ملامح أساسية في كتاب "فن الشعر" لأرسطوطاليس
د. رشيد ياسين
بالرغم من أن كتاب أرسطوطاليس الشهير "فن الشعر" Poetics) قد وصل إلينا بصورة ناقصة، مشوشة، مما حمل أغلب الدارسين على الاعتقاد بأنه ليس أكثر من ملاحظات موجزة دونها الفيلسوف ليستعين بها في تدريس طلابه، فإن هذا الكتاب الصغير هو -بإجماع الآراء- أهم وثيقة في تاريخ النقد الأدبي بأسره. وقد اختفى هذا الكتاب، في جملة ما اختفى من مؤلفات الفيلسوف العظيم بعد وفاته، وظل مهملاً في خزائن الدولة البيزنطية عصوراً مديدة حتى اكتشفه العرب في القرن العاشر الميلادي وقام المترجم السرياني متى بن يونس القنائي بنقله إلى العربية*. وقد ظفر الكتاب باهتمام الفلاسفة العرب في العصر الوسيط، وعلى رأسهم ابن سينا وابن رشد، اللذان حاولا شرح ما أراده أرسطوطاليس في كتابه.
ولكن لا المترجمون السريانيون ولا الفلاسفة العرب استطاعوا أن يفهموا الكتاب على الوجه الصحيح. وكان ذلك أمراً طبيعياً، فكتاب "فن الشعر" يدور حول التراجيديا والملحمة، في المقام الأول، وهما لونان من التأليف الأدبي لم يكن يعرفهما العرب آنذاك. وفضلاً عن ذلك فقد كان المسرح الكلاسيكي الإغريقي والروماني) قد انقرض منذ أمد بعيد، وبالتالي فلم تعد ثمة شواهد حسية تمكن الباحثين العرب من معرفة معنى التراجيديا والكوميديا، وهكذا انصرفت أذهانهم إلى أن التراجيديا هي شعر المديح وأن الكوميديا هي شعر الهجاء. ومع ذلك فقد كان للفلاسفة العرب -ولاسيما ابن رشد- فضل تنبيه الأوربيين إلى خطورة هذا الكتاب، الذي أصبح منذ القرن السادس عشر مرشد العاملين في المسرح وفي النقد المسرحي والأدبي على السواء. بيد أن تعاليم أرسطوطاليس حول التراجيديا قد تعرضت لكثير من التحريف وسوء الفهم على يد الإيطالي لودوفيكو كاستلفيترو 1505-1571) الذي نسب إلى الفيلسوف اليوناني أفكاراً لم يقل بها قط، كزعمه -مثلاً- أن زمن التمثيل يجب أن يتطابق تماماً مع زمن الفعل action) الذي تشتمل عليه المسرحية، وأن أحداث المسرحية يجب أن تدور في مدة أقصاها اثنتا عشرة ساعة، وأن مكان الفعل ينبغي أن يكون واحداً لا يتغير. ومن هنا نشأت فكرة الوحدات الثلاث التي تمسكت بها الكلاسيكية الجديدة في فرنسا وحولتها إلى قانون ملزم لكتاب الدراما. ويبرز، على نحو خاص، في هذا الصدد اسم الشاعر والناقد الفرنسي نيكولا بوالو وقصيدته الشهيرة فن الشعر L, Art Poetique) الصادرة عام 1674، والتي نسج فيها على منوال الشاعر الروماني هوراس الذي سبقه في عرض آرائه النقدية في قالب شعري. وقد نبه بوالو، في قصيدته تلك، شعراء التراجيديا إلى ضرورة التقيد بالوحدات الثلاث وحدة الفعل، وحدة الزمن، وحدة المكان) انسجاماً مع الاعتقاد السائد بأن أرسطوطاليس وهوراس قد أوصيا بذلك، فضلاً عن أن هذا -كما اعتقد بوالو ومعاصروه- وهو ما يقتضيه منطق الطبيعة وقوانين العقل، التي كانت دستوراً يسترشد به الكلاسيكيون الفرنسيون. وقد بلغ من تمسك هؤلاء بما عرف بمبدأ الوحدات الثلاث أن فولتير، الذي اطلع على أعمال شكسبير خلال إقامته في لندن، عده كاتباً بربرياً، لأنه لم يلزم نفسه بهذا المبدأ. وقد ظلت مفاهيم الكلاسيكية الفرنسية الجديدة، التي ادعت لنفسها الحرص الشديد على وصايا أرسطوطاليس وهوراس، سائدة في المسرح الأوربي حتى أصدر الناقد الألماني الكبير غوتهولد أفرايم ليسنغ كتابه الذائع الصيت الفن المسرحي في هامبورغ فبدد به الكثير من الأوهام المتوارثة عن أرسطو وكتابه فن الشعر ووجه إلى المسرح الكلاسيكي الفرنسي-وإلى مسرح فولتير بخاصة- ضربات موجعة سرعان ما أدت إلى انهياره وظهور الدراما البورجوازية الحديثة، التي كان ليسنغ نفسه من روادها الأوائل*. والواقع أن أرسطوطاليس لم يتحدث في فن الشعر عن شيء اسمه الوحدات الثلاث بل وقف بالتحديد عند وحدة الفعل التي سنتطرق إليها في ما يلي من حديث. أما وحدة الزمان فإن سندها الوحيد إشارة عابرة، وردت في الفصل الخامس من كتابه في معرض المقارنة بين التراجيديا والملحمة. وتقول عبارة أرسطو بالحرف الواحد: "إن التراجيديا تحاول، قدر المستطاع، أن تقيد نفسها بدورة شمسية واحدة، أو أن تتجاوز هذا الحد تجاوزاً طفيفاً"(1) . وواضح من هذه العبارة أن الفيلسوف اليوناني لم يصغ قانوناً يلزم كتاب الدراما بحدود زمنية معينة، وإنما أشار إلى لمحة من ملامح المسرح التراجيدي الإغريقي. وستغدو هذه الإشارة مفهومة إذا وضعنا في حسابنا أن التراجيديا الإغريقية كانت تؤلف، في العادة، حلقة واحدة من ثلاثية ذات موضوع عام واحد. وبالتالي فهي تشبه أن تكون فصلاً من مسرحية ذات فصول ثلاثة. ومن المألوف أن تجري وقائع الفصل الواحد من المسرحية في إطار زمني ضيق. فإذا عدنا بعد ذلك إلى ما يسمى بوحدة المكان فإننا لن نجد لها أي ذكر في كتاب أرسطوطاليس، الذي نحن بصدده.
ولنعد، بعد هذه التوطئة التي طالت بعض الشيء، إلى نقطة البدء، أي إلى كتاب فن الشعر نفسه. ومن المعروف أن هذا الكتاب يركز اهتمامه، بالدرجة الأولى، على التراجيديا، ولكن أهميته في الواقع تتخطى ذلك بكثير، حتى ليمكن أن يقال، دونما تزيد، أنه أول كتاب يضع نظرية شاملة للفنون، أساسها المحاكاة والأثر السايكولوجي الخاص الذي يحدثه العمل الفني في نفس المتلقي. ولكننا لا نريد لهذا البحث أن يكون استعراضاً شاملاً لما أورده أرسطوطاليس في كتابه، فهذه غاية يصعب إدراكها في نطاق بحث محدود كهذا، وإنما يهمنا أن نقف وقفة متريثة أمام ثلاث ركائز أساسية تقوم عليها نظرية الدراما عند أرسطوطاليس، وهي: المحاكاة، الوحدة العضوية، التطهير.
مفهوم المحاكاة عند أرسطوطاليس.
تمثل المحاكاة Mimesis)- كما أسلفنا- الأساس المشترك للفنون في رأي أرسطوطاليس، فنحن نقرأ في الصفحة الأولى من كتابه هذه الفقرة: "وهكذا، فإن الشعر الملحمي والتراجيدي، وكذلك الكوميديا والشعر الديثرامبي، والجزء الأكبر من العزف على الناي والمزهر- كلها بوجه عام، ضروب من المحاكاة، تختلف فيما بينها في ثلاثة أمور: فهي تحاكي إما بوسائل مختلفة، أو أشياء مختلفة، أو بطريقة مختلفة مغايرة"(2) .
وتنبغي الإشارة إلى أن مفهوم المحاكاة، الذي يرتبط في الأذهان بأرسطوطاليس، ليس من ابتداعه في الواقع، فقد سبقه أستاذه أفلاطون إلى اعتبار الشعر والفنون التشكيلية ضروباً من المحاكاة للطبيعة والواقع المادي. وكان هذا، في نظر أفلاطون، مدعاة لاحتقار الفنون، فالواقع الذي ندركه بالحواس لا يعدو، في رأيه، أن يكون صورة باهتة لعالم المثل الأزلي الذي يدرك بالعقل. وبالتالي فإن الفنون ليست إلا محاكاة لمحاكاة، وهذا ما يجعلها بعيدة عن الحقيقة بثلاث درجات. فلا عجب إذا كان أفلاطون قد أوصد أبواب جمهوريته الفاضلة في أوجه الشعراء وأشبعهم تقريعاً في الفصل العاشر من كتاب الجمهورية، وإن كان قد جنح بعد ذلك إلى شيء من التساهل معهم في كتاب القوانين. ويميل الباحثون، بوجه عام، إلى الاعتقاد بأن ما كتبه أرسطوطاليس عن المحاكاة وعن مكانة الشعر وبقية الفنون بين ضروب النشاط العقلي المختلفة إنما هو رد غير مباشر على آراء أفلاطون هذه. فالمحاكاة عند أرسطوطاليس ليست مثلبة للشاعر أو الفنان، لأن الناس ميالون بطبيعتهم إلى محاكاة الآخرين، وهم يستمتعون برؤية الأشياء المحكية حتى لو كانت هذه الأشياء بحد ذاتها لا تسر الناظر، كالحيوانات المقززة أو جثث الموتى(3) . وفوق ذلك فإن المحاكاة تعود على الإنسان بالمعرفة، والمعرفة لا تسر الفلاسفة وحدهم، بل الناس بوجه عام. على أن الأهم من ذلك كله أن المحاكاة، عند أرسطوطاليس، لا تعني النقل الحرفي للطبيعة والواقع الملموس، فالفن ليس مجرد مرآة تعكس الأشياء بصورة آلية، خالية من الإبداع، كما يزعم أفلاطون في جمهوريته، لأن للفنانين-ومنهم الشعراء بالطبع- طرائق مختلفة في المحاكاة، كما يفهم من الفقرة التي أثبتناها آنفاً. ويتوقف أرسطوطاليس عند هذه النقطة في الفصل الثاني من كتابه، موضحاً أن الاختلاف في طرق المحاكاة يتجلّى، لا في الشعر والرسم وحسب، بل حتى في الرقص وفي العزف على الشبابة والمزهر. على أن أبعاد نظرية المحاكاة عند أرسطوطاليس تتكشف، بنحو خاص، في المقارنة الشهيرة التي أجراها بين الشعر والتأريخ، ففي الفصل التاسع من فن الشعر يقول ما نصه: "يتضح مما قيل كذلك أن مهمة الشاعر أن يتحدث لا عما وقع بالفعل، بل عما يمكن أن يقع، أي عما هو ممكن بمقتضى الاحتمال أو الضرورة. فالشاعر والمؤرخ يختلفان لا في أنهما يتحدثان بكلام موزون أو منثور، إذ أن مؤلف "هيرودوت" يمكن أن يصاغ في أبيات موزونة، ولكنه سيظل تأريخاً ما، سواء أكان منظوماً أو منثوراً. إنما الفرق في أن الأول يتحدث عن أشياء وقعت بالفعل، أما الثاني فعن أشياء كان يمكن أن تقع. ولهذا فإن الشعر أدنى إلى الفلسفة وأخطر شأناً من التاريخ، فالشعر يتحدث، في الغالب، عن الكلي، أما التأريخ فعن الجزئي"(4) .
ومدلول هذه الفقرة مما لا يحتمل اللبس، فمهمة الشاعر أن يتحدث لا عما وقع بالفعل، بل عما يمكن أن يقع. وبعبارة أخرى، فإن مهمة الشاعر لا تنحصر في نقل الواقع العياني نقلاً حرفياً، مثلما تعكس المرآة الصور، بل هي بناء واقع جديد، ممكن التحقق، استناداً إلى المبادئ الكلية التي تحكم الطبيعة والسلوك البشري. من هنا كان الشعر أوثق ارتباطاً بالفلسفة من التأريخ، فالتراجيديا-التي بنى عليها الفيلسوف اليوناني تصوراته -لا تعنى بالتفاصيل والجزئيات لذاتها، وإنما تتخذ منها معبراً إلى ما هو كلي شامل، كصراع الإنسان مع القدر- كما في أوديب الملك- أو تحديه لمشيئة الآلهة- كما في برومثيوس المقيد. ومن السذاجة أن يتوهم أحد أن سوفوكليس واسخيلوس قد صورا في هاتين المسرحيتين وقائع عايشاها بأنفسهما ونقلاها إلى القارئ -أو المتفرج- بدقة وأمانة.
ولابد لنا، قبل أن ننتقل إلى النقطة التالية من حديثنا، من أن نتوقف عند كلمة mimesis الإغريقية، التي جرت العادة بترجمتها إلى "محاكاة" بالعربية و imitation بالإنجليزية وما يماثل هذه وتلك في اللغات الأخرى. والواقع أن كلمة mimesis، كما يصر كثير من الباحثين، لا تؤدي هذا المعنى بالضبط، فالفيلسوف الإيطالي المعروف بنديتو كروتشه يذهب إلى أنها تعني شيئاً وسطاً بين المحاكاة والتصوير(5) ، بينما يرى وولتر كاوفمان، وهو فيلسوف أمريكي معاصر، أن كلتا المفردتين لا تؤديان المعنى المقصود بدقة، وإن كانت كلمة تصوير تلائم بعض المواضع في فن الشعر أكثر من كلمة محاكاة. ولكاوفمان منطقه السديد في هذا الصدد، فهو يتساءل: "حتى لو سلمنا بالفرضية القائلة بأن الملحمة والتراجيديا والكوميديا "تحاكي" شيئاً ما- فماذا يحاكي الشعر الديثرامبي؟ وماذا يحاكي الجزء الأكبر من موسيقى الناي والمزهر"؟(6) . ولنا أن نضيف إلى تساؤلات كاوفمان أن أرسطوطاليس لا يكتفي بإدراج الموسيقى في عداد الفنون المحاكية بل يؤكد في الفصل الثامن من كتاب السياسة أنها أقدر الفنون جميعاً على المحاكاة!
ولعل في ما أوردناه ما يكفي للتدليل على أن أرسطوطاليس لا يستخدم كلمة mimesis دوما بالمعنى الذي قصد إليه أفلاطون. وقد نكون أقرب إلى فهمه إذا ترجمنا هذه المفردة في معظم السياقات التي وردت فيها إلى "تقديم صور عن الحياة" representations of life)- كما يقترح هاملتون فايف، وهو واحد ممن ترجموا كتاب فن الشعر إلى الإنجليزية. وإذ نفهم كلمة mimesis على هذا الوجه يتضح لنا السبب الذي جعل بعض المفكرين المعاصرين، ومنهم الفيلسوف الألماني هانس غ. غادامير، يطالبون برد الاعتبار إلى هذا المصطلح وإعادة إدراجه في المعجم النقدي، الذي أقصي عنه منذ أواخر القرن الثامن عشر.(7) .
2- مفهوم الوحدة العضوية عند أرسطوطاليس.
يؤلف مفهوم وحدة العمل الفني- أو الوحدة العضوية، كما يسميها النقاد المعاصرون- حجر الزاوية في فلسفة أرسطوطاليس الجمالية. وترينا القراءة المدققة للفصل الثامن من كتاب فن الشعر أن هذا المبدأ لا يخص التراجيديا وحدها، بل يتعداها إلى سائر الفنون المحاكية الأخرى. فالعمل الفني الواحد، أو المحاكاة الواحدة- كما يقول الفيلسوف- إنما تكون لشيء واحد، ولهذا وجب أن تكون موحدة، متكاملة. وبقدر ما يتعلق الأمر بالتراجيديا ونستطيع هنا أن نعمم فنقول، الدراما بوجه عام) فإنها محاكاة لفعل. وطبقاً للمبدأ المذكور، يجب أن يكون هذا الفعل موحداً، متكاملاً، وأن ترتب أجزاؤه أو تبنى حبكته) على نحو يجعل تغيير أحد الأجزاء أو حذفه سبباً في تغيير الكل وتخلخله. لأنه ما لا يؤدي حضوره أو غيابه إلى اختلاف ملموس لا يعد جزءاً من الكل.
ولكن... متى تكون الحبكة موحدة؟
يجيبنا أرسطوطاليس عن هذا السؤال في الفصل الثامن من كتابه بقوله: "تكون الحبكة موحدة، لا عندما تتعلق بشخص واحد، كما يظن البعض، فالشخص الواحد قد تحدث له أمور كثيرة، لا حصر لها، [ولكنها] لا تؤلف أي وحدة. كذلك يمكن أن يقوم الشخص الواحد بأفعال كثيرة دون أن ينتج عنها فعل واحد متكامل. ولهذا، كما يبدو، أخطأ جميع أولئك الشعراء الذين نظموا "الهيرقليدا"( و"الثيسيدا"(9) وغيرهما من القصائد المماثلة، ظناً منهم بأنه ما دام هرقل واحداً وجب أن تكون الحبكة موحدة كذلك.
"ولكن هوميروس، الذي يتفوق في نواح كثيرة أخرى، قد أدرك هذا الأمر كذلك إدراكاً جيداً، على ما يبدو، سواء بفضل البراعة أو بفضل الموهبة. فعندما ألف "الاوذيسية" لم يصور كل ما وقع للبطل- كإصابته بجرح في اليارناس(10) ، أو تظاهره بالجنون عند احتشاد الجيوش، لأن أياً من هاتين [الحادثتين] لا تقع بالضرورة أو على سبيل الاحتمال عند وقوع الأخرى- وإنما بنى الاوذيسية على الفعل الواحد، الذي نتحدث عنه، وكذلك فعل في الإلياذة".(11)
ولكي نستكمل مستلزمات الحبكة الدرامية عند أرسطوطاليس ونقف على مدى أهميتها بالقياس إلى العناصر الأخرى في التأليف الدرامي، نجد من الضروري أن نعود عودة قصيرة إلى الفصل السابع من فن الشعر، حيث يشير الفيلسوف إلى أن ترتيب الأحداث-أي الحبكة- هو العنصر الأول والأهم في التراجيديا، مضيفاً أن التراجيديا هي محاكاة لفعل كلي تام، وأن الكلي هو ما يتألف من بداية ووسط وختام.
يتضح مما تقدم أن أرسطوطاليس يضع الحبكة في المرتبة الأولى بين عناصر العمل الدرامي، وهو يشترط في الحبكة الدرامية أن تقوم على فعل تام مترابط، تتعاقب أجزاؤه على نحو يجعل من الواقعة السابقة سبباً أو تمهيداً للواقعة التي تليها. وهذا بالضبط ما يعنيه مصطلح وحدة الفعل الذي يسيء البعض فهمه فيترجمونه بوحدة الحدث، على ما بين تلك وهذه من اختلاف بيّن.
ولوحدة الفعل في الدراما ما يقابلها في الفنون المحاكية الأخرى فالوحدة شرط لابد منه لكل عمل فني. على أن هذه الوحدة لا ينبغي بالضرورة أن تكون وحدة فعل، فالفنون لا تحاكي الأفعال وحدها، بل تحاكي المشاعر والانطباعات والأفكار والأخيلة كذلك. والمهم أن يؤلف العمل الفني، أياً كان نوعه، بنية تامة مترابطة، تذكرنا بترابط أعضاء الجسد الحي، ومن هنا جاء مصطلح الوحدة العضوية الذي يستخدمه النقد المعاصر. وقد ترك لنا مؤلف فن الشعر مقياساً بالغ الدقة لمدى تحقق الوحدة في العمل الفني حين قال: "إن ما لا يؤدي حضوره أو غيابه إلى اختلاف ملموس لا يعد جزءاً من الكل".(12)
3. مفهوم التطهير عند أرسطوطاليس.
في الفصل السادس من فن الشعر يقدم لنا أرسطوطاليس تعريفه الشهير التالي للتراجيديا:
... وهكذا فإن التراجيديا هي محاكاة لفعل جدي(13) ، تام، ذي حجم معين، بلغة محسنة، تختلف باختلاف الأجزاء، وهي محاكاة بالفعل لا بالسرد، تحدث من خلال الرثاء والخوف تطهيراً من المشاعر المماثلة.(14)
وتكمن أهمية هذا التعريف، الذي نقله المترجمون إلى اللغات الأخرى على أوجه متعددة، في أمرين أساسيين: أولهما أنه حدد خصوصية الفن الدرامي بأنه محاكاة بالفعل لا بالسرد، وذلك تمييزاً له عن الفنون الأدبية الأخرى، كالملحمة والشعر الغنائي. وثانيها أنه اشتمل، لأول مرة في تاريخ النقد الأدبي والفني، على تفسير سايكولوجي للأثر الذي يحدثه الفن التراجيدي عند المتلقي، وذلك في حديثه عن الرثاء والخوف اللذين تثيرهما التراجيديا في النفوس وما يعقب ذلك من تطهير. وقد شغلت فكرة التطهير الأرسطوطاليسية هذه والسياق الغامض الذي وردت فيه اهتمام الباحثين لقرون مديدة، ولا سيما منذ أواخر عصر النهضة الأوربية، وذهبوا في تفسيرها مذاهب مختلفة. وكان الشاعر الألماني الكبير غوته أحد الذين أدلوا بدلوهم في هذا الموضوع. ويتلخص رأي غوته في أن التطهير يراد به الذروة الحاسمة، الضرورية لكل دراما ولجميع النتاجات الشعرية في الواقع.(15) ويمضي غوته في تفسير رأيه قائلاً: إذا كان الشاعر قد قام، من جانبه، بمهمته، بأن أثار قضايا مهمة وحسمها على نحو مقبول، فإن أفكاراً مماثلة [لأفكاره] ستخطر للمتفرج في هذه الحالة.(16) .
وكان الفيلسوف الإيطالي كروتشه ممن تطرقوا إلى فكرة التطهير ولكنه لم يتوقف عندها طويلاً، بل اكتفى بقوله: "لا يمكننا أن ننكر بالمرة أنه أي أرسطوطاليس) يمكن أن يكون قد استشف شيئاً من الفكرة الحديثة حول ما للفن من طاقة تحريرية."(17) وهذا رأي لا يخلو من الاستعلاء المألوف في كتابات كروتشه.
ويخرج علينا الباحث البلغاري الكسندر نيتشيف برأي آخر، خلاصته أن المتفرج يتعاطف مع الأبطال التراجيديين ويعتريه الخوف على مصائرهم لأنه يتوهم في بداية الأمر أنهم أبرياء لا يستحقون المصير الذي ينتظرهم، ولكن الفعل التراجيدي يتطور باستمرار ليكتشف في النهاية، بما لا يقبل التأويل، أن الأبطال مذنبون وأن المشاعر الإيجابية التي أحسها المشاهد حيالهم لا ترتكز إلى أساس. وهنا تحدث لحظة التطهير، أي لحظة التحرر من الرثاء والخوف. ويدعم الدكتور نيتشيف رأيه هذا بشواهد عديدة يستمدها من كتاب فن الشعر نفسه، ولا سيما ما ورد في الفصل الثالث عشر من الكتاب حول الغلطة التراجيدية للبطل.(18) ولكن رغم كل الشواهد التي يوردها نيتشيف فإن تفسيره لفكرة التطهير يبدو غير مقبول، إذ ما من أحد، حتى أرسطوطاليس نفسه، يمكن أن يوافق على أن أوديب، الذي كتب عليه مصيره الفاجع حتى قبل ولادته، أو انتيغونا التي رفضت أن تترك جثة أخيها القتيل مرمية في العراء، قد نالا العقاب الذي يستحقانه وأن تعاطفنا معهما يقوم على تصورات خاطئة. وليس لدينا ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن سوفوكليس قد قصد إلى هذه الغاية.
ولعل أصدق التفاسير التي قدمها المعاصرون وأقربها إلى وظيفة الفن الأساسية هو رأي الأمريكي وليم كاوفمان الذي يقول: "عندما تفصح المعاناة عن نفسها في شعر رائع يتملكنا إحساس بالتحرر، لأن حزننا الأخرس، والمبهم إلى أقصى الحدود، يجد تعبيره ويحلق بجناحين."(19)
ونحن مياليون إلى الأخذ بهذا التفسير، لأن التراجيديا الإغريقية، التي استنبط أرسطوطاليس منها أحكامه، تستثير تلك المشاعر الأليمة الكامنة وراء تخوم الوعي، والتي ينطوي عليها كل البشر. والتراجيديا الإغريقية عميقة في واقعيتها، رغم قشرتها الميثولوجية الخارجية، ذلك أنها تستمد موضوعاتها من المعاناة والمحن الإنسانية الأزلية، كالتحول المفاجئ من السعادة إلى الشقاء، وكفاح الإنسان من أجل تفادي ما تجيء به الأقدار، وصراعه المأساوي مع القوى الغاشمة التي تتحكم في مصيره، وبطلان المجد الدنيوي وغير ذلك من الامتحانات القاسية التي لازمت الإنسان عبر تاريخه. وقلق المرء إزاء هذه المحن المحتملة، أو المؤكدة، هو جزء من الحياة الداخلية العميقة لجميع الناس، وإن كان انشغالهم بهمومهم اليومية الصغيرة قد ينسيهم، في الغالب، الطابع المأساوي لحياتهم. لكنهم حين يشاهدون عرضاً تراجيدياً فإنهم يجدون في كلمات الشاعر تعبيراً بليغاً عن أحزانهم ومخاوفهم المكبوتة الخرساء. وهم بتعاطفهم مع البطل التراجيدي وخوفهم على مصيره إنما يتيحون لهذه الأحزان والمخاوف الكامنة في أعماقهم فرصة الإفصاح عن نفسها، وبذلك يتحرون منه مؤقتاً، وهذا ما يعنيه أرسطوطاليس بكلمة التطهير Catharsis).
وثمة تفسير آخر قد يساعدنا على فهم ما عناه الفيلسوف اليوناني بالتطهير. فالمشاهد الذي غادر المسرح لتوه بعد أن حضر مسرحية تراجيدية سرعان ما يثوب إلى نفسه ويفطن إلى أن الأحداث المأساوية، التي عايشها وشارك فيها بتعاطفه وخوفه، ليست في الواقع سوى أحداث متخيلة لا تمس سلامته الشخصية. وإذا كان مقدراً له أن يواجه في حياته شيئاً مما رآه في المسرح فهذا أمر بعيد، ونحن- كما يقول أرسطوطاليس نفسه في الفصل الثاني من كتاب الخطابة- لا نخاف الأمور البعيدة جداً، فجميعنا نعلم أننا سنموت، ولكن لأن هذا ليس قريباً فإننا لا نخافه.(20) وهذا كله مدعاة للشعور بالتحرر والارتياح.
وما دمنا نتحدث عن تضارب الآراء حول التطهير الأرسطوطاليسي فمن المناسب أن نشير إلى أن أكثر الباحثين الذين تصدوا لهذه المشكلة لم يفطنوا إلى أن أرسطوطاليس قد تطرق إلى مفهوم التطهير بمزيد من الإسهاب والوضوح في كتاب السياسة، وذلك في معرض حديثه عن وظائف الموسيقى وأثرها في السامعين. وقد نواجه هنا اعتراضاً يقول، إن أثر الموسيقى في النفوس يختلف عن أثر التراجيديا، وبالتالي فإن التطهير الذي ينجم عن سماعها هو شيء آخر غير التطهير التراجيدي. غير أننا نستشف من كتاب السياسة أن الأمر واحد في الحالتين، فالمؤلف يعدنا في الفصل الثامن من الكتاب المذكور بأنه سيتناول موضوع التطهير بمزيد التفصيل في كتابه عن فن الشعر. ولا ندري هل نسي أرسطوطاليس ما وعد به، أم أنه لم يجد شيئاً جديداً يضيفه إلى ما قاله في كتاب السياسة، فهو -كما لاحظنا- لم يشر في فن الشعر إلى التطهير إلا إشارة عابرة، غامضة، حار فيها المفسرون. ولنعد الآن لنقرأ ما كتبه الفيلسوف في السياسة حول تأثير الموسيقى والتطهير الذي ينجم عنه:
"إن العواطف التي تؤثر بقوة في بعض النفوس موجودة لدى الجميع بدرجات متفاوتة، كالرثاء eleos) والخوف phobos) مثلاً، وكذلك النشوة. وبعض الناس يستجيبون لهذه الأخيرة بوجه خاص، فنحن نراهم يهدأون تحت تأثير الموسيقى والأناشيد الدينية، التي تدفع النفوس إلى الجنون، كما لو كانوا قد عولجوا طبياً وتطهروا Katharseos). ولابد أن الناس الميالين إلى الشعور بالرثاء والخوف، والناس العاطفيين إجمالاً، وغيرهم ممن تخامرهم عواطف مماثلة، يتأثرون بالطريقة نفسها. فهم جميعاً لابد أن يحسوا بتطهير catharsis) وبارتياح ممتع.(21)
ويمكننا أن نخرج من هذا النص باستنتاجات عديدة، أولها أن التطهير-على رأي أرسطوطاليس- ليس وقفاً على التراجيديا وحدها، فالموسيقى تحدث بدورها تأثيراً مماثلاً في المتلقي. وقد يصدق هذا على فنون أخرى، وإن يكن الفيلسوف لم يشر إلى ذلك. وثانيها أن الناس جميعاً ينطوون على مشاعر مؤلمة، بدرجة أو أخرى، ولكن العاطفيين منهم هم الأقدر على الإحساس بما يحققه الفن للمتلقي من تطهير نفسي. وأخيراً فإن تطهير النفس مما تراكم فيها من حزن ومخاوف يفضي إلى ارتياح ممتع، وهو ما نسميه في لغة النقد المعاصر بالمتعة الجمالية aesthetical pleasurre).
ولا نريد أن نغادر موضوعنا هذا قبل أن نشير إلى أن أرسطوطاليس لم يكن أول من اكتشف قدرة الفن على تطهير النفس مما يشوبها، وإن يكن له فضل الصياغة النظرية لهذه الفكرة. فقد روى الأقدمون أن فيثاغورس القرن السادس قبل الميلاد) كان يؤمن بما للفنون من قدرة على إعادة التوازن النفسي، وكان يستعين بالموسيقى والرقص وبأشعار هوميروس وهسيود لبلوغ هذه الغاية.(22)
صنعاء 1998
* قام الدكتور شكري عياد بتحقيق ترجمة القنائي ونشرها واضعاً إزاءها ترجمة حديثة للنص الأرسطي عن اليونانية القديمة. كما نشر الدكتور عياد شروح ابن سينا وابن رشد للنص.
* أصدر "ليسنغ" كتابه بادئ الأمر بشكل نشرات أسبوعية، تابع فها عروض المسرح القومي في هامبورغ عامي 68- 1769.
(1) Aristotle, poetics, Trans By S.H. Butcher, chapter 5.
(2) ترجمنا هذه الفقرة عن الترجمة البلغارية لكتاب "فن الشعر" التي قام بها الأستاذ الكسندر نيتشيف عن النص اليوناني القديم، ط2، 1993.
(3) انظر الفصل الرابع من كتاب "فن الشعر" لأرسطوطاليس.
(4) ترجمنا هذه الفقرة عن ترجمة البروفسور أ. نيتشيف، التي سبقت الإشارة إليها.
(5) انظر: B. Croce, Aesthetic, Nonpareil Books, Boston, 1978, p. 157.
(6) انظر: Walter Kaufmann, Tragedy and philosophy, 3rd edition, princeton, New jersy, 1992, p37.
(7) انظر: peter J.Mc Comick, Modernity, Aesthetics and the Bounds of art, Ithaca and London, 1990, p17.
( قصيدة عن مآثر البطل الأسطوري الإغريقي هرقل.
(9) قصيدة عن مآثر البطل الأسطوري الإغريقي ثيسيوس.
(10) الواقع أن هوميروس ذكر هذه الحادثة في النشيد التاسع عشر من "الاوذيسية" خلافاً لما ذهب إليه أرسطوطاليس.
(11) فن الشعر، الفصل الثامن، ترجمة البروفسور آ. نيتشيف.
(12) انظر الفصل الثامن من كتاب "فن الشعر" لأرسطوطاليس.
(13) لابد أن كلمة "جدي" قد وردت هنا تمييزاً للتراجيديا عن الكوميديا، وبالتالي فنحن نختلف مع أولئك الذين ترجموها إلى "فعل جليل" أو ما يدخل في هذا المعنى.
(14) عن ترجمة أ. نيتيشيف، التي سبقت الإشارة إليها.
(15) انظر: Goethe, Supplement to Aristotle,s poeties- Tarnslated by E. L. Wenning the Great critics, p 840).
(16) المصدر نفسه، ص 841.
(17) انظر B. Groce, Aesthetic, P. 161.
(18) الكسندر نيتشيف، مقدمة الترجمة البلغارية لكتاب "فن الشعر"، ص130- 131.
(19) انظر: W. Kaufmann, Tragedy and philosophy, p. 51.
(20) أرسطوطاليس، الخطابة، الفصل الثاني الترجمة البلغارية لألكسندر نيتشيف، صوفيا، 1993).
(21) G. M. A. Grube, on poetry and Style, 15 f, New York, 1958.
(22) انظر: شوامخ الفكر الجمالي العالمي، الترجمة البلغارية بقلم أ. غينيفا، ص75-
http://www.iraqalkalema.com/article.php?id=4483
د. رشيد ياسين
بالرغم من أن كتاب أرسطوطاليس الشهير "فن الشعر" Poetics) قد وصل إلينا بصورة ناقصة، مشوشة، مما حمل أغلب الدارسين على الاعتقاد بأنه ليس أكثر من ملاحظات موجزة دونها الفيلسوف ليستعين بها في تدريس طلابه، فإن هذا الكتاب الصغير هو -بإجماع الآراء- أهم وثيقة في تاريخ النقد الأدبي بأسره. وقد اختفى هذا الكتاب، في جملة ما اختفى من مؤلفات الفيلسوف العظيم بعد وفاته، وظل مهملاً في خزائن الدولة البيزنطية عصوراً مديدة حتى اكتشفه العرب في القرن العاشر الميلادي وقام المترجم السرياني متى بن يونس القنائي بنقله إلى العربية*. وقد ظفر الكتاب باهتمام الفلاسفة العرب في العصر الوسيط، وعلى رأسهم ابن سينا وابن رشد، اللذان حاولا شرح ما أراده أرسطوطاليس في كتابه.
ولكن لا المترجمون السريانيون ولا الفلاسفة العرب استطاعوا أن يفهموا الكتاب على الوجه الصحيح. وكان ذلك أمراً طبيعياً، فكتاب "فن الشعر" يدور حول التراجيديا والملحمة، في المقام الأول، وهما لونان من التأليف الأدبي لم يكن يعرفهما العرب آنذاك. وفضلاً عن ذلك فقد كان المسرح الكلاسيكي الإغريقي والروماني) قد انقرض منذ أمد بعيد، وبالتالي فلم تعد ثمة شواهد حسية تمكن الباحثين العرب من معرفة معنى التراجيديا والكوميديا، وهكذا انصرفت أذهانهم إلى أن التراجيديا هي شعر المديح وأن الكوميديا هي شعر الهجاء. ومع ذلك فقد كان للفلاسفة العرب -ولاسيما ابن رشد- فضل تنبيه الأوربيين إلى خطورة هذا الكتاب، الذي أصبح منذ القرن السادس عشر مرشد العاملين في المسرح وفي النقد المسرحي والأدبي على السواء. بيد أن تعاليم أرسطوطاليس حول التراجيديا قد تعرضت لكثير من التحريف وسوء الفهم على يد الإيطالي لودوفيكو كاستلفيترو 1505-1571) الذي نسب إلى الفيلسوف اليوناني أفكاراً لم يقل بها قط، كزعمه -مثلاً- أن زمن التمثيل يجب أن يتطابق تماماً مع زمن الفعل action) الذي تشتمل عليه المسرحية، وأن أحداث المسرحية يجب أن تدور في مدة أقصاها اثنتا عشرة ساعة، وأن مكان الفعل ينبغي أن يكون واحداً لا يتغير. ومن هنا نشأت فكرة الوحدات الثلاث التي تمسكت بها الكلاسيكية الجديدة في فرنسا وحولتها إلى قانون ملزم لكتاب الدراما. ويبرز، على نحو خاص، في هذا الصدد اسم الشاعر والناقد الفرنسي نيكولا بوالو وقصيدته الشهيرة فن الشعر L, Art Poetique) الصادرة عام 1674، والتي نسج فيها على منوال الشاعر الروماني هوراس الذي سبقه في عرض آرائه النقدية في قالب شعري. وقد نبه بوالو، في قصيدته تلك، شعراء التراجيديا إلى ضرورة التقيد بالوحدات الثلاث وحدة الفعل، وحدة الزمن، وحدة المكان) انسجاماً مع الاعتقاد السائد بأن أرسطوطاليس وهوراس قد أوصيا بذلك، فضلاً عن أن هذا -كما اعتقد بوالو ومعاصروه- وهو ما يقتضيه منطق الطبيعة وقوانين العقل، التي كانت دستوراً يسترشد به الكلاسيكيون الفرنسيون. وقد بلغ من تمسك هؤلاء بما عرف بمبدأ الوحدات الثلاث أن فولتير، الذي اطلع على أعمال شكسبير خلال إقامته في لندن، عده كاتباً بربرياً، لأنه لم يلزم نفسه بهذا المبدأ. وقد ظلت مفاهيم الكلاسيكية الفرنسية الجديدة، التي ادعت لنفسها الحرص الشديد على وصايا أرسطوطاليس وهوراس، سائدة في المسرح الأوربي حتى أصدر الناقد الألماني الكبير غوتهولد أفرايم ليسنغ كتابه الذائع الصيت الفن المسرحي في هامبورغ فبدد به الكثير من الأوهام المتوارثة عن أرسطو وكتابه فن الشعر ووجه إلى المسرح الكلاسيكي الفرنسي-وإلى مسرح فولتير بخاصة- ضربات موجعة سرعان ما أدت إلى انهياره وظهور الدراما البورجوازية الحديثة، التي كان ليسنغ نفسه من روادها الأوائل*. والواقع أن أرسطوطاليس لم يتحدث في فن الشعر عن شيء اسمه الوحدات الثلاث بل وقف بالتحديد عند وحدة الفعل التي سنتطرق إليها في ما يلي من حديث. أما وحدة الزمان فإن سندها الوحيد إشارة عابرة، وردت في الفصل الخامس من كتابه في معرض المقارنة بين التراجيديا والملحمة. وتقول عبارة أرسطو بالحرف الواحد: "إن التراجيديا تحاول، قدر المستطاع، أن تقيد نفسها بدورة شمسية واحدة، أو أن تتجاوز هذا الحد تجاوزاً طفيفاً"(1) . وواضح من هذه العبارة أن الفيلسوف اليوناني لم يصغ قانوناً يلزم كتاب الدراما بحدود زمنية معينة، وإنما أشار إلى لمحة من ملامح المسرح التراجيدي الإغريقي. وستغدو هذه الإشارة مفهومة إذا وضعنا في حسابنا أن التراجيديا الإغريقية كانت تؤلف، في العادة، حلقة واحدة من ثلاثية ذات موضوع عام واحد. وبالتالي فهي تشبه أن تكون فصلاً من مسرحية ذات فصول ثلاثة. ومن المألوف أن تجري وقائع الفصل الواحد من المسرحية في إطار زمني ضيق. فإذا عدنا بعد ذلك إلى ما يسمى بوحدة المكان فإننا لن نجد لها أي ذكر في كتاب أرسطوطاليس، الذي نحن بصدده.
ولنعد، بعد هذه التوطئة التي طالت بعض الشيء، إلى نقطة البدء، أي إلى كتاب فن الشعر نفسه. ومن المعروف أن هذا الكتاب يركز اهتمامه، بالدرجة الأولى، على التراجيديا، ولكن أهميته في الواقع تتخطى ذلك بكثير، حتى ليمكن أن يقال، دونما تزيد، أنه أول كتاب يضع نظرية شاملة للفنون، أساسها المحاكاة والأثر السايكولوجي الخاص الذي يحدثه العمل الفني في نفس المتلقي. ولكننا لا نريد لهذا البحث أن يكون استعراضاً شاملاً لما أورده أرسطوطاليس في كتابه، فهذه غاية يصعب إدراكها في نطاق بحث محدود كهذا، وإنما يهمنا أن نقف وقفة متريثة أمام ثلاث ركائز أساسية تقوم عليها نظرية الدراما عند أرسطوطاليس، وهي: المحاكاة، الوحدة العضوية، التطهير.
مفهوم المحاكاة عند أرسطوطاليس.
تمثل المحاكاة Mimesis)- كما أسلفنا- الأساس المشترك للفنون في رأي أرسطوطاليس، فنحن نقرأ في الصفحة الأولى من كتابه هذه الفقرة: "وهكذا، فإن الشعر الملحمي والتراجيدي، وكذلك الكوميديا والشعر الديثرامبي، والجزء الأكبر من العزف على الناي والمزهر- كلها بوجه عام، ضروب من المحاكاة، تختلف فيما بينها في ثلاثة أمور: فهي تحاكي إما بوسائل مختلفة، أو أشياء مختلفة، أو بطريقة مختلفة مغايرة"(2) .
وتنبغي الإشارة إلى أن مفهوم المحاكاة، الذي يرتبط في الأذهان بأرسطوطاليس، ليس من ابتداعه في الواقع، فقد سبقه أستاذه أفلاطون إلى اعتبار الشعر والفنون التشكيلية ضروباً من المحاكاة للطبيعة والواقع المادي. وكان هذا، في نظر أفلاطون، مدعاة لاحتقار الفنون، فالواقع الذي ندركه بالحواس لا يعدو، في رأيه، أن يكون صورة باهتة لعالم المثل الأزلي الذي يدرك بالعقل. وبالتالي فإن الفنون ليست إلا محاكاة لمحاكاة، وهذا ما يجعلها بعيدة عن الحقيقة بثلاث درجات. فلا عجب إذا كان أفلاطون قد أوصد أبواب جمهوريته الفاضلة في أوجه الشعراء وأشبعهم تقريعاً في الفصل العاشر من كتاب الجمهورية، وإن كان قد جنح بعد ذلك إلى شيء من التساهل معهم في كتاب القوانين. ويميل الباحثون، بوجه عام، إلى الاعتقاد بأن ما كتبه أرسطوطاليس عن المحاكاة وعن مكانة الشعر وبقية الفنون بين ضروب النشاط العقلي المختلفة إنما هو رد غير مباشر على آراء أفلاطون هذه. فالمحاكاة عند أرسطوطاليس ليست مثلبة للشاعر أو الفنان، لأن الناس ميالون بطبيعتهم إلى محاكاة الآخرين، وهم يستمتعون برؤية الأشياء المحكية حتى لو كانت هذه الأشياء بحد ذاتها لا تسر الناظر، كالحيوانات المقززة أو جثث الموتى(3) . وفوق ذلك فإن المحاكاة تعود على الإنسان بالمعرفة، والمعرفة لا تسر الفلاسفة وحدهم، بل الناس بوجه عام. على أن الأهم من ذلك كله أن المحاكاة، عند أرسطوطاليس، لا تعني النقل الحرفي للطبيعة والواقع الملموس، فالفن ليس مجرد مرآة تعكس الأشياء بصورة آلية، خالية من الإبداع، كما يزعم أفلاطون في جمهوريته، لأن للفنانين-ومنهم الشعراء بالطبع- طرائق مختلفة في المحاكاة، كما يفهم من الفقرة التي أثبتناها آنفاً. ويتوقف أرسطوطاليس عند هذه النقطة في الفصل الثاني من كتابه، موضحاً أن الاختلاف في طرق المحاكاة يتجلّى، لا في الشعر والرسم وحسب، بل حتى في الرقص وفي العزف على الشبابة والمزهر. على أن أبعاد نظرية المحاكاة عند أرسطوطاليس تتكشف، بنحو خاص، في المقارنة الشهيرة التي أجراها بين الشعر والتأريخ، ففي الفصل التاسع من فن الشعر يقول ما نصه: "يتضح مما قيل كذلك أن مهمة الشاعر أن يتحدث لا عما وقع بالفعل، بل عما يمكن أن يقع، أي عما هو ممكن بمقتضى الاحتمال أو الضرورة. فالشاعر والمؤرخ يختلفان لا في أنهما يتحدثان بكلام موزون أو منثور، إذ أن مؤلف "هيرودوت" يمكن أن يصاغ في أبيات موزونة، ولكنه سيظل تأريخاً ما، سواء أكان منظوماً أو منثوراً. إنما الفرق في أن الأول يتحدث عن أشياء وقعت بالفعل، أما الثاني فعن أشياء كان يمكن أن تقع. ولهذا فإن الشعر أدنى إلى الفلسفة وأخطر شأناً من التاريخ، فالشعر يتحدث، في الغالب، عن الكلي، أما التأريخ فعن الجزئي"(4) .
ومدلول هذه الفقرة مما لا يحتمل اللبس، فمهمة الشاعر أن يتحدث لا عما وقع بالفعل، بل عما يمكن أن يقع. وبعبارة أخرى، فإن مهمة الشاعر لا تنحصر في نقل الواقع العياني نقلاً حرفياً، مثلما تعكس المرآة الصور، بل هي بناء واقع جديد، ممكن التحقق، استناداً إلى المبادئ الكلية التي تحكم الطبيعة والسلوك البشري. من هنا كان الشعر أوثق ارتباطاً بالفلسفة من التأريخ، فالتراجيديا-التي بنى عليها الفيلسوف اليوناني تصوراته -لا تعنى بالتفاصيل والجزئيات لذاتها، وإنما تتخذ منها معبراً إلى ما هو كلي شامل، كصراع الإنسان مع القدر- كما في أوديب الملك- أو تحديه لمشيئة الآلهة- كما في برومثيوس المقيد. ومن السذاجة أن يتوهم أحد أن سوفوكليس واسخيلوس قد صورا في هاتين المسرحيتين وقائع عايشاها بأنفسهما ونقلاها إلى القارئ -أو المتفرج- بدقة وأمانة.
ولابد لنا، قبل أن ننتقل إلى النقطة التالية من حديثنا، من أن نتوقف عند كلمة mimesis الإغريقية، التي جرت العادة بترجمتها إلى "محاكاة" بالعربية و imitation بالإنجليزية وما يماثل هذه وتلك في اللغات الأخرى. والواقع أن كلمة mimesis، كما يصر كثير من الباحثين، لا تؤدي هذا المعنى بالضبط، فالفيلسوف الإيطالي المعروف بنديتو كروتشه يذهب إلى أنها تعني شيئاً وسطاً بين المحاكاة والتصوير(5) ، بينما يرى وولتر كاوفمان، وهو فيلسوف أمريكي معاصر، أن كلتا المفردتين لا تؤديان المعنى المقصود بدقة، وإن كانت كلمة تصوير تلائم بعض المواضع في فن الشعر أكثر من كلمة محاكاة. ولكاوفمان منطقه السديد في هذا الصدد، فهو يتساءل: "حتى لو سلمنا بالفرضية القائلة بأن الملحمة والتراجيديا والكوميديا "تحاكي" شيئاً ما- فماذا يحاكي الشعر الديثرامبي؟ وماذا يحاكي الجزء الأكبر من موسيقى الناي والمزهر"؟(6) . ولنا أن نضيف إلى تساؤلات كاوفمان أن أرسطوطاليس لا يكتفي بإدراج الموسيقى في عداد الفنون المحاكية بل يؤكد في الفصل الثامن من كتاب السياسة أنها أقدر الفنون جميعاً على المحاكاة!
ولعل في ما أوردناه ما يكفي للتدليل على أن أرسطوطاليس لا يستخدم كلمة mimesis دوما بالمعنى الذي قصد إليه أفلاطون. وقد نكون أقرب إلى فهمه إذا ترجمنا هذه المفردة في معظم السياقات التي وردت فيها إلى "تقديم صور عن الحياة" representations of life)- كما يقترح هاملتون فايف، وهو واحد ممن ترجموا كتاب فن الشعر إلى الإنجليزية. وإذ نفهم كلمة mimesis على هذا الوجه يتضح لنا السبب الذي جعل بعض المفكرين المعاصرين، ومنهم الفيلسوف الألماني هانس غ. غادامير، يطالبون برد الاعتبار إلى هذا المصطلح وإعادة إدراجه في المعجم النقدي، الذي أقصي عنه منذ أواخر القرن الثامن عشر.(7) .
2- مفهوم الوحدة العضوية عند أرسطوطاليس.
يؤلف مفهوم وحدة العمل الفني- أو الوحدة العضوية، كما يسميها النقاد المعاصرون- حجر الزاوية في فلسفة أرسطوطاليس الجمالية. وترينا القراءة المدققة للفصل الثامن من كتاب فن الشعر أن هذا المبدأ لا يخص التراجيديا وحدها، بل يتعداها إلى سائر الفنون المحاكية الأخرى. فالعمل الفني الواحد، أو المحاكاة الواحدة- كما يقول الفيلسوف- إنما تكون لشيء واحد، ولهذا وجب أن تكون موحدة، متكاملة. وبقدر ما يتعلق الأمر بالتراجيديا ونستطيع هنا أن نعمم فنقول، الدراما بوجه عام) فإنها محاكاة لفعل. وطبقاً للمبدأ المذكور، يجب أن يكون هذا الفعل موحداً، متكاملاً، وأن ترتب أجزاؤه أو تبنى حبكته) على نحو يجعل تغيير أحد الأجزاء أو حذفه سبباً في تغيير الكل وتخلخله. لأنه ما لا يؤدي حضوره أو غيابه إلى اختلاف ملموس لا يعد جزءاً من الكل.
ولكن... متى تكون الحبكة موحدة؟
يجيبنا أرسطوطاليس عن هذا السؤال في الفصل الثامن من كتابه بقوله: "تكون الحبكة موحدة، لا عندما تتعلق بشخص واحد، كما يظن البعض، فالشخص الواحد قد تحدث له أمور كثيرة، لا حصر لها، [ولكنها] لا تؤلف أي وحدة. كذلك يمكن أن يقوم الشخص الواحد بأفعال كثيرة دون أن ينتج عنها فعل واحد متكامل. ولهذا، كما يبدو، أخطأ جميع أولئك الشعراء الذين نظموا "الهيرقليدا"( و"الثيسيدا"(9) وغيرهما من القصائد المماثلة، ظناً منهم بأنه ما دام هرقل واحداً وجب أن تكون الحبكة موحدة كذلك.
"ولكن هوميروس، الذي يتفوق في نواح كثيرة أخرى، قد أدرك هذا الأمر كذلك إدراكاً جيداً، على ما يبدو، سواء بفضل البراعة أو بفضل الموهبة. فعندما ألف "الاوذيسية" لم يصور كل ما وقع للبطل- كإصابته بجرح في اليارناس(10) ، أو تظاهره بالجنون عند احتشاد الجيوش، لأن أياً من هاتين [الحادثتين] لا تقع بالضرورة أو على سبيل الاحتمال عند وقوع الأخرى- وإنما بنى الاوذيسية على الفعل الواحد، الذي نتحدث عنه، وكذلك فعل في الإلياذة".(11)
ولكي نستكمل مستلزمات الحبكة الدرامية عند أرسطوطاليس ونقف على مدى أهميتها بالقياس إلى العناصر الأخرى في التأليف الدرامي، نجد من الضروري أن نعود عودة قصيرة إلى الفصل السابع من فن الشعر، حيث يشير الفيلسوف إلى أن ترتيب الأحداث-أي الحبكة- هو العنصر الأول والأهم في التراجيديا، مضيفاً أن التراجيديا هي محاكاة لفعل كلي تام، وأن الكلي هو ما يتألف من بداية ووسط وختام.
يتضح مما تقدم أن أرسطوطاليس يضع الحبكة في المرتبة الأولى بين عناصر العمل الدرامي، وهو يشترط في الحبكة الدرامية أن تقوم على فعل تام مترابط، تتعاقب أجزاؤه على نحو يجعل من الواقعة السابقة سبباً أو تمهيداً للواقعة التي تليها. وهذا بالضبط ما يعنيه مصطلح وحدة الفعل الذي يسيء البعض فهمه فيترجمونه بوحدة الحدث، على ما بين تلك وهذه من اختلاف بيّن.
ولوحدة الفعل في الدراما ما يقابلها في الفنون المحاكية الأخرى فالوحدة شرط لابد منه لكل عمل فني. على أن هذه الوحدة لا ينبغي بالضرورة أن تكون وحدة فعل، فالفنون لا تحاكي الأفعال وحدها، بل تحاكي المشاعر والانطباعات والأفكار والأخيلة كذلك. والمهم أن يؤلف العمل الفني، أياً كان نوعه، بنية تامة مترابطة، تذكرنا بترابط أعضاء الجسد الحي، ومن هنا جاء مصطلح الوحدة العضوية الذي يستخدمه النقد المعاصر. وقد ترك لنا مؤلف فن الشعر مقياساً بالغ الدقة لمدى تحقق الوحدة في العمل الفني حين قال: "إن ما لا يؤدي حضوره أو غيابه إلى اختلاف ملموس لا يعد جزءاً من الكل".(12)
3. مفهوم التطهير عند أرسطوطاليس.
في الفصل السادس من فن الشعر يقدم لنا أرسطوطاليس تعريفه الشهير التالي للتراجيديا:
... وهكذا فإن التراجيديا هي محاكاة لفعل جدي(13) ، تام، ذي حجم معين، بلغة محسنة، تختلف باختلاف الأجزاء، وهي محاكاة بالفعل لا بالسرد، تحدث من خلال الرثاء والخوف تطهيراً من المشاعر المماثلة.(14)
وتكمن أهمية هذا التعريف، الذي نقله المترجمون إلى اللغات الأخرى على أوجه متعددة، في أمرين أساسيين: أولهما أنه حدد خصوصية الفن الدرامي بأنه محاكاة بالفعل لا بالسرد، وذلك تمييزاً له عن الفنون الأدبية الأخرى، كالملحمة والشعر الغنائي. وثانيها أنه اشتمل، لأول مرة في تاريخ النقد الأدبي والفني، على تفسير سايكولوجي للأثر الذي يحدثه الفن التراجيدي عند المتلقي، وذلك في حديثه عن الرثاء والخوف اللذين تثيرهما التراجيديا في النفوس وما يعقب ذلك من تطهير. وقد شغلت فكرة التطهير الأرسطوطاليسية هذه والسياق الغامض الذي وردت فيه اهتمام الباحثين لقرون مديدة، ولا سيما منذ أواخر عصر النهضة الأوربية، وذهبوا في تفسيرها مذاهب مختلفة. وكان الشاعر الألماني الكبير غوته أحد الذين أدلوا بدلوهم في هذا الموضوع. ويتلخص رأي غوته في أن التطهير يراد به الذروة الحاسمة، الضرورية لكل دراما ولجميع النتاجات الشعرية في الواقع.(15) ويمضي غوته في تفسير رأيه قائلاً: إذا كان الشاعر قد قام، من جانبه، بمهمته، بأن أثار قضايا مهمة وحسمها على نحو مقبول، فإن أفكاراً مماثلة [لأفكاره] ستخطر للمتفرج في هذه الحالة.(16) .
وكان الفيلسوف الإيطالي كروتشه ممن تطرقوا إلى فكرة التطهير ولكنه لم يتوقف عندها طويلاً، بل اكتفى بقوله: "لا يمكننا أن ننكر بالمرة أنه أي أرسطوطاليس) يمكن أن يكون قد استشف شيئاً من الفكرة الحديثة حول ما للفن من طاقة تحريرية."(17) وهذا رأي لا يخلو من الاستعلاء المألوف في كتابات كروتشه.
ويخرج علينا الباحث البلغاري الكسندر نيتشيف برأي آخر، خلاصته أن المتفرج يتعاطف مع الأبطال التراجيديين ويعتريه الخوف على مصائرهم لأنه يتوهم في بداية الأمر أنهم أبرياء لا يستحقون المصير الذي ينتظرهم، ولكن الفعل التراجيدي يتطور باستمرار ليكتشف في النهاية، بما لا يقبل التأويل، أن الأبطال مذنبون وأن المشاعر الإيجابية التي أحسها المشاهد حيالهم لا ترتكز إلى أساس. وهنا تحدث لحظة التطهير، أي لحظة التحرر من الرثاء والخوف. ويدعم الدكتور نيتشيف رأيه هذا بشواهد عديدة يستمدها من كتاب فن الشعر نفسه، ولا سيما ما ورد في الفصل الثالث عشر من الكتاب حول الغلطة التراجيدية للبطل.(18) ولكن رغم كل الشواهد التي يوردها نيتشيف فإن تفسيره لفكرة التطهير يبدو غير مقبول، إذ ما من أحد، حتى أرسطوطاليس نفسه، يمكن أن يوافق على أن أوديب، الذي كتب عليه مصيره الفاجع حتى قبل ولادته، أو انتيغونا التي رفضت أن تترك جثة أخيها القتيل مرمية في العراء، قد نالا العقاب الذي يستحقانه وأن تعاطفنا معهما يقوم على تصورات خاطئة. وليس لدينا ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن سوفوكليس قد قصد إلى هذه الغاية.
ولعل أصدق التفاسير التي قدمها المعاصرون وأقربها إلى وظيفة الفن الأساسية هو رأي الأمريكي وليم كاوفمان الذي يقول: "عندما تفصح المعاناة عن نفسها في شعر رائع يتملكنا إحساس بالتحرر، لأن حزننا الأخرس، والمبهم إلى أقصى الحدود، يجد تعبيره ويحلق بجناحين."(19)
ونحن مياليون إلى الأخذ بهذا التفسير، لأن التراجيديا الإغريقية، التي استنبط أرسطوطاليس منها أحكامه، تستثير تلك المشاعر الأليمة الكامنة وراء تخوم الوعي، والتي ينطوي عليها كل البشر. والتراجيديا الإغريقية عميقة في واقعيتها، رغم قشرتها الميثولوجية الخارجية، ذلك أنها تستمد موضوعاتها من المعاناة والمحن الإنسانية الأزلية، كالتحول المفاجئ من السعادة إلى الشقاء، وكفاح الإنسان من أجل تفادي ما تجيء به الأقدار، وصراعه المأساوي مع القوى الغاشمة التي تتحكم في مصيره، وبطلان المجد الدنيوي وغير ذلك من الامتحانات القاسية التي لازمت الإنسان عبر تاريخه. وقلق المرء إزاء هذه المحن المحتملة، أو المؤكدة، هو جزء من الحياة الداخلية العميقة لجميع الناس، وإن كان انشغالهم بهمومهم اليومية الصغيرة قد ينسيهم، في الغالب، الطابع المأساوي لحياتهم. لكنهم حين يشاهدون عرضاً تراجيدياً فإنهم يجدون في كلمات الشاعر تعبيراً بليغاً عن أحزانهم ومخاوفهم المكبوتة الخرساء. وهم بتعاطفهم مع البطل التراجيدي وخوفهم على مصيره إنما يتيحون لهذه الأحزان والمخاوف الكامنة في أعماقهم فرصة الإفصاح عن نفسها، وبذلك يتحرون منه مؤقتاً، وهذا ما يعنيه أرسطوطاليس بكلمة التطهير Catharsis).
وثمة تفسير آخر قد يساعدنا على فهم ما عناه الفيلسوف اليوناني بالتطهير. فالمشاهد الذي غادر المسرح لتوه بعد أن حضر مسرحية تراجيدية سرعان ما يثوب إلى نفسه ويفطن إلى أن الأحداث المأساوية، التي عايشها وشارك فيها بتعاطفه وخوفه، ليست في الواقع سوى أحداث متخيلة لا تمس سلامته الشخصية. وإذا كان مقدراً له أن يواجه في حياته شيئاً مما رآه في المسرح فهذا أمر بعيد، ونحن- كما يقول أرسطوطاليس نفسه في الفصل الثاني من كتاب الخطابة- لا نخاف الأمور البعيدة جداً، فجميعنا نعلم أننا سنموت، ولكن لأن هذا ليس قريباً فإننا لا نخافه.(20) وهذا كله مدعاة للشعور بالتحرر والارتياح.
وما دمنا نتحدث عن تضارب الآراء حول التطهير الأرسطوطاليسي فمن المناسب أن نشير إلى أن أكثر الباحثين الذين تصدوا لهذه المشكلة لم يفطنوا إلى أن أرسطوطاليس قد تطرق إلى مفهوم التطهير بمزيد من الإسهاب والوضوح في كتاب السياسة، وذلك في معرض حديثه عن وظائف الموسيقى وأثرها في السامعين. وقد نواجه هنا اعتراضاً يقول، إن أثر الموسيقى في النفوس يختلف عن أثر التراجيديا، وبالتالي فإن التطهير الذي ينجم عن سماعها هو شيء آخر غير التطهير التراجيدي. غير أننا نستشف من كتاب السياسة أن الأمر واحد في الحالتين، فالمؤلف يعدنا في الفصل الثامن من الكتاب المذكور بأنه سيتناول موضوع التطهير بمزيد التفصيل في كتابه عن فن الشعر. ولا ندري هل نسي أرسطوطاليس ما وعد به، أم أنه لم يجد شيئاً جديداً يضيفه إلى ما قاله في كتاب السياسة، فهو -كما لاحظنا- لم يشر في فن الشعر إلى التطهير إلا إشارة عابرة، غامضة، حار فيها المفسرون. ولنعد الآن لنقرأ ما كتبه الفيلسوف في السياسة حول تأثير الموسيقى والتطهير الذي ينجم عنه:
"إن العواطف التي تؤثر بقوة في بعض النفوس موجودة لدى الجميع بدرجات متفاوتة، كالرثاء eleos) والخوف phobos) مثلاً، وكذلك النشوة. وبعض الناس يستجيبون لهذه الأخيرة بوجه خاص، فنحن نراهم يهدأون تحت تأثير الموسيقى والأناشيد الدينية، التي تدفع النفوس إلى الجنون، كما لو كانوا قد عولجوا طبياً وتطهروا Katharseos). ولابد أن الناس الميالين إلى الشعور بالرثاء والخوف، والناس العاطفيين إجمالاً، وغيرهم ممن تخامرهم عواطف مماثلة، يتأثرون بالطريقة نفسها. فهم جميعاً لابد أن يحسوا بتطهير catharsis) وبارتياح ممتع.(21)
ويمكننا أن نخرج من هذا النص باستنتاجات عديدة، أولها أن التطهير-على رأي أرسطوطاليس- ليس وقفاً على التراجيديا وحدها، فالموسيقى تحدث بدورها تأثيراً مماثلاً في المتلقي. وقد يصدق هذا على فنون أخرى، وإن يكن الفيلسوف لم يشر إلى ذلك. وثانيها أن الناس جميعاً ينطوون على مشاعر مؤلمة، بدرجة أو أخرى، ولكن العاطفيين منهم هم الأقدر على الإحساس بما يحققه الفن للمتلقي من تطهير نفسي. وأخيراً فإن تطهير النفس مما تراكم فيها من حزن ومخاوف يفضي إلى ارتياح ممتع، وهو ما نسميه في لغة النقد المعاصر بالمتعة الجمالية aesthetical pleasurre).
ولا نريد أن نغادر موضوعنا هذا قبل أن نشير إلى أن أرسطوطاليس لم يكن أول من اكتشف قدرة الفن على تطهير النفس مما يشوبها، وإن يكن له فضل الصياغة النظرية لهذه الفكرة. فقد روى الأقدمون أن فيثاغورس القرن السادس قبل الميلاد) كان يؤمن بما للفنون من قدرة على إعادة التوازن النفسي، وكان يستعين بالموسيقى والرقص وبأشعار هوميروس وهسيود لبلوغ هذه الغاية.(22)
صنعاء 1998
* قام الدكتور شكري عياد بتحقيق ترجمة القنائي ونشرها واضعاً إزاءها ترجمة حديثة للنص الأرسطي عن اليونانية القديمة. كما نشر الدكتور عياد شروح ابن سينا وابن رشد للنص.
* أصدر "ليسنغ" كتابه بادئ الأمر بشكل نشرات أسبوعية، تابع فها عروض المسرح القومي في هامبورغ عامي 68- 1769.
(1) Aristotle, poetics, Trans By S.H. Butcher, chapter 5.
(2) ترجمنا هذه الفقرة عن الترجمة البلغارية لكتاب "فن الشعر" التي قام بها الأستاذ الكسندر نيتشيف عن النص اليوناني القديم، ط2، 1993.
(3) انظر الفصل الرابع من كتاب "فن الشعر" لأرسطوطاليس.
(4) ترجمنا هذه الفقرة عن ترجمة البروفسور أ. نيتشيف، التي سبقت الإشارة إليها.
(5) انظر: B. Croce, Aesthetic, Nonpareil Books, Boston, 1978, p. 157.
(6) انظر: Walter Kaufmann, Tragedy and philosophy, 3rd edition, princeton, New jersy, 1992, p37.
(7) انظر: peter J.Mc Comick, Modernity, Aesthetics and the Bounds of art, Ithaca and London, 1990, p17.
( قصيدة عن مآثر البطل الأسطوري الإغريقي هرقل.
(9) قصيدة عن مآثر البطل الأسطوري الإغريقي ثيسيوس.
(10) الواقع أن هوميروس ذكر هذه الحادثة في النشيد التاسع عشر من "الاوذيسية" خلافاً لما ذهب إليه أرسطوطاليس.
(11) فن الشعر، الفصل الثامن، ترجمة البروفسور آ. نيتشيف.
(12) انظر الفصل الثامن من كتاب "فن الشعر" لأرسطوطاليس.
(13) لابد أن كلمة "جدي" قد وردت هنا تمييزاً للتراجيديا عن الكوميديا، وبالتالي فنحن نختلف مع أولئك الذين ترجموها إلى "فعل جليل" أو ما يدخل في هذا المعنى.
(14) عن ترجمة أ. نيتيشيف، التي سبقت الإشارة إليها.
(15) انظر: Goethe, Supplement to Aristotle,s poeties- Tarnslated by E. L. Wenning the Great critics, p 840).
(16) المصدر نفسه، ص 841.
(17) انظر B. Groce, Aesthetic, P. 161.
(18) الكسندر نيتشيف، مقدمة الترجمة البلغارية لكتاب "فن الشعر"، ص130- 131.
(19) انظر: W. Kaufmann, Tragedy and philosophy, p. 51.
(20) أرسطوطاليس، الخطابة، الفصل الثاني الترجمة البلغارية لألكسندر نيتشيف، صوفيا، 1993).
(21) G. M. A. Grube, on poetry and Style, 15 f, New York, 1958.
(22) انظر: شوامخ الفكر الجمالي العالمي، الترجمة البلغارية بقلم أ. غينيفا، ص75-
http://www.iraqalkalema.com/article.php?id=4483
الجمعة أبريل 18, 2014 6:49 am من طرف viva star
» مناهج النقد الأدبي . مترجم.rar
الخميس أبريل 17, 2014 5:01 pm من طرف viva star
» مصطلحات توليدية
السبت فبراير 08, 2014 2:55 pm من طرف رعاش وليد
» ارجو المساعدة
الجمعة يناير 10, 2014 2:10 am من طرف مريم عبد الرحمان
» مساعدة عاجلة جداااااااااا
الثلاثاء يناير 07, 2014 6:53 am من طرف مريم عبد الرحمان
» كتب في علم الدلالة
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:35 pm من طرف safih
» عرض حول معجم المقاييس لابن فارس
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:15 pm من طرف safih
» المعجم الالكتروني
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:06 pm من طرف safih
» تشغيل الجزيرة الرياضية بالشرينغ
الثلاثاء نوفمبر 12, 2013 11:29 am من طرف safih