الرواة وانتحال الشعر
فإذا فرغنا من هذه الأسباب العامة التي كانت تحمل الأنتحال والتي تتصل بظروف الحياة السياسية والدينية والفنية للمسلمين فلن نفرغ من كل شيء ، بل نحن مضطرون إلى أن نقف وقفات قصيرة عند طائفة أخرى من الأسباب ، ليست من العموم والاطراد بمنزلة الأسباب المتقدّمة . ولكنها ليست أقل منها تأثيراً في حياة الأدب العربيّ القديم ، وحثاًّ على تحميل الجاهليين ما لم يقولوا من الشعر والنثر . أريد بها هذه الأسباب التي تتصل بأشخاص أولئك الذين نقلوا إلينا أدب العرب ودوّنوه . وهؤلاء الأشخاص الرواة . وهم بين اثنتين : إما أن يكونوا من العرب ، فهم متأثرون بما كان يتأثر به العرب . وإما أن يكونوا من الموالي ، فهم متأثرون بما كان يتأثر به الموالي من تلك الأسباب العامة . وهم على تأثرهم بهذه الأسباب العامة متأثرون بأشياء أخرى هي التي أريد أن أقف عندها وقفات قصيرة كما قلت .
ولعل أهمّ هذه المؤثرات التي عبثت بالأدب العربيّ وجعلت حظه من الهزل عظيماً : مجون الرواة وإسرافهم في اللهو والعبث وإنصرافهم عن أصول الدين وقواعد الأخلاق إلى ما يأباه وتنكره الأخلاق .
ولعلى لا أحتاج بعد الذي كتبته مفصلاً في الجزء الأوّل من "حديث الأربعاء" إلى أن أطيل في وصف ما كان فيه هؤلاء الناس من اللهو والمجون . ولست أذكر هنا إلا اثنتين إذا ذكرتهما فقد ذكرت الرواية كلها والرواة جميعاً : فأما أحدهما فحَمَّاد الراوية . وأما الآخر فخَلَف الأحمر .
كان حماد الراوية زعيم أهل الكوفة في الرواية والحفظ . وكان خلف الأحمر زعيم أهل البصرة في الرواية والحفظ أيضاً . وكان كلا الرجلين مسرفاً على نفسه ليس له حظ من دين ولا خلق ولا احتشام ولا وقار . كان كلا الرجلين سكيراً فاسقاً مستهتراً بالخمر والفسق . وكان كلا الرجلين صاحب شك ودعابة ومجون .
فأما حماد فقد كان صديقاً لحمّاد عجْرد وحمّاد الزبرقان ومُطِيع ابن إيَاس . وكلهم أسرف فيما لا يليق بالرجل الكريم الوقور . وأما خلف فكان صديقاً لوالبة بن الحُبَاب وأستاذاً لأبى نُوّاس . وكان هؤلاء الناس جميعاً في أمصار العراق الثلاثة مظهر الدعابة والخلاعة ؛ ليس منهم إلا من أتهم في دينه ورمي بالزندقة ، يتفق على ذلك الناس جميعاً : لا يصفهم أحد بخير ، ولا يزعم لهم أحد صلاحا في دين أو دنيا .
وأهل الكوفة مجمعون على أن أستاذهم في الرواية حمّاد ، عنه أخذوا ما أخذوا من شعر العرب . وأهل البصرة مجمعون على أن أستاذهم في الرواية خلف ، عنه أخذوا ما أخذوا من شعر العرب أيضاً . وأهل الكوفة والبصرة مجمعون على تجريح الرجلين في دينهما وخُلُقهما ومروءتهما . وهم مجمعون على أنهما لم يكونا يحفظان الشعر ويحسنان روايته ليس غير ، وإنما كانا شاعرين مجيدين يصلان من التقليد والمهارة فيه إلى حيث لا يستطيع أحد أن يميز بين ما يرويان وما ينتحلان .
فأما حماد فيحدّثنا عنه رواية من خيرة الرواة الكوفة هو المُفَضَّل الضّبّيّ أنه قد أفسد الشعر إفساداً لا يصلح بعده أبداً ؛ فلما سئل عن سبب ذلك ألحنُ أم خطأ ؟ قال : ليته كان كذلك ، فإن أهل العلم يردّون من أخطأ إلى الصواب ، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعاينتهم ، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره ويحمل ذلك عنه في الآفاق ، فختلط أشعار القدماء ، ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد ، وأين ذلك ؟
ويحدّثنا محمد بن سلاّم أنه دخل على بِلاَل بن أبى بُرْدة بن أبي موسى الأشعري ، فقال له بلال : ما أطرفتني شيئاً ؛ فغدا عليه حماد فأنشده قصيدة للحطيئة في مدح أبي موسى ؛ قال بلال : ويحك يمدح الحطيئة أبا موسى ولا أعرف ذلك ، وأنا أروي شعر الحطيئة ! ولكن دعها تذهب في الناس ؛ وقد تركها حماد فذهبت في الناس وهي في ديوان الحطيئة . والرواة انفسهم يختلفون ، فمنهم من يزعم أن الحطيئة قالها حقاً .
وكان يونس بن حبيب يقول : العجب لمن يروي عن حمّاد ، كان يكسر ويلحن ويكذب . وثبت كذب حماد في الرواية للمهدي ؛ فأمر حاجبه فأعان في الناس أنه يبطل رواية حماد .
وفي الحق أن حمادا كان يسرف في الرواية والتكثر منها . وأخباره في ذلك لا يكاد يصدّقها أحد ، فلم يكن يسال عن شيء إلا عرفه . وقد زعم للوليد بن يزيد أنه يستطيع أن يروي على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة لمن لم يعرفهم من الشعراء . قالوا وأمتحنه الوليد حتى ضجر فوكل به من أتم إمتحانه ثم أجازه .
وأما خلف فكـلام الناس في كذبه كثير . وأبن سلام ينبئناً بأنه كان أفرس الناس بيت الشعر . ويتحدّثون أنه وضع لأهل الكوفة ما شاء الله أن يضع لهم ، ثم نسك في آخر أيامه فأنبأ أهل الكوفة بما كان قد وضع لهم من الشعر ؛ فأبوا تصديقه . وأعترف هو للأصمعي بأنه وضع غير قصيدة . ويزعمون أنه وضع لاميّة العرب على الشَّنْفَرَى ، ولاميّة أخرى على تأبَّطَ شراًّ رويت في الحماسة .
وهناك رواية كوفيّ لم يكن أقل حظا من صاحبيه هذين في الكذب والانتحال . كان يجمع شعر القبائل حتى إذا جمع شعر قبيلة كتب مصحفاً بخطه ووضعه في مسجد الكوفة . ويقول خصومه : إنه كان ثقة لولا إسرافه في شرب الخمر ، وهو أبو عمرو الشيباني . ويقولون : إنه جمع شعر سبعين قبيلة .
وأكبر الظن أنه كان يأجر نفسه للقبائل يجمع واحدة منها شعراً يضيفه إلى شعرائها . وليس هذا غريباً في تاريخ الأدب ، فقد كان مثله كثيراً في تاريخ الأدب اليوناني والروماني .
وإذا فسدت مروءة الرواة كما فسدت مروءة حماد وخلف وأبى عمرو الشيباني ، وإذا أحاطت بهم ظروف مختلفة تحملهم على الكذب والانتحال ككسب المال والتقرّب إلى الأشراف والأمراء والظهور على الخصوم والمنافسين ونكاية العرب ــــ نقول : إذا فسدت مروءة هؤلاء الرواة وأحاطت بهم مثل هذه الظروف ، كان من الحق علينا ألا نقبل مطمئنين ما ينقلون إلينا من شعر القدماء .
والعجب أن الرواة لم تفسد مروءتهم ولم يُعرفوا بفسق ولا مجون ولا شعوبية قد كذبوا أيضاً وانتحلوا . فأبو عمرو بن العَلاَء يعترف بأنه وضع على الأعشى بيتاً :
وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا
ويعترف الأصمعي بشيء يشبه ذلك .
ويقول اللاحقي إن سيبويـه سأله عن إعمال العرب " فَعِلاَ " ، فوضع له هذا البيت :
حَذِرُ أمورا لا تَضِيرُ وآمنُ ما ليس ينجيـه من الأقــدار
ومثل هذا كثير .
وهناك طائفة من الرواة غير هؤلاء ليس من شك في أنهم كانوا يتخذون الانتحال في الشعر واللغة وسيلة من وسائل الكسب . وكانوا يفعلون ذلك في شيء من السخرية والعبث ، نريد بهم هؤلاء الأعراب الذين كان يرتحل إليهم في البادية رواة الأمصار يسألونهم عن الشعر والغريب . فليس من شك عند من يعرف أخلاق الأعراب في أن هؤلاء الناس حين رأوا إلحاح أهل الأمصار عليهم في طلب الشعر والغريب وعنايتهم بما كانوا يلقون إليهم منهما ، قدّروا بضاعتهم وأستكثروا منها . ثم لم يلبثوا أن أحسوا أزدياد حرص الأمصار على هذه البضاعة ، فحدّوا في تجارتهم وأبوا أن يظلوا في باديتهم ينتظرون رواة الأمصار . ولم لا يتولون هم إصدار بضاعتهم بأنفسهم؟ ولم لا يهبطون إلى الأمصار يحملون الشعر والغريب والنوادر إلى الرواة فيريحونهم من الرحلة ومشاق السفر ونفقاته ، ويحدثون التنافس بينهم ، ويفيدون من ذلك ما لم يكونوا يفيدون حين لم يكن يقتحم الصحارى إليهم إلا رجل كالأصمعي أو أبي عمرو بن العلاء؟ وكذلك فعلوا : إنحدروا إلى الأمصار في العراق خاصة وكثر أزدحام الرواة حولهم فنَفَقت بضاعتهم ، وأنت تعلم أن نَفاق البضاعة أدعى إلى الإنتاج ؛ فأخذ هؤلاء الأعراب يكذبون وأسرفوا في الكذب ، حتى أحس الرواة أنفسهم ذلك . فالأصمعيّ يحدثنا عن أحد هؤلاء الأعراب ، وأسمه أبو ضمضم ، أنه أنشد لمائة شاعر أو ثمانين شاعرا كلهم يسمى عمرا ؛ قال الأصمعي : فعددت أنا وخلف الأحمر فلم نقدر على ثلاثين .
ويحدّثنا أبن سلاّم عن أبي عُبَيْدة أن داود بن متمم بن نويرة ورد البصرة فيما يقدم له الأعراب ، فأخذ أبو عبيدة يسأله عن شعر أبيه وكفاه حاجته ؛ فلما فرغ داود من رواية شعر أبيه وكره أن تنقطع عناية أبي عبيدة به أخذ يضع على أبيه ما لم يقل ، وعرف ذلك أبو عبيدة .
ونظن أننا قد بلغنا ما كنا نريد من إحصاء الأسباب المختلفة التي حملت على انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين ، والتي تضطرنا نحن في هذا العصر إلى أن نقف موقف الشك والأحتياط أمام هذا الشعر .
كل شيء في حياة المسلمين في القرون الثلاثة الأولى كان يدعو إلى انتحال الشعر وتلفيقه سواء في ذلك الحياة الصالحة حياة الأتقياء والبررة ، والحياة السيئة حياة الفساق وأصحاب المجون . فإذا كان الأمر على هذا النحو فهل تظن أن من الحزم والفطنة أن نقبل ما يقول القدماء في غير نقد ولا تحقيق ؟
وقد قدّمنا أن هذا الكذب والانتحال في الأدب والتاريخ لم يكونا مقصورين على العرب ، وإنما هما حظ شائع في الآداب القديمة كلها . فخير لنا أن نجتهد في تعرّف ما يمكن أن تصح إضافته إلى الجاهليين من الشعر . وسبيل ذلك أن ندرس الشعر نفسه في ألفاظه ومعانيه بعد أن درسنا ما يحيط به من الظروف .
فإذا فرغنا من هذه الأسباب العامة التي كانت تحمل الأنتحال والتي تتصل بظروف الحياة السياسية والدينية والفنية للمسلمين فلن نفرغ من كل شيء ، بل نحن مضطرون إلى أن نقف وقفات قصيرة عند طائفة أخرى من الأسباب ، ليست من العموم والاطراد بمنزلة الأسباب المتقدّمة . ولكنها ليست أقل منها تأثيراً في حياة الأدب العربيّ القديم ، وحثاًّ على تحميل الجاهليين ما لم يقولوا من الشعر والنثر . أريد بها هذه الأسباب التي تتصل بأشخاص أولئك الذين نقلوا إلينا أدب العرب ودوّنوه . وهؤلاء الأشخاص الرواة . وهم بين اثنتين : إما أن يكونوا من العرب ، فهم متأثرون بما كان يتأثر به العرب . وإما أن يكونوا من الموالي ، فهم متأثرون بما كان يتأثر به الموالي من تلك الأسباب العامة . وهم على تأثرهم بهذه الأسباب العامة متأثرون بأشياء أخرى هي التي أريد أن أقف عندها وقفات قصيرة كما قلت .
ولعل أهمّ هذه المؤثرات التي عبثت بالأدب العربيّ وجعلت حظه من الهزل عظيماً : مجون الرواة وإسرافهم في اللهو والعبث وإنصرافهم عن أصول الدين وقواعد الأخلاق إلى ما يأباه وتنكره الأخلاق .
ولعلى لا أحتاج بعد الذي كتبته مفصلاً في الجزء الأوّل من "حديث الأربعاء" إلى أن أطيل في وصف ما كان فيه هؤلاء الناس من اللهو والمجون . ولست أذكر هنا إلا اثنتين إذا ذكرتهما فقد ذكرت الرواية كلها والرواة جميعاً : فأما أحدهما فحَمَّاد الراوية . وأما الآخر فخَلَف الأحمر .
كان حماد الراوية زعيم أهل الكوفة في الرواية والحفظ . وكان خلف الأحمر زعيم أهل البصرة في الرواية والحفظ أيضاً . وكان كلا الرجلين مسرفاً على نفسه ليس له حظ من دين ولا خلق ولا احتشام ولا وقار . كان كلا الرجلين سكيراً فاسقاً مستهتراً بالخمر والفسق . وكان كلا الرجلين صاحب شك ودعابة ومجون .
فأما حماد فقد كان صديقاً لحمّاد عجْرد وحمّاد الزبرقان ومُطِيع ابن إيَاس . وكلهم أسرف فيما لا يليق بالرجل الكريم الوقور . وأما خلف فكان صديقاً لوالبة بن الحُبَاب وأستاذاً لأبى نُوّاس . وكان هؤلاء الناس جميعاً في أمصار العراق الثلاثة مظهر الدعابة والخلاعة ؛ ليس منهم إلا من أتهم في دينه ورمي بالزندقة ، يتفق على ذلك الناس جميعاً : لا يصفهم أحد بخير ، ولا يزعم لهم أحد صلاحا في دين أو دنيا .
وأهل الكوفة مجمعون على أن أستاذهم في الرواية حمّاد ، عنه أخذوا ما أخذوا من شعر العرب . وأهل البصرة مجمعون على أن أستاذهم في الرواية خلف ، عنه أخذوا ما أخذوا من شعر العرب أيضاً . وأهل الكوفة والبصرة مجمعون على تجريح الرجلين في دينهما وخُلُقهما ومروءتهما . وهم مجمعون على أنهما لم يكونا يحفظان الشعر ويحسنان روايته ليس غير ، وإنما كانا شاعرين مجيدين يصلان من التقليد والمهارة فيه إلى حيث لا يستطيع أحد أن يميز بين ما يرويان وما ينتحلان .
فأما حماد فيحدّثنا عنه رواية من خيرة الرواة الكوفة هو المُفَضَّل الضّبّيّ أنه قد أفسد الشعر إفساداً لا يصلح بعده أبداً ؛ فلما سئل عن سبب ذلك ألحنُ أم خطأ ؟ قال : ليته كان كذلك ، فإن أهل العلم يردّون من أخطأ إلى الصواب ، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعاينتهم ، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره ويحمل ذلك عنه في الآفاق ، فختلط أشعار القدماء ، ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد ، وأين ذلك ؟
ويحدّثنا محمد بن سلاّم أنه دخل على بِلاَل بن أبى بُرْدة بن أبي موسى الأشعري ، فقال له بلال : ما أطرفتني شيئاً ؛ فغدا عليه حماد فأنشده قصيدة للحطيئة في مدح أبي موسى ؛ قال بلال : ويحك يمدح الحطيئة أبا موسى ولا أعرف ذلك ، وأنا أروي شعر الحطيئة ! ولكن دعها تذهب في الناس ؛ وقد تركها حماد فذهبت في الناس وهي في ديوان الحطيئة . والرواة انفسهم يختلفون ، فمنهم من يزعم أن الحطيئة قالها حقاً .
وكان يونس بن حبيب يقول : العجب لمن يروي عن حمّاد ، كان يكسر ويلحن ويكذب . وثبت كذب حماد في الرواية للمهدي ؛ فأمر حاجبه فأعان في الناس أنه يبطل رواية حماد .
وفي الحق أن حمادا كان يسرف في الرواية والتكثر منها . وأخباره في ذلك لا يكاد يصدّقها أحد ، فلم يكن يسال عن شيء إلا عرفه . وقد زعم للوليد بن يزيد أنه يستطيع أن يروي على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة لمن لم يعرفهم من الشعراء . قالوا وأمتحنه الوليد حتى ضجر فوكل به من أتم إمتحانه ثم أجازه .
وأما خلف فكـلام الناس في كذبه كثير . وأبن سلام ينبئناً بأنه كان أفرس الناس بيت الشعر . ويتحدّثون أنه وضع لأهل الكوفة ما شاء الله أن يضع لهم ، ثم نسك في آخر أيامه فأنبأ أهل الكوفة بما كان قد وضع لهم من الشعر ؛ فأبوا تصديقه . وأعترف هو للأصمعي بأنه وضع غير قصيدة . ويزعمون أنه وضع لاميّة العرب على الشَّنْفَرَى ، ولاميّة أخرى على تأبَّطَ شراًّ رويت في الحماسة .
وهناك رواية كوفيّ لم يكن أقل حظا من صاحبيه هذين في الكذب والانتحال . كان يجمع شعر القبائل حتى إذا جمع شعر قبيلة كتب مصحفاً بخطه ووضعه في مسجد الكوفة . ويقول خصومه : إنه كان ثقة لولا إسرافه في شرب الخمر ، وهو أبو عمرو الشيباني . ويقولون : إنه جمع شعر سبعين قبيلة .
وأكبر الظن أنه كان يأجر نفسه للقبائل يجمع واحدة منها شعراً يضيفه إلى شعرائها . وليس هذا غريباً في تاريخ الأدب ، فقد كان مثله كثيراً في تاريخ الأدب اليوناني والروماني .
وإذا فسدت مروءة الرواة كما فسدت مروءة حماد وخلف وأبى عمرو الشيباني ، وإذا أحاطت بهم ظروف مختلفة تحملهم على الكذب والانتحال ككسب المال والتقرّب إلى الأشراف والأمراء والظهور على الخصوم والمنافسين ونكاية العرب ــــ نقول : إذا فسدت مروءة هؤلاء الرواة وأحاطت بهم مثل هذه الظروف ، كان من الحق علينا ألا نقبل مطمئنين ما ينقلون إلينا من شعر القدماء .
والعجب أن الرواة لم تفسد مروءتهم ولم يُعرفوا بفسق ولا مجون ولا شعوبية قد كذبوا أيضاً وانتحلوا . فأبو عمرو بن العَلاَء يعترف بأنه وضع على الأعشى بيتاً :
وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا
ويعترف الأصمعي بشيء يشبه ذلك .
ويقول اللاحقي إن سيبويـه سأله عن إعمال العرب " فَعِلاَ " ، فوضع له هذا البيت :
حَذِرُ أمورا لا تَضِيرُ وآمنُ ما ليس ينجيـه من الأقــدار
ومثل هذا كثير .
وهناك طائفة من الرواة غير هؤلاء ليس من شك في أنهم كانوا يتخذون الانتحال في الشعر واللغة وسيلة من وسائل الكسب . وكانوا يفعلون ذلك في شيء من السخرية والعبث ، نريد بهم هؤلاء الأعراب الذين كان يرتحل إليهم في البادية رواة الأمصار يسألونهم عن الشعر والغريب . فليس من شك عند من يعرف أخلاق الأعراب في أن هؤلاء الناس حين رأوا إلحاح أهل الأمصار عليهم في طلب الشعر والغريب وعنايتهم بما كانوا يلقون إليهم منهما ، قدّروا بضاعتهم وأستكثروا منها . ثم لم يلبثوا أن أحسوا أزدياد حرص الأمصار على هذه البضاعة ، فحدّوا في تجارتهم وأبوا أن يظلوا في باديتهم ينتظرون رواة الأمصار . ولم لا يتولون هم إصدار بضاعتهم بأنفسهم؟ ولم لا يهبطون إلى الأمصار يحملون الشعر والغريب والنوادر إلى الرواة فيريحونهم من الرحلة ومشاق السفر ونفقاته ، ويحدثون التنافس بينهم ، ويفيدون من ذلك ما لم يكونوا يفيدون حين لم يكن يقتحم الصحارى إليهم إلا رجل كالأصمعي أو أبي عمرو بن العلاء؟ وكذلك فعلوا : إنحدروا إلى الأمصار في العراق خاصة وكثر أزدحام الرواة حولهم فنَفَقت بضاعتهم ، وأنت تعلم أن نَفاق البضاعة أدعى إلى الإنتاج ؛ فأخذ هؤلاء الأعراب يكذبون وأسرفوا في الكذب ، حتى أحس الرواة أنفسهم ذلك . فالأصمعيّ يحدثنا عن أحد هؤلاء الأعراب ، وأسمه أبو ضمضم ، أنه أنشد لمائة شاعر أو ثمانين شاعرا كلهم يسمى عمرا ؛ قال الأصمعي : فعددت أنا وخلف الأحمر فلم نقدر على ثلاثين .
ويحدّثنا أبن سلاّم عن أبي عُبَيْدة أن داود بن متمم بن نويرة ورد البصرة فيما يقدم له الأعراب ، فأخذ أبو عبيدة يسأله عن شعر أبيه وكفاه حاجته ؛ فلما فرغ داود من رواية شعر أبيه وكره أن تنقطع عناية أبي عبيدة به أخذ يضع على أبيه ما لم يقل ، وعرف ذلك أبو عبيدة .
ونظن أننا قد بلغنا ما كنا نريد من إحصاء الأسباب المختلفة التي حملت على انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين ، والتي تضطرنا نحن في هذا العصر إلى أن نقف موقف الشك والأحتياط أمام هذا الشعر .
كل شيء في حياة المسلمين في القرون الثلاثة الأولى كان يدعو إلى انتحال الشعر وتلفيقه سواء في ذلك الحياة الصالحة حياة الأتقياء والبررة ، والحياة السيئة حياة الفساق وأصحاب المجون . فإذا كان الأمر على هذا النحو فهل تظن أن من الحزم والفطنة أن نقبل ما يقول القدماء في غير نقد ولا تحقيق ؟
وقد قدّمنا أن هذا الكذب والانتحال في الأدب والتاريخ لم يكونا مقصورين على العرب ، وإنما هما حظ شائع في الآداب القديمة كلها . فخير لنا أن نجتهد في تعرّف ما يمكن أن تصح إضافته إلى الجاهليين من الشعر . وسبيل ذلك أن ندرس الشعر نفسه في ألفاظه ومعانيه بعد أن درسنا ما يحيط به من الظروف .
الجمعة أبريل 18, 2014 6:49 am من طرف viva star
» مناهج النقد الأدبي . مترجم.rar
الخميس أبريل 17, 2014 5:01 pm من طرف viva star
» مصطلحات توليدية
السبت فبراير 08, 2014 2:55 pm من طرف رعاش وليد
» ارجو المساعدة
الجمعة يناير 10, 2014 2:10 am من طرف مريم عبد الرحمان
» مساعدة عاجلة جداااااااااا
الثلاثاء يناير 07, 2014 6:53 am من طرف مريم عبد الرحمان
» كتب في علم الدلالة
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:35 pm من طرف safih
» عرض حول معجم المقاييس لابن فارس
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:15 pm من طرف safih
» المعجم الالكتروني
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:06 pm من طرف safih
» تشغيل الجزيرة الرياضية بالشرينغ
الثلاثاء نوفمبر 12, 2013 11:29 am من طرف safih