مرحبا بكم في المنتدى ،
ساهموا معنا في تطوير المنتدى
تخيل نفسك أستاذا و محاضرا سجل ،
و انشر على الموقع ...........
و ذلك من أجل العلم و طلبة العلم ،
و مرحبا من جديد ، التسجيل في ثوان لا تترددوا...


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل


مرحبا بكم في المنتدى ،
ساهموا معنا في تطوير المنتدى
تخيل نفسك أستاذا و محاضرا سجل ،
و انشر على الموقع ...........
و ذلك من أجل العلم و طلبة العلم ،
و مرحبا من جديد ، التسجيل في ثوان لا تترددوا...

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

كـــن أول المـعـجـبـين

أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع

لا يوجد مستخدم

المواضيع الأخيرة

» أنواع الزحافات :..........
قصيدة أبى الطيب الرُّندي في رثاء الأندلس   دراسة بلاغية تحليلية Emptyالجمعة أبريل 18, 2014 6:49 am من طرف viva star

» مناهج النقد الأدبي . مترجم.rar
قصيدة أبى الطيب الرُّندي في رثاء الأندلس   دراسة بلاغية تحليلية Emptyالخميس أبريل 17, 2014 5:01 pm من طرف viva star

» مصطلحات توليدية
قصيدة أبى الطيب الرُّندي في رثاء الأندلس   دراسة بلاغية تحليلية Emptyالسبت فبراير 08, 2014 2:55 pm من طرف رعاش وليد

» ارجو المساعدة
قصيدة أبى الطيب الرُّندي في رثاء الأندلس   دراسة بلاغية تحليلية Emptyالجمعة يناير 10, 2014 2:10 am من طرف مريم عبد الرحمان

» مساعدة عاجلة جداااااااااا
قصيدة أبى الطيب الرُّندي في رثاء الأندلس   دراسة بلاغية تحليلية Emptyالثلاثاء يناير 07, 2014 6:53 am من طرف مريم عبد الرحمان

» كتب في علم الدلالة
قصيدة أبى الطيب الرُّندي في رثاء الأندلس   دراسة بلاغية تحليلية Emptyالثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:35 pm من طرف safih

» عرض حول معجم المقاييس لابن فارس
قصيدة أبى الطيب الرُّندي في رثاء الأندلس   دراسة بلاغية تحليلية Emptyالثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:15 pm من طرف safih

» المعجم الالكتروني
قصيدة أبى الطيب الرُّندي في رثاء الأندلس   دراسة بلاغية تحليلية Emptyالثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:06 pm من طرف safih

» تشغيل الجزيرة الرياضية بالشرينغ
قصيدة أبى الطيب الرُّندي في رثاء الأندلس   دراسة بلاغية تحليلية Emptyالثلاثاء نوفمبر 12, 2013 11:29 am من طرف safih

دخول

لقد نسيت كلمة السر

دروس في النـــــــــــحو


    قصيدة أبى الطيب الرُّندي في رثاء الأندلس دراسة بلاغية تحليلية

    حشادي
    حشادي
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 1188
    تاريخ التسجيل : 20/11/2009
    العمر : 44
    الموقع : المنتدى العالمي للطفـــــولة

    اضاءة قصيدة أبى الطيب الرُّندي في رثاء الأندلس دراسة بلاغية تحليلية

    مُساهمة من طرف حشادي الأربعاء نوفمبر 06, 2013 3:10 pm

    قصيدة أبى الطيب الرُّندي في رثاء الأندلس

    دراسة بلاغية تحليلية

    للدكتور/ السعيد عبد المجيد النوتى

    قسم البلاغة والنقد ـ كلية اللغة العربية ـ جامعة أم القرى بمكة المكرمة








    الحمد لله الذي لم يستفتح بأفضل من اسمه كلام، ولم يستنجح بأحسن من صنعه مرام، الحمد لله الذي جعل الحمد مستحق الحمد حتى لا انقطاع، وموجب الشكر بأقصى ما يستطاع، الحمد لله الذي أقل نعمه يستغرق أكثر الشكر، والحمد لله الذي لا خير إلا منه، ولا فضل إلا من لدنه، والصلاة والسلام على خير من نطق بلسان النسيم، فأفاض ماء النعيم، جاء بأمته من الظلمات إلى النور، وأفاء عليهم الظل بعد الحرور، وعلى آله الذين عظمهم توقيرا، وطهرهم تطهيرا، وأصحابه رضى الله عنهم أجمعين وبعد:

    فلفظ "الشعر فى لسان العرب موضوع للدلالة على كلام شريف المعنى، نبيل المبنى، محكم اللفظ، يضبطه إيقاع متناسب الأجزاء، وينظمه نغم ظاهر للسمع، مفرط الإحكام والدقة فى تنزيل الألفاظ، وجرس حروفها فى مواضعها منه، لينبعث من جميعها لحن تتجاوب أصداؤه فى ظاهر لفظه، ومن باطن معانيه، وهذا اللحن المتكامل هو الذى نسميه: القصيدة، وهذا اللحن المتكامل مقسم تقسيما متعانق الأطراف، متناظر الأوصال، تحدده قواف متشابهة البناء والألوان، متناسبة المواقع، متساوية الأزمان، هذا هو الشعر"([1])

    ومعلوم أن الشعر هو الاستخدام الفني للطاقات الحسية والعقلية والنفسية والصوتية للغة، لأنه بناء لغوي مميز ينبني على تفجير طاقة اللغة عند الشاعر، ويجعلها تضيف إلى نفسها ومن داخلها عنصراً آخر هو الإيقاع، الذي يسهم بدوره في شحن الدفقة الشعرية.

    كما يتميز باستثمار خصائص اللغة، بوصفها مادة بنائية، فالكلمات والعبارات في الشعر يقصد بها بعث صورة إيحائية، ومن خلال هذه الصور يعيد الشاعر إلى الكلمات قوة معانيها التصويرية الفطرية في اللغة.

    ومن خلال الشعر عرفنا أخبار من سبقونا, فكم من حوادث وسير مضت ولكنها لا تزال محفوظة في الذاكرة بفضل ما ورد لنا عنها عبر القصائد التي حفظت ولا يزال يرددها الناس

    لقد صور الشعر لنا الحياة والمجتمع الذي يعيشه الشاعر فمثلا: العصر الجاهلي لم نعرف عن تلك الحقبة شيئا لولا شعر شعرائها فقد كان التدوين معدوماً آنذاك، ولذلك عرفنا قصة داحس والغبراء، وعنترة وعبلة وغيرها، وكان الشعر العربي في هذا العصر ديوان العرب حقاً، وعلمهم الذي لم يكن لهم علم أصح منه، واستمر بعد تلك الحقبة فنا أدبيا بارزا، وكانت العرب تقيم الأفراح إن برز من أبنائها شاعر مبدع، فالشعر عند العرب قديما كان يرفع من شأن القبيلة ويحط من قيمة الأخرى.

    قال ابن فارس: والشعر ديوان العرب، وبه حفظت الأنساب، وعرفت المآثر، ومنه تعلمت اللغة، وهو حجة فيما أشكل من غريب كتاب الله، وغريب حديث رسول الله r ، وحديث صحابته والتابعين([2]).

    وكان الشعر في عصر صدر الإسلام وسيلة من وسائل الدفاع عن رسالة الإسلام ضد مشركي قريش، كما كان الشعر في عهد بني أمية وفي عصر العباسيين وسيلة من وسائل الفرق السياسية والفكرية المتنازعة، قصد تبليغ آرائها، والدفاع عن مبادئها، في مواجهة خصومها، فلا يخفى إذاً دور الشعر في نشر الإسلام ونصرة الحق، ودوره في العصور التي أتت بعده.

    وقد جاء عنه r أنه قال: لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين، ويقول ابن عباس t : الشعر ديوان العرب فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه‏، وعنه t قال‏:‏ إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر؛ فان الشعر ديوان العرب ([3])، وكان ينشد الشعر إذا سئل عن القرآن.

    وبهذا يتبين أن الشعر من مصادر الاستشهاد المهمة عند العلماء فى شرح ما غمض من آى الذكر الحكيم.

    وما الهدف من دراسة شعر العربية إلا "إحسانا فى الولوج إلى إحسان الإيمان بالله U ، ذلك أن الإحسان فى قراءة شعر العربية إنما هو المهيع إلى حسن تدبر القرآن الكريم، ولا يكون البتة حسن إيمان علما والتزاما إلا من حسن علم وفقه بيان القرآن، ولن يكون حسن علم وفقه بيان القرآن الكريم إلا من حسن قراءة الشعر العربى قراءة عربية ماجدة، لا قراءة أعجمية، ولا تجد فقيها عالما عاملا بكتاب الله U إلا كان فقيها فى بيان القرآن الكريم والسنة النبوية من حسن قراءته شعر العربية الماجد"([4]).

    وقد وقع الاختيار على قصيدة أبى الطيب الرندى لما تعبر به عن حال الأمة الآن حقاً، فضلا عن وصفها للأندلس وصفا بارعا يجعل القارئ كأنه يعيش اللحظة مع الشاعر، ولذلك عدت هذه القصيدة من روائع ما قيل في الشعر العربي في رثاء الممالك والمدن، إن لم تكن أروعها على الإطلاق، بالإضافة إلى تميّز أبى البقاء ببراعة أدبية، وقدرة إبداعية على النظم والتأليف.

    ولم لا ! وذكرى الأندلس لا تزال وستظل عالقة بقلب كل مسلم أدرك ما كان للإسلام بها من عز وجاه، وما أشاعه من حرية وعدالة ومواساة، وما أَوجده من حضارة زاهية ومدنية عامرة، وتقدم عظيم، وقد ساعدت طبيعة هذه البلاد على ازدهار الحضارة الإسلامية بها، وكان لخصوبة الأرض وسهولة العيش ورفاهية البلاد دور كبير فى ازدهار مدنية حضارية فقامت القصور العالية في كل بلد، وأنشئت المساجد المزخرفة التي لا تزال إلى اليوم تنطق بما كان لأصحابها من تقدم في الفن المعماري، فضلا عن مجالس العلم الحافلة بالعلماء والطلاب، مما أدى إلى وجود حركة علمية مميزة .

    أما الأدب شعراً ونثراً فقد وجد من البيئة المترفة والحضارة الزاهرة، والمشجعين من الحكام والخلفاء ما جعله يضارع أدب المشرق قوة وخصوبة، فقد نشأَ في الأندلس مِن الأْدباء والشعراء من يجلسون في منزلة واحدة مع كبار الأدباء في الشرق، حتى عرف من بينهم: متنبي الغرب وبحتريّ الغرب، وهما: ابن هانىء، وابن زيدون.

    الشاعر أبو الطيب الرُّندى:

    حياة أبى الطيب تكاد تكون مجهولة، ولولا شهرة هذه القصيدة وتناقلها بين الناس ما ذكرته كتب الأدب، وإن كان له غيرها مما لم يشتهر، غير أنه قد علم أنه أمضى جزءا من حياته فى أشبيلية التى تلقى العلم فيها، وكل ما علم أنه: صالح بن يزيد شريف بن صالح بن موسى الرندي الأندلسي، وقد اختلف في كنبته، فعند لسان الدين بن الخطيب في كتابه "الإحاطة في أخبار غرناطة": أبو الطيب([5])، وعند المقرّي في "نفح الطيب": أبو البقاء([6]) وبها اشتهر، إلا أن الأرجح والصحيح أن كنيته: "أبو الطيب" لقرب زمان لسان الدين بن الخطيب منه، وذلك أن أبا الطيب من وفيات سنة (684 هـ)، ولسان الدين من وفيات سنة 776 هـ

    عاش أبو الطيب في النصف الثاني من القرن السابع الهجري، وعاصر الفتن والاضطرابات التي حدثت من الداخل والخارج في بلاد الأندلس وشهد سقوط معظم القواعد الأندلسية في يد الأسبان ولد سنة (604هـ)، كان حافظا للحديث، فقيها، ألف في الفرائض (تقسيم الإرث) نظما ونثرا بارعا في منظوم الكلام ومنثوره، من أشهر أدباء الأندلس، بل شاعر الأندلس وأديبها في زمانه، وصاحب مرثيتها المشهورة، توفي في النصف الثاني من القرن السابع ولا نعلم سنة وفاته على التحديد.

    ولا غرو فهو أديب وشاعر وناقد، قضى معظم أيامه في مدينة رندة، واتصل ببلاط بني نصر (ابن الأحمر) في غرناطة، وكان يفد عليهم ويمدحهم وينال جوائزهم، وكان يفيد من مجالس علمائها ومن الاختلاط بأدبائها، كما كان ينشدهم من شعره أيضا، قال عنه عبد الملك المراكشي في الذيل والتكملة: كان خاتمة الأدباء في الأندلس بارع التصرف في منظوم الكلام ونثره فقيهاً حافظاً فرضياً له مقامات بديعة في أغراض شتى وكلامه نظماً ونثراً مدون([7]).

    وأما شعره فكان أبو الطيب من أفاضل العلماء بالأندلس، ومن شعرائها، له قصائد طنانة ونظم رائق في وصف العقل والبحر وغير ذلك مما يدل على رفيع أدبه وجزالة شعره أذكر منها على سبيل المثال: ما جاء في وصف الجيش وأبطال المسلمين، وذل الكفر والكافرين:

    وكتيبة بالدَّارعين كثيفة
    روضُ المنايا بينها القُضُب التي
    فيها الكُماة بنو الكُماة كأَنهم
    مُتهلِّلين لدى اللِّقاء كأَنهم
    من كلِّ ليثٍ فوق برقٍ
    من كلِّ ماضٍ قد تقلَّد مثله
    لبسوا القلوب على الدروع
    وتقدموا ولهم على أعدائهم
    فارتاع ناقوس بخلع لِسانه
    ثم انثنوا عنه وعن عُبّادهِ




    جرَّت ذيول الجحفل الجرار
    زُفَّت بها الرَّايات كالأَزهار
    أُسد الشَّرى بين القنا الخَطّار
    خُلِقت وجوههم من الأَقمار
    خاطف بيمينه قدرٌ من الأَقدار
    فيصُيبَّ آجالاً على الأَعمار
    وأَسرعـوا لأكفِّهم ناراً لأهل النار
    حُنقُ العِدا وحميَّةُ الأنصار
    وبكى الصَّليب لِذلَّة الكفار
    وقد اْصبحوا خبراً من الأخبار


    وله شعر جميل في وصف العقل والغربة:

    ما أحسن العقل وآثاره
    يصون بالعقل الفتى نفسه
    لاسيما إن كان في غُربةٍ




    لو لازم الإنسان إيثارهُ
    كما يصون الحر أسرارهُ
    يحتاج أن يُعرف مقدارُه


    وله في المحاكمة بين السيف والقلم إذ يقول:

    تفاخر السيف فيما قيل والقلم
    كلاهما شرَّف الله درَّهُما




    والفضل بينهم لاشك منفهم
    وحبَّذا الخُطّتان الحُكم والحَكم


    وقال في أخوة السوء:

    ليس الأُخوةٍ باللسان أُخُوَّة
    لا أنت في الدنيا تُفرج كربة




    فإذا تُراد أخوَّتي لا تنفعُ
    عنِّي ولا يوم القيامة تشفعُ




    مناسبة القصيدة: معلوم أن العرب قد سيطروا في نهاية حكمهم على بلاد الأندلس، وما لبث هذا الحكم أن تضاءل شيئاً فشيئاً بسقوط بعض المدن الإسلامية الهامة في أيدي الفرنجة، وأصبحت البلاد تروّع كلّ يوم بغارات الأعداء دون أن تجد قوة إسلامية تصد الزحف الصليبي المتوغل، وقد أدرك الأدباء والمفكرون هول هذا الخطر الداهم، فانطلق الشعراء والأدباء، يصوّرون النهاية المتوقعة في حسرة بالغة، ومما قيل في هذه المأساة ما بين أيدينا من أبيات صاغها شاعر متفجع يبكي الوطن الضائع، ويحذّر المسلمين في شتى البقاع.

    ومما يميز القصيدة عن مثيلاتها: بكاء الشاعر على ضياع الأندلس بكاء صادقا ذا شجون وتأثير عجيب لدرجة أنها لم تفقد حرارتها حتى الآن، لأنها من قلب عاش القضية وتأثر بضياع تلك البقعة المهمة فى حياة المسلمين وتاريخهم

    ومما زاد في شهرتها: ارتباطها بتلك الأحداث المؤلمة التي عصفت بدولة الإسلام في الأندلس، ولهذا كانت واضحة فى صدقها وحرارة عاطفتها، وقوة معانيها المعبرة، التى أضفت طابع الحزن علي النص.

    ولهذه الخصوصية يقول الدكتور أحمد أمين: لقد رأينا مدنا فى الشرق تتساقط كأوراق الشجر تستوجب الرثاء والبكاء، كما سقطت بغداد فى أيدى التتار، وأزالوا كل ما لفيها من مظاهر المدنية والحضارة، وفعل التتار بها ما لا يقل عما يفعله الأسبانيون فى الأندلس، وغزا هولاكو وتيمور لنك بلاد الشام وأسقطوها بلدا بلدا، فما رأينا عاطفة قوية، ولا رثاء صارخا، ولا أدبا رقيقا، ولا تاريخا مسجلا كالذى رأيناه فى الأندلس، فإن قلنا: إن هذه الناحية فى التاريخ الأندلسى أقوى وأشد لم نبعد عن الصواب([8])

    ولذلك تميزت بسهولة الألفاظ، والابتعاد عن التعقيد اللفظي والمعنوي، فالموقف موقف بكاء، ولا يحتمل ذلك تضمين الحكمة لأخذ العبر من الأمم السابقة كما ورد في الأبيات الثلاثة الأولى، وذكر أحوال الأمم السابقة مثل : قوم عاد، والفرس .... وغيرهم.

    كما شاع فى القصيدة التساؤلات العديدة التى خرجت كلها على سبيل التعجب والتحسر، بالإضافة إلى ما سيظهر أثناء تحليل النص بمشيئة الله تعالى.

    و لا شك فإنها من أجمل ما قيل في رثاء بلاد المسلمين، وترجع روعتها أنها لا تعني فقط الأندلس بعينها ـ وإن كانت أبياتها تذكر معالم الأندلس ـ بل تعني كل بلد من بلاد المسلمين سُلبت من بين أيدي أهلها، كما حدث لكثير من البلاد الإسلامية، حدث كل هذا لما غيّر الناس وبدلوا في دين الله بأهوائهم، واشتغلوا بالملذات.

    والمتأمل فى النص يلاحظ أنه ملحمة تمثل المرحلة التاريخية التي عاشها أهل الأندلس خير تمثيل، وإن كان في الحقيقة سقوط الأندلس، فقد كان خبرها مدوياً في الأمة الإسلامية ومزعجاً، فى اللحظة التى كانت تنتظر نصراً مؤزراً، وفتحاً مبيناً فإذا بها تتجرع كأس الهزيمة وكأس المرارة، وفقد المسلمون الأندلس بعد أن بقي الإسلام فيها قرونا طويلة منذ أن فتحت على يد طارق بن زياد، وموسى بن نصير ـ رحمهم الله ـ (92 هـ) إلى أن حل بها ما حل.

    قال المقري: انتهت القصيدة الفريدة ويوجد بأيدي الناس زيادات فيها ذكر غرناطة، وبسطة، وغيرهما مما أخد من البلاد بعد موت صالح بن شريف، وما اعتمدته منها نقلته من خط من يوثق به على ما كتبته، ومن له أدنى ذوق علم أن ما يزيدون فيها من الأبيات ليست تقاربها في البلاغة، وغالب ظني أن تلك الزيادة لما أخذت غرناطة وجميع بلاد الأندلس، إذ كان أهلها يستنهضون هِمم الملوك بالمشرق والمغرب فكأن بعضهم لما أعجبته قصيدة صالح بن شريف زاد فيها تلك الزيادات ([9])

    ولم يكن الرثاء في الأندلس من الأغراض الرائجة ولكنه ظل يحذو حذو نماذج الشعر المشرقي حين يستهل برد الفواجع ووصف المصيبة التي حلت بموت الفقيد إلخ، وعادة تستهل القصيدة بالحِكَم وتختتم بالعظات والعبر، أما رثاء المدن والممالك، فهو الغرض الأندلسي الذي نبعت سماته وأفكاره من طبيعة الاضطراب السياسي في الأندلس، وكان مجال إبداعٍ في الشعر الأندلسي، وهذه قصيدته الرائعة التى رثى فيها الأندلس([10]):

    لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ
    هي الأمورُ كما شاهدتها دولٌ
    وهذه الدار لا تُبقي على أحدٍ
    يمزق الدهر حتما كل سابغة
    وينتضى كل سيف للفناء ولو
    أينَ الملوكُ ذوو التيجان من يَمَنٍ
    وأينَ ما شَادهُ شدادُ في إرمٍ ؟
    وأينَ ما حازهُ قارونُ من ذهبٍ
    أتى على الكل أمرٌ لا مَردّ لهُ
    وصارَ ما كانَ من مُلكٍ ومن مَلكٍ
    دار الزمان على دارا وقاتله
    كأنما الصعب لم يسهل له سبب
    فجائع الدهر أنواع منوعة
    وللحوادثِ سُلوانٌ يُسهلها
    دهى الجزيرة أمرٌ لا عَزاء لهُ
    أصابها العين فى الإسلام فامتحنت
    فاسأل بلنسية: ما شأن مرسية؟
    وأين قرطبة دار العلوم فكم
    وأين حمص وما تحويه من نزه؟
    قواعد كن أركان البلاد فما
    تبكي الحنيفية البيضاءُ من أسفٍ
    عَلى ديارٍ من الإسلام خالية
    حيثُ المساجدُ قد صَارت كنائسَ ما
    حتى المحاريب تبكي وهي جامدةٌ
    يا غافلاً ولهُ في الدهر موعظة
    وماشيا مرحا يلهيه موطنه
    تلك المصيبةُ أنست ما تقدمها
    يا راكبينَ عِتاقَ الخيلِ ضَامرة
    وحاملينَ سيوفَ الهندِ مُرهفة
    وراتعين وراء البحر فى دعة
    أعندَكمُ نبأ من أهلِ أندلسٍ
    كم يستغيث بنا المستضعفونَ وهم
    مَاذا التقاطعُ في الإسلام بينكمُ
    ألا نفوس آبيات لها هِمَمٌ
    يَا مَن لذلة قومٍ بعد عِزهمُ
    بالأمس كانوا ملوكاً في منازلهم
    فلو تراهم حيارى لا دليل لهم
    ولو رأيت بكاهم عند بيعهم
    يا رب أم وطفل حيل بينهما
    وطفلة مثل حسن الشمس إذا طلعت
    يقودها العلج للمكروه مكرهة
    لمثلِ هذا يذوبُ القلبُ مِن كمَدٍ




    فلا يغر بطيب العيش إنسانُ
    من سره زمن ساءتهُ أزمانُ
    ولا يدوم على حالٍ لها شانُ
    إذا نبت مشرفيات وخرصان
    كان ابن ذى يزن والغمد غمدان
    وأينَ منهم أكاليلٌ وتيجانُ؟
    وأينَ ما ساسهُ في الفرسِ ساسانُ
    وأينَ عادٌ وشدّاد وقحطان؟
    حتى قضوا فكأنّ القومَ ما كانوا
    كما حَكى عن خوالي الطيف وسنانُ
    وأم كسرى فما آواه إيوان؟
    يوما ولا ملك الدنيا سليمان
    وللزمانِ مَسراتٌ وأحزان
    وما لمَا حل بالإسلام سُلوانُ
    هوى لهُ أحدٌ وأنهدّ ثهلانُ
    حتى خلت منه أقطار وبلدان
    وأين شاطبة؟ أم أين جيان؟
    من عالم قد سما فيها له شان؟
    ونهرها العذب فياض وملآن
    عسى البقاء إذا لم تبق أركان
    كما بكى لفراق الإلفِ هيمانُ
    قد أقفرت ولها بالكفر عُمرانُ
    فيهنّ إلا نواقيسٌ وصلبانُ
    حتى المنابر تَرثي وهي عيدانُ
    إن كنتَ في سِنَةٍ فالدهر يقظانُ
    أبعد حمص تغر المرء أوطان
    وما لها من طوال الدهر نسيانُ
    كأنّها في مجال السبقِ عُقبانُ
    كأنها في ظلام النقعِ نيرانُ
    لهم بأوطانهم عز وسلطان
    فقد سَرى بحديث القوم ركبانُ
    قتلى وأسرى فما يهتز إنسانُ
    وأنتمُ يا عبادَ الله إخوانُ
    أمَا على الخير أنصارٌ وأعوانُ
    أحالَ حالهمُ كفر وطغيانُ
    واليومَ هُم في بلاد الكفر عُبدانُ
    عليهم من ثياب الذل ألوان
    لهالك الأمر واستهوتك أحزان
    كما تفرق أرواح وأبدان
    كأنما هى ياقوت ومرجان
    والعين باكية والقلب حيران
    إن كانَ في القلب إسلامٌ وإيمانُ








    ويمكن تقسيم القصيدة إلى أفكار:

    الفكرة الأولى: سنة الله فى خلقه، وحكم الدهر:

    لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ
    هي الأمورُ كما شاهدتها دولٌ
    وهذه الدار لا تُبقي على أحدٍ
    يمزق الدهر حتما كل سابغة
    وينتضى كل سيف للفناء ولو




    فلا يغر بطيب العيش إنسان([11])
    من سره زمن ساءته أزمان([12])
    ولا يدوم على حالٍ لها شانُ
    إذا نبت مشرفيات وخرصان([13])
    كان ابن ذى يزن والغمد غمدان([14])


    يفتتح الشاعر قصيدته بذكر حكمة بالغة ومؤثرة تعبر عما يكابده ويلاقيه من الأسى والحرمان والحزن فى لوعة متعظة، وعبرة مفكرة، فهو يقرن الماضي بالحاضر، ويقيس الغائب على الشاهد فيرى أن لكل شيء نهاية، ولكل تمام نقصانا، فعلى العاقل ألا يخدع بما يرى من عيش هانئ، فوراء ذلك خطوب وأهوال، لأن الأيام دول تتقلب، ومن سره زمن فلا بد أن يسيئه زمن تال، ثم كرر هذا المعنى مما يدل على تأثره وانفعاله، وميله إلى اليأس والتشاؤم.

    ثم يؤكد بمؤكد ثالث على عدم الاغترار بالحياة، لأنها لا تدوم لأحد، وأن الدهر لا يستقر على حال، فبعد أن يعطى الإنسان النعم السابغة، ومعها الأمن والأمان فإذا بالدهر يفجعه ويمزق كل ما أعطى، ويخلفه وراءه مقيدا ومثقلا بالهموم والأحزان، ذلك لأن الدهر أقوى من كل عظيم، ومن الجبابرة حتى لو كان سيف بن ذى يزن!

    ويلفت نظرنا أبو البقاء بحسن براعته فى اختيار المطلع حيث قوله:

    لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ




    فلا يغر بطيب العيش إنسان


    والبلاغيون يهتمون اهتماما كبيرا بمطلع الكلام وابتدائه، بل كان بعضهم يحكم على الشاعر من ابتداءاته، ففى الصناعتين: سئل بعضهم عن أحذق الشعراء، فقال: من يتفقد الابتداء والمقاطع([15])، وكان بعضهم يوصى البعض بتعهد ابتداء الكلام وتحسينه، إذ قال بعض الكتاب: "أحسنوا معاشر الكتاب الابتداءات فإنهن من دلائل البيان"([16]) ويعد فى الوقت نفسه منفذا للتلقى لدى النفس الإنسانية التى تتأثر وتستجيب لمثل هذا، يقول السعد: أما الابتداء فلأنه أول ما يقرع السمع، فإن كان عذبا حسن السبك صحيح المعنى أقبل السامع على الكلام فوعى جميعه وإلا أعرض عنه ورفضه، وإن كان الباقى فى غاية الحسن([17]) ، ويرجع سر بلاغة وحسن المطلع عند أبى البقاء إلى: أنه جاء فى ثوب الحكمة، "والحكم المأثورة تستوقف النفوس، وتأسر القلوب"([18])

    ونلاحظ تقديم المسند: (لكل شئ) على المسند إليه: (نقصان) ليفيد التخصيص كما يقول الخطيب: وأما تقديم المسند فلتخصيصه بالمسند إليه([19]) وكذلك للاهتمام به وقد حصر المسند عموم كل شئ، فكان التقديم أولى، ويشتاق الإنسان لمعرفة المسند إليه فإذا ما تم صادف نفساً متشوقة فيؤثر فيها تأثيرا بالغا، ولهذا حصر الزركشى الوجوه التى يحسن فيها التقديم فى ستة أشياء، وذكر منها: أن تكون الحاجة إلى ذكره ـ أى المقدم ـ أشد، وإلى العلم به أهم كما قال سيبويه: وإن كانا جميعا يهمانهم([20])

    ومعلوم أن التقديم أحد أساليب البلاغة التى يؤتى بها للدلالة على تمكنهم في الفصاحة وملكتهم في الكلام وانقياده لهم، وله في القلوب أحسن موقع وأعذب مذاق.

    ومن العناصر الأسلوبية التى استعان بها الشاعر فى رؤيته الخاصة بضياع الأندلس: أسلوب الطباق فى البيت الأول بين: تَمّ ، ونقصان، ليبرز المعنى الذى أراده الشاعر وقد أثار الانتباه إلى الفكرة، ورسخها في النفس وأكدها؛ ففى الوقت الذى يمعن الإنسان النظر ويرى التمام، فى الوقت نفسه يرى النقصان، وتلك سنة يجب على العاقل أن يضعها نصب عينيه، وللطباق مزية ما كانت لو افتقدناه.

    وواضح ما للجملة الاعتراضية فى قوله: إذا ما تمّ ، من تقرير غرض الشاعر في نفس السامع، وهذا النوع من الجمل باب من أبواب البلاغة العالية؛ "لأن هذه الجملة دخلت فى حرم جملة أخرى، واقتحمت موطنها، واحتلت مساحة بين طرفى هذه الجملة، أو بين أفراد عائلتها، وعزلت هذه الأطراف، وباعدت بينها، وقامت كالشئ فى الحلق، وكأنها جملة ذات طبيعة عدوانية، لأنه ليس لها أرض خاصة بها، وإنما تراها أبدا مُقحمة فى قلب نسيج تباعد تواصله، وتواشجه"([21]).

    وقد جاء الاعتراض ثلاث مرات فى القصيدة بخلاف ما سبق مثل قوله: هي الأمور ـ كما شاهدتها ـ دول، وقوله: يمزق الدهر ـ حتما ـ كل سابغة.

    ولا يخفى دور المقابلة في قوله : من سره زمن ـ ساءته أزمان، وتحريكها للنفوس، وقد كشفت لنا عن المعانى، وتجلت سافرة بذكر أضدادها، ومزية المقابلة: أنها شكلت علاقة بين الطرفين تحركت في تواتر متجاذب كأنها شبكة تتابع خيوطها، وتتبادل مواقعها، وتتشابك أطرافها، كما قامت بدور حيوي فعال في تأسيس البنية الحركية في النص.

    وفى قوله: هي الأمور كما شاهدتها دول، كناية عن تغير الحال وعدم ثبات الحياة على وتيرة واحدة، وجاء تقديم ضمير الشأن (هي) للتخصيص؛ إذ يريد أن يلفت انتباه السامع لهذا الأمر.

    وإفراد الزمن مع المسرة وجمعه مع الإساءة يؤكد أن لحظات السعادة قليلة بالنسبة للحظات الشقاوة.

    وللمبالغة والإيجاز، والتأكيد، وإثارة الخيال، استخدم الشاعر المجاز الحكمى فى قوله: من سره زمن ساءته أزمان، فقد أسند الفعل: (سرّ) إلى: (زمن)، والفعل: (ساءته) إلى: (أزمان)، والزمن ليس فاعلا للسرور، ولا للإساءة، لكن السرور والإساءة واقعان فيه، وفى ذلك مبالغة فى حدوث الفعل، وضرب من التوسع والتفنن فى بناء العبارة، أو كما يقول الإمام عبد القاهر: .... وهذا الضرب من المجاز على حدته: كنز من كنوز البلاغة، ومادة الشاعر المفلق، والكاتب البليغ في الإبداع والإحسان والاتساع في طرق البيان، وأن تجيء بالكلام مطبوعا مصنوعا، وأن يضعه بعيد المرام قريبا من الأفهام، ولا يغرنك من أمره أنك ترى الرجل يقول: أتى بي الشوق إلى لقائكن وسار بي الحنين إلى رؤيتك، وأقدمني بلدك حق لي على إنسان، وأشباه ذلك مما تجده لسعته وشهرته يجري مجرى الحقيقة التي لا يشكل أمرها فليس هو كذلك أبدا؛ بل يدق ويلطف حتى يمتنع مثله إلا على الشاعر المفلق، والكاتب البليغ، وحتى يأتيك بالبدعة لم تعرفها، والنادرة تأنق بها([22]).

    وجاء الوصل بين قوله: (وهذه الدار لا تُبقي على أحدٍ)، وقوله: (ولا يدوم على حالٍ لها شانُ) لاختلافهما خبرا وإنشاء، ولو فصل بينهما لأوهم خِلاف المَقصود.

    وجاء تعريف المسند إليه: (وهذه الدار) بالإشارة ليميّزه تمييزا واضحاً، وفى الوقت نفسه يمنح الخبر مزيدا من القوة والتقرير، وقد شبه الدار بالإنسان الذي يتحرك فيعطي ويترك على سبيل الاستعارة المكنية.

    وكذلك فى قوله: (يمزق الدهر حتما كل سابغة) استعارة مكنية شخصت الدهر وجعلته مفترسا يمزق كل نعم أُنعم بها على الإنسان، وقد جعلت الاستعارة القارئ "يحس بالمعنى أكمل إحساس وأوفاه، إذ صورت المنظر للعين ونقلت الصورة للأذن، وجعلت الأمر المعنوي ملموسا محسا"([23])، نحن إذاً أمام قطوف دانية وموحية جعلت "الجماد حيا، والأعجم فصيحا، والأجسام الخرس مبينة، والمعاني الخفية بادية جلية، والمعاني اللطيفة قد جسمت حتى رأتها العيون" ([24])

    ولا شك فإن للاستعارة المكنية هنا أثرا كبيرا في نقل المشهد إلى السامع، والوصول به إلى الغرض لما لها من قدرة فائقة على التصوير الخيالي، ونقله في صورة محسوسة شاهدها المتلقي فتحركت نفسه وانفعلت معها.

    وإيثاره لـ يمزق، على غيره من المرادفات لمزية فى المفردة اللغوية لا توجد فى مثيلاتها فقد مزقهم الدهر، وشردهم، وقطع دابرهم، وفرقهم في أنحاء البلاد مبددي الشمل، وأزال ملكهم، وعادوا أحاديث يرويها الرواة، وكأنه اقتبس المعنى من قوله تعالى: ]فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ[([25]) ، وغالبا ما يكون الباعث على الاقتباس: الاستئناس، أو الاستدعاء، "وذلك عندما يتناول الشاعر معنى يذكره بآية أو بعض آية فيذكرها على سبيل التداعى أو الاستئناس"([26])

    ولتجدد الصورة واستحضارها، ولتجسيد الأمر الغائب عن الأذهان جاء التعبير بالفعل المضارع فى قوله: يغر ـ تبقي ـ ولا يدوم ـ يمزق ـ وينتضى.

    ***




    الفكرة الثانية: دوام النعم من المحال

    أينَ الملوكُ ذوو التيجان من يَمَنٍ؟
    وأينَ ما شَادهُ شدادُ في إرمٍ ؟
    وأينَ ما حازهُ قارونُ من ذهبٍ؟
    أتى على الكل أمرٌ لا مَردّ لهُ
    وصارَ ما كانَ من مُلكٍ ومن مَلكٍ
    دار الزمان على دارا وقاتله
    كأنما الصعب لم يسهل له سبب
    فجائع الدهر أنواع منوعة
    وللحوادثِ سُلوانٌ يُسهلها




    وأينَ منهم أكاليلٌ وتيجانُ؟([27])
    وأينَ ما ساسهُ في الفرسِ ساسان؟([28])
    وأينَ عادٌ وشدّاد وقحطان؟([29])
    حتى قضوا فكأنّ القومَ ما كانوا
    كما حَكى عن خوالي الطيف وسنانُ
    وأمّ كسرى فما آواه إيوان؟
    يوما ولا ملك الدنيا سليمان
    وللزمانِ مَسراتٌ وأحزان
    وما لمَا حل بالإسلام سُلوانُ


    يمضى الشاعر فى فكرته ويقلّب صفحات التاريخ فيتساءل عن الملوك ذوي التيجان، ممن كانوا يحكون اليمن، ويسيطرون على الناس ببأسهم الغالب، وقد بنوا المدائن الشهيرة، فما بقيت وما بقوا، ويمضي في تساؤله فيبحث عن مصير بلاد الفرس، وما أعده ساسان فيها من ذخيرة وعتاد، ثم يجيب عن ذلك كله بأن الخاتمة قد لحقتهم وأذهبت ريحهم، وقضي عليهم حكم القدر فأصبحوا أثراً بعد عين، ولم تغن عنهم أموالهم وتيجانهم شيئا، وطاروا كالأحلام الذاهبة أثناء النوم دون بقاء.

    ثم يسلي الشاعر نفسه ويعزيها عما حلّ بديار المسلمين من دمار وتخريب ليأخذ المسلمون العبرة من ذلك، ويتعظوا بما حدث، ويقول: إن هذا الأمر ليس غريبا فقد دار وانقلب الزمان على "دارا" وقاتله كما أمّ الناس وتولاهم ولكن لم يحمه إيوانه وقصره العظيم منهم ومن كيدهم، ومع هذا ترى للزمن أياما سعيدة، وأياما حزينة.

    وبمرور الأيام ينسى الإنسان ما نزل به، وإن مصائب الدهر وحوادثه الضخمة الشديدة عزاء لما أصابه، ولكن ما حل بالإسلام ليس له عزاء لشدة وعظم المصيبة فلا يستطيع أي إنسان نسيان هذه المصيبة (ضياع دولة المسلمين في الأندلس) وهذا ليس غريبا فقد حصل ذلك أيضا للعديد من الممالك والملوك، ولكن الإنسان لن يجد عزاء فى ضياعها؛ فقد كانت قلعة للإسلام وحاضرة للمسلمين، وإن كل مصائب الدنيا لها سلوان، أما المصائب التي حلّت بالإِسلام والمسلمين فما لها من سلوانٍ!

    ويتساءل الشاعر متعجبا متحسرا متوجعا مما وقع للسابقين: (أين الملوك ذوو التيجان من يمن؟)، (وأين منهم أكاليل وتيجان؟) (وأين ما شاده شداد في إرمٍ ؟)، (وأين ما ساسه في الفرس ساسان؟)، (وأين ما حازه قارون من ذهب؟)، (وأين عاد وشداد وقحطان؟) بهذه الاستفهامات الإنكارية التعجبية المجازية التى تحمل المخاطب على إعادة النظر فيما قاله الشاعر بعد التدبر واستعمال العقل.

    وحين يخرج الاستفهام من الأسلوب الحقيقى إلى الأسلوب المجازي ليؤدي ظاهرة جمالية وبلاغية لا تعرف في الأسلوب الحقيقي الذي يسأل به المتكلم عن شيء معروف ومشهور يتوجه فيه المتكلم إلى نفسه قبل أن يتوجه به إلى الآخرين.

    وقد اتضح أن أسلوب الاستفهام المجازي يشكل أساليب جمالية مثيرة في النفس تمتاز بالتموج الصوتي والتنوع الإيقاعي الصادر عن أدوات الاستفهام؛ وإقامة التناسب بينها وبين العناصر الفنية الأخرى؛ ومن ثم دقة إيحائها بدلالاتها.

    ولا غرو فإن الاستفهام المجازي على اتصال بجمالية الإيحاءات العظيمة في الدلالة، ما يجعلها تتجه إلى الإيجاز والاقتصاد اللغوي، وبهذا تحث الفكر على تأمل واعٍ ومرهف لكل نمط استفهامي حتى يستطيع المتلقي الانفتاح على هذا النمط أو ذاك.

    يقول حازم القرطاجني: ... يكون النظر في صناعة البلاغة من جهة ما يكون عليه اللفظ الدال على الصور الذهنية في نفسه، ومن جهة ما يكون عليه بالنسبة إلى موقعه في النفوس من جهة هيأته ودلالته، ومن جهة ما تكون عليه تلك الصور الذهنية في أنفسها، ومن جهة مواقعها من النفوس، من جهة هيئاتها ودلالاتها على ما خارج الذهن، ومن جهة ما تكون عليه في أنفسها الأشياء التي تلك المعاني الذهنية صور لها، وأمثلة دالة عليها، ومن جهة مواقع تلك الأشياء من النفوس ....." ([30]).

    وفى قوله : (أمر لا مرد له) كناية عن الموت الذى لا مفر منه، وإيثاره: لا مرد له على لا مانع له لما فيها من النهاية التى لا يُرجى معها بقاء، ويبدو الاقتباس من القرآن الكريم فى قول أبى البقاء:

    أتى على الكل أمرٌ لا مَردّ لهُ




    حتى قضوا فكأنّ القومَ ما كانوا


    فهو مقتبس من قوله تعالى: ]حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ[ ([31])

    وكذلك فى قوله: (فما آواه إيوان) كناية عن غلبة الموت على كل ما من شأنه أن يتحصن فيه الإنسان، وفي الكناية: إثارة للعواطف وتحريك للأذهان؛ لأنها تمثل المعانى وتصبها في قوالب حسية لها فعاليتها وأثرها العميق، "ولها قدرة على إبراز المعانى وأدائها خير أداء، إذ كل كناية تتضمن الحكم مصحوبا بدليله، وذلك أبلغ في تأدية المعنى وتثبيته في النفس"([32]).

    ومن الأدوات الفنية التى وظفها الشاعر فى رثائه: الصورة التشبيهية الموروثة عن البيئة العربية فى عاداتها وتقاليدها، وهى بسيطة، قريبة التناول، سريعة الفهم، واضحة الدلالة، يفسر بها بعض المعطيات، ويوضح بها بعض الحقائق والأحداث، حيث قوله:

    وصارَ ما كانَ من مُلك ومن مَلك




    كما حكى عن خوالي الطيف وسنان


    فقد شبه الملك والملوك بخيال الطيف الذى لا وجود له، إنما الطيف ما يمر بخيال الإنسان وهو لا حقيقة له، ومن باب أولى لا حقيقة للخيال، فالأصل: (الطيف) لا يرى، فكيف بخياله؟

    ويؤكد التشبيه بآخر فى قوله:

    أتى على الكل أمر لا مَردّ له




    حتى قضوا فكأنّ القوم ما كانوا


    حيث شبه هؤلاء بعد اندثارهم، بالشئ المعدوم الذى لا أثر له، ليؤكد أن الأمر كان عجبا فى القضاء عليهم، وكان يجب على العقلاء أن يستوعبوا الدرس، ليحافظوا على بلادهم، وقد رأوا الأقوام أمامهم كأن لم يكونوا .

    وواضح شيوع الجناس الناقص فى الفكرة بين: (شاده ـ شدّاد)، (ساسه ـ ساسان) والجناس التام بين: (ملك ـ ملك)، (التيجان ـ تيجان) ومزيته أنه ذو وقع شجى، وتأثير قوى فى استمالة النفوس، وتنشيط الأذهان، وإنصات الآذان، وبخاصة أنه جاء عفوا دون قصد، يقول الإمام عبد القاهر: ... وعلى الجملة فإنك لا ترى تجنيسا مقبولا، ولا سجعا حسنا، حتى يكون المعنى هو الذى طلبه، واستدعاه، وساق نحوه، وحتى تجده لا تبتغى به بدلا، ولا تجد عنه حولا، ومن هنا، كان أحلى تجنيس تسمعه وأعلاه، وأحقه بالحسن وأولاه، ما وقع من غير قصد من المتكلم إلى اجتلابه، وتأهب لطلبه ..... ([33]).

    وفى قوله: (دار الزمان ـ أمّ كسرى ـ فجائع الدهر) استعارة مكنية شبه الزمان بالشيء الذي يغدر وينقلب على صاحبه.

    ويرجع سر إيثار الشاعر لها لأنها تحمل المتلقي على التخيل، لأنها تبرز صورة جديدة غير ما ألف المتلقي حتى ينسى مع هذا المجال وتلك الروعة ما تضمنته الاستعارة من تشبيه، فمزيتها أن فيها ابتكارا وخيالا رائعا ومتعة، مع بروز المعنى في صورة "خلابة جذابة وقد جسم وشخص، فتنتشر ظلاله في النفس فيحدث في جوانبها حركة حية ترهف الحس"([34])

    وكان عبد القاهر على حق حين قال عن الاستعارة: .... ومن خصائصها التي تذكر بها، وهي عنوان مناقبها، أنَّها تعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ، حتى تخرج من الصدَفة الواحدة عدة من الدرر، وتجني من الغصن الواحد أنواعا من الثمر، وإذا تأملت أقسام الصنعة التي بها يكون الكلام في حد البلاغة، ومعها يستحق وصف البراعة، وجدتها تفتقر إلى أن تعيرها حلاها، وتقصر عن أن تنازعها مداها وصادفتها نجوما هي بدرها، وروضا هي زهرها، وعرائس ما لم تعرها حليها فهي عواطل، وكواعب ما لم تحسنها فليس لها في الحسن حظ كامل.([35])

    ولروعة الاستعارة المكنية عقد لها قدامة بن جعفر في كتابه "نقد النثر" بابا تحدث فيه عن الحاجة إليها في كلام العرب ومفهومها عنده، كما تحدث عن الاستعارة المكنية، وإن لم يسمها الاسم الذي عرفت به فيما بعد، وفي ذلك يقول ابن جعفر: .... وربما استعاروا بعض ذلك في موضع بعض على التوسع والمجاز([36])

    ويعتبر البلاغيون هذا النوع من أجمل الصور البيانية لما فيه من التشخيص والتجسيد وبث الحياة والحركة في الجمادات وتصوير المعنويات في صورة محسة حية.

    واستخدم الشاعر الطابق فى قوله: (مسرات ـ وأحزان) ليجلى لنا المعانى فى أبدع المعارض، ويظهرها فى أبهى الحلل، ولا غرو فإن الإنسان يهتز لمثل هذه الأساليب التى تحرك الطاقة الفكرية، ويتضاعف إحساسه بالمفارقة بين الضد والضد حين جمع بينهما الشاعر وقد تعانقا وتصافحا، وكل منهما يأخذ بتلابيب الآخر.

    ***




    الفكرة الثالثة: ضياع الأندلس



    دهى الجزيرة أمرٌ لا عَزاء لهُ
    أصابها العين فى الإسلام فامتحنت
    فاسأل بلنسية: ما شأن مرسية؟
    وأين قرطبة دار العلوم فكم
    وأين حمص وما تحويه من نزه؟
    قواعد كن أركان البلاد فما




    هوى لهُ أحدٌ وأنهدّ ثهلانُ([37])
    حتى خلت منه أقطار وبلدان
    وأين شاطبة؟ أم أين جيان؟([38])
    من عالم قد سما فيها له شان؟
    ونهرها العذب فياض وملآن
    عسى البقاء إذا لم تبق أركان


    يتحسر الشاعر ويدلل على ما قاله في الأبيات السابقة فيصور هول المصيبة وشدتها بسبب ضياع الأندلس، ولم لا! وقد سقط وتصدع لهول هذه الفاجعة وعِظَمِ هذه المصيبة جبلان عظيمان من الجبال الراسيات: (أحد ، وثهلان)

    ثم ذكر ما أصاب ديار الإسلام في الأندلس متحسرا على تلك المدن التي ضاعت من أيديهم لاسيما: (مرسية ـ شاطبة ـ جيّان ـ قرطبة ـ حمص) بعد سقوطِها في أيدي الأعداء وقد تهاوت، فحدث ما حدث وخرجت عن بوتقتها الإسلامية، ويبين ما حل بها من مصائب وأهوال ويعدد مناقب هذه المدن وفضائلها قائلا: أين قرطبة كعبة العلوم وقبلة العلماء؟التي كانت تزخر بالعلوم والمعارف والتي أخرجت الكثير من العلماء الذين أصبح لهم شأن كبير في سبيل الرقي والازدهار، وأين حمص وروابيها وأزهارها ومتنزهـاتها الكثيرة؟ ونهرها العذب (الوادِي الكبير)؟

    أين هذه البلاد التى كانت هدفا لكل حسود تمنى زوالها لكثرة علمها وثقافتها وحضارتها

    ويعود للسؤال فيقول: لقد كانت هذه الحواضر ركائز بلاد الأندلس وأركانها فـماذا يبقى من الأندلس بعد سقوط أركانها؟

    المتأمل في هذه القصيدة يلاحظ أنها مليئة بأساليب المبالغة للتدليل على عظمِ الفاجعة التي حَلّت بالمسلمين بسقوط الأندلس في أيدي الصليبيين الأسبان، ففى قوله: فاسأَل بلنسية، سؤال ليس على حقيقته، إذ وجه السؤال لغير العاقل على سبيل المبالغة والتهويل، ولبيان ما حلّ بهذه المدن بعد سقوطها، ومعلوم أن المبالغة من الأساليب التى ترسم المعانى فى صورة واضحة، وتتكشف بها الأبعاد الشعورية كما أحسها الشاعر.

    "والمبالغة فى الشعر ثمرة من ثمرات التجويد، أو سمة من سماته، والباعث عليها: حالة نفسية معينة، ومعنى قوى يريد الشاعر أن ينقل لنا إحساسه به فيسكنه صورة المبالغة، فيكون هدفها حينئذ الكشف عن طبيعة الشعور، والقدرة على التأثير فى المخاطبين، ومحاولة إشراكهم لحظات الإحساس، فضلا عن كونها زفرة لما تعتمل به النفس؛ لأن النفس الإنسانية تمل الواقع إذا لاصق، وتميل إلى ما يحلق بها"([39]).

    ويرجع سر شيوع أسلوب الاستفهام فى قوله: ما شأن مرسية؟ وأين شاطبة؟ أم أين جيان؟ وأين قرطبة دار العلوم؟ وأين حمص وما تحويه من نزه؟ للتحسر والتعجب والأسف على ضياع هذه البلاد، وعلى حالها، وهو استفهام لاستعظام أمر ظاهر المزية خافي السبب، يراد به المبالغة في إظهار التعجب والتحسر والألم مما يحدث.

    ولا غرو فإن المنوال البلاغي في أسلوب الاستفهام التعجبى والتحسرى قد اكتسب لذته الجمالية من عمق التأثير الذاتي والروحي للنفس التي اصطدمت بالحيرة والهموم والفواجع، وهل من هموم وفواجع أكثر من ضياع الأندلس؟ فكان التحسر والتعجب أولى الأساليب هنا.

    أما قوله: فما عسى البقاء إذا لم تبق أركان؟، فالاستفهام فيه إنكارى غرضه: الإنكار على المخاطب، أو توبيخه وتبكيته، ولأهمية هذا النوع جعله الإمام عبد القاهر أحد أربعة مقاصد للاستفهام المجازي، فيقول: ... واعلم أنا وإن كنا نفسر الاستفهام في مثل هذا بالإنكار فإن الذي هو محض المعنى أنه لتنبيه السامع حتى يرجع إلى نفسه فيخجل ويرتدع ويعيي بالجواب إما لأنه قد ادعى القدرة على فعل لا يقدر عليه، فإذا ثبت على دعواه قيل: فافعل، فيفضحه ذلك، وإما لأنه هم بأن يفعل ما لا يستصوب فعله، فإذا روجع فيه تنبه وعرف الخطأ، وإما لأنه جوز وجود أمر لا يوجد مثله، فإذا ثبت على تجويزه وبخ على تعنته([40]).

    وكعادة أبى البقاء فى النص: إيثاره الأساليب الخيالية، كالاستعارة المكنية فى قوله:

    دهى الجزيرة أمر لا عزاء له




    هوى لهُ أحدٌ وأنهد ثهلان


    حيث شبه الأندلس بإنسان تساقطت وهوت عليه المصائب، ويرفض قبول العزاء، وكذلك فى قوله: أصابها العين فامتحنت ، فقد جعل الأندلس كالرجل الذى يحسد، ولا شك فإن جمال الاستعارة وأثرها الكبير في نقل المشهد إلى السامع والوصول إلى الغرض؛ سببه: قدرتها الفائقة على التصوير الخيالي، ونقله في صورة محسوسة يشاهدها المتلقي فتتحرك نفسه وتنفعل معها، وهذا مما دعي ابن الأثير إلى القول بأن: المجاز أولى بالاستعمال من الحقيقة في باب الفصاحة والبلاغة، لأنه لو لم يكن كذلك لكانت الحقيقة التي هي الأصل أولى منه حيث هو فرع عليها، وليس الأمر كذلك، لأنه قد ثبت وتحقق أن فائدة الكلام الخطابي هو إثبات الغرض المقصود في نفس السامع بالتخييل والتصوير حتى يكاد ينظر إليه عيانا ([41]).

    ويعضد هذا الكلام ابن رشيق: ... والمجاز في كثير من الكلام يأتي أبلغ من الحقيقة وأحسن موقعا في القلوب والأسماع([42]).

    وإيثار قوله: هوى على سقط وانهار؛ لما يتضمنه كل هذه المعانى، وكأن الجبلين مع ضخامتهما تساقط كل واحد منهم تبعا للآخر.

    وفي قوله: أصابها العين، كناية عن الحسد، وكذلك فى قوله: هوى له أحد وثهلان، ففيه كناية عن شدة وقع المصيبة وهولها.

    ويجرد الشاعر من نفسه إنسانا فيخاطبه من باب التجريد فيقول: فاسأل بلنسية، والتجريد كما يقول ابن جنى: فصل من فصول العربية طريف حسن‏‏، ومعناه: أن العرب قد تعتقد أن في الشيء من نفسه معنى آخر كأنه حقيقته ومحصوله([43])‏، ولذلك فهو مبنى على المبالغة، وكسب الكلام رقة ورونقا، وبتأمل مثل هذه الأساليب نلاحظ أن فيها تصويرا وتخييلا وتلوينا فى الصياغة يجذب الانتباه.‏

    يقول فضيلة الدكتور محمد أبو موسى: "التجريد لا يكون إلا فى المعانى التى لها شأن، الشاعر فيها هو الذى يقول، وهو الذى يسمع، هو المتكلم والمخاطب معاً، هو الذى يرسل أشجانه وآلامه ورموزه، هو الذى يستقبل هذا كله، وكأنه أغلق دائرة البث والاستقبال عليه وحده، وكأنه يُسر بهذه الأحوال إلى نفسه، ويضن أن يخاطب بها غيره؛ لأن الذى أصابه ضرب من البلوى ... " ([44])

    وواضح التشبيه فى قوله: قواعد كن أركان البلاد، فقد شبه الحـواضر التي سقطت بالأركان بالنسبة إلى بلاد الأندلس بجامع الأساس في كل، فكما أن الأركان لأيِّ شيء هي أساسه، فكذلك هذه الحواضر هي الأسس والعُمُد بالنسبة إلى بلاد الأندلس، فإذا سقطت الأركان سقط كل شيء عليها.

    وترجع مزية التشبيه إلى: كونه عنصرا أساسيا في التركيب الجملي، والمعنى العام المراد لا يتم إلا به، فالنص لا يقصد إلى التشبيه بوصفه تشبيها فحسب، بل بوصفه حاجة فنية تبنى عليها ضرورة الصياغة والتركيب، فهو وإن كان عنصراً أساسياً يكسب النص روعة واستقامة وتقريب فهم، إلا أنه يبدو عنصرا ضروريا لأداء المعنى المراد من جميع الوجوه، لأن في التشبيه تمثيلا للصورة، وإثباتا للخواطر، وتلبية لحاجات النفس.

    وتستطيع من خلال التشبيه تكييف النص الأدبى نحو المعنى المراد، دون توقف لغوي، أو معارضة بيانية، مسيطرا على الموقف من خلال تصورك لما تريد إمضاءه من حديث، أو إثباته من معنى.

    ***

    الفكرة الرابعة: حزن الإسلام

    تبكي الحنيفية البيضاء من أسفٍ
    عَلى ديارٍ من الإسلام خالية
    حيثُ المساجدُ قد صَارت كنائسَ ما
    حتى المحاريب تبكي وهي جامدةٌ




    كما بكى لفراق الإلفِ هيمانُ([45])
    قد أقفرت ولها بالكفر عُمرانُ
    فيهنّ إلا نواقيسٌ وصلبانُ
    حتى المنابر تَرثي وهي عيدانُ


    ويمضى الشاعر فينتقل من الماضي البعيد إلى الحاضر المشاهد، فيعلن أن جزيرة الأندلس، قد دُهيت بما يزلزل الجبال من الخطوب، وقد اشتهرت نكباتها بين الناس، إذ مضى بحديثها الركبان! وهو حديث مؤلم فاجع، أتى على الإسلام في أمنع حصونه فبكت الشريعة من أسف لما حل بأهلها من خطوب! وما لها لا تبكي على ديار خلت من الإسلام، وعمرت بالكفر، فالمساجد الإسلامية تحولت إلى كنائس مسيحية، تدق فيها النواقيس بعد أن شرفت بالأذان، والمحاريب ريعت لهول ما نزل، فبكت وهي من جماد، وكذلك المنابر أعلنت فجيعتها، وهي من أخشاب! فيا لها من فجيعة ما أمرّها! ومصيبة ما أعظمها! وطامة ما أكبرها! ولم لا! والجمادات قد فزعت لما حدث فأخذت المحاريب والمآذن تبكي وترثي نفسها.

    ويلجأ الشاعر إلى الاستعارة المكنية للمبالغة ولتشخيص المعنويات والجمادات فى قوله: تبكي الحنيفية البيضاء ـ حتى المحاريب تبكي ـ حتى المنابر ترثي، لبيان فداحة ما حل ببلاد الأندلس، ولروعة الاستعارة ودقة تصويرها الحدث قال عنها الإمام عبد القاهر:

    ومن خصائصها: ...التشخيص والتجسيد في المعنويات، وبث الحركة والحياة والنطق في الجماد، وقد التفت الجرجاني إلى هذا بقوله: فإنك لترى بها الجمادَ حيا ناطقا، والأعجم فصيحا، والأجسام الخرس مبينة، والمعاني الخفية بادية جلية، وإذا نظرت في أمر المقاييس وجدتها ولا ناصر لها أعز منها، ولا رونق لها ما لم تزنها، وتجد التشبيهات على الجملة غير معجِبة ما لم تكنها، إن شئت أرتك المعانيَ اللطيفةَ التي هي من خبايا العقل، كأنها قد جسمت حتى رأتها العيون، وإن شئت لطفتِ الأوصاف الجسمانية حتى تعود روحانية لا تنالها إلا الظنون، وهذه إشارات وتلويحات في بدائعها ... ومن الفضيلة الجامعة فيها أنها تبرز هذا البيان أبدا في صورة مستجدة تزيد قدره نبلا، وتوجب له بعد الفضل فضلا، وإنك لتجد اللفظة الواحدة قد اكتسبت بها فوائد حتى تراها مكررة في مواضع، ولها في كل واحد من تلك المواضع شأن مفرد، وشرف منفرد، وفضيلة مرموقة، وخلابة موموقة.([46]).

    فالاستعارة هي التي لونت المعاني الحقيقية في النص كل هذا التلوين، وهي التي بثت فيه كل هذا القدر من التأثير الذي ارتفع ببلاغتها إلى حد الإبداع.

    وإيثار الشاعر قوله: الحنيفية البيضاء لما فيه من إيحاء بالبياض والنقاء والطهارة.

    ويغلف الشاعر التشبيه بالاستعارة فيقول:

    تبكي الحنيفية البيضاء من أسف




    كما بكى لفراق الإلفِ هيمان


    فقد شبه بكاء المسلمين على فراق هذه البلاد ببكاء المحب لفراق حبيبه على سبيل المبالغة؛ غذ هو هنا ليس أى محب، بل الذى هام فى الحب هيمانا كالمجنون المتحيِّر من شدة العشق، أو كما يقول ابن منظور: هامَت الناقةُ تَهِيم: ذهَبَت على وجِهها لرَعْيٍ، والهُيامُ نحو الدُّوارِ جنونٌ يأْخذ البعيرَ حتى يَهْلِك، والهائم: الذاهبُ على وجهه عِشْقا([47])

    والتشبيه غالبا هو ذراع الشاعر اليمنى، يقرب له المعاني، وينمق له الصور، ويجلو به مكنون مشاعره، ويخرجها إلى الوجود بإيجاز وتركيز، هو بساط الريح لخيال الشاعر، وفيه قدرة على إيصال المعنى بإيجاز ونحت الصورة بدقة وشمول.

    وفى قوله: (أقفرت ـ عمران) طباق جمع بين الضدين، فحرك الإنسان ليتأمل هذه البلدان كما تأملها الشاعر، يقول البلاغيون: إن الضد يكون أقرب خطورا بالبال عند ذكر الضد، حتى إن الذهن ليستحضر الضد على الفور قبل مجئ الطرف الآخر، ولهذا حق لقدامة أن يسمى هذا الأسلوب البديع: التكافؤ([48])

    ***




    الفكرة الخامسة: التنبيه على هول الفادحة وتقريع المسلمين

    يا غافلاً وله في الدهر موعظة
    وماشيا مرحا يلهيه موطنه
    تلك المصيبة أنست ما تقدمها
    يا راكبين عتاق الخيل ضامرة
    وحاملين سيوف الهند مرهفة
    وراتعين وراء البحر فى دعة
    أعندَكم نبأ من أهل أندلس
    كم يستغيث بنا المستضعفون وهم
    ماذا التقاطع في الإسلام بينكم
    ألا نفوس آبيات لها همم




    إن كنت في سنة فالدهر يقظان
    أبعد حمص تغر المرء أوطان
    وما لها من طوال الدهر نسيان
    كأنّها في مجال السبقِ عُقبان
    كأنها في ظلام النقع نيران
    لهم بأوطانهم عز وسلطان
    فقد سَرى بحديث القوم ركبان
    قتلى وأسرى فما يهتز إنسان
    وأنتم يا عباد الله إخوان
    أما على الخير أنصار وأعوان


    ينادى الشاعر أهل الأندلس خاصة والمسلمين عامة الذين غفلوا عن بلادهم حتى ضاعت منهم، وعليهم أن يعتبروا مما حدث، وكفاهم غفلة، لأن الدهر يقظ، وقد ينزل بكوارثه ومصائبه، فيفجع الغافلين الذين لم يحتاطوا لهذا اليوم.

    ويتحسر الشاعر على

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 3:28 am