيْمَى إذا الشمس عارضت
فيخزى وأيمى بالعشي فيخسر
فقال ما هكذا قال، إنما قال:
رأت رجلا أيمى إذا الشمس عارضت
فيضحى وأيمى بالعشي فيخصر
ثم سأله عن قول الله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} فقال: ما معنى قوله: وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى؟ قال: تضحى تبرز للشمس، قال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: أما سمعت قول المخزومي بالأمس:
رأت رجلا أيمى إذا الشمس عارضت
فيضحى وأيمى بالعشي فيخصر
ولذلك فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوصى بديوان العرب وحفظه، وكان يتعهد أشعار العرب ويستمع إليها، ولهذا فإن حسان بن ثابت كان ينشد بعض أشعاره في المسجد فكان عمر إذا أنشد حسان شيئا من شعره في هجاء المشركين أو في مدح الرسول r وأصحابه أذن له فإذا ذكر شيئا من أشعاره في الخمر وأمور الجاهلية خرج عمر، فمر به وهو ينشد شيئا من أشعاره في أولاد جفنة من قصيدته اللامية التي يقول فيها:
أبناء جفنة حول قبر أبيهم
يغشون حتى ما تهر كلابهم
يسقون من ورد البريص عليهم
بيض الوجوه كريمة أحسابهم
نجل ابن مارية الكريم المفضل
لا يسألون عن السواد المقبل
بردى يصفق بالرحيق السلسل
شم الأنوف من الطراز الأول
حتى أتى على القصيدة فغضب عمر من إنشادها، وكان جَبَلَةُ بن الأيهم إذ ذاك قد تنصر وهرب إلى الروم وأرسل بهدية إلى حسان فامتدحه حسان بأبيات يقول فيها:
إن ابن جفنة من بقية معشر
لم ينسني بالشام إذ هو ربها
يعطي الجزيل ولا يجده عنده
وأتيته يوما فقرب مجلسي
لم يغذهم آباؤهم باللوم
كلا ولا متنصرا بالروم
إلا كبعض عطية المذموم
وسقى فرواني من الخرطوم
فغضب عمر حين امتدح هذا الكافر فقال له حسان: مه يابن الخطاب فقد كنت أنشده وفيه من هو أفضل منك فما تعداها عمر، وكذلك فإن عمر كان يسأل الشعراء ويقيم بينهم المفاضلة، فأتاه رجل من ذرية هرم بن سنان فسأله: قال: ما نحل جدك هرم زهير بن أبي سلمى، فقال: أعطاه أثوابا خلقت، وأموالا نفدت، قال: لكن ما كسا زهير أباك لا ينفد، فأنشده بعض مدحه فيه بقوله:
يكلف شأو امرأين قدما حسنا
هو الجواد فإن يلحق بشأوهما
أو يسبقاه على ما كان من مهل
إلى أن يقول فيها:
بل اذكرن خير قيس كلها نسبا
القائد الخيل منكوبا دوابرها
غزت سمانا فآضت ضمرا خدجا
نال الملوك وبذى هذه السوقا
على تكاليفه فمثله لحقا
فمثل ما قدما من صالح سبقا
وخيرها نائلا وخيرها خلقا
قد أحكمت حكمات القد والأبقا
من بعد ما جنبوها بدنا عققا
فطرب عمر لهذه الأبيات وأخبر أن ما كساه زهير هذا الرجل لا يخلق ولا يبلى، وكذلك سأل عمر أحد الشعراء عن أشعر الناس فجرى على عادة العرب أن يفضلوا من كان بينه وبينهم قرابة ليفخروا بشعره، فقال: لا بل أشعر العرب من يقول: من ومن، أو قائل: من ومن يقصد به زهير بن أبي سلمى في حكمه التي قال في آخر معلقته الميمية، ومن لم يعرف مفردات هذه اللغة فكثيرا ما يلتبس عليه الكلام ولا يفهمه وبالأخص في زماننا هذا الذي تداخلت فيه اللغات والحضارات، ولا أزال أعجب من بعض المثقفين الذين يحاولون ترجمة القرآن إلى لغات أخرى وهم لا يتقنون مفردات اللغة العربية فيقعون في أخطاء عجيبة، ترجم أحدهم القرآن بالفرنسية وهو من المتبجحين بالمهارة في اللغات، لكنه قال في قول الله تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} فسر حافِّين بحافِين بأن معناها بلا نعال، وكذلك آخر حاول ترجمة القرآن إلى الإنجليزية فترجم قول الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} قال ما معناه: لا تجعل يدك مربوطة إلى عنقك ولا تبسطها بسطا شديدا حتى تنخلع، فلم يفهم هذه المفردات ومن هنا وقع في هذا الغلط البالغ، ونظير هذا كثير جدا، فكثيرا ما يقع الإنسان في إشكال وهو يتدبر آية من القرآن أو يتفهم حديثا فيخطئ في فهمه خطأ بالغا، ولهذا فإن الأولين لم يكن لديهم النقاط التي تميز الحروف وإنما كانوا يميزونها بفطرتهم وذوقهم إذا قرأ الإنسان قرأ على السليقة فلم يخطئ، ولذلك يقال بأن الشافعي رحمه الله عندما أراد أن يحفظ القرآن وقد سمعه مرة واحدة، أراد أن يراجعه حفظه في المرة الواحدة فأراد أن يراجعه فأخطأ في كلمات في نقاط الحروف فقط، فقرأ قول الله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه} قرأها يعنيه، وهذا مناسب للذوق وهو نفس المعنى لكنه غير موافق للرواية فكان ذلك خطأ، ونحن اليوم قد فسدت أذواقنا اللغوية فلم يعد أحد منا يستطيع أن يتكل على الحروف على أشكال الحروف دون النقاط، بل منذ وضع الحجاج نقاط الحروف واستعان في ذلك بأبي الأسود الدؤلي اجتهد الناس في ضبط هذه النقاط والاعتماد عليها في التفريق بين الحروف، ولذلك اشتهر في المحدثين بعض المصحفين، واشتهرت رواياتهم بالتصحيف، حتى إن رجلا قرأ حديثا فيه: حدثنا فلان قال أخبرنا فلان إلى أن بلغ إلى النبي r عن الله عن رجل، فقال له أحد الحاضرين ويلك ومن الرجل الذي يحدث عنه ربنا عز وجل، فإذا هو صحف عن الله عز وجل، فقرأها عن رجل، عز وجل قرأها عن رجل، وقد قال القاضي عياض رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم عند حديث جعفر بن مبشر أن النبي r قال للرجل حين أدبر: «أفلح وأبيه إن صدق» قال القاضي عياض: هذه الرواية وإن ثبتت في الصحيح فهي مصحفة، فأصل الكلام أفلح والله إن صدق، ولكن طالت الألف وقصرت اللام ولم يكن هناك نقاط فصارت وأبيه بدل والله، وهذا تأويل القاضي عياض رحمه الله في هذا الأمر، وإن كان كثير من المحدثين لا يوافقونه فيه، كذلك فإن الذين يريدون تفهم المسائل والقضايا كالوصايا والأوقاف ونحوها كثيرا ما يخطئون بالتصحيف إذا لم يكونوا من المتقنين لمفردات اللغة العربية، بل كثير منهم يأخذ حديثا فيقرؤه على وجه فاسد ويحاول تطبيقه كذلك فقرأ أحدهم: "الحبة السوداء شفاء من كل داء" فقرأها "الحية السوداء شفاء من كل داء" فأخذ حية ذات سم وظنها شفاء، وهذا العلم لا بد من معرفته، ولذلك اعتنى به أسلافنا وبلغت العناية به أن كثيرا منهم كان يستطيع عد مفردات اللغة كالخليل بن أحمد الذي ألف كتاب العين أراد بذلك أن يعد الإنسان مفردات اللغة في يديه، قال: «من حفظ كتابي هذا استطاع أن يعد مفردات اللغة في أصابعه» كتاب العين للخليل بن أحمد، ثم بعد هذا العلم الثالث، وهو علم التصريف، الذي يعرف به أوجه الاشتقاق في الكلمات، وهو علم كذلك لا غنى عنه في تفسير القرآن والسنة، ولا يمكن أن يكون الإنسان صاحب تدبر وتفهم إلا إذا كان متقنا لهذا العلم، ومن هنا فكثير من خلافات الفقهاء في الاستنباط أصلها الخلاف في مسائل صرفية، فمثلا قال ابن الأنباري رحمه الله: إن الخلاف بين المالكية والشافعية في العدة هل هي بالحيض أو بالأطهار خلاف أصله راجع إلى التصريف، وذلك أن الله تعالى يقول في كتابه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} فقال: القرء الذي يجمع على قروء هو الحيض، والقرء الذي يجمع على أقراء هو الطهر، وذلك أن النبي r قال في حديث فاطمة بنت أبي حبيش: «اتركي الصلاة في أيام أقرائك» فقال هو: القروء هي الحيض والأقراء هي الأطهار، واستدل على ذلك بقول الأعشى:
أفي كل عام أنت عازم غزوة
مورثة مالا وفي الحي رفعة
تشد لأقصاها عزيم عزائكا
لما ضاع فيها من قروء نسائكا
والذي يضيع هو الأطهار لا الحيض، واستدل كذلك بقول الراجز:
يا رب ذي ضغن علي قارض
له قروء كقروء الحائض
فالقروء هنا للحيض لا للأطهار، ونظير هذا كثير جدا في الكلمات القرآنية أو كلمات السنة التي يكون الاختلاف في فهم دلالاتها سببا للاختلاف في مسائل فقهية، ويكون ذلك راجعا إلى أحد علوم اللغة المذكورة، ثم العلم الرابع من هذه العلوم هو علم المعاني الذي يتم به التعبير على الوجه الصحيح من التقديم والتأخير والحذف والإثبات وغير ذلك مما يحتاج إليه المعبر في كلامه، ولا يمكن أن يفهم الإنسان سرد الكلام ولا تفصيل الجمل إلا إذا كان عارفا بعلم المعاني، ثم العلم الذي بعده هو علم البيان الذي يقصد به التعبير بأساليب متنوعة عن معنى واحد كالحقيقة والمجاز والكناية والتصريح وأنواع التشبيه، فهذا العلم من لم يتقنه لا يمكن أن يفهم كثيرا من دلالات الألفاظ من الكتاب والسنة، ثم بعد هذا علم البديع الذي يدرك به الإعجاز في القرآن، فإن كثيرا من الناس يؤمنون بسبب إعجاز القرآن اللفظي، حتى إن أعرابيا قرأ عليه قارئ قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} فلما وصل إلى قوله: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} خر ساجدا، لإعجاز هذه الألفاظ في ترتيبها ودقتها في وصف المطر، وتهيئته وإنزال الغيث منه، وكذلك فإن كثيرا من الذين آمنوا برسول الله r في بداية عهده، إنما كان إعجازهم بهذا القرآن تحديا بالألفاظ نفسها والسياق، ولذلك قال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت سجع الكهان وشعر الشعراء وخطب البلغاء فما سمعت شيئا كهذا القرآن، وقد بين الله سبحانه وتعالى هذا النوع من الإعجاز فيه وأرشد إليه في عدد كبير من الآيات، ثم بعد هذا من هذه العلوم علم الاشتقاق الذي تفهم به العلاقة بين ألفاظ اللغة، وتجعل به اللغة سلالات متقاربة، وهذا العلم كذلك معين على أوجه التدبر المختلفة، ومعين على الاستنباط لكثير من الأحكام من الآيات ومن الأحاديث، ثم بعد هذا علم آخر من علوم اللغة العربية وهو علم آداب العرب وأشعارها، ولا يمكن أن يستدل لأي معنى من معاني القرآن أو السنة إلا من خلال هذا العلم، فإن الاستدلال بدلالات الألفاظ إنما تكون على هذا الوجه، ومن أشعار العرب تؤخذ وتعرف، ولذلك أوصى عمر بحفظ ديوان العرب، وكذلك من هذه العلوم اللغوية المهمة علم التاريخ الذي يعرف به طريقة التأريخ لأية حادثة، فتاريخ العرب يبدأ بالليالي لسبقها على الأيام، ويعبر عنه بعبارة مناسبة سواء كان في أول الشهر أو في آخره، ومن لم يتقن ذلك لم يستطع الاستدلال بالتاريخ، والتاريخ ضرب من ضروب الاستدلال بالقرآن ولهذا رد الله تعالى على اليهود والنصارى حين زعموا أن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا، فقال الله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} فبداية اليهودية نزول التوراة، وبداية النصرانية نزول الإنجيل، وإبراهيم ما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده، فهذه الدعوى باطلة، ومثل هذا ما استدل به الخطيب البغدادي حين جاء اليهود بوثيقة يزعمون فيها أن النبي r أسقط عنهم الجزية، وهي وثيقة قد كتبوها في عصور سابقة، ووضعوا عليها الزيت ووضعوها في الشمس أو سخنوها على النار حتى أصبحت قديمة، وأخرجوها بأيام أحد خلفاء بني العباس، فلما عرضت هذه الوثيقة على الخطيب البغدادي بصق عليها وقال: هذه مزورة مكذوبة على رسول الله r، فقيل: من أين لك ذلك؟ فقال: ذكر من شهودها سعد بن معاذ ومعاوية بن أبي سفيان، وما جمعهما الإسلام، أسلم معاوية عام الفتح ومات سعد أيام غزوة بني قريظة وقد جرح بالأحزاب وغزوة بني قريظة كانت في نهاية العام الخامس من الهجرة والفتح كان في العام الثامن من الهجرة، فما جمعهما الإسلام فكيف يستشهدان على شهادة واحدة، ومثل هذا ما حصل للحاكم أبي عبد الله أحمد بين البيع حين سمع شيخا بنيسابور يحدث فيحدث عن هشام بن عمار، فسأله فقال: متى دخلت مصر؟ قال: سنة ثمانين، فقال: إن هذا الشيخ لقي هشاما بعد موته بإحدى عشرة سنة، فنظير هذا مما يحتاج الناس إليه في إثبات العلم ولا يمكن الاستغناء عنه، ثم من علوم العربية المفيدة كذلك علم العروض وعلم القوافي، إذ بهما إقامة الشعر، والشعر أهميته واضحة سواء كانت في التاريخ الماضي، ولذلك علقت المعلقات على الكعبة، أو كانت في صدر الإسلام ولهذا أمر النبي r حسان أن يهجو قريشا وأخبره أن هجاءه أشد عليهم من وقع النبل، وأمر أبا بكر أن يعينه على ذلك، ولهذا حين وصل إليهم قول حسان رضي الله عنه:
وإن كرام الأصل من آل هاشم
بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
قالت قريش: هذا والله شعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة، فإنه استله منهم كما تسل الشعرة من العجين، إن كرام الأصل من آل هاشم بنو بنت مخزوم، عبد الله وأبو طالب أمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ المخزومية، فهذا لا يعرفه إلا من كان من أهل الأنساب من أنساب قريش فلذلك قالوا: شعر والله ما غاب عنه ابن أبي قحافة، والعروض والقوافي بهما إقامة أوزان الشعر ومعرفة قوافيه، والشعر من أوجه الإتقان في هذه اللغة والتميز فيها، فهو أمر يحتاج إليه، ولذلك نص شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله على أن الأهزاج المخالفة لأوزان الخليل بن أحمد بدعة لا يحل الاشتغال بها، ومثل هذا يطلق على الشعر الحر، فما كان منه غير جار على التفعيلات المعروفة أو كان خارقا لها فهو تغيير وابتداع يؤدي إلى نقض المألوف والمشهور بين الناس، ولذلك يعتبر منهيا عنه من هذا الوجه، هذه بعض علوم اللغة العربية التي هي فروض كفايات، وبهذا يعرف مزية هذه اللغة من ناحية الحكم، أما من ناحية المصلحة فإن أعظم ما تحتاج إليه الشعوب والأمم هو ما يميزها حتى لا تذوب فيما سواها، وكل أمة لها حضارة ولها ميزات تميزها عن غيرها، وإذا جهلت هذه الميزات وزالت ذابت تلك الأمة في غيرها من الأمم، ومن هنا فإن الميزة التي تميز هذه الأمة عن غيرها من الأمم هي اللسان العربي، وإذا تخلصت هذه الأمة من لسانها أصبحت ذنبا في ذيل غيرها من الأمم وكانت تابعة لغيرها ولم يعد لها تاريخ ولم يعد لها ذكر بين الأمم.
إن الحفاظ على هذه اللغة العربية بالإضافة إلى أنه مما يتعبد الله به ويبتغى به وجهه هو كذلك من التسنن بسنة النبي r وخلفائه الراشدين وأصحابه المهديين والتابعين وأتباعهم، وهو كذلك مما يرفع الله به الدرجات ويزيد به المنازل، والناس محتاجون إليه، ولا يمكن أن يستغنى عنه، ولهذا يجب على الآباء أن يعلموا أولادهم هذه اللغة، وأن يعلموهم محبتها، ويجب على أساتذة اللغة العربية أن لا يكونوا من الفتانين وأن يحببوا هذه اللغة العربية إلى من يدرسها، وأن يحدثوا لديهم ذوقا لغويا يقتضي منهم محبة لهذه اللغة العربية وعناية بها وتركيزا عليها، وكذلك على الأمهات أن يشاركن في تعليم الأولاد وتحبيب هذه اللغة إليهم، وعلى الكبار كذلك أن يدرسوها وأن يتدبروها وأن يعلموا أنهم لا يمكن أن يفهموا القرآن ولا السنة إذا إذا كان لديهم رصيد من هذه اللغة، وأن يفهموا كذلك أن قيمهم وتاريخهم ومجدهم مرتبط بهذه اللغة، إن الحفاظ على هذه اللغة لا يمكن أن يكون من واجبات نظام أو دولة فقط، بل لا بد أن يكون من واجبات الأفراد والأمة بكاملها، وأن تعتني بذلك وأن يقع التعاون عليه، وأن لا يبقى أحد يستطيع المشاركة فيه إلا قدم مشاركته، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى وأن يزيدنا علما، وأن يعلمنا ما ينفعنا وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
اللهم وفقنا لما يرضيك عنا وخذ بنواصينا إلى الخير أجمعين اللهم استرنا بسترك الجميل، اللهم ألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
http://www.dedew.net/text-1576.html
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد فإن من ألطاف الله تعالى ونعمته ورحمته أن جعل للناس لسانا يتفاهمون به، فإن الناس يحتاج بعضهم لبعض ولا يمكن أن يقوم أحد منهم بحاجته دون بعض، ولا يمكن أن يستقل منهم إنسان بقضاء أموره ولا بأداء مهماته إلا إذا وجد من يساعده على ذلك، ومن هنا احتاجوا إلى التفاهم فيما بينهم والتعارف، فجعل الله لهم وسائل للتعارف ومن أعظمها الأنساب حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وجعل لهم وسائل للتفاهم وأعظمها اللغات ولهذا ربط الله بين الألوان واللغات وبين خلق السماوات والأرض في قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} فالبشر لا يمكن أن يتفاهموا إلا عن طريق وسائل الحس، إلا عن طريق الحواس الخمس، لأن وسائل العلم لدى الإنسان ثلاثة، هي العقل والروح والحس، فالعقل لا يمكن أن يتفاهم الناس عن طريقه لأنه من الأمور المعنوية غير الحسية، والأرواح كذلك يمكن بها التعارف لكن لا يمكن بها التفاهم، ولهذا حصل التعارف بينها في عالم الذر كما صح عن النبي r فيما أخرجه البخاري تعليقا في الصحيح وأخرجه مسلم مسندا أن رسول الله r قال: «الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» لكن التفاهم إنما يتم عن طريق إحدى هذه الحواس، وهذه الحواس مدركاتها هي المسموعات والمبصرات والملموسات والمشمومات والمذوقات، وقد جعل الله تعالى أصناف الحيوان تتفاهم عن طريق هذه الوسائل، فمن الحيوانات ما يتفاهم عن طريق إفراز رائحة يحصل بها التفاهم والتعارف بفطرة الله لها على ذلك، كالنحل وغيره من الحيوانات، ومنها ما يمكن تفاهمه عن طريق السمع وما يمكن تفاهمه عن طريق البصر بالإشارات والحركات وما يمكن تفاهمه عن طريق اللمس، لكن الذوق لا يمكن أن يحصل التفاهم عن طريقه لأن الطعوم محصورة وقد صرح العلماء بأن أنواع الطعوم خمسة هي الحلاوة والمرارة والمزية والملحية والتفاهة، فهذه خمس هي أصل الطعوم كلها، أما المرئيات والمشاهدات وكذلك المسموعات فهي كثيرة جدا يمكن التفاهم عن طريقها، وبهذا تخلص لنا جارحتان للتفاهم فيما بين الإنسان، فالتفاهم بين بني آدم لا يتم إلا عن طريق السمع أو عن طريق البصر، أما عن طريق السمع فإنهم بالإمكان أن يسمعوا الكلام، وأما عن طريق البصر فإنهم بالإمكان أن يقرءوا الكتابة أو أن يفهموا الإشارات، وهاتان الوسيلتان يمكن أن تفيا بمقصود الإنسان، لكن جعل الله بعض بني آدم عميا وجعل بعضهم صما، فالعميان لا يمكن أن يتفاهموا عن طريق البصر مع غيرهم، والصم لا يمكن أن يتفاهموا عن طريق السمع مع غيرهم، فبقي التوازن بين هاتين الحاستين، لكنه جعل الزمن أيضا مقسوما بين ليل ونهار، وقد محا الله آية الليل وجعل آية النهار مبصرة، وبذلك ازدادت نسبة العميان في البشر بوجود الليل، فكان إذا التفاهم عن طريق السمع أقوى وأوسع من التفاهم عن طريق البصر، ومن هنا جعل الله هذه اللغات هي أساس التفاهم بين الناس، وقد علم آدم الأسماء كلها كما أخبر بذلك في كتابه: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}، وهذا التعليم اختلف فيه الناس هل كان عن طريق الوحي والتوقيف، أو كان عن طريق الإلهام والإلقاء، وكل ذلك ممكن والله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، لكن اتفق الناس على أن ما يتجدد من دلالات الألفاظ وما يطرأ من المجازات إنما هو عن طريق الإلهام ويضع الله القبول على بعض المصطلحات فتشيع بين الناس، ومن هنا فكل جديد يطلق الناس عليه عدة أسماء باعتبار أذواقهم، ولكنه سيثبت له اسم واحد يضع الله عليه القبول بين غيره من الأسماء، عندما صنع أول جهاز كمبيوتر في الولايات المتحدة في جامعة بنسلفانيا سمي في البداية النظامة ثم سمي الرتابة ثم سمي الحاسوب ثم سمي بالحاسب الآلي ثم سمي بعد ذلك بالعقل الإلكتروني وهذه أسماء كثيرة كلها لبعض وظائف هذه الآلة المحدثة، لكن بتطور الزمان وبتطور الدلالات لا بد أن يثبت اسم واحد لهذه الآلة يكون اسما عالميا مشهورا، وكذلك لما طرأت آلة الفاكس للإرسال الكتابي عن طريق الاتصالات الهاتفية، إما عن طريق الكابلات أو عن طريق الأقمار الصناعية أو عن طريق الألياف الزجاجية سميت في البداية كذلك بالناقل، ثم سميت كذلك بالهاتف الكاتب، ثم سميت بعد ذلك بالكاتوب، وغيرها من المصطلحات فبتطور الزمن سيختار اسم واحد يضع الله عليه القبول وينتشر بين الناس، لا شك أن البشر متنوعون في الأذواق وفي البيئة وفي أنماط الحياة وبسبب ذلك تنوعت لغاتهم واختلفت، وقد نص العلماء على أن الله تعالى علم آدم اثنتين وسبعين لغة وهي أصول لغات العالم، وهذه اللغات تنطلق إلى سلالات، سلالات لغوية أصلها أربع فقط ومنها تتشعب بقية اللغات كلها حتى تصل إلى العد الموجود اليوم، ففي الهند وحدها 450 لغة، في دولة وحدة في الهند وحدها، وهذه اللغات بعضها يكون مشتقا من بعض بالتداخل، كحال اللغة الفارسية مع اللغة البشتونية، واللغة الأردية مع الفارسية ومع العربية، واللغة التركية كذلك مع اللغة العربية في التداخل في كثير من المفردات، وكذلك فإن بعض اللغات يكون قابلا للتطور بسرعة هائلة، فيتجدد، تتجدد دلالاته ومصطلحاته ومن ذلك اللغة الإنجليزية، واللغة الفرنسية إلى حد ما، فإن ألفاظها تتناقل وتتجدد ومن هنا فنسبة عشر بالمائة من اللغة الفرنسية هو من الكلمات المنقولة إما من اللغة الإغريقية أو من اللغة الرومانية أو غيرها من اللغات حتى من اللغة العربية، لكن هذه اللغات سواء كانت توقيفية أو كانت إلهامية فإن كل ذلك يرجع إلى الاختيار الرباني والاصطفاء الإلهي والقبول الذي يضعه الله على الكلمات حتى تتناسب مع الأذواق، فالحسن والقبح بمعنى ملاءمة الطبع ومنافرته ووصف الكمال والنقص أمر عقلي، وبمعنى ترتب الثواب والعقاب عاجلا أو آجلا أمر شرعي، ومن هنا قد حصل الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة فيما يتعلق بالتحسين والتقبيح، والخلاف ينبغي أن يكون لفظيا لأن الحسن والقبح بمعنى ملاءمة الطبع ومنافرته لا شك أن هذا راجع إلى العقل، أما الحسن والقبح بمعنى ترتب الثواب والعقاب فهذا شرعي قطعا لا بد فيه من وحي، فالخلاف إذن يمكن أن يرجع إلى خلاف لفظي ولا تترتب عليه أحكام كثيرة، وإذا كان الأمر كذلك وكان الأمر راجعا إلى أن الله سبحانه وتعالى يضع القبول على بعض الكلمات فتناسب أذواق أكبر حد من البشر، فإن هذه اللغة العربية قد اصطفاها الله على غيرها من اللغات، وشرفها على غيرها من اللغات، وتكلم بها سبحانه وتعالى بهذا القرآن الذي تحدى به الثقلين الإنس والجن أن يأتوا بسورة من مثله، فأقصر سورة في كتاب الله هي سورة الكوثر، وهي ثلاث آيات وقد تحدى الله الثقلين الإنس والجن على مر الدهور منذ أنزلت هذه السورة بمكة أن يأتوا بسورة من مثلها، قدر ثلاث آيات فقط، وإلى الآن جاء كثير من المحاولات الفاشلة وباءت كلها بالفشل، بل إن تلك المحاولات إذا سمع العقلاء بعضها ضحكوا واشتد هزؤهم منه كمحاولات مسيلمة الكذاب فهي غاية في السخافة وعدم الانسجام وذلك أنه اتجه إلى اتجاه واحد وهو تركيب الألفاظ دون النظر إلى الإعجاز المعنوي والإعجاز العلمي والإعجاز التشريعي وغيرها من أنواع الإعجاز التي جعلها الله في القرآن، إذن اختيار هذه اللغة هو اختيار رباني بوحي من عند الله سبحانه وتعالى واصطفاء منه لا معقب لحكمه، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} ولو جاء الناس فصوتوا وجاءت أغلبيتهم على رفض هذه اللغة فإن ذلك لا يقلل نفوذها ولا يقلل القبول الذي جعل الله عليها، لأنه اصطفاء من عند الله لا يستطيع الناس رفضه ولا تجاهله، ومن هنا فإن الغربيين الذين يفخرون بلغاتهم ويزعمونها اللغات العالمية المسايرة لتطور العالم لا يزال فيهم من مثقفيهم وقادتهم وعلمائهم من يتخصص في دراسة اللغة العربية ويخصص وقته لها، وفي العصر الماضي اشتهر عدد كبير من هؤلاء مثل بروكلمان ومثل يوسف شخت وغيرهما من كبار المستشرقين الذين عنوا باللغة العربية ونشروا كثيرا من مخطوطاتها ودرسوها وحفظوا كثيرا من أشعار العرب، وصرح كثير منهم بأن هذه اللغة لا تعدلها أية لغة، وأذكر أننا في العام الماضي قابلنا أحد المشتشرقين الكبار في جامعة في استكتلاند في شمال بريطانيا فذكر أنه قد خلد شهادته بأن اللغة العربية لا تعدلها لغة ولا تساويها في السمو والارتقاء، ولا في الذوق ولا في الاتساع، وأنه كتب هذه الشهادة في جامعته وخلدها قبل ثلاثين سنة، وهذا كلام الأعداء، "والحق ما شهدت به الأعداء".
إننا في بحثنا في أهمية أي شيء ننظر فيه من ناحية الحكم الشرعي ثم من ناحية الفائدة والمصلحة للبشرية، فلنبدأ أولا بحكم الشرع في لغة العرب وتعلمها، فنقول إن الله سبحانه وتعالى قد فرض على كل من آمن به تعلم جزء من العربية، وبهذا تكون العربية فرض عين على كل إنسان بقدر ما يقيم به ألفاظ الفاتحة وبقدر ما يقيم به التكبير والتسميع والسلام في الصلاة فهذا القدر من العربية فرض عين على كل مسلم، ولا يسع مسلما جهله، وهذا القدر اختلف الناس في تحديده، لأن الله تعالى يقول في كتابه {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} والناس تتباين رؤاهم في تحديد هذا القدر الذي هو أقل ما يخاطب به الإنسان من تعلم العربية، فقال قوم: لا بد أن يصل إلى مستوى يفهم به ألفاظ الفاتحة وألفاظ التشهد وألفاظ الدعاء المأمور به على سبيل الوجوب، وكذلك ألفاظ الأذكار التي تجب مرة في العمر كالهيللة والاستغفار والتسبيح والتحميد وغير ذلك، فيجب عليه أن يتعلم معانيها بالعربية، وهذا القول هو الراجح، ومن القائلين به مالك والأوزاعي وسفيان الثوري وغيرهم من كبار علماء السلف، فرأوا أنه يجب على الإنسان المسلم أن يتعلم معاني هذه الكلمات لأنه لو قال: لا إله إلا الله دون أن يفقه معناها فيمكن أن تلقن هذه الكلمة لأي إنسان ولا يلزم بمقتضياتها، ولذلك فإن شهادة أن لا إله إلا الله كما ذكرنا من قبل لها أربع مقتضيات، من لم يحقق هذه المقتضيات الأربع ليس شاهدا أن لا إله إلا الله، فالمقتضى الأول، هو العلم بمعناها، العلم أن لا إله إلا الله، أن يعلم الإنسان ذلك في نفسه، والمقتضى الثاني هو مقتضى القول أن ينطق بذلك لأنها مشروطة على القادرين لا يدخل الإنسان الإيمان وهو قادر على النطق إلا إذا نطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، المقتضى الثالث أن يلتزم بحقوقها التي يقاتل عليها من تركها، «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» فهذه حقوق لا إله إلا الله، المقتضى الرابع هو الإلزام بها، أن يسعى الإنسان لنشر لا إله إلا الله وتوسيع دائرة القائلين بها وإلزام الناس بها، فهذه المقتضيات الأربع هي مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله، وقد توسع بعض المتأخرين من المتكلمين في هذا الباب فقد ذكر عليش في شرحه لـ"أم البراهين" في العقائد الأشعرية للسنوسي أن من لم يفهم ما تتناوله شهادة أن لا إله إلا الله من العقائد وهو خمس وستون عقيدة على مقتضى عد المتكلمين فإنه لم يؤد مقتضياتها، وهذا تشدد ومبالغة لا محالة، ولكنه يدلنا على أهمية فهم شهادة أن لا إله إلا الله، إذا كان بعض أهل العلم يرون أنك إذا لم تحقق مقتضياتها جميعا وهي خمس وستون عقيدة فمعنى ذلك أنك لم تفهمها فهذا يدلنا على أهمية تعلم اللغة التي تفهم بها معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم بعد ذلك إن الذي يدعو وهو لا يفهم ما يدعو به، أو يثني على الله وهو لا يفهم معنى ما يثني به لا يمكن أن ينال أجر ما يقول لأن الصلاة قال فيها النبي r: «وإن الرجل ليصلي الصلاة وما كتب له نصفها ثلثها ربعها حتى انتهى إلى العشر» لأنه لا يكتب له منها إلا ما عقل ووعى، ومن هنا فإن على الإنسان أن يتفهم ويتدبر ما يقول، ولهذا قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} وهذا الخطاب ليس للعرب وحدهم، بل لجميع من آمن بهذا القرآن ونحن مع القول الأول المسهل الذي يقتضي أقل نسبة وهي ما يكون الإنسان به فاهما لمقتضى ما يقول من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ومحبا لما سوى ذلك وعالما أنه كلام الله ومصدقا به على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل فهذا القول لا شك أسهل وأيسر وهو الراجح من ناحية الاستدلال، لكن مع هذا لا نهمل الأقوال الأخرى ولا نعتدي على أقوال أهل العلم، فلهذا لا بد أن يعلم كل إنسان أن من واجباته العينية أن يتعلم جزءا من العربية يفهم به معنى شهادة أن لا إله إلا الله ويقيم به حروف الفاتحة، ويقيم به حروف ألفاظ التعبدات في الصلاة وغيرها من الواجبات العينية، فهذا القدر لا خلاف في وجوبه، المرتبة الثانية هي ما يتعلق بفروض الكفايات من العربية، فقد افترض الله على المسلمين تعلم علوم العربية فرض كفاية إذا قام به من يحصل به إقامة الحجة على الناس كفى ذلك، وهذا داخل في عموم قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} فلا يمكن أن يكون الإنسان شاهدا لله إذا لم يكن فاهما لما يشهد به، لأن العلم شرط في الشهادة لقول الله تعالى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} ولقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، وفي حديث ابن عباس الذي أخرجه البيهقي في السنن بإسناد فيه ضعف أن رسول الله r قال: «أترى الشمس إذا طلعت؟» قال: نعم، قال: «على مثلها فاشهد أو دع»، ومن هنا فلا يمكن أن يشهد الشاهد بما لا يعلمه ولا يفهمه، لا بد أن يكون الإنسان فاهما لما يشهد به حتى تقبل شهادته على ذلك، والله تعالى جعل هذه الأمة شهداء على الناس كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ولا يمكن أن تتم الشهادة على الناس إذا كنت لا تفهم ما تشهد به، والناس لم تجد وسيلة للاطلاع على أحوالهم وما كذبوا به أنبياءهم إلا القرآن، والقرآن بلسان عربي مبين، فإذا لم تفهم هذا فلا يمكن أن تكون شاهدا على الناس، إذا جاء نوح يوم القيامة يخاصمه قومه فقالوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فقال: بلى قد مكثت فيكم ألف سنة إلا خمسين عاما، فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، إذا كنت أنت لا تفهم الآيات التي جاءت في قصة نوح فلا يمكن أن تكون من الشهداء على هذا لأن الشهادة من شرطها العلم، وفروض الكفاية في اللغة العربية هي بتعلم علومها الأساسية، وعلومها الأساسية هي أربعة عشر علما داخلة كلها في فروض الكفاية، إذا لم يكن في الأمة من يعلمها حصل الإثم على أفرادها جميعا، وإذا كان فيها في كل بلد من يعلم هذه العلوم بقدر رد الشبهات وإجابة الأسئلة المتعلقة بالقرآن والسنة سقط الإثم عن الجميع وفرض الكفاية قد اختلف العلماء هل هو أفضل أم فرض العين، ولذلك قال السيوطي رحمه الله في الكوكب الساطع:
فرض الكفاية مهم يقصد
وذهب الأستاذ والجويني
وهو على كل رأى الجمهور
فقيل مبهم وقيل عينا
ونظر عن فاعل يجرد
ونجله يفضل فرض العين
والقول بالبعض هو المنصور
وقيل من قام به ووهنا
فعلى هذا هذه العلوم الأربعة عشر لا بد أن يكون في كل حاضرة من حواضر المسلمين من يعرف منها ما يرد به الشبهات ويجيب به الاختلافات التي يوردها الناس على الكتاب والسنة، وهذه العلوم هي علم النحو الذي هو أقدمها وأشرفها، ومرجعه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهو واضعه حيث كتب لأبي الأسود الدؤلي رحمه الله كتابه، وكان منطلق هذا العلم، وهذا العلم به إقامة الكلم ومعرفة التركيب كما قال ابن مالك رحمه الله في كافيته:
وبعد فالنحو صلاح الألسنه
والنفس إن تعدم سناه في سنه
فمن لم يعرفه لا يمكن أن يفهم {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ولا أن يفهم "لا إله إلا الله" ولذلك من لا يعرف جزئياته ويستطيع إجابة مسائله لا يمكن أن يفتي الناس في كثير من مسائلهم الفقهية، ولذلك حصلت مسألة في تاريخ هذه الأمة عجيبة عرضت على عدد من كبار أهل العلم فأحجم عنها أكثرهم حتى جاء أهل اللغة وهم الذين استطاعوا أن يحلوا إشكالها، وذلك في قول الشاعر:
فأنت طلاق والطلاق عزيمة
ثلاث ومن يخرق أعق وأشأم
فهذا البيت يمكن أن يقرأ على أوجه متعددة، فأنت طلاق والطلاق عزيمةً ثلاثٌ أو فأنت طلاق والطلاق عزيمةٌ ثلاثاً ومن يخرق أعق وأشأم، ويختلف المعنى ويختلف الحكم الفقهي باختلاف الشكل، فإذا قال: فأنت طلاق والطلاق عزيمةً ثلاثٌ فإنه لا يلزم إلا طلقة واحدة، وإذا قال: فأنت طلاق والطلاق عزيمةٌ ثلاثا فإن ذلك ملزم لثلاث طلقات، ولذلك فمثل هذا كثير، وقد حصل للقرافي رحمه الله في قول الشاعر:
ما يقول الفقيه أيده اللـ
في فتى علق الطلاق بشهر
ـه ولا زال شأنه يزدان
قبلما قبل قبله رمضان
أو بعدما بعد بعده رمضان، فقال في هذين البيتين مائتان وخمسون مسألة علمية، وكل ذلك راجع إلى شكل هذين البيتين وما يتعلق بهما وما يؤخذ منهما من دلالات الألفاظ، وقد حصل للشاطبي رحمه الله قصة أخرى مع شيخه ابن الفخار أثبتها في كتابه "الإفادات والإنشادات" فيقول إن الشيخ ابن الفخار اجتمع عليه أهل الحديث ذات ليلة فحدثهم ثم أراد أن يحمض لهم، والإحماض لدى أهل الحديث أن ينشدهم قصة أو أدبا أو شعرا يزيل عنهم الملل، فسألهم عن معنى قول الشاعر:
رأت قمر السماء فأذكرتني
كلانا ناظر قمرا ولكن
ليالي وصلنا بالرقمتين
رأيت بعينها ورأت بعيني
فلم يستطع أحد منهم أن يحل هذا الأشكال، لم يستطع أحد من طلاب الحديث في الأندلس في ذلك الوقت ومنهم أبو إسحاق الشاطبي أن يحل هذا الإشكال، فسألوا الإمام ابن الفخار أن يشرح لهم هذا البيت فشرحه وبين لهم أن القمر قمران قمر حقيقي وقمر مجازي، فالقمر الحقيقي هو قمر السماء، والقمر المجازي هو الوجه المذكور هنا، وأن النظر كذلك إما أن يكون نظرا حقيقيا أو أن يكون نظرا مجازيا، فعين البصيرة وعين البصر نظران، وأن الرجل أراد ادعاء أن يجعل الحقيقة مجازا وأن يجعل المجاز حقيقة، فقال: رأت قمر السماء فأذكرتني ليالي وصلنا بالرقمتين، كلانا ناظر قمرا، ولكن رأيت بعينها، فعينها عين الحقيقة، وقد انقلبت إلي فكنت أنا ناظرا بعين الحقيقة وهي التي تنظر بعين المجاز، كلانا ناظر قمرا ولكن رأيت بعينها ورأت بعيني، فمن لم يكن عارفا بما يفهم به مثل هذا من اللغة العربية سيقع في إشكالات لا نهاية لها، وكذلك فإن لسان الدين بن الخطيب رحمه الله في كتابه: "الإحاطة في أخبار غرناطة" ذكر الإشكالات التي يقع فيها الموثقون والقضاة عندما يكتبون الأحكام ويوثقونها فكثيرا ما يكتبون ألفاظا لا تفهم أو لا تؤدي المعنى، أو تكون أحوط وأوسع مما قاله القائل، وبذلك يقولون على القائل ما لم يقله، ويكتبون عليه ما لم يشهد به، فيقعون في شهادة الزور من حيث لا يشعرون، وذلك لنقص فهمهم للعربية، ومثل هذا في رواية الحديث، فإن كثيرا من أهل الحديث يروون الحديث بالمعنى وهي مسألة خلافية الخلاف فيها مشهور قديم، لكن المشكل أن بعضهم يلحن في روايته وقد قال أحمد بن حنبل رحمه الله: «إن اللاحن في الحديث أحد الكاذبين على رسول الله r، لأن النبي r قال: «من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار»، وهو لا يلحن قطعا فمن قال عليه باللحن فقد قال عليه ما لم يقل وبهذا يكون أحد الكاذبين على رسول الله r، وبهذا يعلم خطر التكلم في العلم إذا لم يكن الإنسان صاحب لسان يمكن أن يعبر به أو أن يروي به، ومثل هذا في القراءة، فإن إقامة قراءة القرآن إنما تكون بما وافق وجها نحويا، ولذلك قال ابن الجزري رحمه الله:
وكل ما وافق وجها نحوي
وصح إسنادا هو القرآن
وكان للرسم احتمالا يحوي
فهذه الثلاثة الأركان
ولذلك فالذين يلحنون في القراءة أو في الحديث كان ذلك جرحة فيهم لدى كثير ممن سواهم بل اقتضى نبذ روايتهم لدى أكثر أهل العلم، ومن هنا فعدد من الذين تكلم فيهم ما دفعوا عن ثقة ولا عن ضبط، وإنما تكلم فيهم من جهة اللحن كأبي عبد الله بن عدي الحافظ صاحب الكامل، فقد كان يلحن فتكلم فيه كثير من أهل العلم في روايته بسبب اللحن، مع أنه إمام حافظ عدل ثقة، لكن تكلم فيهم من جهة اللحن فقط، ومثل هذا ما حصل لليث بن أبي سليم مع أنه عدل لكنه كان يلحن، ولذلك يقول فيه أحد الشعراء:
ينادي ربه باللحن ليث
لذلك إن دعاه لا يجيب
فتكلم فيه بعض الناس من قبل اللحن الذي يقع فيه، فقالوا: لا يوثق بروايته للحنه فيها، واللحن يقلب المعنى كثيرا، ولذلك فإن أبا الأسود حين كلمته ابنته فقالت: ما أشدُّ الحرِّ، قال: أيام ناجر، قالت: أنا متعجبة لا مستفهمة، قال: ما هكذا تقول العرب، هي أرادت: ما أشدَّ الحرَّ، فقالت: ما أشدُّ الحرِّ، ومثل هذا ما حصل للوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين عندما أتاه أعرابي فسأله فقال: ما شانَك؟ فقال: فدع في رسغي وعور في عيني، فقال له عمر بن عبد العزيز: الأمير يريد ما شأنُك، فقال: جئت ممتارا لأهلي، ثم سأله عمن معه ولحن في ذلك، فأخبره أن معه ختنه، قال: ومن ختنَك؟ يقصد: ومن ختنُك؟ فقال: حجام كان معنا بالبادية، فقال له عمر بن عبد العزيز: الأمير يريد: ومن ختنُك، فمثل هذا في اللحن كثير، ويقال إن عمر بن عبد العزيز حين كان بالمسجد والوليد يخطب قال الوليد: يا ليتها كانت القاضيةُ بالرفع، فقال عمر: وددتها والله، ود لو مات عندما قرأها هكذا، ولذلك فإن سبب قراءة سيبويه للنحو أنه في البداية اشتغل برواية الحديث، ولكنه قرأ: «ما من أصحابي إلا من شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء، فقرأها هو: ليس أبو الدرداء، فلحنه أصحابه وهزءوا به، فعدل عن قراءة الحديث وذهب حتى تمرس في اللغة وألف الكتاب ثم بعد ذلك روى الحديث، ولذلك فإن مالكا رحمه الله قد درس النحو على الخليل بن أحمد فجلس عنده أسبوعا يلازمه حتى أتقن النحو فيه، والشافعي رحمه الله لم يشتغل بدراسة العلم حتى جلس في قبيلة بني هذيل حتى حفظ عشرين ألفا من أشعارهم، ونحو هذا كثير جدا في حال سلفنا، فمن لم يكن ذا سلاح من علم النحو لا يمكن أن يفهم ولا أن يفتي في كثير من المسائل، ثم بعد النحو علم مفردات اللغة، وهو العلم الثاني في الأهمية، فهذه اللغة العربية ليست مثل غيرها من اللغات، بل لها كثير من المفردات المتداخلة، بعضها يجمعها جذر واحد وبعضها يختلف في الجذر، وبعضها يعرف في بعض المناطق دون بعض، والقرآن الكريم قد اختير من خير هذه الكلمات والمفردات، واختار الله له أفضل التعبيرات، فلذلك فتارة يأتي التعبير بلغة حمير لغة أهل اليمن وتارة بلغة أهل نجد وتارة بلغة أهل الحجاز يختار من كل لغة أحسنها وأفصحها وأدقها معنى وأحسنها ذوقا حتى يتكامل ذلك ويكون جميعا من اللغة العربية المختارة، والذين يزعمون أن القرآن جاء بلغة قبيلة واحدة من العرب يغلطون في هذا ويرد عليهم الاعتراض وقد جاء أحد النحويين من أهل اليمن وكان في مجلس الخليفة هارون الرشيد، فأخبره أن القرآن نزل بلغتهم وبدأ يسرد بعض الكلمات التي لا يعرفها قريش وهي في القرآن من لغة أهل اليمن ويذكر شواهدها فلما أطال كان بحضرته أحد القرشيين، فقال: أسمعت ما يقول هذا اليماني قال: لا أدري ما يقول، غير أن الله تعالى يقول فيه كتابه: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ} ولم يقل: جعلوا شناترهم في صناراتهم، وهذه لغة أهل اليمن، الشناتر الأصابع والصنارات الآذان، فالله تعالى يختار من الكلمات ألطفها وأقربها للذوق الصحيح السليم، سواء كان من لغة أهل اليمن أو من لغة أهل الحجاز أو من لغة أهل نجد أو غيرهم، ومن لم يعرف مفردات اللغة لم يحل له الكلام في التفسير ولا التفهم فيه ولا التدبر في كثير من الكلمات، بل إن كثيرا من الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتورعون من الكلام في بعض الكلمات التي جاءت في القرآن إذا لم تكن من لغتهم ولم يعرفوا دلالاتها ومدلولاتها، حتى إن أبا بكر رضي الله عنه قال: «أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في القرآن ما لا أعلم» وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في مجلسه فأتته امرأة من أهل اليمن تستعديه على زوجها، فقالت: يا أمير المؤمنين إن بعلي عبد حقي وترك الوصيد رهوا ولي عليه مهيمن فهل لي عليه من مسيطر؟ فقال: لم أفهم ما تقولين، فقال ابن عباس: كلمات كلهن في كتاب الله، إن بعلي أي زوجي، {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} عبد حقي أي تركه وضيعه {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أي التاركين لعبادة ذلك الولد أو لعبادته، وترك الوصيد رهوا، الوصيد الباب {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} رهوا أي مفتوحا {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} ولي عليه مهيمن أي شاهد {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} فهل لي عليه من مسيطر أي حاكم {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ}، فاستشهد له ابن عباس على الكلمات التي أطلقتها هذه المرأة وأنها كلها في القرآن ففهم عمر دلالاتها وأعداها على زوجها، ونظير هذا ما حصل لابن عباس رضي الله عنهما مع نافع بن الأزرق أمير الأزارقة من الخوارج، فإنه أتاه من العراق يسأله عن تفسير كلمات من مفردات اللغة العربية في القرآن، فأطال عليه وأكثر واشتهرت هذه المسائل فيما بعد بمسائل ابن الأزرق، وهي تربو على مائتي مسألة من المفردات القرآنية، منها مثلا قول: {أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} قال: ما معنى غير ممنون قال: غير مقطوع، أما سمعت قول الحارث بن حلزة اليشكري:
فترى خلفها من الرجع والوقـ
ـع منينا كأنه إهباء
سأله عن عدة كلمات من هذا ويذكر له شواهدها في اللغة، فبينما هو كذلك إذ ضجر به، فجاء عمر بن أبي ربيعة المخزومي فسأله ابن عباس عن آخر ما قال من الشعر فأنشده قصيدته التي مطلعها:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
بحاجة نفس لم تقل في جوابها
غداة غد أم رائح فمهجر
فتبلغ عذرا والمقالة تعذر
حتى أتى على آخر القصيدة وهي ثمانون بيتا، فحفظها ابن عباس بهذه المرة الواحدة، فقال له نافع بن الأزرق: «لله أنت يابن عباس نضرب إليك آباط الإبل في طلب العلم فتعرض عنا ويأتيك شاب حدث من قريش ينشدك سفها فتسمعه» فقال: «ما سمعت سفها» فقال: بلى، أما سمعت قوله:
رأت رجلا أَيْمَى إذا الشمس عارضت
فيخزى وأيمى بالعشي فيخسر
فقال ما هكذا قال، إنما قال:
رأت رجلا أيمى إذا الشمس عارضت
فيضحى وأيمى بالعشي فيخصر
ثم سأله عن قول الله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} فقال: ما معنى قوله: وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى؟ قال: تضحى تبرز للشمس، قال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: أما سمعت قول المخزومي بالأمس:
رأت رجلا أيمى إذا الشمس عارضت
فيضحى وأيمى بالعشي فيخصر
ولذلك فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوصى بديوان العرب وحفظه، وكان يتعهد أشعار العرب ويستمع إليها، ولهذا فإن حسان بن ثابت كان ينشد بعض أشعاره في المسجد فكان عمر إذا أنشد حسان شيئا من شعره في هجاء المشركين أو في مدح الرسول r وأصحابه أذن له فإذا ذكر شيئا من أشعاره في الخمر وأمور الجاهلية خرج عمر، فمر به وهو ينشد شيئا من أشعاره في أولاد جفنة من قصيدته اللامية التي يقول فيها:
أبناء جفنة حول قبر أبيهم
يغشون حتى ما تهر كلابهم
يسقون من ورد البريص عليهم
بيض الوجوه كريمة أحسابهم
نجل ابن مارية الكريم المفضل
لا يسألون عن السواد المقبل
بردى يصفق بالرحيق السلسل
شم الأنوف من الطراز الأول
حتى أتى على القصيدة فغضب عمر من إنشادها، وكان جَبَلَةُ بن الأيهم إذ ذاك قد تنصر وهرب إلى الروم وأرسل بهدية إلى حسان فامتدحه حسان بأبيات يقول فيها:
إن ابن جفنة من بقية معشر
لم ينسني بالشام إذ هو ربها
يعطي الجزيل ولا يجده عنده
وأتيته يوما فقرب مجلسي
لم يغذهم آباؤهم باللوم
كلا ولا متنصرا بالروم
إلا كبعض عطية المذموم
وسقى فرواني من الخرطوم
فغضب عمر حين امتدح هذا الكافر فقال له حسان: مه يابن الخطاب فقد كنت أنشده وفيه من هو أفضل منك فما تعداها عمر، وكذلك فإن عمر كان يسأل الشعراء ويقيم بينهم المفاضلة، فأتاه رجل من ذرية هرم بن سنان فسأله: قال: ما نحل جدك هرم زهير بن أبي سلمى، فقال: أعطاه أثوابا خلقت، وأموالا نفدت، قال: لكن ما كسا زهير أباك لا ينفد، فأنشده بعض مدحه فيه بقوله:
يكلف شأو امرأين قدما حسنا
هو الجواد فإن يلحق بشأوهما
أو يسبقاه على ما كان من مهل
إلى أن يقول فيها:
بل اذكرن خير قيس كلها نسبا
القائد الخيل منكوبا دوابرها
غزت سمانا فآضت ضمرا خدجا
نال الملوك وبذى هذه السوقا
على تكاليفه فمثله لحقا
فمثل ما قدما من صالح سبقا
وخيرها نائلا وخيرها خلقا
قد أحكمت حكمات القد والأبقا
من بعد ما جنبوها بدنا عققا
فطرب عمر لهذه الأبيات وأخبر أن ما كساه زهير هذا الرجل لا يخلق ولا يبلى، وكذلك سأل عمر أحد الشعراء عن أشعر الناس فجرى على عادة العرب أن يفضلوا من كان بينه وبينهم قرابة ليفخروا بشعره، فقال: لا بل أشعر العرب من يقول: من ومن، أو قائل: من ومن يقصد به زهير بن أبي سلمى في حكمه التي قال في آخر معلقته الميمية، ومن لم يعرف مفردات هذه اللغة فكثيرا ما يلتبس عليه الكلام ولا يفهمه وبالأخص في زماننا هذا الذي تداخلت فيه اللغات والحضارات، ولا أزال أعجب من بعض المثقفين الذين يحاولون ترجمة القرآن إلى لغات أخرى وهم لا يتقنون مفردات اللغة العربية فيقعون في أخطاء عجيبة، ترجم أحدهم القرآن بالفرنسية وهو من المتبجحين بالمهارة في اللغات، لكنه قال في قول الله تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} فسر حافِّين بحافِين بأن معناها بلا نعال، وكذلك آخر حاول ترجمة القرآن إلى الإنجليزية فترجم قول الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} قال ما معناه: لا تجعل يدك مربوطة إلى عنقك ولا تبسطها بسطا شديدا حتى تنخلع، فلم يفهم هذه المفردات ومن هنا وقع في هذا الغلط البالغ، ونظير هذا كثير جدا، فكثيرا ما يقع الإنسان في إشكال وهو يتدبر آية من القرآن أو يتفهم حديثا فيخطئ في فهمه خطأ بالغا، ولهذا فإن الأولين لم يكن لديهم النقاط التي تميز الحروف وإنما كانوا يميزونها بفطرتهم وذوقهم إذا قرأ الإنسان قرأ على السليقة فلم يخطئ، ولذلك يقال بأن الشافعي رحمه الله عندما أراد أن يحفظ القرآن وقد سمعه مرة واحدة، أراد أن يراجعه حفظه في المرة الواحدة فأراد أن يراجعه فأخطأ في كلمات في نقاط الحروف فقط، فقرأ قول الله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه} قرأها يعنيه، وهذا مناسب للذوق وهو نفس المعنى لكنه غير موافق للرواية فكان ذلك خطأ، ونحن اليوم قد فسدت أذواقنا اللغوية فلم يعد أحد منا يستطيع أن يتكل على الحروف على أشكال الحروف دون النقاط، بل منذ وضع الحجاج نقاط الحروف واستعان في ذلك بأبي الأسود الدؤلي اجتهد الناس في ضبط هذه النقاط والاعتماد عليها في التفريق بين الحروف، ولذلك اشتهر في المحدثين بعض المصحفين، واشتهرت رواياتهم بالتصحيف، حتى إن رجلا قرأ حديثا فيه: حدثنا فلان قال أخبرنا فلان إلى أن بلغ إلى النبي r عن الله عن رجل، فقال له أحد الحاضرين ويلك ومن الرجل الذي يحدث عنه ربنا عز وجل، فإذا هو صحف عن الله عز وجل، فقرأها عن رجل، عز وجل قرأها عن رجل، وقد قال القاضي عياض رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم عند حديث جعفر بن مبشر أن النبي r قال للرجل حين أدبر: «أفلح وأبيه إن صدق» قال القاضي عياض: هذه الرواية وإن ثبتت في الصحيح فهي مصحفة، فأصل الكلام أفلح والله إن صدق، ولكن طالت الألف وقصرت اللام ولم يكن هناك نقاط فصارت وأبيه بدل والله، وهذا تأويل القاضي عياض رحمه الله في هذا الأمر، وإن كان كثير من المحدثين لا يوافقونه فيه، كذلك فإن الذين يريدون تفهم المسائل والقضايا كالوصايا والأوقاف ونحوها كثيرا ما يخطئون بالتصحيف إذا لم يكونوا من المتقنين لمفردات اللغة العربية، بل كثير منهم يأخذ حديثا فيقرؤه على وجه فاسد ويحاول تطبيقه كذلك فقرأ أحدهم: "الحبة السوداء شفاء من كل داء" فقرأها "الحية السوداء شفاء من كل داء" فأخذ حية ذات سم وظنها شفاء، وهذا العلم لا بد من معرفته، ولذلك اعتنى به أسلافنا وبلغت العناية به أن كثيرا منهم كان يستطيع عد مفردات اللغة كالخليل بن أحمد الذي ألف كتاب العين أراد بذلك أن يعد الإنسان مفردات اللغة في يديه، قال: «من حفظ كتابي هذا استطاع أن يعد مفردات اللغة في أصابعه» كتاب العين للخليل بن أحمد، ثم بعد هذا العلم الثالث، وهو علم التصريف، الذي يعرف به أوجه الاشتقاق في الكلمات، وهو علم كذلك لا غنى عنه في تفسير القرآن والسنة، ولا يمكن أن يكون الإنسان صاحب تدبر وتفهم إلا إذا كان متقنا لهذا العلم، ومن هنا فكثير من خلافات الفقهاء في الاستنباط أصلها الخلاف في مسائل صرفية، فمثلا قال ابن الأنباري رحمه الله: إن الخلاف بين المالكية والشافعية في العدة هل هي بالحيض أو بالأطهار خلاف أصله راجع إلى التصريف، وذلك أن الله تعالى يقول في كتابه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} فقال: القرء الذي يجمع على قروء هو الحيض، والقرء الذي يجمع على أقراء هو الطهر، وذلك أن النبي r قال في حديث فاطمة بنت أبي حبيش: «اتركي الصلاة في أيام أقرائك» فقال هو: القروء هي الحيض والأقراء هي الأطهار، واستدل على ذلك بقول الأعشى:
أفي كل عام أنت عازم غزوة
مورثة مالا وفي الحي رفعة
تشد لأقصاها عزيم عزائكا
لما ضاع فيها من قروء نسائكا
والذي يضيع هو الأطهار لا الحيض، واستدل كذلك بقول الراجز:
يا رب ذي ضغن علي قارض
له قروء كقروء الحائض
فالقروء هنا للحيض لا للأطهار، ونظير هذا كثير جدا في الكلمات القرآنية أو كلمات السنة التي يكون الاختلاف في فهم دلالاتها سببا للاختلاف في مسائل فقهية، ويكون ذلك راجعا إلى أحد علوم اللغة المذكورة، ثم العلم الرابع من هذه العلوم هو علم المعاني الذي يتم به التعبير على الوجه الصحيح من التقديم والتأخير والحذف والإثبات وغير ذلك مما يحتاج إليه المعبر في كلامه، ولا يمكن أن يفهم الإنسان سرد الكلام ولا تفصيل الجمل إلا إذا كان عارفا بعلم المعاني، ثم العلم الذي بعده هو علم البيان الذي يقصد به التعبير بأساليب متنوعة عن معنى واحد كالحقيقة والمجاز والكناية والتصريح وأنواع التشبيه، فهذا العلم من لم يتقنه لا يمكن أن يفهم كثيرا من دلالات الألفاظ من الكتاب والسنة، ثم بعد هذا علم البديع الذي يدرك به الإعجاز في القرآن، فإن كثيرا من الناس يؤمنون بسبب إعجاز القرآن اللفظي، حتى إن أعرابيا قرأ عليه قارئ قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} فلما وصل إلى قوله: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} خر ساجدا، لإعجاز هذه الألفاظ في ترتيبها ودقتها في وصف المطر، وتهيئته وإنزال الغيث منه، وكذلك فإن كثيرا من الذين آمنوا برسول الله r في بداية عهده، إنما كان إعجازهم بهذا القرآن تحديا بالألفاظ نفسها والسياق، ولذلك قال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت سجع الكهان وشعر الشعراء وخطب البلغاء فما سمعت شيئا كهذا القرآن، وقد بين الله سبحانه وتعالى هذا النوع من الإعجاز فيه وأرشد إليه في عدد كبير من الآيات، ثم بعد هذا من هذه العلوم علم الاشتقاق الذي تفهم به العلاقة بين ألفاظ اللغة، وتجعل به اللغة سلالات متقاربة، وهذا العلم كذلك معين على أوجه التدبر المختلفة، ومعين على الاستنباط لكثير من الأحكام من الآيات ومن الأحاديث، ثم بعد هذا علم آخر من علوم اللغة العربية وهو علم آداب العرب وأشعارها، ولا يمكن أن يستدل لأي معنى من معاني القرآن أو السنة إلا من خلال هذا العلم، فإن الاستدلال بدلالات الألفاظ إنما تكون على هذا الوجه، ومن أشعار العرب تؤخذ وتعرف، ولذلك أوصى عمر بحفظ ديوان العرب، وكذلك من هذه العلوم اللغوية المهمة علم التاريخ الذي يعرف به طريقة التأريخ لأية حادثة، فتاريخ العرب يبدأ بالليالي لسبقها على الأيام، ويعبر عنه بعبارة مناسبة سواء كان في أول الشهر أو في آخره، ومن لم يتقن ذلك لم يستطع الاستدلال بالتاريخ، والتاريخ ضرب من ضروب الاستدلال بالقرآن ولهذا رد الله تعالى على اليهود والنصارى حين زعموا أن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا، فقال الله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} فبداية اليهودية نزول التوراة، وبداية النصرانية نزول الإنجيل، وإبراهيم ما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده، فهذه الدعوى باطلة، ومثل هذا ما استدل به الخطيب البغدادي حين جاء اليهود بوثيقة يزعمون فيها أن النبي r أسقط عنهم الجزية، وهي وثيقة قد كتبوها في عصور سابقة، ووضعوا عليها الزيت ووضعوها في الشمس أو سخنوها على النار حتى أصبحت قديمة، وأخرجوها بأيام أحد خلفاء بني العباس، فلما عرضت هذه الوثيقة على الخطيب البغدادي بصق عليها وقال: هذه مزورة مكذوبة على رسول الله r، فقيل: من أين لك ذلك؟ فقال: ذكر من شهودها سعد بن معاذ ومعاوية بن أبي سفيان، وما جمعهما الإسلام، أسلم معاوية عام الفتح ومات سعد أيام غزوة بني قريظة وقد جرح بالأحزاب وغزوة بني قريظة كانت في نهاية العام الخامس من الهجرة والفتح كان في العام الثامن من الهجرة، فما جمعهما الإسلام فكيف يستشهدان على شهادة واحدة، ومثل هذا ما حصل للحاكم أبي عبد الله أحمد بين البيع حين سمع شيخا بنيسابور يحدث فيحدث عن هشام بن عمار، فسأله فقال: متى دخلت مصر؟ قال: سنة ثمانين، فقال: إن هذا الشيخ لقي هشاما بعد موته بإحدى عشرة سنة، فنظير هذا مما يحتاج الناس إليه في إثبات العلم ولا يمكن الاستغناء عنه، ثم من علوم العربية المفيدة كذلك علم العروض وعلم القوافي، إذ بهما إقامة الشعر، والشعر أهميته واضحة سواء كانت في التاريخ الماضي، ولذلك علقت المعلقات على الكعبة، أو كانت في صدر الإسلام ولهذا أمر النبي r حسان أن يهجو قريشا وأخبره أن هجاءه أشد عليهم من وقع النبل، وأمر أبا بكر أن يعينه على ذلك، ولهذا حين وصل إليهم قول حسان رضي الله عنه:
وإن كرام الأصل من آل هاشم
بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
قالت قريش: هذا والله شعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة، فإنه استله منهم كما تسل الشعرة من العجين، إن كرام الأصل من آل هاشم بنو بنت مخزوم، عبد الله وأبو طالب أمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ المخزومية، فهذا لا يعرفه إلا من كان من أهل الأنساب من أنساب قريش فلذلك قالوا: شعر والله ما غاب عنه ابن أبي قحافة، والعروض والقوافي بهما إقامة أوزان الشعر ومعرفة قوافيه، والشعر من أوجه الإتقان في هذه اللغة والتميز فيها، فهو أمر يحتاج إليه، ولذلك نص شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله على أن الأهزاج المخالفة لأوزان الخليل بن أحمد بدعة لا يحل الاشتغال بها، ومثل هذا يطلق على الشعر الحر، فما كان منه غير جار على التفعيلات المعروفة أو كان خارقا لها فهو تغيير وابتداع يؤدي إلى نقض المألوف والمشهور بين الناس، ولذلك يعتبر منهيا عنه من هذا الوجه، هذه بعض علوم اللغة العربية التي هي فروض كفايات، وبهذا يعرف مزية هذه اللغة من ناحية الحكم، أما من ناحية المصلحة فإن أعظم ما تحتاج إليه الشعوب والأمم هو ما يميزها حتى لا تذوب فيما سواها، وكل أمة لها حضارة ولها ميزات تميزها عن غيرها، وإذا جهلت هذه الميزات وزالت ذابت تلك الأمة في غيرها من الأمم، ومن هنا فإن الميزة التي تميز هذه الأمة عن غيرها من الأمم هي اللسان العربي، وإذا تخلصت هذه الأمة من لسانها أصبحت ذنبا في ذيل غيرها من الأمم وكانت تابعة لغيرها ولم يعد لها تاريخ ولم يعد لها ذكر بين الأمم.
إن الحفاظ على هذه اللغة العربية بالإضافة إلى أنه مما يتعبد الله به ويبتغى به وجهه هو كذلك من التسنن بسنة النبي r وخلفائه الراشدين وأصحابه المهديين والتابعين وأتباعهم، وهو كذلك مما يرفع الله به الدرجات ويزيد به المنازل، والناس محتاجون إليه، ولا يمكن أن يستغنى عنه، ولهذا يجب على الآباء أن يعلموا أولادهم هذه اللغة، وأن يعلموهم محبتها، ويجب على أساتذة اللغة العربية أن لا يكونوا من الفتانين وأن يحببوا هذه اللغة العربية إلى من يدرسها، وأن يحدثوا لديهم ذوقا لغويا يقتضي منهم محبة لهذه اللغة العربية وعناية بها وتركيزا عليها، وكذلك على الأمهات أن يشاركن في تعليم الأولاد وتحبيب هذه اللغة إليهم، وعلى الكبار كذلك أن يدرسوها وأن يتدبروها وأن يعلموا أنهم لا يمكن أن يفهموا القرآن ولا السنة إذا إذا كان لديهم رصيد من هذه اللغة، وأن يفهموا كذلك أن قيمهم وتاريخهم ومجدهم مرتبط بهذه اللغة، إن الحفاظ على هذه اللغة لا يمكن أن يكون من واجبات نظام أو دولة فقط، بل لا بد أن يكون من واجبات الأفراد والأمة بكاملها، وأن تعتني بذلك وأن يقع التعاون عليه، وأن لا يبقى أحد يستطيع المشاركة فيه إلا قدم مشاركته، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى وأن يزيدنا علما، وأن يعلمنا ما ينفعنا وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
اللهم وفقنا لما يرضيك عنا وخذ بنواصينا إلى الخير أجمعين اللهم استرنا بسترك الجميل، اللهم ألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
http://www.dedew.net/text-1576.html
الجمعة أبريل 18, 2014 6:49 am من طرف viva star
» مناهج النقد الأدبي . مترجم.rar
الخميس أبريل 17, 2014 5:01 pm من طرف viva star
» مصطلحات توليدية
السبت فبراير 08, 2014 2:55 pm من طرف رعاش وليد
» ارجو المساعدة
الجمعة يناير 10, 2014 2:10 am من طرف مريم عبد الرحمان
» مساعدة عاجلة جداااااااااا
الثلاثاء يناير 07, 2014 6:53 am من طرف مريم عبد الرحمان
» كتب في علم الدلالة
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:35 pm من طرف safih
» عرض حول معجم المقاييس لابن فارس
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:15 pm من طرف safih
» المعجم الالكتروني
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:06 pm من طرف safih
» تشغيل الجزيرة الرياضية بالشرينغ
الثلاثاء نوفمبر 12, 2013 11:29 am من طرف safih