"حلقة براغ اللغوية" Prague Linguistic Circle:
تأسست "حلقة براغ اللغوية" Prague Linguistic Circle في السادس من أكتوبر عام (1926م)، ويرجع فضل تأسيسها إلي ((فيليم ماثيوس)) Vilém Mathesius رئيس حلقة بحث اللغة الإنجليزية بجامعة تشارلز Charles University، وقد شاركه في تأسيسها أربعة هم ((ر.ياكوبسون)) R.Jakobson و((ب.هافرنيك)) B.Havránek و((ب.ترنكا)) B.Trnka و((ي.روبكا)) J.Rypka، وذلك علي إثر اجتماع هؤلاء الخمسة لمناقشة محاضرة ألقاها اللساني الألماني الشاب ((هـ.بيكر)) H.Becker، فتخلقت الفكرة، وأصبغ ((ماثيسيوس)) علي المجموعة الطابع التنظيمي، والتوجه التنظيري الواضح، وسرعان ما اتسعت دائرة هذا التجمع، فأصبح يضم بين صفوفه حوالي خمسين من الباحثين المختلفين علي مستوي العالم.1
ويذكر ((بيتر شتينر)) Peter Stiener أن تسمية "حلقة براغ اللغوية" وضعت علي غرار تسمية "حلقة موسكو اللغوية"، خاصة وأنها تضم في صفوفها عضوين من أبرز أعضاء حلقة موسكو هما ((ياكوبسون)) و((بوجاترف))، لذا فصلة النسب قوية بين "الشكلية" و"حلقة براغ اللغوية"، فالكثير من الشكليين كانوا قد ألقوا محاضرات في براغ مع العشرينيات.2
وعلي الرغم من هذه العلاقة القوية، يعلق ((تيري إيجلتون)) علي حلقة براغ قائلا: ((إن مدرسة براغ للغويات ــ ياكوبسون، ويان موكاروفسكي Jan Mukarovsky، وفيليكس فوديتشكا Felix Vodicla، وغيرهم ــ تمثل نوعا من الانتقال من الشكلية إلي البنيوية الحديثة. فقد طوّر أعضاؤها أفكار الشكليين، لكنهم نظموها نسقيا علي نحو أكثر رسوخا في إطار لغويات سوسير، أصبح من الواجب النظر إلي القصائد باعتبارها ((بنيات وظيفية))، تكون فيها الدالات والمدلولات محكومة بمنظومة واحدة مركبة من العلاقات، ويجب دراسة هذه العلامات لذاتها، وليس كانعكاسات لواقع خارجي: لقد ساعد تأكيد سوسير علي العلاقة التعسفية بين العلامة والمرجع، بين الكلمة والشيء، علي فصل النص عن الوسط المحيط به وجعله موضوعا مستقلا)).3
وكلام ((إيجلتون)) يوحي وكأن أعضاء "حلقة براغ" منفصلون تماما عن "الشكلية"، بينما الصلة بينهما قوية جدا؛ فكما تقدم كان كل من ((ياكوبسون)) و((بوجاترف)) من مؤسسي "الحلقة" الأوائل، كما أن كلا من ((توماشفسكي)) Tomashevsky و((تينيانوف)) Tynyanov و((فينوكر)) Vinokur، كانوا قد ألقوا محاضرات لهم في براغ في العشرينيات من القرن الماضي كما سبق التنويه؛ فالأمر إذن ليس أن أعضاء "حلقة براغ" عدلوا وطوروا أفكار الشكليين حتى انتهي بهم المطاف إلي الوصول لفكرة النسق والوظائف التي ستـُوَلـِّد "البنيوية" كما سنري، بل الأمر أن الشكليين، أو الشكليين الباقين علي فكرة البحث في "الأدب" من منظور علم اللغة، إذ الكلام هنا عن الشكليين الذين تركوا روسيا، وأصبحوا يعيشون خارجها في أماكن يمكن لهم فيها التعبير عن آرائهم بحرية، هؤلاء مع غيرهم من باقي أعضاء الحلقة، عدلوا من الآراء التي رأيناها سابقا حول "الأدب"؛ لكي يولـِّدوا منها فكرة نسقية حول التعامل مع العلامة اللغوية في استعمالها الجمالي، مما كان له أثره في نشأة "البنيوية" في مجال "الأدب".4
لقد تم تحول المفهوم الشكلي عن "الأدب" و"الفن" عموما، من حالته الأولي إلي تلك الموجودة في "حلقة براغ"، عبر ثلاث مراحل تغيرت فيها النظرة "للأدب" من كونه:
1- حصيلة تجمع "لأدوات" Devices، تعمل علي نزع الألفة عما هو معتاد، لكي تغير من إدراكنا لهذا المعتاد. [إلي كونه]
2- نظام من "الأدوات" Devices التي تعمل عبر وظائف "تزامنية" Synchronic، و"تعاقبية" Diachronic محددة. [لكي ينظر إليه علي أنه]
3- علامة مستخدمة في سياق له "وظيفة جمالية" Aesthetic Function.5
ويذكر ((ليبومار دوليزل)) Lubomír Doležel عن ((ماثيوس)) مؤسس "حلقة براغ"، أنه كان من أوائل علماء اللغة الألسنيين في القرن العشرين، الذين انتقدوا ميراث حركة "فقهاء اللغة الجدد" Neogrammarians، ففي عام (1912م) أي قبل نشر محاضرات ((سوسير)) بأربعة أعوام، دافع ((ماثيوس)) في مقال له بعنوان: "حول مكنونات الظواهر الألسنية"On the potentiality of linguistic phenomena، عن الدراسة "التزامنية" Synchronic، و"المقاربة الوظيفية" Function Approach للغة، لكن المقال كان منشورا في احدي المجلات البحثية الداخلية التي لا يطلع عليها الجمهور، فبقي المقال لفترة غير معروف في براغ، لكن مع حلول العشرينيات، ومع تعرف براغ علي أفكار ((سوسير))، وعلي أفكار متبعي ((سوسير)) من الروس، أصبح الكثير من الألسنيين مستعدين للانضواء تحت لواء ((ماثيوس))، وتحت قيادته.6
ويفسر ((ماثيوس)) سرعة انتشار وتقبل أفكار "حلقة براغ اللغوية" بالنجاحات العلمية السريعة التي أنجزتها الحلقة، وهي نجاحات لم تكن أبدا وليدة الصدفة كما يقول ((ماثيوس))، وإنما وليدة "مطلب ثقافي حاد" Acute Intellectual need، نبع من احتياج العالم للعلمية في القرن العشرين7. لذا "فحلقة براغ اللغوية"، تعد خطوة تطورية في المسيرة الفكرية للقرن العشرين، فهي مرحلة لما بعد الوضعية Post-Podtivistic في مجال الدراسات اللغوية والأبحاث الشعرية8.
ويذكر ((دوليزل)) أن "حلقة براغ اللغوية" أقامت أسسها الإبستيمولوجية Epistemology، عن طريق إعادة صياغة الاهتمامات التقليدية حول دراسة "الأدب"؛ لتنتقل بها إلي أفق أخري أبعد، أفق "ما بعد وضعية" كما تقدم، وهي تفعل ذلك بالاستناد إلي أربعة عناصر رئيسية، أولها: دراسة "الأدب" طبقا للفكر العلمي الحديث، الذي تبني النزعة البنيوية في ذلك الوقت9.
وها هي كلمة "البنيوية" Structuralism تظهر أمامنا الآن، والسؤال هو: إذا كانت "حلقة براغ اللغوية" قد بنت أسسها المعرفية علي أساس إتباع النزعة العلمية التي غلب عليها الطابع "البنيوي" في ذلك الوقت، فما هو معني "البنيوية" هنا، وكيف جاء المصطلح، خاصة وأن هناك الكثير من الذين يقدمون تعريفات "بالبنيوية"، يصورون الأمر كما لو أن محاضرات ((سوسير)) التي ظهرت في عام (1916م) قد تم تبنيها وتطويرها في فرنسا الستينيات، دون أية إشارة أو ذكر للتحولات التي مرت بها "البنيوية" قبل ذلك حتى وصلت إلي فرنسا10، وهو ما يعني إغفال الجزء الأكثر خصوبة في مسيرة "البنيوية"، وفي تطور أفكارها التي تعرضت لتحريف وتغيير كبير، لصالح تلك الصيغة التي أضفاها الفرنسيون علي "البنيوية".
وسوف يأتي ذكر الخلط والتشويش التي تعرضت لهما "البنيوية" علي يد الفرنسيين عند الحديث عن انتقالها إليهم، وكذلك عند الحديث عن انتقالها من فرنسا إلي مختلف بلاد العالم بعد ذلك، أما الآن فالحديث متجه إلي تلك الفترة التي صيغ فيها المصطلح وصك لأول مرة، أي إلي حقبة العشرينيات والثلاثينيات في أوربا، وفي تشيكوسلوفاكيا علي نحو أكثر تحديدا، فمنذ نشـّر محاضرات ((سوسير)) عام (1916م)، و"البنيوية" هي إطار العمل الأساسي في مجال الألسنية النظرية علي ضفتي الأطلسي، وسوف تستمر كذلك حتى ينشر ((نوام تشومسكي)) Noam Chomsky كتابه "البنيوية التركيبية" Syntactic Structures، في عام (1957م)11.
وقد التقط كل من ((ياكوبسون)) و((تينيانوف)) هذا الملمح السائد في ذلك الوقت، وناقشاه وقدماه في عام (1928م) فيما سمي "بالأطروحات"، وبعد ذلك بعام ــ أي في عام (1929م) ــ صاغ ((ياكوبسون)) المصطلح في مجال الدراسات الأدبية، وقدمه بشكل واضح في النص التالي:
((إن كان علينا أن نحدّد الفكرة التي تقود العلم الحالي بتجلياته الأشد تنوعا، فمن الصعب أن نقع علي خيار أنسب من البنيوية. فالعلم المعاصر لا يعالج أية مجموعة من الظواهر التي يتفحصها بوصفها كتلة ميكانيكية وإنما باعتبارها كلا بنيويا، أو نظاما تتمثل المهمة الأساسية بالكشف عن قوانينه الداخلية سواء كانت سكونية أم تطورية. ويـبدو أن المنبه الخارجي لم يعد بؤرة الاهتمامات العلمية، بل الأسس الداخلية للتطور؛ فالتصور الميكانيكي للسيرورات أو العمليات يخلي الطريق للسؤال المتعلق بوظيفة هذه السيرورات.)).12
وعلينا التوقف قليلا أمام هذا النص، لكونه يقدم تعريفا واضحا ومحددا "للبنيوية"، في صورتها الأساسية، التي حاول ((ياكوبسون)) أن يصنع منها استراتيجية بحث علمية، يبحث من خلالها في "النصوص الأدبية" المختلفة، وعلي هذا "فالبنيوية" كما تبدو هنا، هي منهج بحثي يحاول أن يعمل علي تحقيق العناصر التالية، عند تعامله مع أية مجموعة محددة من الظواهر:
1- النظر إلي مجموعة الظواهر هذه علي أنها تشكل كلا واحدا متكاملا، وليس كلا ميكانيكيا، به بعض انفصال بين عناصره المختلفة.
2- هذا الكل المتكامل له قوانينه وأنظمته الداخلية التي تحكمه وتحكم سيرورته، وهذه القوانين تنقسم بين كونها قوانين سكونية وأخري تطورية.
3- هدف ووظيفة البحث هنا هو الكشف عن هذه القوانين وعن هذه الأنظمة التي تحكم هذا الكل المتكامل، وتحكم سيرورته.
4- البحث في هذه القوانين يجب أن يتم عن طريق التركيز علي هذه الظواهر نفسها، دون النظر إلي أية منبهات أو علاقات أخري تقع خارج هذه الظواهر.
وهذه العناصر الأربعة هي الجوهر الأساسي "للبنيوية"، وواضح علاقة هذه العناصر بأفكار ((سوسير)) التي سبق العرض لها، فهي تستقي منها فكرة "الكل المتكامل"، إذ كما تقدم هو يرفض معاملة اللغة علي أنها "كيان متجانس" Homogeneous Entity، وإنما يراها علي أنها كل مركب من مفردات مركبة معا وفقا لنظام محدد، و"النظام المحدد" هو الفكرة الثانية التي نجدها هنا، حيث هناك نظام وقواعد محددة تحكم "تراكب" مفردات اللغة معا، والعنصر الثالث هو عنصر التركيز علي القواعد والأنظمة التي تحكم تلك الظواهر، وهو ما يقابل تأكيد ((سوسير)) علي توجه البحث إلي "اللغة" بوصفها قواعدا ونظاما، في مقابل إهمال "الكلام" الذي هو ذي خاصية فردية كما تقدم، والمبدأ الأخير، مبدأ التركيز علي هذه الظواهر في نفسها، وإهمال علاقاتها بما هو خارجها، علي غرار ما قرر ((سوسير)) التعامل مع "العلامة" في ذاتها معزولة ومنفصلة عما تشير إليه في الحقيقة، أي معزولة عن "مرجعها".
لكن ((سوسير)) وهو يقر ذلك، يرجعه إلي مبدأ "اعتباطية" العلامة، إلي ارتباط "الدال" و"المدلول" في "العلامة" اللغوية "بالمرجع" علي أساس تعسفي، ليس له ما يبرره، بينما ((ياكوبسون)) يرفض مبدأ "اعتباطية" العلامة هذا، ويري فيه خللا يعيق الدراسة في مجال "اللغويات"، خاصة عند التعامل مع "الأدب"، فهو يأخذ برأي ((إيميل بنفنسب)) Émile Benveniste الذي يري أن العلاقة بين "الدال" و"المدلول" ليست علاقة "اعتباطية" Arbitrary كما قال ((سوسير))، وإنما هي علاقة "ضرورية" Necessary بين "الدال" و"المدلول"13؛ لذا يجعل ((ياكوبسون)) ما جاء عند ((بيرس)) من تقسيم للعلامة، يجعله مكملا لكلام ((سوسير))، خاصة فكرة "الأيقون" Icon، التي تري أن "العلامة" تشير إلي "موضوعها" عبر طبيعة ذاتية في العلامة نفسها.
و((ياكوبسون)) أيضا يتعارض مع ((سوسير)) في رؤيته حول الدراسة "التزامنية" Synchronic و"التعاقبية" Diachronic للظواهر اللغوية المختلفة، وذلك وليد رفض ((ياكوبسون)) "لاعتباطية" العلامة اللغوية، كما قدمها ((سوسير))، فاهتمام ((سوسير)) بالدراسة "التزامنية" وتفضيلها عن الدراسة "التواقتية" وليد تسليمه "باعتباطية" العلامة كما تقدم، وبالتالي يصبح البحث التاريخي ليس ذا فائدة في تحديد العلامات، بينما البحث السكوني يبدو أكثر نفعا في هذه الحالات، بينما ((ياكوبسون)) لا يوافق علي ذلك، خاصة في حالة دراسة "الأدب"، فالعامل "الزمني" له أهميته عند دراسة النصوص الأدبية، لذا لا يرغب ((ياكوبسون)) في إهمال الدراسة "التعاقبية"، وتنحيتها جانبا كما يرغب ((سوسير)).14
وبهذا التوضيح يكون قد تحدد المعني الأساسي "للبنيوية" وعناصرها، ومرجع هذه العناصر إلي ما سبقها من تنظير ((سوسير))، وإلي تعديل الشكليين علي نموذج ((سوسير))، وسوف نجد أن هذا المعني الواضح الغير مبهم "للبنيوية"، كما يتبدى في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، سوف يصبح علي درجة عالية من الغموض وعدم الوضوح في الفترات اللاحقة من القرن الماضي، لكن فلندع هذا جانبا الآن ونعود إلي تكملة العناصر الباقية من إبستيمولوجيا "حلقة براغ اللغوية" كما يذكرها ((دوليزل)).
العنصر الثاني هو: دراسة الأسس الشعرية للأعمال الأدبية من منظور تجريبي Empirical، يهدف إلي توضيح إشكالاتها، والتعليق علي هذه الإشكالات بلغة شارحة Metalanguage تتبني المنظور الوصفي، بهدف توضيح تلك المتغيرات الثابتة، أي تلك المتغيرات التي نجدها موجودة بنسب مختلفة في أي عمل أدبي. أما العنصر الثالث فهو دراسة الفئات المختلفة من الشعرية، ووصفها بشكل واضح في مجموعة من الأعمال الأدبية المحددة، أما العنصر الرابع فهو التمييز بين القارئ العادي للأعمال الأدبية، وبين القارئ الدارس الذي لديه خبرة في التعامل مع الأعمال الأدبية، و"حلقة براغ" توجه اهتمامها أساسا لهذا القارئ غير العادي، أو علي الأقل ما تقدمه "الحلقة" من تحليلات وتفسيرات تقدمه علي مستوي هذا القارئ المميز، الذي يملك خبرة تمكنه من إدراك بعض أشياء في الأعمال الأدبية وفي التحليلات النقدية، ربما لا يستطيع الفرد العادي إدراكها علي نحو دقيق.15
وتـَوَجُّه "حلقة براغ" إلي التعامل مع النصوص الأدبية المشهود لها بالجودة، بهدف التوصل إلي العوامل التي تحقق "الشعرية" و"الأدبية" فيها، ثم توجهها أيضا إلي الاعتداد فقط بالقارئ المميز، نقطتان تعطيان الحلقة صفات نخبوية، تجعل فيها بعض جوانب استعلاء، تظهر في عدم تقديم أية شروحات أو تفسيرات تساعد القارئ العادي علي فهم وإدراك ما في الأعمال الأدبية من نواح جمالية، ربما لا يستطيع هو الوصول إليها بدون مساعدة من النقاد المتخصصين.
وعلي صعيد آخر، لا يضع أفراد "حلقة براغ" في اعتبارهم تقديم أية معايير تحدد الجيد من الرديء في الأعمال الأدبية، علي الرغم من إصرارهم علي التعامل مع الأعمال الأدبية الجيدة في الأساس، وعلي الرغم من أن هذه النقطة تلبي رغبة علمية في إهمال إصدار الأحكام التقيمية، للإستفادة بما تقدمه النظرة الوصفية من معرفة تدقيقية بالأعمال الأدبية، رغبة في الوصول إلي تناول علمي ليس به جوانب تحركها عوامل شخصية، وعلي الرغم من أن النظرية الأدبية المعاصرة في أغلبها تتوجه توجه يبتعد عن محاولة تحديد القيمة، وعن محاولة إصدار حكم معياري علي الأعمال الأدبية المختلفة، إلا أن ذلك في رأيي يضيف غموضا علي أربعة نقاط، أولها تحديد ما يستحق البحث والدراسة من الأعمال الأدبية دون غيرها مما ليس في دراسته فائدة بالنسبة لتحقيق هدف معرفة "الأدبية"، وثانيها تفسير استمرار الاعتراف بجودة عمل ما عبر قرون وسنين طويلة، وثالثها تفسير تغير القيمة التي تلقاها بعض الأعمال الأدبية في فترة معينة، ثم تقديرها بقيمة أعلي أو أقل في عصور وفترات أخري، وأخيرا إرشاد القارئ الذي يفتقد إلي الخبرة في التعامل مع الأعمال الأدبية، إلي الأسس والمعايير الفنية التي تعلي من قيمة بعض الأعمال عن غيرها، وهو ما يفيد في مساعدته علي تحديد ما يقرأه أو يرفضه طبقا لميوله، ولكن وفقا لأسس موضوعية أيضا.
ومن ناحية أخري، لقد أغرم أفراد "حلقة براغ" بنموذج ((كارل بوهلر)) Karl Bühler الذي يضع ثلاثة عوامل أساسية تشمل أحداث أية "عملية خطابية" Speech Event، هذه العوامل هي: "المرسل" Sender، و"المستقبل" Receiver، و"المحال إليه" Referent، و"المحال إليه" هو "الموضوع" أو "الحقيقة" التي يتحدث عنها كل من "المرسل" و"المستقبل"، ومن هذا النموذج تتولد ثلاث وظائف تتحد للغة، طبقا لتوجهها ناحية أحد هذه العناصر، فتصبح وظيفة اللغة "تعبيرية" Expressive Function [Ausdruck] إذا ما توجهت ناحية "المرسل"، بينما تصبح اللغة ذات وظيفة "نزوعية" Conative Function [Appell] إذا ما توجهت ناحية "المرسل إليه"، بينما تصبح وظيفة اللغة "إحالية" Referential Function [Darstellung] إذا ما توجهت نحو "المحال إليه" أي ناحية موضوع الخطاب.16
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. See: Lubomír Doležel: Structuralism of the Prague School, IN: The Cambridge History Of Literary Criticism, Volume VIII, From Formalism to Poststucturalism, Op.Cit, p.34.
2. See: Peter Steiner: Formalism, op.cit,p.p.14-15.
3. تيري إيجلتون: ((مقدمة في نظرية الأدب))، مرجع سابق، صـ124.
4. See: Peter Steiner: Formalism, IN: The Cambridge History Of Literary Criticism, Volume VIII, From Formalism to Poststucturalism, op.cit, p.15
5. Ibid.
6. See: Lubomír Doležel: Structuralism of the Prague School, IN: The Cambridge History Of Literary Criticism, Volume VIII, From Formalism to Poststucturalism, Op.Cit, p.34, N.o: 2.
7. Mathesius: Deset let, P.137, Quoted in: Ibid, P.37.
8. See: Lubomír Doležel: Ibid, p.37.
9. Ibid.
10. See for example about these point: Potrick Colm Hogan: Philosophical Approaches To The Study Of Literature, Op.Cit, P.P.229-250.& See also: Catherine Belsey: Post-Structuralism, A very Short Introduction, Op.Cit,P.40.، وكذلك أنظر تقديم ((رامان سلدن)) لنظريات الشكليين و"حلقة براغ"، وجعلها مقدمة للنقد الماركسي، دون توضيح دورهما في تطور "البنيوية"، راجع: رامان سلدن: ((النظرية الأدبية المعاصرة))، مرجع سابق، صـ44، وأنظر تجاهل ((إديث كريزويل)) لدور "الشكلية الروسية" و"حلقة براغ اللغوية" في مسيرة "البنيوية"، راجع: إديث كريزويل: ((عصر البنيوية))، ترجمة: د.جابر عصفور، الهيئة العامة لقصور الثقافة، [سلسلة أفاق الترجمة رقم (17)]، القاهرة، أغسطس 1996م، صـ17-31، وأنظر ابتسار ((جوناثان كولر)) لمسيرة "البنيوية"، راجع: جوناثان كولر: ((فرديناند دي سوسير))، مرجع سابق، صـ161.
11. ليونارد جاكسون: ((بؤس البنيوية))، مرجع سابق، صـ96.
12. نقلا عن: السابق، صـ96-97.
13. See: Roman Jakobson: Six Lectures on Sound and Meaning, Lecture: 1, Source: Lectures on Sound & Meaning, publ. MIT Press, Cambridge, Mass., 1937, Taken From The Internet, Date: 02-02-2006, «http://www.marxists.org/reference/subject/philosophy/works/ru/jakobson.htm»
14. See: Derek Attridge: The Linguistic Model and Its Application, IN: The Cambridge History Of Literary Criticism, Volume VIII, From Formalism to Poststucturalism, Op.Cit, P.74-75.
15. Lubomír Doležel: Structuralism of the Prague School, Op.Cit, P.38.
16. Ibid, P.40.
تأسست "حلقة براغ اللغوية" Prague Linguistic Circle في السادس من أكتوبر عام (1926م)، ويرجع فضل تأسيسها إلي ((فيليم ماثيوس)) Vilém Mathesius رئيس حلقة بحث اللغة الإنجليزية بجامعة تشارلز Charles University، وقد شاركه في تأسيسها أربعة هم ((ر.ياكوبسون)) R.Jakobson و((ب.هافرنيك)) B.Havránek و((ب.ترنكا)) B.Trnka و((ي.روبكا)) J.Rypka، وذلك علي إثر اجتماع هؤلاء الخمسة لمناقشة محاضرة ألقاها اللساني الألماني الشاب ((هـ.بيكر)) H.Becker، فتخلقت الفكرة، وأصبغ ((ماثيسيوس)) علي المجموعة الطابع التنظيمي، والتوجه التنظيري الواضح، وسرعان ما اتسعت دائرة هذا التجمع، فأصبح يضم بين صفوفه حوالي خمسين من الباحثين المختلفين علي مستوي العالم.1
ويذكر ((بيتر شتينر)) Peter Stiener أن تسمية "حلقة براغ اللغوية" وضعت علي غرار تسمية "حلقة موسكو اللغوية"، خاصة وأنها تضم في صفوفها عضوين من أبرز أعضاء حلقة موسكو هما ((ياكوبسون)) و((بوجاترف))، لذا فصلة النسب قوية بين "الشكلية" و"حلقة براغ اللغوية"، فالكثير من الشكليين كانوا قد ألقوا محاضرات في براغ مع العشرينيات.2
وعلي الرغم من هذه العلاقة القوية، يعلق ((تيري إيجلتون)) علي حلقة براغ قائلا: ((إن مدرسة براغ للغويات ــ ياكوبسون، ويان موكاروفسكي Jan Mukarovsky، وفيليكس فوديتشكا Felix Vodicla، وغيرهم ــ تمثل نوعا من الانتقال من الشكلية إلي البنيوية الحديثة. فقد طوّر أعضاؤها أفكار الشكليين، لكنهم نظموها نسقيا علي نحو أكثر رسوخا في إطار لغويات سوسير، أصبح من الواجب النظر إلي القصائد باعتبارها ((بنيات وظيفية))، تكون فيها الدالات والمدلولات محكومة بمنظومة واحدة مركبة من العلاقات، ويجب دراسة هذه العلامات لذاتها، وليس كانعكاسات لواقع خارجي: لقد ساعد تأكيد سوسير علي العلاقة التعسفية بين العلامة والمرجع، بين الكلمة والشيء، علي فصل النص عن الوسط المحيط به وجعله موضوعا مستقلا)).3
وكلام ((إيجلتون)) يوحي وكأن أعضاء "حلقة براغ" منفصلون تماما عن "الشكلية"، بينما الصلة بينهما قوية جدا؛ فكما تقدم كان كل من ((ياكوبسون)) و((بوجاترف)) من مؤسسي "الحلقة" الأوائل، كما أن كلا من ((توماشفسكي)) Tomashevsky و((تينيانوف)) Tynyanov و((فينوكر)) Vinokur، كانوا قد ألقوا محاضرات لهم في براغ في العشرينيات من القرن الماضي كما سبق التنويه؛ فالأمر إذن ليس أن أعضاء "حلقة براغ" عدلوا وطوروا أفكار الشكليين حتى انتهي بهم المطاف إلي الوصول لفكرة النسق والوظائف التي ستـُوَلـِّد "البنيوية" كما سنري، بل الأمر أن الشكليين، أو الشكليين الباقين علي فكرة البحث في "الأدب" من منظور علم اللغة، إذ الكلام هنا عن الشكليين الذين تركوا روسيا، وأصبحوا يعيشون خارجها في أماكن يمكن لهم فيها التعبير عن آرائهم بحرية، هؤلاء مع غيرهم من باقي أعضاء الحلقة، عدلوا من الآراء التي رأيناها سابقا حول "الأدب"؛ لكي يولـِّدوا منها فكرة نسقية حول التعامل مع العلامة اللغوية في استعمالها الجمالي، مما كان له أثره في نشأة "البنيوية" في مجال "الأدب".4
لقد تم تحول المفهوم الشكلي عن "الأدب" و"الفن" عموما، من حالته الأولي إلي تلك الموجودة في "حلقة براغ"، عبر ثلاث مراحل تغيرت فيها النظرة "للأدب" من كونه:
1- حصيلة تجمع "لأدوات" Devices، تعمل علي نزع الألفة عما هو معتاد، لكي تغير من إدراكنا لهذا المعتاد. [إلي كونه]
2- نظام من "الأدوات" Devices التي تعمل عبر وظائف "تزامنية" Synchronic، و"تعاقبية" Diachronic محددة. [لكي ينظر إليه علي أنه]
3- علامة مستخدمة في سياق له "وظيفة جمالية" Aesthetic Function.5
ويذكر ((ليبومار دوليزل)) Lubomír Doležel عن ((ماثيوس)) مؤسس "حلقة براغ"، أنه كان من أوائل علماء اللغة الألسنيين في القرن العشرين، الذين انتقدوا ميراث حركة "فقهاء اللغة الجدد" Neogrammarians، ففي عام (1912م) أي قبل نشر محاضرات ((سوسير)) بأربعة أعوام، دافع ((ماثيوس)) في مقال له بعنوان: "حول مكنونات الظواهر الألسنية"On the potentiality of linguistic phenomena، عن الدراسة "التزامنية" Synchronic، و"المقاربة الوظيفية" Function Approach للغة، لكن المقال كان منشورا في احدي المجلات البحثية الداخلية التي لا يطلع عليها الجمهور، فبقي المقال لفترة غير معروف في براغ، لكن مع حلول العشرينيات، ومع تعرف براغ علي أفكار ((سوسير))، وعلي أفكار متبعي ((سوسير)) من الروس، أصبح الكثير من الألسنيين مستعدين للانضواء تحت لواء ((ماثيوس))، وتحت قيادته.6
ويفسر ((ماثيوس)) سرعة انتشار وتقبل أفكار "حلقة براغ اللغوية" بالنجاحات العلمية السريعة التي أنجزتها الحلقة، وهي نجاحات لم تكن أبدا وليدة الصدفة كما يقول ((ماثيوس))، وإنما وليدة "مطلب ثقافي حاد" Acute Intellectual need، نبع من احتياج العالم للعلمية في القرن العشرين7. لذا "فحلقة براغ اللغوية"، تعد خطوة تطورية في المسيرة الفكرية للقرن العشرين، فهي مرحلة لما بعد الوضعية Post-Podtivistic في مجال الدراسات اللغوية والأبحاث الشعرية8.
ويذكر ((دوليزل)) أن "حلقة براغ اللغوية" أقامت أسسها الإبستيمولوجية Epistemology، عن طريق إعادة صياغة الاهتمامات التقليدية حول دراسة "الأدب"؛ لتنتقل بها إلي أفق أخري أبعد، أفق "ما بعد وضعية" كما تقدم، وهي تفعل ذلك بالاستناد إلي أربعة عناصر رئيسية، أولها: دراسة "الأدب" طبقا للفكر العلمي الحديث، الذي تبني النزعة البنيوية في ذلك الوقت9.
وها هي كلمة "البنيوية" Structuralism تظهر أمامنا الآن، والسؤال هو: إذا كانت "حلقة براغ اللغوية" قد بنت أسسها المعرفية علي أساس إتباع النزعة العلمية التي غلب عليها الطابع "البنيوي" في ذلك الوقت، فما هو معني "البنيوية" هنا، وكيف جاء المصطلح، خاصة وأن هناك الكثير من الذين يقدمون تعريفات "بالبنيوية"، يصورون الأمر كما لو أن محاضرات ((سوسير)) التي ظهرت في عام (1916م) قد تم تبنيها وتطويرها في فرنسا الستينيات، دون أية إشارة أو ذكر للتحولات التي مرت بها "البنيوية" قبل ذلك حتى وصلت إلي فرنسا10، وهو ما يعني إغفال الجزء الأكثر خصوبة في مسيرة "البنيوية"، وفي تطور أفكارها التي تعرضت لتحريف وتغيير كبير، لصالح تلك الصيغة التي أضفاها الفرنسيون علي "البنيوية".
وسوف يأتي ذكر الخلط والتشويش التي تعرضت لهما "البنيوية" علي يد الفرنسيين عند الحديث عن انتقالها إليهم، وكذلك عند الحديث عن انتقالها من فرنسا إلي مختلف بلاد العالم بعد ذلك، أما الآن فالحديث متجه إلي تلك الفترة التي صيغ فيها المصطلح وصك لأول مرة، أي إلي حقبة العشرينيات والثلاثينيات في أوربا، وفي تشيكوسلوفاكيا علي نحو أكثر تحديدا، فمنذ نشـّر محاضرات ((سوسير)) عام (1916م)، و"البنيوية" هي إطار العمل الأساسي في مجال الألسنية النظرية علي ضفتي الأطلسي، وسوف تستمر كذلك حتى ينشر ((نوام تشومسكي)) Noam Chomsky كتابه "البنيوية التركيبية" Syntactic Structures، في عام (1957م)11.
وقد التقط كل من ((ياكوبسون)) و((تينيانوف)) هذا الملمح السائد في ذلك الوقت، وناقشاه وقدماه في عام (1928م) فيما سمي "بالأطروحات"، وبعد ذلك بعام ــ أي في عام (1929م) ــ صاغ ((ياكوبسون)) المصطلح في مجال الدراسات الأدبية، وقدمه بشكل واضح في النص التالي:
((إن كان علينا أن نحدّد الفكرة التي تقود العلم الحالي بتجلياته الأشد تنوعا، فمن الصعب أن نقع علي خيار أنسب من البنيوية. فالعلم المعاصر لا يعالج أية مجموعة من الظواهر التي يتفحصها بوصفها كتلة ميكانيكية وإنما باعتبارها كلا بنيويا، أو نظاما تتمثل المهمة الأساسية بالكشف عن قوانينه الداخلية سواء كانت سكونية أم تطورية. ويـبدو أن المنبه الخارجي لم يعد بؤرة الاهتمامات العلمية، بل الأسس الداخلية للتطور؛ فالتصور الميكانيكي للسيرورات أو العمليات يخلي الطريق للسؤال المتعلق بوظيفة هذه السيرورات.)).12
وعلينا التوقف قليلا أمام هذا النص، لكونه يقدم تعريفا واضحا ومحددا "للبنيوية"، في صورتها الأساسية، التي حاول ((ياكوبسون)) أن يصنع منها استراتيجية بحث علمية، يبحث من خلالها في "النصوص الأدبية" المختلفة، وعلي هذا "فالبنيوية" كما تبدو هنا، هي منهج بحثي يحاول أن يعمل علي تحقيق العناصر التالية، عند تعامله مع أية مجموعة محددة من الظواهر:
1- النظر إلي مجموعة الظواهر هذه علي أنها تشكل كلا واحدا متكاملا، وليس كلا ميكانيكيا، به بعض انفصال بين عناصره المختلفة.
2- هذا الكل المتكامل له قوانينه وأنظمته الداخلية التي تحكمه وتحكم سيرورته، وهذه القوانين تنقسم بين كونها قوانين سكونية وأخري تطورية.
3- هدف ووظيفة البحث هنا هو الكشف عن هذه القوانين وعن هذه الأنظمة التي تحكم هذا الكل المتكامل، وتحكم سيرورته.
4- البحث في هذه القوانين يجب أن يتم عن طريق التركيز علي هذه الظواهر نفسها، دون النظر إلي أية منبهات أو علاقات أخري تقع خارج هذه الظواهر.
وهذه العناصر الأربعة هي الجوهر الأساسي "للبنيوية"، وواضح علاقة هذه العناصر بأفكار ((سوسير)) التي سبق العرض لها، فهي تستقي منها فكرة "الكل المتكامل"، إذ كما تقدم هو يرفض معاملة اللغة علي أنها "كيان متجانس" Homogeneous Entity، وإنما يراها علي أنها كل مركب من مفردات مركبة معا وفقا لنظام محدد، و"النظام المحدد" هو الفكرة الثانية التي نجدها هنا، حيث هناك نظام وقواعد محددة تحكم "تراكب" مفردات اللغة معا، والعنصر الثالث هو عنصر التركيز علي القواعد والأنظمة التي تحكم تلك الظواهر، وهو ما يقابل تأكيد ((سوسير)) علي توجه البحث إلي "اللغة" بوصفها قواعدا ونظاما، في مقابل إهمال "الكلام" الذي هو ذي خاصية فردية كما تقدم، والمبدأ الأخير، مبدأ التركيز علي هذه الظواهر في نفسها، وإهمال علاقاتها بما هو خارجها، علي غرار ما قرر ((سوسير)) التعامل مع "العلامة" في ذاتها معزولة ومنفصلة عما تشير إليه في الحقيقة، أي معزولة عن "مرجعها".
لكن ((سوسير)) وهو يقر ذلك، يرجعه إلي مبدأ "اعتباطية" العلامة، إلي ارتباط "الدال" و"المدلول" في "العلامة" اللغوية "بالمرجع" علي أساس تعسفي، ليس له ما يبرره، بينما ((ياكوبسون)) يرفض مبدأ "اعتباطية" العلامة هذا، ويري فيه خللا يعيق الدراسة في مجال "اللغويات"، خاصة عند التعامل مع "الأدب"، فهو يأخذ برأي ((إيميل بنفنسب)) Émile Benveniste الذي يري أن العلاقة بين "الدال" و"المدلول" ليست علاقة "اعتباطية" Arbitrary كما قال ((سوسير))، وإنما هي علاقة "ضرورية" Necessary بين "الدال" و"المدلول"13؛ لذا يجعل ((ياكوبسون)) ما جاء عند ((بيرس)) من تقسيم للعلامة، يجعله مكملا لكلام ((سوسير))، خاصة فكرة "الأيقون" Icon، التي تري أن "العلامة" تشير إلي "موضوعها" عبر طبيعة ذاتية في العلامة نفسها.
و((ياكوبسون)) أيضا يتعارض مع ((سوسير)) في رؤيته حول الدراسة "التزامنية" Synchronic و"التعاقبية" Diachronic للظواهر اللغوية المختلفة، وذلك وليد رفض ((ياكوبسون)) "لاعتباطية" العلامة اللغوية، كما قدمها ((سوسير))، فاهتمام ((سوسير)) بالدراسة "التزامنية" وتفضيلها عن الدراسة "التواقتية" وليد تسليمه "باعتباطية" العلامة كما تقدم، وبالتالي يصبح البحث التاريخي ليس ذا فائدة في تحديد العلامات، بينما البحث السكوني يبدو أكثر نفعا في هذه الحالات، بينما ((ياكوبسون)) لا يوافق علي ذلك، خاصة في حالة دراسة "الأدب"، فالعامل "الزمني" له أهميته عند دراسة النصوص الأدبية، لذا لا يرغب ((ياكوبسون)) في إهمال الدراسة "التعاقبية"، وتنحيتها جانبا كما يرغب ((سوسير)).14
وبهذا التوضيح يكون قد تحدد المعني الأساسي "للبنيوية" وعناصرها، ومرجع هذه العناصر إلي ما سبقها من تنظير ((سوسير))، وإلي تعديل الشكليين علي نموذج ((سوسير))، وسوف نجد أن هذا المعني الواضح الغير مبهم "للبنيوية"، كما يتبدى في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، سوف يصبح علي درجة عالية من الغموض وعدم الوضوح في الفترات اللاحقة من القرن الماضي، لكن فلندع هذا جانبا الآن ونعود إلي تكملة العناصر الباقية من إبستيمولوجيا "حلقة براغ اللغوية" كما يذكرها ((دوليزل)).
العنصر الثاني هو: دراسة الأسس الشعرية للأعمال الأدبية من منظور تجريبي Empirical، يهدف إلي توضيح إشكالاتها، والتعليق علي هذه الإشكالات بلغة شارحة Metalanguage تتبني المنظور الوصفي، بهدف توضيح تلك المتغيرات الثابتة، أي تلك المتغيرات التي نجدها موجودة بنسب مختلفة في أي عمل أدبي. أما العنصر الثالث فهو دراسة الفئات المختلفة من الشعرية، ووصفها بشكل واضح في مجموعة من الأعمال الأدبية المحددة، أما العنصر الرابع فهو التمييز بين القارئ العادي للأعمال الأدبية، وبين القارئ الدارس الذي لديه خبرة في التعامل مع الأعمال الأدبية، و"حلقة براغ" توجه اهتمامها أساسا لهذا القارئ غير العادي، أو علي الأقل ما تقدمه "الحلقة" من تحليلات وتفسيرات تقدمه علي مستوي هذا القارئ المميز، الذي يملك خبرة تمكنه من إدراك بعض أشياء في الأعمال الأدبية وفي التحليلات النقدية، ربما لا يستطيع الفرد العادي إدراكها علي نحو دقيق.15
وتـَوَجُّه "حلقة براغ" إلي التعامل مع النصوص الأدبية المشهود لها بالجودة، بهدف التوصل إلي العوامل التي تحقق "الشعرية" و"الأدبية" فيها، ثم توجهها أيضا إلي الاعتداد فقط بالقارئ المميز، نقطتان تعطيان الحلقة صفات نخبوية، تجعل فيها بعض جوانب استعلاء، تظهر في عدم تقديم أية شروحات أو تفسيرات تساعد القارئ العادي علي فهم وإدراك ما في الأعمال الأدبية من نواح جمالية، ربما لا يستطيع هو الوصول إليها بدون مساعدة من النقاد المتخصصين.
وعلي صعيد آخر، لا يضع أفراد "حلقة براغ" في اعتبارهم تقديم أية معايير تحدد الجيد من الرديء في الأعمال الأدبية، علي الرغم من إصرارهم علي التعامل مع الأعمال الأدبية الجيدة في الأساس، وعلي الرغم من أن هذه النقطة تلبي رغبة علمية في إهمال إصدار الأحكام التقيمية، للإستفادة بما تقدمه النظرة الوصفية من معرفة تدقيقية بالأعمال الأدبية، رغبة في الوصول إلي تناول علمي ليس به جوانب تحركها عوامل شخصية، وعلي الرغم من أن النظرية الأدبية المعاصرة في أغلبها تتوجه توجه يبتعد عن محاولة تحديد القيمة، وعن محاولة إصدار حكم معياري علي الأعمال الأدبية المختلفة، إلا أن ذلك في رأيي يضيف غموضا علي أربعة نقاط، أولها تحديد ما يستحق البحث والدراسة من الأعمال الأدبية دون غيرها مما ليس في دراسته فائدة بالنسبة لتحقيق هدف معرفة "الأدبية"، وثانيها تفسير استمرار الاعتراف بجودة عمل ما عبر قرون وسنين طويلة، وثالثها تفسير تغير القيمة التي تلقاها بعض الأعمال الأدبية في فترة معينة، ثم تقديرها بقيمة أعلي أو أقل في عصور وفترات أخري، وأخيرا إرشاد القارئ الذي يفتقد إلي الخبرة في التعامل مع الأعمال الأدبية، إلي الأسس والمعايير الفنية التي تعلي من قيمة بعض الأعمال عن غيرها، وهو ما يفيد في مساعدته علي تحديد ما يقرأه أو يرفضه طبقا لميوله، ولكن وفقا لأسس موضوعية أيضا.
ومن ناحية أخري، لقد أغرم أفراد "حلقة براغ" بنموذج ((كارل بوهلر)) Karl Bühler الذي يضع ثلاثة عوامل أساسية تشمل أحداث أية "عملية خطابية" Speech Event، هذه العوامل هي: "المرسل" Sender، و"المستقبل" Receiver، و"المحال إليه" Referent، و"المحال إليه" هو "الموضوع" أو "الحقيقة" التي يتحدث عنها كل من "المرسل" و"المستقبل"، ومن هذا النموذج تتولد ثلاث وظائف تتحد للغة، طبقا لتوجهها ناحية أحد هذه العناصر، فتصبح وظيفة اللغة "تعبيرية" Expressive Function [Ausdruck] إذا ما توجهت ناحية "المرسل"، بينما تصبح اللغة ذات وظيفة "نزوعية" Conative Function [Appell] إذا ما توجهت ناحية "المرسل إليه"، بينما تصبح وظيفة اللغة "إحالية" Referential Function [Darstellung] إذا ما توجهت نحو "المحال إليه" أي ناحية موضوع الخطاب.16
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. See: Lubomír Doležel: Structuralism of the Prague School, IN: The Cambridge History Of Literary Criticism, Volume VIII, From Formalism to Poststucturalism, Op.Cit, p.34.
2. See: Peter Steiner: Formalism, op.cit,p.p.14-15.
3. تيري إيجلتون: ((مقدمة في نظرية الأدب))، مرجع سابق، صـ124.
4. See: Peter Steiner: Formalism, IN: The Cambridge History Of Literary Criticism, Volume VIII, From Formalism to Poststucturalism, op.cit, p.15
5. Ibid.
6. See: Lubomír Doležel: Structuralism of the Prague School, IN: The Cambridge History Of Literary Criticism, Volume VIII, From Formalism to Poststucturalism, Op.Cit, p.34, N.o: 2.
7. Mathesius: Deset let, P.137, Quoted in: Ibid, P.37.
8. See: Lubomír Doležel: Ibid, p.37.
9. Ibid.
10. See for example about these point: Potrick Colm Hogan: Philosophical Approaches To The Study Of Literature, Op.Cit, P.P.229-250.& See also: Catherine Belsey: Post-Structuralism, A very Short Introduction, Op.Cit,P.40.، وكذلك أنظر تقديم ((رامان سلدن)) لنظريات الشكليين و"حلقة براغ"، وجعلها مقدمة للنقد الماركسي، دون توضيح دورهما في تطور "البنيوية"، راجع: رامان سلدن: ((النظرية الأدبية المعاصرة))، مرجع سابق، صـ44، وأنظر تجاهل ((إديث كريزويل)) لدور "الشكلية الروسية" و"حلقة براغ اللغوية" في مسيرة "البنيوية"، راجع: إديث كريزويل: ((عصر البنيوية))، ترجمة: د.جابر عصفور، الهيئة العامة لقصور الثقافة، [سلسلة أفاق الترجمة رقم (17)]، القاهرة، أغسطس 1996م، صـ17-31، وأنظر ابتسار ((جوناثان كولر)) لمسيرة "البنيوية"، راجع: جوناثان كولر: ((فرديناند دي سوسير))، مرجع سابق، صـ161.
11. ليونارد جاكسون: ((بؤس البنيوية))، مرجع سابق، صـ96.
12. نقلا عن: السابق، صـ96-97.
13. See: Roman Jakobson: Six Lectures on Sound and Meaning, Lecture: 1, Source: Lectures on Sound & Meaning, publ. MIT Press, Cambridge, Mass., 1937, Taken From The Internet, Date: 02-02-2006, «http://www.marxists.org/reference/subject/philosophy/works/ru/jakobson.htm»
14. See: Derek Attridge: The Linguistic Model and Its Application, IN: The Cambridge History Of Literary Criticism, Volume VIII, From Formalism to Poststucturalism, Op.Cit, P.74-75.
15. Lubomír Doležel: Structuralism of the Prague School, Op.Cit, P.38.
16. Ibid, P.40.
الجمعة أبريل 18, 2014 6:49 am من طرف viva star
» مناهج النقد الأدبي . مترجم.rar
الخميس أبريل 17, 2014 5:01 pm من طرف viva star
» مصطلحات توليدية
السبت فبراير 08, 2014 2:55 pm من طرف رعاش وليد
» ارجو المساعدة
الجمعة يناير 10, 2014 2:10 am من طرف مريم عبد الرحمان
» مساعدة عاجلة جداااااااااا
الثلاثاء يناير 07, 2014 6:53 am من طرف مريم عبد الرحمان
» كتب في علم الدلالة
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:35 pm من طرف safih
» عرض حول معجم المقاييس لابن فارس
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:15 pm من طرف safih
» المعجم الالكتروني
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 3:06 pm من طرف safih
» تشغيل الجزيرة الرياضية بالشرينغ
الثلاثاء نوفمبر 12, 2013 11:29 am من طرف safih